ملخص: في ظل عدم الاستقرار في صناعة الطاقة العالمية، تسعى موسكو إلى تعزيز حصتها في أسواق النفط والغاز، فضلاً عن ضمان عدم تراجع تدفُّق عائداتها من تجارة النفط. و بوضع ذلك في الاعتبار، تنتهج روسيا سياسةً مشاركة منافسيها في الصناعة من الشرق الأوسط بهدف تقاسم الأسواق بإنصافٍ واستناداً إلى مبادئ المنفعة المتبادلة. فقد تفاوضت موسكو على اتفاقٍ شبه مستحيل مع المملكة العربية السعودية لخفض إنتاج النفط، وحقَّقت السلام مع تركيا رغم كل الصعاب من أجل حماية مصالحها في سوق الغاز الأوروبي. وتُظهِر تلك الخطوات أنَّه على الرغم من كونهمأصدقاء أعداء، تجد روسيا ونظيراتها الإقليميات سُبُلاً للحفاظ على توازنٍ في سوق الطاقة العالمي.

في مايو/أيار 2009، أصدرت السلطات الروسية نسخةً جديدة من استراتيجيتها للأمن القومي، ذكرت فيها قضية الطاقة لأول مرة، مفصلةً الفرص والتحديات المتعلقة بها. وبعد ثمان سنواتٍ فقط يبدو أنَّ الزمن قد عفا على تلك الاستراتيجية، وذلك في ضوء المجموعة الجديدة من التهديدات التي ظهرت لموسكو في غضون ذلك، لكنَّها تذكر بالفعل تحدي الشحن المتزايد للطاقة من الشرق الأوسط إلى أوروبا بوصفه تهديداً رئيساً لروسيا. لا تظهر هذه العبارة في أي وثيقة رسمية روسية أخرى، بما في ذلكاستراتيجية الطاقة في روسيا حتى عام 2030″. والتي ترسم معالم الاستراتيجية التي اختارتها موسكو لإشراك حلفائها الإقليميين. وتعد مقولةأبقِ أصدقائك قريبين، وأعدائك أقربعلى الأرجح أفضل طريقة لوصف استراتيجية الكرملين للطاقة في الشرق الأوسط.

تؤدي زيادة الإنتاج المحلي من النفط في الولايات المتحدة والانخفاض الناتج عن ذلك في واردات النفط الخام من الخليج إلى تغيُّر مشهد صناعة الطاقة في الشرق الأوسط. وفي ضوء عدم الاستقرار في أسواق النفط، أصبح المنتجون أكثر نشاطاً في البحث عن عملاء جدد، ما يمثِّل تهديداً لروسيا عبر تحدي احتكارها للغاز والنفط في أوروبا. لكنَّ دول (كلًا من) المملكة العربية السعودية، وقطر، وإيران تبحث أيضاً عن الاستقرار في هذه الصناعة المضطربة، وهم أكثر استعداداً للتفاوض بشأن تقسيم سوق الطاقة، وهو أمرٌ تبدأ هذه الدول في الاتفاق بشأنه مع موسكو. إذ سمحت أرباح الغاز والنفط المهولة لروسيا بخلق شبكة أمانٍ مالي من الاحتياطيات المالية خلال العقد الأول من الألفية الجديدة، وهو ما أثبت كونه مفيداً للغاية خلال أزماتٍ مثل التي تمر بها روسيا حالياً. لكنَّ هذه الاحتياطيات تنفد سريعاً، إذ تقول بعض التقديرات إنَّ أحد صناديق الاحتياطيات قد ينفد بحلول نهاية 2017. وبالتالي، فإنَّ موسكو تسعى لعودة أسعار النفط إلى مستوياتٍ تقبلها، بالإضافة إلى خلق سوق طاقة عالمي يمكن توقع تقلُّباته، بما يسمح لها بوضع خطط مالية بعيدة المدى.

الطاقة كإحدى أدوات السياسة الخارجية

كشفت التخمة النفطية عام 2015 التهديد المتصور لروسيا من عمالقة الطاقة بالشرق الأوسط وصعَّبت المنافسة على العملاء في أوروبا وآسيا. وعلى مدار العامين الماضيين، أظهر المتنافسون من الشرق الأوسط تطلعاتهم إلى زيادة شحنات النفط الصادرة إلى أوروبا. فقد أدت عدة عوامل إلى السماح لهذه الدول بالبدء بالاستحواذ على حصةٍ أكبر من سوق روسيا التقليدي هناك. أولها أنَّ انخفاض أسعار النفط الخام جعل تخزين الموارد غير مجدي اقتصادياً، وقد عنى تحفيز الشركات لبيع كل مخزونها تقويض المنافسين في بعض الأحيان. ثانياً، أصبح شحن النفط بحرياً رخيصاً للغاية حالياً، ما يعني أنَّ المنتجين في الشرق الأوسط أكثر استعداداً للتنافس على حصةٍ من السوق الأوروبية.

تاريخياً، كان الاتحاد الأوروبي، الذي يشكل أعضائه البالغ عددهم 28 عضواً أكبر سوقٍ في العالم لواردات الغاز الطبيعي، ضمن عملاء روسيا الأكثر استقراراً، إذ استوردوا ما يصل إلى 40% من غازها الطبيعي و36% من نفطها الخام. كذلك استوردت دول البلطيق، وبعض دول وسط أوروبا، حتى فترةٍ قريبة جداً كل غازها من روسيا، ما جعلها معتمدةً بالكامل على الإمدادات منها والتوقعات السياسية المرتبطة بذلك. وبعد الأزمة في أوكرانيا، فرض الاتحاد الأوروبي عدة جولاتٍ من العقوبات على موسكو، وتبنّى خطةً لكسر اعتماده على موارد الطاقة الروسية عبر تنويع مصادر إمداداته.

 أصبح شحن النفط بحرياً رخيصاً للغاية حالياً، ما يعني أنَّ المنتجين في الشرق الأوسط أكثر استعداداً للتنافس على حصةٍ من السوق الأوروبية.

في عام 2015، جرى الترحيب بشركة آرامكو السعودية بميناء غدانسك البولندي لتوصيل أولى شحناتها مطلقاً من النفط إلى البلاد، في محاولةٍ لكسر الاحتكار الروسي للطاقة في أوروبا. تبع ذلك توقيع عقدٍ دائم في مايو/أيار 2016. وبعد الرفع الجزئي للعقوبات عن إيران، سعت هي الأخرى إلى استكشاف فرصٍ جديدة في أوروبا عبر توصيل 2 مليون برميل من النفط الخام إلى محطة الوصول حديثة العهد في غدانسك. وفي أنحاءٍ أخرى من أوروبا، زادت المجر، رابع أكبر سوقٍ لصادرات النفط الروسي، وارداتها من إقليم كردستان العراق.

وتظهر طرق الإمداد الحديثة هذه كيف تعيد التخمة النفطية تشكيل سوق النفط ومدى جاهزية العملاء الأوروبيين لقطع أشواط طويلة في سبيل تقليل اعتمادهم على الطاقة الروسية. وبينما ستسمح التعقيدات اللوجيستية لإيران والمملكة السعودية بالكاد بالضغط على روسيا لإخراجها من السوق الأوروبي، بثَّت محاولاتهما لتقديم أسعارٍ أقل للعملاء إشاراتٍ غير مطمئنة لموسكو. فمع تشكيل صادرات النفط والغاز الطبيعي لما يصل إلى 50% من أرباح الميزانية الروسية، وهبوط إجمالي الناتج المحلي في البلاد من 2,1 تريليون دولار عام 2014 إلى 1,2 تريليون عام 2016، يكون حفاظ روسيا على عملائها أمراً ملحاً. وعلى الرغم من الخلافات السياسية والنقاشات الحادة المستمرة مع الاتحاد الأوروبي، يتمثل مسعى موسكو في إبقاء الوضع الحالي على ما هو عليه، والذي بمقتضاه يكون المُورِدُون الروس قادرين على إملاء شروطهم الخاصة على العملاء الأوروبيين، وهم يستمرون في الدفاع بلا هوادة عن هذا الوضع. وهذا هو السبب الذي تسعى روسيا بسببه لفرض قيودٍ على موردي الطاقةالخارجيين“. ومع ذلك، بدلاً من التفاوض بهذا الشأن مع الاتحاد الأوروبي بسبب العلاقات الآخذة في التدهور، قرَّرت موسكو عقد اتفاقٍ مع المنافسين الناشئين بالشرق الأوسط.

في هذا السياق، يتكون ما يطلق عليه استراتيجية الطاقة الروسية للتوجه نحو آسيا من شقين، والتي تهدف إلى جعل خطط الطاقة الروسية على المدى البعيد أكثر استمراريةً وقابليةً للتوقع. وتمثِّل الصين المحور الرئيس لهذه الفكرة في شرق آسيا، لكن يُقال إنَّ تركيا تلعب دوراً حاسماً في السماح لروسيا بتوسيع طموحات الطاقة خاصتها، ليس في أوروبا فقط، ولكن في الشرق الأوسط أيضاً.

يعد مشروع خط غازالتيار التركيالذي وقَّعه الرئيسان بوتين وأردوغان في الأول من ديسمبر/كانون الأول عام 2014، أحد مظاهر هذه السياسة. إذ سيحمل المشروع، وهو عبارة عن خط أنابيب بطول 1100 كيلومتر يربط بين روسيا وتركيا، ما يصل إلى 63 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي سنوياً، وهو القدر الذي يمكن لاحقاً نقل معظمه عبر تركيا إلى اليونان. جرى اقتراح هذا المشروع كي يحل محل خط أنابيب التيار الجنوبي الممتد إلى بلغاريا، والذي تخلَّص منه فلاديمير بوتين بسبب ضغوطٍ مزعومة من الاتحاد الأوروبي ضد المشروع كجزءٍ من العقوبات الغربية ضد روسيا. ويشكَّل طلب تركيا المتزايد على الغاز الطبيعي مرتكزاً لتطلُّع روسيا إلى أن تكون الموفر الوحيد للطاقة في تركيا. كذلك ترى إيران، ثاني أكبر مورد، تركيا باعتبارها مركز نقلٍ محتمل لشحنات الغاز الطبيعي إلى أوروبا، ما قد يؤلب موسكو وطهران ضد بعضهما البعض تنافساً على سوق الاتحاد الأوروبي. وتفسر مركزية تركيا في معادلة الطاقة الروسية لأوروبا إلى حدٍ كبير سبب نجاح بوتين وأردوغان في إحداث تحسن ومتابعة العمل في مشروع التيار التركي، على الرغم من الانهيار المؤقت في العلاقات.

وفي سعيه وراء مشروع خطوط الأنابيب مع تركيا، رفع الكرملين رهاناته في العلاقات مع الاتحاد الأوروبي. وحتى الآن، لم تتبنَّ العواصم الأوروبية موقفاً بالإجماع بشأن احتمالية استقبال الغاز الروسي عبر التيار التركي. ومع ذلك، بمجرد تشغيل خط الأنابيب بالكامل، تنوي روسيا خفض شحنات الغاز الصادرة إلى أوروبا عبر أوكرانيا، التي تمثل إحدى أهم نقاط الخلاف بين الجانبين. وما يعد مهماً على نحو مساوٍ هو حقيقة أنَّ إشراك أنقرة في المعادلة الروسية يجعل بالأساس عدداً من مشروعات خطوط الأنابيب البديلة التي تنقل الغاز الطبيعي إلى أوروبا عبر تركيا، مثل خطوط أنابيب نابوكو وقطرتركيا، غير مجدية. فعبر القضاء على المشروعات المنافسة والتخلُّص من خيارات الاتحاد الأوروبي لكسر اعتماده على الغاز الروسي، تأمل موسكو أن تفرض قواعدها الخاصة في اللعبة بسوق الطاقة الأوروبي، وسوف تلعب تركيا دوراً محورياً في هذه الاستراتيجية.

دبلوماسية الطاقة

ترتكز فكرة روسيا عن دبلوماسية الطاقة على حافزٍ نحو تقوية التواصل وتعزيز التعاون وكذلك التنافس، والحفاظ بشكلٍ مشترك على استقرار سوق الطاقة العالمي بمشاركة كبرى الدول المصدرة. إذ ترى القيادة الروسية بوضوح أنَّ سوق الطاقة المضطرب يمثل قارباً تتشاركه مع أوبك (منظمة الدول المصدرة للبترول)، وبالتالي فإنَّ التنظيم العادل لها مبنيٌ على قواعد اللعبة المقبولة بشكلٍ مشترك، والتي تسمح لجميع منتجي الطاقة بالحصول على حصةٍ من هذه الفطيرة الآخذة في التضاؤل.

لدى روسيا ثقلها المعتبر في ممارسة السيطرة على سوق النفط، لكنَّها تبقى غير عضوة بمنظمة أوبك، التي تعد لاعباً مهيمناً في السوق العالمي. وقد تمتَّع الجانبان تاريخياً بعلاقة حب وكراهية: إذ تُدعى روسيا بشكلٍ منتظم لحضور اجتماعات المنظمة وتعهدت عدة مراتٍ بالتعاون معها بشأن خفض الإنتاج، لكن موسكو خلفت هذه الوعود أكثر مما التزمت بها. ينبغي رؤية هذه العلاقة من خلال منظار العلاقة الروسية السعودية، ما قد يفسر بث موسكو لإشارات متضاربة إلى أوبك لمدة طويلة.

تعد روسيا والسعودية متنافستان طبيعيتان؛ إذ تتنافسان باستمرار على لقب المصدرة الأكبر للنفط في العالم. وقد حصلت الرياض عليه لفترةٍ طويلة، منتجةً قدراً من النفط يزيد عن أي دولة أخرى، لكن في مايو/أيار، تخطى الإنتاج الروسي نظيره السعودي. وبحلول شهر نوفمبر، كانت روسيا تنتج 11.2 مليون برميل يومياً (وهو مستوى غير مشهود منذ سقوط الاتحاد السوفيتي) مقابل 10.6 مليون برميل سعودي. حدث هذا التطور في فترة كانت فيها الدولتان في خضم محادثاتٍ حاسمة لخفض إنتاج النفط من أجل رفع السعر العالمي للنفط الخام. كانت الدولتان تكثِّفان الإنتاج بشكلٍ واضح قبيل الاتفاق المتوقع. نتيجةً لذلك، بدأت روسيا والسعودية من هذه المستويات خفض إنتاجيهما من النفط بحوالي 300 ألف و 486 ألف برميل، على التوالي، كجزءٍ من الاتفاق. لكنَّ روسيا فاقت شركائها الإقليميين ذكاءً، بالأساس عبر تأخير الاتفاق والموافقة عليه في التوقيت الدقيق الذي سيسمح فيه التزامها بالاتفاق للشركات الروسية بالإنتاج بالمعدلات التي أنتجت بها حين كانت الأسعار أقل مما هي عليه اليوم، مع تحقيقها أرباحاً.

وبعد اتفاق خفض الإنتاج، أشار العديدون إلى أنَّ روسيا قد تنضم إلى أوبك في ضوء توقع التزامها بالاتفاق، لكنَّ انضمامها إلى المنظمة ليس أمراً تتصوره موسكو لنفسها. فهي تدرك أنَّ أوبك منظمةٌ تهيمن عليها المملكة، وتتفهَّم فكرة أنَّه لا يمكن للمنظمة أن تضم  قوتين مهيمنتين. بل في الواقع، أصبح التفاوض بشكلٍ متكافئ مع السعودية بشأن الاتفاق ممكناً فقط لأنَّ روسيا من خارج هذا التراتب التنظيمي. ومع ذلك، فإنَّ موسكو ليست لديها نية لتقويض دور أوبك، لأنَّه في ساحةٍ تخلو من قواعد المنظمة الصارمة، ستحاول روسيا باستمرارٍ على الأرجح أن تلحق بركب المملكة من حيث الإنتاج والوصول إلى الأسواق.

تُعد روسيا مهتمةً بشكلٍ أكبر بالحفاظ على موقعها المهيمن في سوق الغاز الطبيعي، وذلك في ضوء حقيقة أنَّ لديها أكبر احتياطياتٍ مؤكدة من الغاز الطبيعي. وسعياً وراء هذا الهدف، كانت روسيا منذ منتصف الألفية تروج لفكرة تكوين منظمةٍ للغاز تخضع لقيادتها. وقد كان إنشاء منتدى الدول المصدرة للغاز (GECF) عام 2001 متماشياً مع التطلُّع الروسي إلى تحديد الحصص والأسعار في صناعة الغاز الطبيعي بمشاركة إيران. ولوهلةٍ، جرى التسويق للمنتدى حول العالم بوصفهأوبك الغاز الطبيعيبقيادة روسيا وإيران وقطر. لكنَّ المشروع فشل في الانطلاق، ويبدو الآن منتهياً. فعلى خلاف قطر، التي تبيع الغاز الطبيعي المُسال بأسعارٍ فورية، تفضل روسيا توقيع عقودٍ طويلة الأمد مع عملائها. ويُعد غياب سوقٍ عالمي موحد للغاز، ونقص التنسيق بشأن الإنتاج، وسياسات التجارة بهذا الصدد أسباباً رئيسية لاستمرار المنتدى بصفته منصةً للنقاش دون فرض التزامات.

ووفقاً لاستراتيجية الطاقة الروسية، تسعى البلاد نحو هدف التعاون المفيد بشكلٍ مشترك في صناعة الطاقة مع الشركاء حول العالم، وأهمهم في الشرق الأوسط. لكنَّ التعاون يُعد أمراً لا تزال روسيا تستكشفه في المنطقة الأوسع. فقد لعب الاتحاد السوفيتي تاريخياً دور المرشد للحلفاء الإقليميين، مساعِداً لهم في تطوير الصناعات الاستخراجية الخاصة بهم، ليس بهدف الربح، وإنََّما لشراء ولاء الدول غير المصطفة إلى جواره. وفي هذا السياق، جرى تنفيذ أكثر من 350 مشروع طاقة بواسطة الاتحاد السوفيتي في مصر، والعراق، والجزائر، وسوريا وليبيا، واليمن. فقد موّل الاتحاد مجموعةً من هذه المشروعات، بالإضافة إلى تقديم تقنيات التنقيب والاستخراج خاصته إلى هذه الدول. واليوم، تحول ميزان القوى، وكذلك فعلت أولويات الطاقة الروسية في المنطقة. ودون قصد، أصبح ينبغي عليها التطلُّع إلى الخليج بحثاً عن فرصٍ تجارية جديدة.

على الرغم من الصراع الجاري مع السعودية وقطر على الريادة في سوق الطاقة، نجحت روسيا في تجزئة علاقتها معهما، والسعي وراء مشروعات طاقةٍ مشتركة. ولا تُعد هذه الاستراتيجية مدفوعةً بالأرباح فقط، لكنَّها تساعد أيضاً في جعل الأسواق المعنية متكافلة، لتقليل المخاطر إلى أقل حدٍ ممكن، وردع التنافس غير المُجدي. وعلى مدار السنوات الخمس الماضية، كانت الحكومة الروسية تستكشف فرص الحصول على استثماراتٍ في النفط والغاز من الخليج، وهي سياسةٌ ليست مدفوعة بهبوط مستويات الاستثمارات الغربية فقط، بل و بالرغبة في دمج صناعة الطاقة الروسية في السوق العالمي أيضاً. وفي ديسمبر/كانون الأول 2016، حصلت عملاقة النفط الروسية، روسنفت، على استثمارٍ بقيمة 5 مليارات دولار من قطر، وهو أكبر اتفاق طاقةٍ عقدته روسيا مطلقاً مع أيٍ من دول مجلس التعاون الخليجي. كذلك تقترب الشركة الإماراتية، مبادلة للبترول، و روسنفت من توقيع اتفاقٍ للتنقيب المشترك بحقلي نفط في شرقي سيبيريا. وفي غضون ذلك، دشن صندوق الاستثمار الروسي المباشر عدة شراكات مع صناديق الثروة السيادية بمجلس التعاون الخليجي، والتي نتج عنها اتفاقات تعهدٍ باستثماراتٍ بقيمة عدة مليارات، بما في ذلك في قطاع الطاقة. ضمت هذه الاتفاقات شركة مبادلة، والهيئة العامة الكويتية للاستثمار، وصندوق الاستثمارات العامة السعودي، وشركة قطر القابضة وغيرها.

كذلك طوَّرت شركات الطاقة الروسية عدداً كبيراً من المشروعات في أماكن أخرى بالمنطقة. إذ عززت الشركات الثلاث الكبرى بها، روسنفت، وغازبروم، والشركة الخاصة لوك أويل، بدرجةٍ كبيرة حصصها في مشروعات النفط والغاز في أنحاء المنطقة قبل التخمة النفطية. تشارك روسيا، بالاعتماد عادةً على إرث علاقات التعاون بمجال الطاقة في أثناء الحقبة السوفيتي، في مشروعاتٍ واعدة في مصر، والعراق (بما في ذلك كردستان)، وليبيا، وإيران.

احتلت الطاقة النووية أيضاً مكانة بارزة في استراتيجية الطاقة الروسية. وتشكل هذه الصناعة، التي تتركز في قبضة شركةٍ واحدةٍ فقط تابعة للدولة، روساتوم، عنصراً محورياً بالسياسة الروسية للتخفيف التدريجي من اعتمادها على النفط والغاز. تعتمد موسكو كذلك بشكلٍ متزايد على صناعتها النووية في إدماج الشركاء حول العالم، وذلك لأنَّ شركة روساتوم تُعَد واحدةٌ فقط من الشركات العالمية القليلة القادرة على إدارة الدورة الكاملة لبناء محطات الطاقة النووية وتشغيلها. وكان هناك اهتمام كبير بالصناعة النووية الروسية من جانب الشرق الأوسط: إذ تواصلت جميع القوى الإقليمية تقريباً، سواء أكانت منتجةً للنفط أم لا، مع روساتوم لاستكشاف احتمالات التعاون. وقد أدركت موسكو هذا الاهتمام المتزايد، وأصبحت تنظر إلى صناعتها النووية كإحدى أدوات السياسة الخارجية الفعالة. وقد حققت روساتوم قفزةً هائلة في تسويق طاقتها النووية بالشرق الأوسط في ربيع 2016، فقد افتتحت أول مكاتبها الإقليمية بدبي. و سيشرف هذا المكتب على المشروعات الجارية بمصر وإيران والأردن وتركيا، وأيضاً في الإمارات. كذلك تواصلت السعودية، التي لديها خطط طموحة لبناء 16 مفاعلاً نووياً بحلول عام 2032، مع روسيا، وصاغت اتفاقاً لتعزيز التعاون النووي في عام 2016، ما يعني أنَّنا قد نشهد بناء موسكو للبنية التحتية النووية بالسعودية من الصفر.