فصل جديد في تراجيديا الثورة المصرية

لقد كان انتخاب الرئيس الراحل محمد مرسي الحدث ذا الرمزية الأهمّ في مسار الثورة، بما شكّله من انتقال السلطة في الجمهورية المصرية إلى أول جهة مدنية منتخبة. كذلك فإن رحيله يمثل رمزية جديدة للثورة المصرية، وفصلاً جديداً في تراجيديتها.

كما كان يوم فوزه بالانتخابات المصرية حدثاً عالمياً مدوّياً، ويوم الإطاحة به في الانقلاب العسكري الدامي حدثاً آخر مدوياً، أبى د.محمد مرسي، أول رئيس مصري منتخب ديمقراطيا -وآخرهم حتى الآن- أن يمضي في صمت.

لم تأتِ وفاته في حبسه الانفرادي الذي دام نحو ست سنوات، أو في مستشفى نُقل إليه بعد تدهوُرٍ في حالته الصحية، بل في أثناء محاكمته الهزلية وعقب شهادة ختامية أدلى بها مبرِّئاً ساحته، وضمّنها -وَفْق محاميه- بيت الشعر القائل:

بلادي وإن جارت عليّ عزيزةٌ

وأهلي وإن ضَنُّوا عليَّ كِرامُ

الرجل ساقته الأقدار ليمثِّل -رغماً عنه- الثورة المصرية، بإنجازاتها وإخفاقاتها، فقد كان انتخابه الحدث ذا الرمزية الأهمّ في مسار الثورة، بما شكّله من انتقال السلطة في الجمهورية المصرية إلى أول جهة مدنية منتخبة، وما بدا حينها انتهاء لجمهورية الضباط وبداية لِمَا سُمي بالجمهورية الثانية.

وكانت الإطاحة به هي رمزية انتهاء مرحلة التحول الديمقراطي المتعثرة للثورة المصرية، كما كانت منصة حملته الانتخابية في ميدان التحرير يوم إعلان فوزه رسميّاً بالرئاسة آخر مكانٍ جمع فرقاء الثورة المصرية قبل أن يتواجهوا لاحقاً في التظاهرات والمصادمات، وقبل أن يعودوا لتجمعهم مرة أخرى سجون الحكم العسكري في مصر.

كذلك فإن د.محمد مرسي -في رحيله- مثّل رمزية جديدة للثورة المصرية، وفصلاً جديداً في تراجيديتها، فقد رحل الرجل وهو تحت قبضة حكم عسكري يمارس ضدّه -كما ضدّ الثورة المصرية- كل أساليب التشويه والتنكيل ونزع الشرعية والاغتيال المعنوي.

فالثورة السلمية صارت مؤامرة لهدم الدولة، والدعوة إلى الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان هي دعوة لقلب نظام الحكم، والانقلابيون الذين يتحدثون بشكل متبجح عن تواصلهم مع جهات أجنبية أمريكية وخليجية في أثناء الإعداد للانقلاب يتهمون الرئيس بالتخابر، والقضاة الذين لم يجدوا ما يُدينون به رئيساً فاسداً ورجاله -حكموا ثلاثين سنة- فأعطوهم جميعاً صك البراءة، وجدوا في حكم عام واحد ما يُصدِرون به على الرئيس ورجاله عديداً من أحكام الإعدام والسجن المؤبَّد والمشدَّد.

والعسكريون الذين يحكمون مصر لأكثر من خمسة وستين عاماً بشكل مباشر وغير مباشر شهدت مصر خلالها تدهوراً سياسياً واقتصادياً واجتماعياً لا تخطئه عين، حمّلوا الرئيس المدني -الذي لم يكن يحكم مطلق اليد خلال عام رئاسته- أسباب هذا التدهور ليغسلوا أيديهم من المسؤولية، بل وليظهروا كمنقذين مرة أخرى!

قد يبالغ البعض في تبعات رحيل الرئيس المصري السابق، فمن المؤكَّد أنه لن يؤدي إلى اندلاع انتفاضة شعبية في ظلّ نظام استبدادي ما زال يحكم بالحديد والنار، وفي ظلّ مجتمع ما زال مرتبكاً ومنسحباً سياسياً، ومُنهَكاً من الأزمات المعيشية والاقتصادية، كما أن النظام الدولي الذي تتآكل يوماً بعد يوم قدراته المؤسسية، وما تبقى من رصيده الأخلاقي -إن تمتع بشيء منه سابقاً- والذي وقف عاجزاً لمدة ست سنوات عن ممارسة الضغوط على النظام العسكري في مصر لتوفير شروط احتجاز آدمية وقواعد محاكمة عادلة للرئيس الراحل في حياته، على الأغلب لن يحرِّك ساكناً بعد وفاته، ولعل “لا تعليق” المتحدثة باسم الخارجية الأمريكية على حادثة الوفاة دليل على هذه اللا مبالاة، وإن شئت، التواطؤ.

لكن على جانب آخر، فإن رسائل العزاء التي دوّنها عديد من السياسيين والناشطين المصريين على صفحاتهم الرسمية على وسائل التواصل الاجتماعي من مختلف التيارات والحركات السياسية، بل ومن بعض من كانوا من المعارضين للرئيس الراحل، قد تعطي دلالة على تراجع حدة الخصومة والاستقطاب السياسي، وقد تمهد الأجواء لاستئناف الحوار والعمل السياسي المشترك على الملفات محلّ الاتفاق، وأهمها ملفّ المعتقلين السياسيين، واستعادة الحكم المدني في مصر.

اختلف كثيرون حول تقييم مدة حكم الرئيس الراحل، وحول أدائه السياسي، وفيمَ أخطأ وفيمَ أصاب، وما الذي كان بمقدوره وما الذي كان مُرغَماً عليه، لكن من المؤكد أن لحظة وفاته وتراجيديتها كانت لحظة استعادوا فيها نظرتهم الإنسانية إلى رجلٍ دفعته الأقدار في لحظة هي الأصعب في تاريخ مصر والمنطقة العربية إلى سُدَّة الرئاسة، فبذل ما في وسعه، وفق ما استطاع، ووفق ما آمن بأنه الصواب، ثم دفع حياته طائعاً مختاراً ثمناً لاختياراته. رحمه الله.


هذا المقال تم نشره في تي آر تي عربي