تنزيل الـ PDF

باكستان: موازنة بين إيران والسعودية.. الشاه وآيات الله والملوك

ملخَّص: ما زالت باكستان تلعب دورًا فاعِلًا في منطقة الشرق الأوسط. فإذا لم تكن باكستان قد انضمَّت إلى “التحالف الإسلامي”، كان يمكننا القول حتمًا إن هذا التحالف قد قُضي عليه بسهولة قبل أن يرى النور. بينما كانت مسألة عزل قطر من دول الخليج – المعروفة باسم الأزمة القطرية – ستكون أشدَّ وطأةً في حال استجابت باكستان لدعوة المملكة العربية السعودية بتقليص العلاقات مع قطر. وعلى المنوال ذاته، لربما تجنَّبت المملكة العربية السعودية الخطأَ الفادح الذي ارتكبته في اليمن إذا كانت باكستان قد وافقت على إرسال قواتٍ للقتال في اليمن. وبالنظر إلى تاريخ جمهورية باكستان الإسلامية منذ أوائل السبعينيات، نجد أن صانعي السياسات باختلاف اتجاهاتهم عملوا على تحقيق موازنة دقيقة بإيجاد منطقة وسطٍ بين إيران والمملكة العربية السعودية، وتجنبوا الوقوع في شرك الصراعات الدائرة بين الدول العربية مهما كلَّف الأمر. ومنذ فترة الخمسينيات وحتى نهاية السبعينيات، كانت إيران الشريك الرئيس لباكستان دون منازعٍ، حيث لعب الشاه دور الشرطي في المنطقة؛ إذ خفَّف بدرجة كبيرة – دون قصدٍ – من شعور باكستان بالتهديدات الوجودية. ولكن هذا الوضع لم يتغيَّر إلا تدريجيًّا بعد أزمة النفط عام 1973 وما ترتَّب عليها من ازدهار اقتصاديٍّ في الخليج بعدها؛ إذ تدفَّق العُمَّال والخبراء العسكريون الباكستانيون إلى الخليج. وقد استغلَّ رئيس الوزراء ذو الفقار علي بوتو المصالح المُشترَكة للسعوديين والإيرانيين أيما استغلال في جعل باكستان قويةً لمواجهة السوفيت، ومن ثمَّ جنت باكستان مكاسبَ اقتصادية وعسكرية وسياسية من جميع الأطراف طوال الوقت. وبقناعةٍ تغلبها البهجة، وصف بوتو الخليج بـ”الخليج الفارسي”؛ نظرًا إلى قربه من إيران أكثر من السعودية، وفي الوقت نفسه واصل التشدُّق بدعوة السعودية إلى قيادة العالم الإسلامي، مضيفًا بذلك طابعًا إسلاميًّا ذا قيمة للسياسة الخارجية الباكستانية.

حتى بعد الثورة الإيرانية في عام 1979، والتي تسبَّبت في وجود خلافاتٍ بين السعودية وإيران، ومع أن إيران استخدمت ورقة الشيعة ضد باكستان، إلا أن باكستان استمرت في اللعب على كلا الجانبين في قضايا مختلفة. فبكل ترحيبٍ، أخذ الرئيس ضياء الحق أموالًا من السعودية لتمويل الجهاد الأفغاني، وبعث قواتٍ إلى الخليج لتهدئة المخاوف الأمنية للأنظمة العربية. وفي الوقت ذاته، دعم ضياء الحق إيران عسكريًّا في حربها مع العراق بالرغم من توخيها الحذر من نوايا النظام الثوري. وفيما بعد ضياء، أظهرت سياسة باكستان بصدد الغزو العراقي للكويت أنها لن تخطو سوى خطواتٍ محدودة لإرضاء رغبات السعودية. وبينما دعمت حكومة نواز شريف تحالفًا بقيادة الولايات المتحدة بهدف إخراج العراق من الكويت، على الرغم من الشعور العام الداعم للعراق داخل باكستان، وأرسلت قواتٍ إضافية إلى السعودية لحماية العائلة المالكة، إلا أن القوات الباكستانية لم تنزل قطُّ إلى ساحة القتال.

أثارت الخلافات حول التطلُّعات والمخطَّطات الباكستانية والسعودية والأمريكية والهندية والإيرانية بشأن مصير أفغانستان بعد انسحاب الاتحاد السوفيتي العديدَ من المشكلات في فترة التسعينيات. وفي ظلِّ هذا التهافت الإقليمي على تشكيل أفغانستان، وجدت النزعة الطائفية أرضًا خصبة لها في باكستان؛ حيث يشكِّل المسلمون الشيعة من 15-20% من إجمالي السكان. فقد بدأت الميليشيات المتطرفة في مهاجمة المواطنين الباكستانيين من الشيعة، وكذلك المسؤولين الشيعة؛ بما في ذلك الدبلوماسيون والمهندسون وطلَّاب الكليات العسكرية في عامي 1997 – 1998. ونظرًا إلى أن باكستان كانت إحدى الدول الثلاث (مع السعودية والإمارات) الوحيدة التي اعترفت بنظام طالبان الذي تأسس في كابول بعد عام 1996، فقد أدت الهجمات ضد الدبلوماسيين الإيرانيين في أفغانستان عام 1998 إلى مزيدٍ من التوتُّر في العلاقات بين إيران وباكستان. وبينما تعارضت مصالحها مع إيران إلى حدٍّ كبيرٍ طوال فترة التسعينيات، لم تتخذ باكستان موقفًا معاديًا لإيران حتى بعد هجمات 11 سبتمبر، التي شكَّلت ضغطًا كبيرًا على إيران. وعندما فُرضت عقوباتٌ دولية على إيران بسبب برنامجها النووي وبدا أن الهجوم الأمريكي وشيكٌ، اتَّخذت باكستان موقفًا حازمًا ضد أي هجومٍ على الأراضي الإيرانية تخوفًا من ردود الأفعال العنيفة لمواطنيها من الشيعة ومن المزيد من الدمار في المنطقة.

أعلنت المملكة العربية السعودية عن “التحالف الإسلامي العسكري لمحاربة الإرهاب” في أواخر عام 2015. وتعهَّد التحالف الذي يضمُّ 41 دولةً ذات أغلبية مسلمة، بحماية المسلمين من المنظمات الإرهابية موجهًا أنظاره إلى الحرب الأهلية السورية. وبعد قرار باكستان في أبريل/نيسان 2015 بعدم مشاركة القوات الباكستانية في الهجوم السعودي على اليمن، انضمَّت باكستان إلى التحالف هذه المرة بهدوء. ومع ذلك، فقد بذلت قصارى جهدها لتجنُّب إعطاء انطباع بأنَّ التحالف ما هو إلا تجمُّع مناهض لإيران. الجدير بالذكر أن المملكة العربية السعودية بينما كانت تحاول استدراج باكستان للانضمام لجبهة غير مُعلَنة ضد إيران، فشلت حتى في إقناع باكستان بسحب سفيرها من دمشق. وبذكر الشأن السوري، فما زالت باكستان أيضًا تتصرف بحذرٍ بالغٍ. فقد أبقت حكومة نواز شريف على السفير الباكستاني في دمشق، باستثناء الفترة القصيرة التي كان بقاؤه فيها غير آمن، الأمر الذي وُصِف بأنه سياسة “حياد إيجابي”، وأشاد به السفير السوري في إسلام آباد.

إن رفض صانعي السياسة الباكستانيين الانحياز لجانب الصدامات بين الدول العربية أو بين السعودية وإيران، يعبِّر عن خوفهم الدائم من الاقتتال الطائفي الداخلي. وتبدو القوات المسلحة – حيث يعتبر الحديث عن طائفة الضباط أمرًا مرفوضًا – قلقةً من أن هذا الاستقطاب الاجتماعي سيضع وحدة الجيش على المحكِّ. وينبغي الأخذ بعين الاعتبار الصعوبات الاقتصادية التي تُجبِر باكستان على البقاء حَذِرةً: إذ تُعَدُّ المملكة العربية السعودية مصدرًا للمال لا غنى عنه إذا دعت الحاجة. كما تواجه باكستان مشكلاتٍ عملية عويصة لضمان عدم انقطاع وصول الغاز الطبيعي والنفط. وتلبِّي باكستان حاجتها من الطاقة عن طريق استيراد النفط والغاز الطبيعي من السعودية والإمارات العربية المتحدة وقطر وإيران (بالإضافة إلى كمياتٍ صغيرة من بلدان أخرى). أمَّا السبب الآخر وراء تفضيل باكستان تجنُّب اتخاذ أي تحركاتٍ سياسية حاسمة بشأن نزاع السعودية وإيران، فهو التحويلات النقدية التي ترسلها العمالة الباكستانية المهاجرة من دول الخليج الغنيَّة بالنفط إلى بلادها. كما أن حجم هذه التحويلات النقدية يُجبر باكستان على توخي الحذر حتى لا تتسبَّب في ترحيل مواطنيها بالخارج نتيجة النزاع السياسي. وطوال عقودٍ مضت، أدت كل هذه المصالح المتداخلة والقيود المحلية والدولية إلى وجود توازنٍ وحَذَرٍ بالغ في علاقات باكستان بالمملكة العربية السعودية وإيران، وجعلت موقفها تجاه الصراعات الدائرة بين الدول العربية ضرورة حتمية، وليست خيارًا. وتواصِل باكستان المضيَّ قدمًا بحذرٍ شديدٍ على حبلٍ دقيقٍ تفرضه الجغرافيا من جهة، والتأثيرات الاقتصادية والدينية من جهة أخرى.