الحكومة التونسية القادمة بين تحديين: الإنجاز، وسلاسة عمل مؤسسات الدولة

في ساعة متأخرة  من يوم العاشر من يناير أسقط البرلمان التونسي الحكومة التي اقترحها المهندس الحبيب الجملي، ولم يكن ذلك إلا نصف مفاجأة، فقد تعامل المرشح  بنوع من الاستهانة مع الكتل البرلمانية،  كما أنه لم يحظ بالإسناد الفعلي الكامل من الحزب الذي اقترحه، هذا على الأقل ما فهمته، وما تهامست به بعض الكتل .

ولئن ضاعت فرصة تشكيل حكومة الحزب الأول، فإن خيار حكومة (الشخصية الأقدر) التي يقترحها رئيس الجمهورية لم تخرج البلاد- نظريا على الأقل- من فضاء الفرص، ولكن ذلك كان مشروطا باستخلاص دروس التجربة السابقة .

لقد كان الرئيس قيس مجدِّداً في طريقة استشارة الأحزاب و الكتل لمّا طلب منها إرسال مقترحاتها مكتوبة ومعلَّلة، ولمّا قرر استقبال أبرز الأسماء المرشحة .

 أما يوم  الإثنين الخامس و العشرين من يناير فكان يوما طويلا شارك فيه  الرأي العام و منصات التواصل الاجتماعي في الضغط لاختيار مرشح الرئاسة، حتى آل الأمر الى إلياس الفخفاخ، الذي قد يكون المهندس السادس الذي يحتل مركز القصبة منذ الثورة  .

في خياره هذا لم يخرج الرئيس عن صلاحياته الدستورية، ومع  ذلك فقد كان الرأي العام أمام نصف مفاجأة، فقد كان  الجميع يعلم أن الرئيس سيختار مرشحا من القوى الجديدة التي ترفع عنوان التغيير، والشخصية المقترحة هي من هذا الصنف، إذ التحقت بالعمل السياسي بعد الثورة، وشاركت في حكومتي الترويكا، و لها خياراتها الديموقراطية و الاجتماعية الراسخة، ولها من الخصال الشخصية ما يؤهلها لهذا الموقع، إضافة إلى أنها من السياسيين الشباب (عمره 48سنة) في بلاد تحتاج إلى لغة جديدة، وساسة يمكنهم التفاعل مع الأجيال الصاعدة، من هذه الزاوية لم يجادل كثيرون في قدرة السيد الفخفاخ .

و لكن ربما لم تكن الشخصية المختارة هي الشخصية الأقدر، حينما نفهم الاقتدار بما يتجاوز الخصال الذاتية إلى  مراعاة السياق، وهذا ما قد يكون غفل عنه الرئيس سعيد وأيضا المرشح الفخفاخ .

فالسيد الفخفاخ مسؤول كبير في حزب تقدم للانتخابات، ولم ينل أي مقعد في المنافسة، ثم هو قد تقدم للرئاسيات، و لم يحظ إلا بثقة 3.5% من أصوات الناخبين، فكيف له أن يتقدم أحزابا سبقته ويشكل بها  حزامه للحكم .

ومن يضمن عدم استعمال المرشح موقع رئاسة الحكومة ومواردها لبناء مساره السياسي، مع مراعاة أنَّ رئاسيات 2024 ليست بعيدة ؟

ومن يضمن عدم توظيف الموقع و الموارد من أجل بناء منصته السياسية، أي تنظيم و توحيد تيار الوسط الديموقراطي الاجتماعي الذي غاب عن الساحة وترك فراغا هائلا منذ الانتخابات ؟

لا أحد من العقلاء يعترض على الطموح السياسي للسيد الفخفاخ، سواء تعلق الأمر بنواياه الرئاسية المفترضة، أو بملء فضاء يسار الوسط، إنما الاعتراض على الوسائل التي يمكن أن تُعتمد، و تأثير ذلك على حسن سير المصالح العمومية، و لم تكن التجربة السابقة للسيد يوسف الشاهد رئيس الحكومة المباشر لتخفف من هذه التخوفات، فالإشكال هنا مزدوج، إذ هو في الوقت نفسه إشكال أخلاقي وسياسي .

لقد كان بالإمكان تجاوز هذه التحفظات لو اعتمد المكلف منهجية ادماجية جامعة يخرج بها من جلباب المرشح للانتخابات الرئاسية صاحب البرنامج المخصوص، ومن جلباب الزعيم الحزبي المنافس على التشريعيات، و من جلباب المرشح الذي يستمد شرعيته من الجهة التي كلفته- أي رئيس الجمهورية- في حين يعلم الجميع أن مصدر شرعية الحكومة في كل الحالات هو البرلمان، و جهة التكليف لا تعني إعادة النظر في النظام السياسي، ولا إعادة توزيع السلطة بين رأسَيْ السلطة التنفيذية .

كما كان بالإمكان تجاوز هذه التحفظات لو اختار المكلف دائرة استشارية متنوعة ومتوازنة مغايرة للمحيط الذي بدا غير مطمئن، و كأنه بصدد تصفية  حساباته  الخاصة، مشبعا  بروح انتصارية- لا مرتكز لها في موازين القوى الحقيقية- يعود إلى هندسة نفس الحكومة “الثورية ” التي تم إفشالها  يوم الثالث و العشرين من ديسمبر الماضي، و كأن  في الأمر نكاية في حركة النهضة ومرشحها في ذلك الحين المهندس  الحبيب الجملي.

و كان بالإمكان أيضا تجاوز هذه التحفظات باعتماد استراتيجية تشاركية مع الكتل- خاصة الكتلة الأكبر- بدل استراتيجية الصدام و فرض الأمر الواقع وخطاب التعالي.

في الأسبوع الثالث وبعد حروب إعلامية ومواقف حدية بين المكلف الذي برز متمسكا بالحكومة الثورية، وقادة النهضة المتمسكين بوصفة حكومة الوحدة الوطنية، أو حكومة الحزام السياسي الواسع- قرر المكلف إشراك قلب تونس و الحزب الدستوري الحر- المثيرين للجدل- في الاتصالات .

لقد أيقن المكلف أن الخيارات أمامه ليست كثيرة: فإما أن يتمسك بمقاربته الأصلية المتمثلة في الحكومة الثورية؛ فيعيد التكليف إلى رئيس الجمهورية لتجنب مآل حكومة الجملي؛  ليقينه باستحالة جمع النصاب  المطلوب، وهو خيار قد لا يكون الرئيس سعيد نفسه متحمسا له؛ نظرا لتكلفته العالية رغم تحفظاته المعلومة حول المنظومة الحزبية التي لم تزدها  تجربة الأشهر القليلة الماضية  إلا  ترسخا .

وإما أن يجازف فيمر بقوة ويعول على خوف الجميع من انتخابات سابقة لأوانها، وهو يعرف أن هذه المجازفة عالية المخاطر والفشل فيها أقرب من النجاح، وإنّ النجاح إنْ حصل فلن يكون إلا جزئيا ومؤقتا؛ فلا يمكن لحكومة أغلبية بسيطة دون سند حزبي مستقر، و بمعارضة الحزبين الأوّلَيْن، لا يمكن لمثل هذه الحكومة أن تنجز شيئا، بل ستكون معرضة  للإسقاط من الشارع إنْ لم يترصد لها البرلمان لإسقاطها في أقرب الفرص .

لذلك اختار الفخفاخ خيارا ثالثا جسدته الصورة الرمزية لمقابلة دعا لها  رئيس حركة النهضة، ورئيس البرلمان في منزله وحضرها الفخفاخ و القروي، و هي من تلك الصور  التي تحتمل تأويلات شتى بما فيها التأويلات المتناقضة .

فقد قرأها البعض انتصارا وربما ثأرا من حركة النهضة لما تعرضت له من مماطلة في حكومة الشوط الاول، و انتصارا لأطروحة التعايش و المصالحة الوطنية، وتغلبا على خروج المكلف من مقتضيات اللباقة في التعامل مع الكتل و مع السياق المخصوص الذي جاء به، فمن هذه الزاوية تقرأ الصورة انتصارا لحركة النهضة وزعيمها و عودة الأمور  إلى نصابها .

في حين اعتبرها البعض مناورة من المكلف و انحناء للعاصفة دون تنازل عن جوهر مقاربته  في انتظار امتلاك المقود، فالأهم هاهنا  هو تمرير الحكومة بالتصور الأول نفسه مع تنازلات شكلية.

غير أنّ الثابت هو أنّ الكاسب الأبرز  في هذه الصورة هو حزب قلب تونس ورئيسه نبيل القروي .

فمنذ الانتخابات  تحول هذا الحزب  إلى رقم أساسي  في المعادلة بفعل سوء تقدير منافسيه، وهو  يستثمر في المظلومية منذ أكثر من سنة، وقد كسب كثيرا لما تم استهداف قناة نسمة المملوكة لرئيسه، كما كسب كثيرا عند محاولة تغيير القانون الانتخابي، و كسب أيضا في حكومة الشوط الأول حينما استبعدته أحزاب الطيف الثوري، ولم تمتلك حركة النهضة شجاعة التعامل المباشر معه، وهو يكسب حاليا بأخطاء الرئيس المكلف .

قبل أيام قليلة من أجل عرض الحكومة على مجلس نواب الشعب لا تزال الأمور ضبابية أمام التكتيكات الصغيرة لمختلف الفاعلين، وهي تكتيكات ستنتقل من مربع  الحديث عن هوية الحكومة  وحزامها السياسي إلى مربع الخصومة حول تقاسم المواقع، وهي خصومة بين الأحزاب وداخلها مع الرئيس المكلف.

 ونرجح أنه لن يمر شهر فبراير دون أن تكون للتونسيين حكومتهم الجديدة، و لكننا نرجح أيضا أن تكون مجرد حكومة اضطرار رخوة دون حزام سياسي واضح وصلب و مستقر، بل ستكون دون هوية واضحة، فلا هي حكومة وحدة وطنية، أو إنقاذ وطني تعتمد على إسناد يتجاوز تصنيفات و اصطفافات  المعركة الانتخابية السابقة، ولا هي حكومة تغيير أو انحياز اجتماعي أو حكومة ثورة كما يحلو للبعض أن يسميها .

لقد فرطت النخبة  الحزبية في فرصة حكومة الشوط الأول حينما كانت المبادرة بيد الحزب الأول، وهي بصدد التفريط في حكومة الشوط الثاني لأنها دخلت تحت سقف خيار أقل الأضرار بدل التفكير بمنطق خيار أفضل الممكنات .

وهذا النوع من الحكومات لا يمكن أن يتقدم كثيرا في الإنجاز، حتى إنْ ضم شخصيات عالية الكفاءة، فالعبرة بالسياق، وميزة السياق الحالي هي تفاقم أزمة الثقة، وتأجيل تصفية الحسابات، واستمرار عقلية التكتيكات و الحسابات الضيقة .

ستعاني الحكومة القادمة من الأوضاع الداخلية للأحزاب، ومن آثار معاركها البينية خلال الأشهر الأخيرة، ومن نقص الانسجام بين المراكز الأساسية للحكم، ومن كثرة الحسابات المرتبطة برهانات الاستحقاقات القادمة .

فدون قطيعة جذرية وشاملة مع الممارسة السياسية القديمة التي تغلب الحسابات الضيقة على الهم الوطني، ودون إدراك حجم النفور الشعبي من الطبقة السياسية ومعالجة أسبابه قد تكرر تونس تجربة الخمس سنوات الماضية العقيمة، سنوات ديموقراطية الحلقة المفرغة والحد الأدنى السياسي، حين كان المنجز  الأبرز هو  المحافظة على كيان الدولة، وضمان استقرار لا يقدر على فتح الآفاق وتحريك الاقتصاد وخلق الثروة وإعادة توزيع عوائدها .

ولذلك لا نستبعد المسارعة باستهداف الفخفاخ، والحرص على إسقاطه أو إفشاله؛ لحرمانه من استثمار نجاح ممكن لبناء مشروع سياسي يوحد الوسط الاجتماعي، و يكون له  منصة لانتخابات 2023 المحلية والجهوية، و انتخابات 2024 التشريعية والرئاسية، وهذا الاستهداف قد يتجاوز  أحزاب المنظومة إلى  بعض أحزاب “الفضاء الثوري” التي ستحارب الفخفاخ في إطار صراع الزعامة على نفس القاعدة القيمية والانتخابية.

كما لا نستبعد تفجر  الصراع بين مراكز القرار الثلاثة، فقد  بينت التجربة حتى الآن أنه ليس من السهل عمل المنظومة المؤسساتية للدولة وفقا لفلسفة توزيع السلطة المركزية حسب دستور 2014، لقد تأكد ذلك حتى في صورة حصول نفس الحزب على الرئاسات الثلاث كما كان الحال مع حزب نداء تونس بعد شهر أغسطس 2016.

ويتوقع أن تتراكم الصعوبات المؤسساتية في المرحلة الجديدة، وقد شرع البعض في  دق الأسافين بين رئاسة الجمهورية و رئاسة  البرلمان القادمتين  من ثقافتين ورؤيتين مختلفتين .

فرئيس الجمهورية شخصية أكاديمية تميل إلى التحفظ و غير معتادة على العلاقات العامة وتوسيع دوائر التشبيك، وقد بدأ تقييم السياسيين والإعلاميين لأدائه بعد مرور مائة يوم على مباشرته مهامه، وتوقف كثيرون عند تسجيل غياب المبادرة الدبلوماسية في الملفات الحيوية لتونس كما لوحظ تكرر الاعتذار عن تلبية دعوات لمناسبات تقليدية .

أما رئيس البرلمان فهو شخصية سياسية اعتادت توسيع العلاقات، وقد فتحت لها الثورة الأبواب واسعة لذلك، فاستثمرتها فيما سُمِّيَ الدبلوماسية الشعبية قبل الوصول إلى رئاسة البرلمان التي تتيح تمثيلا رسميا للدولة .

نمطان من الشخصية ورؤيتان للسياسة ومسلكان متمايزان .

تؤكد إحداهما على محورية العمل الحزبي و تنتسب إلى الدستور ويمكن أن تتبنى فيه تغييرات جزئية لا تمس من روحه، بينما تنظر الأخرى لموت الأحزاب، وقد تسعى إلى إحداث تغييرات جذرية بعد البرهنة على فشل المشهد الحالي، ولن تعدم هذه الرؤية الأدلة من واقع الممارسة الحزبية .

موقف رئيس الحكومة سيكون مؤثرا في هذه العلاقة الثلاثية، فانحيازه لرئاسة الجمهورية يؤدي إلى استعداء البرلمان، وشبهة الخروج عن طبيعة النظام السياسي، ومحافظته على موقع متوازن يحافظ على انسيابية العلاقة بين المراكز الثلاث، والمرشح يملك من الخصال الذاتية ما يعينه على القيام بهذا  الدور خاصة وهو أحد قيادات حزب ساهم من  مواقع متقدمة في صياغة الدستور الحالي .

المرحلة القادمة قد تكون مرحلة اشتغال على مسار التسريع بالإنجاز؛ لملء حالة الفراغ القيادي،  ومنطقة الضبابية التي استمرت أكثر مما يجب، ومرحلة اشتغال على ترميم العلاقات، وبناء الثقة بين مختلف الفاعلين، وحسن التواصل مع المواطنين، وتجاوز جراحات الانتخابات، وما بعد الانتخابات، وترطيب العلاقات بين مراكز السلطة الثلاثة لتشتغل بتكامل وانسجام أو على الأقل بتعايش هاديء.