المنطقة العربية أمام فجوة إستراتيجية جديدة

تمهيد: بعد أشهر من التعايش مع فيروس كورونا نصبح اليوم أكثر قدرة على فهم طريقة تفكيره وخططه في الانتشار. نسمح لأنفسنا، هنا، أن ننسب للفيروس عقلا بعد أن درج استعمال السياسيين مفردات القاموس العسكري لوصف حالة مواجهة البشرية لهذه الجائحة.

تتخذ هذه الورقة المنطقة العربية مجالا لبحثها انطلاقا من فرضية ترجحها حول إمكانية السيطرة على الجائحة أو التحكم فيها والتعايش معها قبل نهاية السنة الحالية. هي تدرك أن هذه المنطقة العربية هي فقط فضاء موحد في أذهان نسبة هامة من متساكنيها وعدد من ساستها وكثير من شبابها، و لكنها في الواقع لوحة شديدة التعقيد وخارطة كثيرة التضاريس، فهي من الناحية السياسية تضم بلدانا تصنف في خانة الديموقراطيات الناشئة (تونس و المغرب)، وبلدانا تنعم باستقرار نسبي (موريتانيا وقطر والأردن والكويت وعمان والبحرين والإمارات)، وأخرى في قلب خضم حراك اضطرته الجائحة إلى هدنة صحية (الجزائر والسودان) كما تضم بلدانا في حالة توتر عال (العراق و لبنان) وبلدانا تعاني الاستبداد الغليظ وتختزن المقاومة الكامنة (مصر و السعودية). ولا تزال ليبيا وسوريا واليمن ترزح تحت أهوال الحرب الأهلية والتدخل الخارجي، فيما يتواص الاحتلال الصهيوني لفلسطين.

أما من الناحية الاقتصادية فإن البلدان العربية بين الارتهان لاقتصاد ريعي يعتمد النفط محركا رئيسيا وبين احتلال موقع هامشي في منظومة التقسيم الدولي للعمل تؤدي بمقتضاه دورا وظيفيا لترويج السلع وتوفير قطع غيار في سلسلة إنتاج الشركات الدولية العملاقة التي تستفيد من انخفاض كلفة اليد العاملة وتتجنب الآثار البيئية المضرة في بلاد المنشأ. سنحاول أن نقرأ ونفهم طريقة انتشار الفيروس في المنطقة العربية وتعامل السلطات العمومية مع ذلك، كما سنحاول رصد التداعيات الحالية والمتوقعة في ضوء الاحتمال الذي رجحناه في المناحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وكذلك على الصورة المتوقعة للعلاقات والتحالفات العربية البينية وموقع العرب في العالم. ولا تخفي الورقة انحيازها لمسار النهوض العربي ولذلك سيكون أحد شواغلها رصد التحديات وتحسس الفرص أمامه.

الحالة الوبائية في المنطقة العربية في الأسبوع الثاني من مايو 2020

تحتاج جغرافية انتشار الفيروس إلى تفكيك علمي دقيق، فعندما اقتنع رأي عام مؤثر في الأوساط السياسية والعلمية في أواخر فبراير الماضي بوجود خطر صحي حقيقي وليس مجرد حالة عرضية ومحدودة تتالت التنبيهات أن انتشار الخطر سيتبع الخط التقليدي للغني والفقر وجاهزية المنظومات الصحية، وأن إفريقيا وأمريكا اللاتينية والمنطقة العربية معرضا للجثث. لم يحدث ذلك.

فالمراكز الأساسية لانتشار الوباء هي الولايات المتحدة وأوروبا وروسيا، إضافة للصين بلد المنشأ. وغالب البلدان العربية توجد في خانة الانتشار الخفيف (ما بين 10-20 ألف إصابة) أو الانتشار الضعيف (أقل من 10 آلاف إصابة)، بمعدل 234 إصابة و6 وفيات على كل مليون ساكن، في حين أن المعدل العالمي هو في حدود 540 إصابة و36 حالة وفاة. أما أرقام إفريقيا جنوب الصحراء فهي أفضل من أرقام المنطقة العربية حسب المنظمات الصحية المختصة.

 للبحث عن مفتاح ممكن للتفسير يمكن أن نشير إلى أن متوسط الأعمار يتراوح في أوروبا حول 42.5 سنة، في حين يتراوح في إفريقيا حول 19.7 سنة، وفي إفريقيا جنوب الصحراء حول 18.7 سنة، وحوالي 25.5 سنة في شمال إفريقيا.

الدول العربية وتركيا وإيران

١ 1

البؤر الرئيسية للجائحة

٢ 1

(آخر تحيين لمعطيات الجدول بتاريخ 11-05-2020)

والظاهر أن شبكة عوامل مجتمعة ومتدافعة هي التي تفسر بفعلها هذا الانتشار، وهي مرتبطة بالجغرافيا والمناخ والهرم السكاني وبحصيلة السياسيات السابقة في المجال الصحي والبحث العلمي وبمضمون وتوقيت وتماسك السياسات التي اتخذتها القيادات السياسية. وأهم هذه العوامل:

  • تاريخ الانتباه للإصابة الأولى، فبعد أن انطلق الوباء في الصين أواسط نوفمبر 2019، أعلنته للعالم في 31 ديسمبر 2019، وبدأت الحالات تظهر في أماكن مختلفة حتى صنفته منظمة الصحة العالمية جائحة يوم 11 مارس 2020.
  • طبيعة مناخ البلاد وخاصة مركب الحرارة والرطوبة.
  • الخبرة السابقة في التعامل مع أوبئة مشابهة (دول الشرق الآسيوي وبعض دول إفريقيا).
  • طبيعة الهرم السكاني (السمت الشبابي الغالب في إفريقيا خاصة ثم المنطقة العربية).
  • درجة انفتاح الدولة (السياحة /العمالة الأجنبية /الحركة التجارية مع الخارج).
  • مقدار جاهزية البنية الأساسية الصحية ومقدار تأهل الإطار الصحي.
  • مدى توفر الموارد المالية الضرورية للإنفاق الصحي وللدعم الاجتماعي وتحمل تكلفة إيقاف الأنشطة والخدمات.
  • مدى استقرار وتماسك مؤسسات الحكم.
  • نوعية المقاربة ومجموع الإجراءات المتخذة للتصدي للجائحة.

لذلك يتحدث بعض علماء الاجتماع عن وجود معادلات خصوصية للمناعة الجماعية، لقد لجأت البلدان العربية المستقرة إلى الإستراتيجية القصوى بقطع النظر عن طبيعة نظامها السياسي وعن درجة صلابة بنيتها الصحية، فأعلنت، في تواريخ متقاربة، قرار إغلاق الحدود وتحديد الحركة داخل وبين المدن والحجر الصحي الشامل بما أدى إلى شل الحركة الاقتصادية. وهذه المقاربة هي الأسهل والأكثر أمانا وتؤدي بالتأكيد إلى تقليص التكلفة البشرية، ولكنها بالمقابل تؤدي إلى ارتفاع التكلفة المالية والاقتصادية والاجتماعية، ولذلك لا يمكنها الصمود طويلا أمام طلبات الفئات الهشة وأصحاب المؤسسات، وهو ما دفع السلطات في كل البلدان للانتقال إلى سياسة الحجر الذكي في أوقات متقاربة أيضا.

خارطة الانتشار العالمية للفيروس شديدة التباين من حيث التكلفة البشرية، ويمكن بيسر الانتباه إلى وجود أقاليم متشابهة في طريقة تعامل الوباء معها مع حالات نشاز صعودا ونزولا. هذا البائن في الانتشار الجغرافي قابلته إستراتيجية موحدة غالبا هي إستراتيجية الحجر المغلَّظ.

 فهذه الجائحة وضعت في الميزان الصحة أو بالتحديد أرواح الناس من جهة في مقابل كل الباقي: الحياة السياسية والآلة الاقتصادية والوضع الاجتماعي والتموقعات الجيوستراتيجية، وهي المعادلة التي كثيرا ما يقع اختزالها في ثنائية الحياة والاقتصاد. هل كانت المعادلة بالفعل بهذه الحدية وهذا التقابل؟ هل هي كذلك في كل الأقاليم؟ بعد مدة ستطرح بالتأكيد مثل هذه الأسئلة. أما في خضم الحروب فلا مجال للحلول الوسط ولألوان قوس قزح. في الحرب هناك الأبيض والأسود.

وتتعقد الأوضاع في حالة الحرب مع عدو مجهول لا أحد يعرف كيف يفكر حينها تتحرك الغريزة الجماعية لحب البقاء وليس العقل المولع بالتصنيف والخطوط. ولذلك فان حكمنا الآن، ونحن لا نزال في قلب المعركة إن تلك الخيارات القصوى كانت هي الخيارات الوحيدة الممكنة في وقتها وسياقها.

بعد مدة، بعد انجلاء غبار المعركة، وبعد أن تهدأ لوعة الفقد ومشاعر الهلع ويسترد العقل قدرته على التفكير المتجرد والهادئ، يمكن حينها أن يعاد طرح السؤال حول العلاقة بين الحياة والاقتصاد، وحينها قد يتضح أن المحافظة على الاقتصاد هي أيضا محافظة على الحياة، وأن المطلوب ليس المقاربة الحدية وإنما الوصول إلى منطقة توازن.

وحتى حين يطرح السؤال، فإنما يكون من أجل المستقبل ومن أجل التسلح بخبرة في مواجهة جائحة مشابهة قد تأتي. أما إن تنكرت الفيروسات وغيرت أساليبها واستفادت من خبرتها معنا في المعركة الحالية فلن يكون أمامنا إلا الاستباق بتبني خيارات تدمج الكائن الإنساني في الطبيعة ولا تجعله متعاليا عليها، وإلا بالاستباق وتهيئة البنى الأساسية المادية والذهنية التي تسمح بمواجهة غير المتوقع. كثير من دول العالم بما فيها الكبرى ستدير تداعيات ضخمة في كل المناحي التي طالتها الجائحة. أما في المنطقة العربية، إن استمرت الأوضاع على ما هي عليه ومع التنبيه أن كل خسارة بشرية هي نكبة لا يمكن تعويضها أو الاستهانة بها، فإن التداعيات الأكبر ليست ذات الطابع الصحي وإنما تلك المتعلقة بالاقتصاد وبالمنظومة الاجتماعية وبالحياة السياسية في كل دولة حسب خصوصياتها وسياقها، وفي المنظومة العربية في مجملها. لنحاول رصد تأثيرات أزمة كورونا الراهنة والمتوقعة تحت افتراض التحكم في الجائحة قبل نهاية 2020.

العرب في العالم

تحولات ميزان القوى على الصعيد الدولي وتأثيرها على المنطقة

 لن يعود العالم كما كان، ستتغير أشياء كثيرة، ولكن الأرجح أنها لن تكون عملية إعادة بناء جوهرية، ولقد لاحظنا أن مزاج كتابات الحديث عن المستقبل كان راديكاليا في الأسابيع الأولى لتفشي الفيروس، وهو الآن يتخذ منحى أكثر “عقلانية” و”واقعية”، وليس في ذلك من مفاجأة. فالمنظومات الكبرى تكتسب خبرات هائلة تسمح لها بالتكيف مع كل الأوضاع وتقليل الخسائر والالتفاف على تطلعات التغيير. وكثيرا ما يحاول أغنياء الحرب أن يكونوا أغنياء السلام، والأرجح أن تجدد العولمة نفسها من “عولمة أمريكية” حسب عبارة وزير الخارجية الفرنسي الأسبق هوبير فيدرين إلى عولمة متعددة المراكز حسبما يتوقع دومينيك ستراوس كان المدير العام السابق لصندوق النقد الدولي في مقاله المتميز حول القضايا المركزية للوجود والسلطة والاقتصاد التي نفضت عنها الجائحة الغبار، وهي صورة تحتفظ فيها الولايات المتحدة بالموقع الأول دون المسك بدفة القيادة التي فرطت فيها في لحظة حرجة من تاريخ البشرية فخسرت أخلاقيا وسياسيا واقتصاديا.

 أما العملاق الصيني فإنه سيدفع ثمنا أخلاقيا وسياسيا وسيتعرض إلى حرب غربية شرسة لمحاولة تجريده من المكاسب التي راكمها خلال العشرين سنة الماضية باعتباره مصنع العالم، ومع ذلك سيحافظ على ثقله الاقتصادي. أما سياسيا فقد يكون زعيم تجمع إقليمي مع قدرة عالية على المنافسة في الفضاء الأفريقي. وسيكون الاتحاد الأوروبي أمام امتحان المحاسبة لضعف التضامن في إدارة الجائحة ولتفريطه في استقلاله الصناعي نتيجة خضوعه لابتزاز رأس المال. ولكن العقلانية داخله ستتغلب، وتبدو ألمانيا الأكثر تأهلا لنوع من القيادة الرمزية بعد الفشل البريطاني والفرنسي حيث ستخضع القيادات السياسية فيهما إلى محاسبة شديدة بعد انجلاء العاصفة، وبجانب توزيع السلطة على المستوى العالمي فإن السياسات العمومية ستطرح على الطاولة أولوية القطاع الصحي من حيث البنية الأساسية والتصنيع، وتأهيل وتثمين الموارد البشرية، وسيعاد الاعتبار للقطاع الفلاحي، وستتقدم الرقمنة في كل القطاعات، وسيكون هناك حرص أكثر على الاستقلال والنقلة الطاقية، مع إيلاء أهمية أكبر لقضايا البيئة والمناخ وحماية الأسواق الداخلية للشغل، وستواصل العولمة ولكن مع نزعة حمائية وانكفاء نرجح أن يكون جهويا، وهذا الاتجاه قد يأخذ سنتين أو ثلاثا سنوات حتى يستقر.

أما في الجوار العربي، فنرجح أن يخف الضغط الأمريكي على إيران التي قد تستفيد من تلهف الصين على حلفاء في معاركها المتعددة مع القوى الغربية، لذلك ستواجه إيران مشكلات داخلية بالأساس نتيجة طريقة إدارة الجائحة وارتفاع تكلفتها البشرية، ونتيجة استتباعات انخفاض أسعار النفط وتحت ضغط تطلع الأجيال الجديدة لحياة أكثر حرية وكرامة، ولذلك قد يخف تركيز إيران على النزاعات المفتوحة وخاصة في سوريا واليمن، وقد تكون تركيا أكثر دول المنطقة استفادة من تداعيات كورونا وقد تدعم توجهها شرقا باتجاه الفضاء الناطق بالتركية وأيضا باتجاه إفريقيا حيث سيحتدم صراع صيني تركي فرنسي، وستراوح العلاقات التركية الصينية وكذا التركية الروسية بين المنافسة والالتقاء في مواجهة القوى الغربية، ويرجح تدعيم الدور التركي في المنطقة من خلال التبادل التجاري والتدخل في بؤر النزاع العسكري .

أما أزمات الكيان الصهيوني، فقد تتفاقم بين تداعيات صحية ثقيلة وصراعات سياسية لا تنتهي، وتماسك اجتماعي يزداد هشاشة، ومظلة دولية قد ترتخي قليلا.

 إفريقيا جنوب الصحراء ستكون إحدى الفضاءات الكبرى للصراع في السنوات القادمة بين القوى التي تبحث عن إعادة الانتشار وبين تطلعات داخلية للبحث عن التوازن والعدالة في العلاقات السياسية والاقتصادية والتجارية.

 في خلاصة ستواجه الدول العربية التي تعودت على الدعم المالي والتداين أو على عائدات النفط ضغوطا شديدة بسبب انشغال الشركاء الكبار بأنفسهم، ولكن أيضا ستكون أمام فرصة لسياسات أكثر استقلالا بفضل ما أطلقنا عليه “الفجوة الإستراتيجية” نظرا لارتخاء الضغوط ولاحتداد الصراع بين القوى الكبرى دوليا وإقليميا بما يوفر فرصة تفاوضية تساهم في إعادة التموقع وتعديل الاختلال في علاقات التبعية السابقة.

التأثيرات الاقتصادية والاجتماعية

 تعاني الاقتصادات العربية من ضعف في التنوع وفِي التعويل على القطاع الإنتاجي وفِي الاندماج البيني، كما تعاني من الارتهان إلى النفط، لتكون بذلك في الأغلب اقتصادات ريعية قليلة الاستقلالية والتعويل على الذات. وهذه سمات معلومة وما كانت الكورونا إلا كشافا لها، وستتفاقم صعوبات الاقتصاد الخدماتي (السياحة والصناعة الموجهة للتصدير)، وأزمات نسيج المؤسسات الصغرى والمتوسطة، كما ستتزايد صعوبات الاقتصاد المرتكز على النفط بسبب الانكماش الاقتصادي وازدهار الاقتصاد الرقمي والاستثمارات الضخمة المتوقعة في الطاقات الجديدة، ونتيجة لذلك سترتفع معدلات البطالة وستتعرض عديد المؤسسات الصغرى والمتوسطة إلى الإغلاق، وقد تضعف قيمة تحويلات العمالة المهاجرة بل قد تلتحق أعداد منها بطوابير العطالة.

ولهذا انعكاسات إنسانية وسياسية أيضا ستتعرض الطبقة الوسطى إلى مزيد التهرئة وسيزداد الأفق غموضا أمام الأجيال الشابة وخريجي الجامعة، ورغم ذلك فقد تكون هذه فرصة للأسئلة والمراجعات الكبرى باتجاه الزراعة إنتاجا وتحويلا وتبادلا، وباتجاه الاستثمار في الطاقات المتجددة وفِي التكنولوجيات الأكثر تقدما، وتدعيم التبادل البيني والاستفادة من الفرص الجديدة في إفريقيا وآسيا الوسطى، كما قد تكون فرصة لتجاوز التعامل الإيديولوجي مع الدولة ورأس المال باتجاه تعاقدات جديدة بين القطاع العمومي والخاص والتشاركي.

سيمر العالم والمنطقة بمرحلة ارتباك قبل الوصول إلى حالة جديدة من الاستقرار، فهل ستخرج المنطقة منها وقد ضمنت موقعا أكثر تأثيرا في منظومة تقسيم العمل الدولي أم تعود لنفس الموقع السابق مع تعديلات شكلية؟ والخيارات الكلية والإستراتيجية وانتهاج سياسات جريئة قوامها الإنتاج وتثمين الموارد الذاتية والتكامل متعدد الأوجه والصيغ هو الذي يقلص من فترة الارتباك ويسرع بفتح آفاق جديدة. أما المراوحة في نفس الخيارات السابقة فلن يقود إلا إلى موجات من الغضب الاجتماعي قد يلتحم بها المكون الإرهابي ليفاقم من دخول المنطقة في بوتقة الدول الفاشلة.

التأثيرات السياسية

 يحتدم النقاش الدائر الآن في الساحة الدولية حول إمكانية ومخاطر عودة الدولة الضابطة والرقيبة والتضييق على الحريات، نحن لا نرجح ذلك، فالصعوبات الاقتصادية والاجتماعية ستسلط ضغطا على الجميع، وقد علمنا التاريخ أن النضال السياسي والنضال الاجتماعي هما جناحا مشروع متكامل ويتغذيان من بعضهما البعض، في المنطقة العربية نرجح أن يؤدي الاحتقان الاجتماعي وانشغال القوى الدولية الداعمة للاستبداد بأزماتها الخاصة وكذلك تراجع الموارد المالية لبعض دول المنطقة المحاربة للديموقراطية إلى توفير فرصة لإحياء النضال السياسي المشترك لبناء تحالفات وطنية حول محاور الديموقراطية والعدالة الاجتماعية والتنمية المستقلة والتكامل العربي أو الجهوي، ولإعادة بناء وتوحيد المقاومة الفلسطينية سياسيا وثقافيا وميدانيا، ولإجراء تسويات في بؤر النزاع العسكري (ليبيا واليمن وسوريا)، وللتوصل إلى تسوية معقولة لحصار قطر، أما بالنسبة لمنظومة الحكم المشترك داخل المنطقة “السيستام”، فما كانت الجائحة إلا كشافا عن عمق أزمة متطاولة، وما كانت إلا “دابة الأرض تأكل منسأته”، أي إعلانا عن نهاية منظومة قيادة كانت في حالة موت سريري.

وكما أن العولمة الجديدة تتيح فجوات وأروقة تحرك للأقاليم، فإن الأوضاع في المنطقة ستتيح إعادة انتشار للسلطة فيها، ستكون السعودية والإمارات أكبر الخاسرين، وستكون فرصة لالتقاءات جهوية، والكلمة المفتاح هي التكامل العقلاني والمصلحي، وقد يتطلب الأمر بضع سنوات قبل استقرار الحالة الجديدة التي تتجاوز الهياكل الخاوية ومؤسسات البروتوكولات والرشاوي السياسية.

الخلاصة

من المرجح أن تتزايد الضغوط المالية والاقتصادية والاجتماعية على دول المنطقة في الفترة التالية، ومع ذلك فإنها ستكون في قلب موجة عالمية لإعادة التموقع وأمام فرصة لتدعيم تحررها واستكمال استقلالها بمقاربة عقلانية تستفيد من ارتباك الأطراف الدولية المؤثرة ومن تقييم تجارب العقود السابقة، وستكون قوى التغيير السياسي والاجتماعي أمام فرصة للاستفادة من الفجوات الثلاث في منظومات التحكم في العالم وفي المنطقة وفي كل قطر على حدة من أجل توحيد جهودها لبناء وحدة وطنية داخل كل قطر، ولتدعيم العمل المشترك العابر للأقطار، وهذا دور الأحزاب السياسية والمجتمع المدني والقوى الشبابية التي يفترض أن تعيد بناء التصورات والمضامين وطرق العمل، والمجتمع المدني يمكن أن يكون قوة ضغط على السلطات العمومية في مسار الموازنة بين الوطني والعابر للأوطان والمدخل هو الثقة بالذات وتشجيع النجاح وخلق الثروة وتبادل المنافع وتحقيق السيادة .