تونس: كيف تنتصر العقلانية على الفوضوية الشعبوية؟

تمهيد 

في يوم الخامس عشر من يوليو الماضي، وبعد طول مماطلة، قدَّم إلياس الفخفاخ استقالة حكومته إلى رئيس الجمهورية، لتكون بذلك الحكومة الأقصر عمرًا منذ استقلال البلاد سنة 1956 .

بعد ذلك بأسبوعين، وبالتحديد يوم الثلاثين من يوليو، أسقط البرلمان لائحةً تقدَّم بها نواب وكتل متنوِّعة لسحب الثقة من رئيسه  .

وفي هذه الأثناء، شرع هشام المشيشي – المكلَّف الجديد بتشكيل الحكومة – في إجراء مشاوراتٍ بدأها قصدًا مع المنظمات الوطنية الكبرى في رسالة إلى الأحزاب، وفي انتظار تبلور المشهد البرلماني بعد معرفة مآل عريضة سحب الثقة .

خلال ذلك عاش التونسيون أيامًا صعبة من الشدِّ العصبي، وعرفت المؤسسات والكواليس شتَّى أنواع المساومات والصفقات، ما كان منها متماشيًا مع الممارسة السياسية السليمة، وما كان منها خارقًا لقواعدها الدنيا.

كما شهدت مواقع التواصل الاجتماعي شتَّى أنواع التخمينات والحروب بين المعسكرات، وتغلَّبت العصبية التنظيمية على العقلانية السياسية، وانتصر خطاب المغالبة على لغة المشاركة، والتنافي على التنافس، وارتفعت المتاريس على حساب الجسور .

كان عيد الأضحى هو المناسبة الدينية والاجتماعية التي نعرف، ولكنه كان أيضًا فرصةً لتهدئة سياسية وإعلامية وافتراضية كانت البلاد ومستقبلها في حاجة إليها، وقد استأنف بعدها المشيشي المشاورات مع الكتل البرلمانية حسب ترتيب أحجامها، ومع نواب وشخصيات وطنية ومسؤولين سابقين. والملفت للانتباه مجددًا هو تجاهل الأحزاب السياسية .

فهل يمكن القول إن الوضع التونسي قد أفضى إلى مرساة استقرار؟ أم أننا أمام شوطٍ آخر من أزمة متصاعدة؟

وهل سيتمُّ قريبًا الإعلان عن حكومة مستقرة وقادرة على الإنجاز؟ أم أن القوى الرئيسة ستجهز منذ الآن لحكومة ما بعد المشيشي؟ أم أن الأوضاع تتَّجه باتجاه انتخاباتٍ سابقة لأوانها أو لحالة من الانفلات؟

ستحرص هذه الورقة على سرد الوقائع، وتشخيص الصورة، وقراءة المشاهد الممكنة .

سباقات جلسة سحب الثقة وحيثياتها واستتباعاتها 

تتوفَّر اليوم لدى المتابع كلُّ الدلائل التي تؤكِّد أن الترتيبات التي حدثت منذ انتخابات الخريف الماضي إنما بُنيت على شفا جرف هار من  الثقة، فكانت ترتيبات تكتيكية أعلى سقفها الوقاية من أزمة عارضة، في حين أنها لا تفعل في الحقيقة شيئًا سوى تأجيلها، لتنفجر بعد مدَّة أشدَّ حدَّة وأكثر تعقيدًا.

والأزمات مثل الديون تتمدَّد فوائضها مثل الأورام السرطانية تمامًا .

عند تشكيل حكومة السيد الفخفاخ في سياقات مغالبة، فإن قليلين هم الذين امتلكوا جرأة التفاؤل لترجيح إمكانية استمرارها لأكثر من ستة أشهر، ورغم ذلك بُذلت جهود كثيرة لمقاومة التشاؤم السائد وتوفير شروط هذه الاستمرارية لحاجة البلاد للاستقرار والإنجاز، ولحاجة المواطنين – وخاصةً الشباب – لبارقة أمل. ولكن عوامل الهدم قد تغلَّبت. والمفارقة أن الهدم لم يكن مصدره المعارضة كما يحدث عادةً في الأوضاع الديمقراطية، وإنما كان من صمت رئيس الجمهورية الذي تنتسب الحكومة له، ومن أخطاء رئيس الحكومة نفسه، ومن تناحر مكوناتها التي لم تفوت فرصةً لاستهداف بعضها، ولتفاقم من أزمة الثقة بينها بما يستحيل التعايش معه .

لقد كان ملف تضارب المصالح واستغلال النفوذ وشبهات الفساد الذي وُجِّه لرئيس الحكومة ملفًا حقيقيًّا. ولكنه لم يكن في السياق الذي نتحدَّث عنه سوى القشَّة التي قصمت ظهر البعير، لتنهي الحكومة في مناخٍ من التجاذب والصراع قد يصادر فرص نجاح حكومة أخرى .

لقد شهدت الأسابيع الأخيرة تجاذبًا حول من تعود له المبادرة بعد الاستقالة؛ ولذلك حرصت حركة النهضة على تجميع كتلٍ برلمانية من أجل سحب الثقة من رئيس الحكومة، لتعود لها مبادرة اقتراح الشخصية الجديدة، وفي الوقت نفسِه انطلقت كتلٌ أخرى في تجميع الأصوات لسحب الثقة من رئيس البرلمان في خطوة تكتيكية لإثناء حركة النهضة عن خطوتها .

لقد تحوَّلت الصورة إلى نوعٍ من المقايضة، وإلى تهديدٍ بالسحب مقابل تهديدٍ بالسحب. وقد تكثفت المعركة – رمزيًّا – حول أسبقية الوصول إلى الرقم 109 (نصف مقاعد البرلمان) المؤدي إلى سحب الثقة من رئيس الحكومة أو من رئيس البرلمان .

ورغم أن القراءة الدستورية قد حُسمت لصالح الرئيس، فإن التحشيد قد استمرَّ. فقد انتهى الفخفاخ، وكان الموضوع متعلقًا رمزيًّا بطريقة الإنهاء، وسياسيًّا بالترتيبات لما بعد الفخفاخ .

غير أن هذه المعركة الرمزية في هذه المنطقة الضبابية قد فاقمت من تعقيد الأوضاع وخلط الأوراق وتعدُّد مستويات الأزمة .

فقد بدا الأمر صراع صلاحياتٍ بين حركة النهضة ورئيسها رئيس البرلمان وبين رئيس الجمهورية، كما بدا الأمر صراعًا بين من يستحسنون إطلاق صفة الثورية على أنفسهم وبين حركة النهضة وحلفائها (ائتلاف الكرامة وقلب تونس) .

ولكن الدرجة الأعلى من التعقيد هي قراءة الصورة الأشد تعقيدًا، أي مكونات ودواعي خارطة الداعين لسحب الثقة من رئيس البرلمان. هنا اختلط الحابل بالنابل في حقيقة المشهد، وفي طريقة قراءته وتوظيفه في معركة سياسية حادة .

لم تشهد السياسة التونسية منذ الثورة محطةً اختلطت فيها الأوراق والتبست المرجعيات مثلما حدث في جلسة 30 يوليو، حيث تمَّ حشد كل شيء. والسياق هو الذي دفع إلى هذه الصورة السريالية، حيث تبادل الجميع المواقع والاتهامات والوصم والتبرئة والترضيات.

كانت معركة سياسية ورمزية طغى عليها الطابع التكتيكي والتحكُّم في التفاصيل، من موعد الجلسة قبل عيد الأضحى بيومٍ واحدٍ، إلى طريقة التصويت السري، إلى رفض إقامة خلواتٍ للتخفيف من تأثير الضغوط في التصويت. وهذه الطريقة في التعاطي مع ملفاتٍ حساسةٍ تؤدي إلى نتائج حينية، ولكنها تؤجِّل الحلول الحقيقية أو تعقِّدها .

فالحزب الدستوري الحر – صاحب مبادرة سحب الثقة منذ أشهر – هو حزب غير ديمقراطي، ولا يعترف بالثورة ولا بدستورها ولا بمسارها، ويستثمر في خطاب الكراهية وتحشيد شرائح ترفض أصل وجود حركة النهضة في الفضاء السياسي.

أما حركة  الشعب، فهي الأقرب في دوافعها من الحزب الدستوري الحر لأسبابٍ أيديولوجية وتاريخية، وتنظيمات هذا المكون لم تنشر مراجعات تؤكِّد جديَّة التزامها بالديمقراطية السياسية، ولا تزال في العمق مسكونةً بالزعيم .

وأما التيار الديمقراطي، فهو من يسار الوسط غير التقليدي، حاول إخراج انخراطه في طلب سحب الثقة إخراجًا سياسيًّا في علاقة بتقييمه لأداء رئيس البرلمان وبالتنافس الديمقراطي حول التموقعات والنفوذ، مع عدم اعتراضه على ترؤس شخصية نهضوية أخرى للبرلمان .

وقد لبَّست فوضى تصريحات مسؤولي التيار على موقفه، وارتفعت الأصوات الشعبوية والراديكالية فيه، مما جعل الصورة ضبابيةً بين تنافسٍ سياسيٍّ معقولٍ ومطلوبٍ وبين نزعةٍ إقصائيةٍ تقترب موضوعيًّا من الصنف الأول. وكما خسر التيار من رصيده في ملف مقاومة الفساد باستماتته في الدفاع عن الفخفاخ، فإنه في هذه المعركة بصدد الخسارة من صورة الحزب السياسي العقلاني.

وفي السياسة، فإن أفدح الخسائر هي إهدار الأرصدة الاستراتيجية وعلامات التميز .

وهناك كتل أخرى انطلقت في التوقيع على اللائحة لاعتباراتٍ تكتيكيةٍ من أجل الضغط وتحسين شروط التفاوض في طريقة تقديم الفخفاخ لاستقالته، ووجدت نفسها بعد ذلك عاجزةً عن التراجع، كما أنها عجزت عن التمايز عن الخطاب الشعبوي غير الديمقراطي .

إن تطور الأحداث في طريقة إنهاء تكليف الفخفاخ قد دفع الساحة إلى درجةٍ عاليةٍ من التوتُّر أثَّرت في اختيار بديلٍ للفخفاخ يوم 25 يوليو، كما أثَّرت في مناخات جلسة سحب الثقة من رئيس البرلمان ونتائجها يوم 30 يوليو، وكل ذلك دفع الصورة إلى حالةٍ شديدةٍ من الفوضى والاختلاط، طريقة ترتيبها هي التي ستؤثر في المستقبل.

لقد انجرَّ ديمقراطيون – موضوعيًّا – إلى مربع الإقصاء. فقد نجحت رئيسة الحزب الدستوري الحر مرتَيْن حينما فرضت أجندتها أولًا، وحينما فرضت طريقة إخراج ما حدث ثانيًا؛ بسبب انسياق بعض من وقفوا معها في المعركة نفسِها وراء انفعالاتهم، وبسبب سوء تقدير كل الأحزاب الديمقراطية المؤمنة بالدستور والمنخرطة في مسار البلاد منذ الثورة .

لقد ماتت السياسة بما هي صبر وتعايش وبحث عن المشتركات، وبناء للجسور، وتمييز بين التباينات الفرعية والتباينات الجوهرية .

والخطير فيما حدث ليس هو السعي لسحب الثقة من رئيس البرلمان، فتلك مسألة عادية في سياقٍ ديمقراطيٍّ، ولا حتى محاولة تحجيم حركة النهضة بوصفها حزبًا سياسيًّا، فذلك من مقتضيات التنافس في الحياة الديمقراطية .

ولكن الخطير فيما حدث هو إحساس القاعدة الانتخابية المحافظة – التي تعتبر حركة النهضة هي التعبير السياسي الأبرز عنها – أنها مقصاةٌ من مواقع التأثير في الدولة، بما يُعد ارتكاسًا عن خطوات مصالحة هذه القاعدة مع الدولة بعد الثورة، وبما يعني إحساسها بأن مواطنتها منقوصة، بما يذكِّر بتلك الصورة التي أبدعها جورج أورويل حينما تحدَّث عن مساواة ذات درجات :All animals are equal,but some animals are more equal than others .

لقد كان أحد مكاسب المسار الديمقراطي في تونس هو الانتقال من صراع الهُويَّة المعقَّد والمشحون بالانفعالات والأحكام إلى صراعٍ سياسيٍّ على قاعدة النسبية والبرامج. ولكن ما يحدث منذ الانتخابات الماضية بصعود الشعبوية المعادية للديمقراطية هو ارتفاع منسوب التعصُّب، وعودة خطاب التنافي، وتأخُّر الأحزاب لترتدَّ إلى جماعات، وتشييد المتاريس المُفرقة بدلًا من الجسور المُجمعة .

لقد تمَّ تبادل الاتهامات في أثناء هذه الجلسة حول دور العامل الخارجي، مع التأكيد حول دور الإمارات. ولا شكَّ أن لهذه الدولة دورًا تخريبيًّا وتحريضيًّا من خلال الإعلام والدعم المعنوي للحزب الدستوري الحر، وذلك أمر ظاهر. ولكن التحليل السياسي هو الذي يتجاوز التعميمات، ويدقِّق في المواقف، ويبحث في مساهمة كل عاملٍ في الوصول إلى القرار الأخير .

لا نستبعد مراهنة الإمارات على بعض الكتل وبعض الإعلاميين والشخصيات التي تصنع الرأي العام، ولكننا موقنون أن غالب مَنْ صوَّت مع اللائحة لا علاقة لهم بالإمارات وأجندتها، بل تقودهم رؤية خاصَّة في مراعاة المصلحة الوطنية، قد يأخذ التعبير عنها طابعًا متشنجًا، وقد تصبُّ في رهانات القوى المعادية للديمقراطية .

ونرجِّح أن الأطراف الدولية الأكثر تأثيرًا تدعم الاستقرار المؤسسي، ولا تحبذ استبعاد حركة النهضة من المشاركة في الحكم حسب ما يتيحه وزنها باعتبارها عنصرًا أساسيًّا في استقرار البلاد .

وقد يكون الموقف الأمريكي هو الأكثر وضوحًا في هذا الاتجاه في علاقةٍ بالرؤية الأمريكية لمجمل الساحة المغاربية .

وقد يكون الموقف الفرنسي متأرجحًا بين الميل إلى الموقف الأمريكي للتصدي للإرهاب والهجرة غير النظامية، وبين الميل إلى إزاحة حركة النهضة عن مواقع التسيير لتكون مجرَّد عاملٍ في الاستقرار السياسي والاجتماعي، وهو الموقف الأقرب للمزاج الفرنسي التاريخي، ولعله تدعَّم بالصراع الفرنسي التركي الحالي في ليبيا، وأيضًا بسياق الانتخابات الرئاسية الفرنسية سنة 2022، حيث عبَّر رئيس الحكومة الفرنسية الجديد أن من أولويات حكومته التصدي للتطرف الإسلامي في فرنسا .

إلَّا أننا ما زلنا مقتنعين أنه إن كان هناك من تهديدٍ حقيقيٍّ للتجربة التونسية، فهو من داخلها .

وإن أردنا بثَّ شيء من التفاؤل والأمل، فإنه يمكننا أن نقول إن التجربة التونسية تنجح مجددًا في حلِّ مشكلاتها بالآليات الديمقراطية المتراوحة بين التقرير في المؤسسات، واللجوء إلى الشارع السلمي، والجلوس حول طاولة الحوار. وإن ما حصل في المسارين البرلماني والحكومي هو تمرين إضافيٌّ على استعمال واختبار ممكناتٍ إضافية في الدستور، وفي آليات التدافع السياسي بين الأحزاب وبين المراكز الأساسية للسلطة  .

ولكن يمكننا أن نقول أيضًا إننا نلامس تلك الحافة التي ينتقل فيها السؤال من البحث في شروط إنجاح المسار إلى البحث في شروط تجنُّب انهياره .

خارطة الفاعلين بعد تكليف المشيشي وتثبيت الغنوشي

من المهمِّ جدًّا أن نقرأ حركة الفاعلين، وحسابات الربح والخسارة التي يمكن أن يخطئ بعض الفاعلين في قراءتها .

أما الخسارة المحسوسة والحاصلة فعلًا، فهي تعثُّر المسار الديمقراطي الذي يتفاقم غياب محتواه الاجتماعي والإحساس به، كما يفقد منجزه السياسي جاذبيته، باعتبار أن أهمية الديمقراطية السياسية إنما تكْمُن لدى الجمهور في استكمالها بالديمقراطية الاجتماعية، كما تتفاقم خيبات جمهور المواطنين بعد استعادة الأمل في انتخابات 2019 التي توشك أن تتكشَّف على أنها كانت مجرَّد فجر كاذب.

إن ارتفاع منسوب التشاؤم في استطلاعات الرأي المتعاضدة دليلٌ على إحساسٍ متنامٍ بالإحباط، وهو معطى تؤكِّده المعطيات الإحصائية التي تسجِّل تراجع المؤشرات الاقتصادية وتتوقَّع زيادة انهيارها نتيجة الغموض السياسي، ونتيجة استتباعات جائحة كورونا واحتمال ظهور موجة ثانية منها في الخريف القادم .

إن نسبة البطالة التي استقرت لسنواتٍ في حدود 15 نقطة يُتوقَّع أن تتجاوز العشرين نقطة ليصل عدد العاطلين عن العمل إلى ما يقارب المليون عاطل، كما أن نسبة النمو قد تتراجع من 2.3% إلى ما يقارب عشر نقاط سلبية، كل هذا مع تصنيف حوالي مليون مواطن جديد تحت خطِّ الفقر خلال الأشهر الأخيرة، ومع احتمال تعرض عشرات الآلاف من المؤسسات الاقتصادية الصغرى والمتوسطة إلى الإفلاس ثم الإغلاق، وهي حالة تترافق مع الانفجار الكبير لأعداد الشباب الذي يغامرون بحياتهم في قوارب الموت باتجاه بلدان جنوبي أوروبا في الأسابيع الأخيرة .

رئيس الجمهورية:

لعله يرى أنه قد نجح في استرداد زمام المبادرة، وكلَّف شخصيةً مقربةً منه لرئاسة حكومة جديدة .

وخلال ذلك تترسَّخ سماتُ منهجه في معالجة المشاكل والأزمات السياسية بالاعتماد حصريًّا على المدخل القانوني وفقًا لقراءة حرفيَّة لنصوص القانون، كما تبرز حساسيته المفرطة من كل مَنْ يفهم من سلوكه منازعته في سلطاته، وتتكاثر التحفظات حول طبيعة وأدوار محيطه من زملائه أو تلامذته في كلية الحقوق، وبعضهم له ميول يسارية وفرنسية.

أما الأداء السياسي الداخلي للرئيس فمتوسط؛ إذ غلبت صورة المختص في القانون الدستوري حتى الآن، كما أن الأداء الدبلوماسي فاتِرٌ في العلاقة بملفاتٍ كانت تُعد فرصًا لتونس، من ضمنها الملف الليبي وملف الهجرة غير النظامية.

أما الأداء التواصلي فيثير كثيرًا من القلق والأسئلة لدى المتابعين والأوساط السياسية، كما أنه يمكن أن يؤدي إلى زهد المتعاملين الأجانب استنادًا إلى التخويف الصادر عن أهم شخصية في البلاد .

ومن حيث التموقع، فإن الرئيس يجد نفسه في منزلةٍ وسطى بين صاحب مشروعٍ راديكاليٍّ لإعادة بناء الدولة دعا له في أثناء حملته الانتخابية، وبين الالتزام بالنظام الذي انتُخب ضمنه والذي هو جزءٌ منه.

ومفارقته هي في معالجة التموقع ضد البناء السياسي كما كان قبل الانتخابات، وبين كونه المعبِّر الرسمي عن هذا البناء إلى حين تغييره، وذلك بمقتضى العقد الانتخابي والتكليف الدستوري .

وقد يتورط الرئيس في مباشرة السياسة التنفيذية بمقتضى التكليف الجديد للسيد المشيشي المقرب منه وفي سياق ضعف البرلمان، ويفقد مسافة الأمان التي كانت تسمح له باحتلال موقعٍ يشبه المعارضة في مقابل الحكومة والبرلمان، ومن شأن هذا الوضع الجديد أن يُعمق أزمة السياسة وأزمة النظام السياسي أمام قناعةٍ لديه لا تُخفي مناهضتها لمنظومة التحزب وللديمقراطية التمثيلية المعتادة .

البرلمان :

تشير الإحصائيات إلى أن عمل البرلمان خلال السنة الأخيرة كان أكثر من عمل البرلمان السابق في سنته الأخيرة، وأنه قد أصدر جملةً من القوانين النوعية، مثل قانون الاقتصاد الاجتماعي والتضامني، الذي من شأنه أن يفتح الباب أمام تغيير المنوال التنموي الذي طال انتظاره .

ولكن صورة البرلمان لدى الرأي العام هي صورة المناكفات اليومية، والاعتصامات وتعطيل الأعمال، وتبادل الشتائم، وخطاب الكراهية والتنافي والعدوانية، موجَّهة لرئيس البرلمان ومكتبه، والمتبادلة أيضًا بين كتلٍ متعدِّدة .

كان واضحًا منذ الإعلان عن نتائج الانتخابات أن المناخات لن تكون سهلة، ولكن لم يكن أحدٌ يتوقَّع أن تُستنزف الصورة لهذه الدرجة. 

وستزيد جلسة الثلاثين من يوليو الأوضاع تعقيدًا، حيث تزايد الانقسام الحدِّي .

وقد نبَّهنا في ورقاتٍ نشرناها سابقًا أن أحد أسباب صعوبات إدارة الأوضاع ما بعد الانتخابات هو الخطأ في قراءة أرقام نتائجها، وأنها قُرئت قراءة رياضية ولم تُقرأ قراءة سياسية .

كذلك من المهم قراءة أرقام جلسة الثلاثين من يوليو أخذًا بعين الاعتبار السياق العام والجوانب الترتيبية للجلسة ودوافع التصويت أو الامتناع أو الغياب في هذه الوجهة أو تلك .

أما من ناحية الأرقام، فقد رُفضت اللائحة وهو معطى موضوعيٌّ مهمٌّ. ولكن سياسيًّا، هل يعتبر ذلك تجديدًا للثقة في رئيس المجلس أم هو رفض لسحب الثقة؟ وما مدى متانة الالتقاءات في هذا المعسكر أو ذاك؟

نحن على يقينٍ أن أزمة البرلمان هي جزءٌ من أزمة إدارة ملفاتٍ أخرى، وأن الجلسة في ذاتها نتيجةٌ لتعطُّل السياسة في البلاد بين الفاعلين الديمقراطيين، وأن تدارك هذا الأمر ممكنٌ باشتغال السياسة وتهدئة الأجواء والبحث عن المشترك، بما يعيد الاعتبار للمؤسسة البرلمانية، ويحقِّق الاستقرار في إدارتها، ويسرح إدارة بقية الملفات. وإن إغفال هذا الأمر سيجعل إدارة المؤسسة أمرًا مستحيلًا، ويفاقم من تردي المناخات داخلها، ومن اهتزاز صورتها لدى الرأي العام، وتشجيع الأطروحات التي تستهدف المنظومة الحزبية وفلسفة النظام السياسي الحالي .

المنظومة الحزبية :

بالحسابات التكتيكية الصغيرة، فإن الحزب الدستوري الحر يبدو أكبر مستفيدٍ من كل ما يحدث. فقد جرَّ الجميع إلى مربعه، وفرض نسقه، ونجح في دفع الأوضاع إلى انقسامٍ حادٍّ يضعف فيه الوسط .

كما نجح قلب تونس بخطابٍ هادئ وموجهٍ للقضية الاجتماعية وبتكتيكٍ ذكيٍّ في أن يكسر طوق العزلة الذي كان يتهدَّده في بداية العهدة البرلمانية، بل نجح في التحوُّل إلى العنصر المرجح في اتجاه التحالفات وتشكيل المشهد.

لكن بالمعنى الاستراتيجي، تتفاقم خسارات المنظومة الحزبية التي لم تستوعب الدروس والإشارات المتواترة منذ أواسط العهدة البرلمانية السابقة على الأقل .فهي منظومة حزبية منشغلة بحرب التموقعات والحروب التكتيكية على حساب العمل السياسي الحقيقي الذي يهتمُّ بالتأطير والتثقيف والمضامين والمقترحات والبحث عن المشتركات .

لقد برزت أزمة المنظومة في انفلات الخطاب السياسي باتجاه خطابٍ حربيٍّ، وفي انفلات صفحات التواصل الاجتماعي لكل الأحزاب، بما يدلُّ على معضلة تأطير أو على إدارة معركة بطريقة غير رسمية من خلال انفلات مقصود. كما برزت من خلال صعود الأصوات المتطرفة والمتشنِّجة في واجهة كل الأحزاب دون استثناء. وبرزت خاصَّة في ضياع البوصلة وعدم التمييز الجوهري بين إدارة التباين داخل الفضاء الديمقراطي وإدارة الصراع حول مبدأ الديمقراطية أصلًا. وهذا هو معنى خسارة كل الجهد العقلاني للسنوات العشر الماضية الساعي للانزياح نحو الوسط، وهذا هو معنى خسارة السياسة، وهذا هو المكسب الأبرز للحزب الدستوري الحر بجرِّ الجميع نحو خطابه وإغراقهم في المناخ الذي يبحث عنه. 

كما أن كل المنظومة الحزبية مُتعثِّرةٌ في إدارة التنوُّع داخلها، بل إن بعض مكوناتها لا يزال يعاني من الارتباك أمام تجاوز انسداداتٍ تاريخيةٍ قد تتواصل من خلال تضخيم الإحساس بالاستهداف وتوظيفه .

إن المنظومة الحزبية الديمقراطية هي الآن أمام امتحان الاستمرارية. فإمَّا أن تتضامن فيما بينها لإعادة الاعتبار لسلطة البرلمان كما هي في الدستور ولعزل نزعات التطرّف، وتجري داخلها الإصلاحات المطلوبة من خلال تقييمٍ شجاعٍ للأداء والسلوك والخطاب والتموقع السياسي وإجراء التغييرات المستوجبة تبعًا لذلك، وإلَّا ستكون موضوعيًّا أكبر مُشجِّع للنزعات الشعبوية وأيضًا لمساعي البحث عن عروضٍ سياسية جديدة. وهذا ليس سيئًا بالضرورة .

الاتحاد العام التونسي للشغل :

للمنظمة تاريخ طويل في النضال الوطني والاجتماعي والسياسي. وهي تستفيد في تموقعها الحالي من تنازع النفوذ بين مراكز السلطة في البلاد، ومن الفراغ الذي تتركه الأحزاب السياسية، ومن مراهنة بعض الأحزاب عليها لإحداث ما عجزت عنه من توازن .

ولكن الجديد في الأمر هو الصراعات الداخلية بين بعض مكونات المنظمة استعدادًا للمؤتمر القادم، وخاصةً حول تعديل فصلٍ في النظام الداخلي يمنع تحمُّل مسؤولية في المكتب التنفيذي لمدة تتجاوز الدورتَيْن، وهو ما قد يغذِّي هذه الصراعات وينعش سوق المزايدات والترضيات، وهو ما بدأت مؤشراته من خلال خطابٍ مُتشنِّجٍ لا ينسجم كثيرًا مع الرصانة المعتادة، ويذكِّر بخطاب بداية التسعينيات أو بخطاب سنة 2012 و2013.

الخلاصة :

إن البلاد أمام مشهدٍ شديد الرخاوة دون نقاط ارتكاز واضحة، وهو مشهدٌ غير قادرٍ على مواصلة الاشتغال بالطريقة نفسها والعلاقات نفسها، ولا خيار أمامه سوى التعديل والتكيُّف أو الإعلان عن نهاية مرحلة وبداية أخرى تتطلَّب فاعلين جددًا .

أين تتجه البلاد؟

إن ملف ترتيب وضع الحكومة هو الطاغي الآن في السجال الوطني، ولكن هذا الملف على أهميته ليس هو الملف الوحيد.

فحالة الفوضى الشاملة وضياع السلطة وخلط الأوراق تُنبئ عن تأثير ملفَيْن أعمق بكثير: يتعلَّق أولهما بإعادة النظر في الدستور وعددٍ من النصوص المؤطرة لمجمل الحياة السياسية، ويتعلَّق الثاني بالمصالحة الوطنية وترسيخ قيم التسامح والاعتراف المتبادل والمساواة أمام القانون .

إن مستقبل المسار مرتبطٌ أشدَّ الارتباط بطريقة معالجة هذه الملفات الثلاثة:

مسار تشكيل الحكومة :

تتوفَّر الشخصية المختارة على صفاتٍ ومؤهلاتٍ يمكن أن تساعدها على النجاح. إذ إن المرشح شابٌ خَبُر الإدارة التونسية، واشتغل رئيس ديوان في وزاراتٍ متنوِّعة مع وزراء من انتماءاتٍ مختلفة، بالإضافة إلى الإشادة باستقلاليته، وهذا معطى نسبيٌّ في السياق التونسي يمكن أن يتضح نقيضه إن استدعى التجاذب السياسي ذلك  .

كما أنه شغل منصب وزير الداخلية في حكومة الفخفاخ، ومن ثَمَّ يمكنه أن يستعين بعددٍ من الأسماء الناجحة من زملائه الوزراء، بما يُكسبه والبلاد شيئًا من الوقت. ولذلك يعتبره البعض نسخةً شابةً من السيد الحبيب الصيد .

غير أن تعيينه قد حدث في سياق امتلاء رئيس الجمهورية بسعي حركة النهضة إلى منازعته في صلاحياته، وكذلك ترسُّخ قناعته بعبثية منظومة الأحزاب ولامسؤولية البرلمان، وهي قناعاتٌ قديمة لديه رسَّختها تجربة ما بعد الانتخابات.

ولذلك اختار رئيس الجمهورية اعتماد نفس منهجية تعيين الفخفاخ، فتلقى ترشيحاتٍ كتابيةً من الكتل والأحزاب، واختار مرشحًا لم يرد ضمن المقترحات التي وصلته، بل اختار أحد المقربين منه وسط حديثٍ متزايدٍ حول تأثير محيط رئيس الجمهورية في القرار، بما يذكِّر بالتجربة المؤلمة مع الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي ومع بعض رؤساء الحكومات السابقة .

إن السياق المعتمد لا يخالف ظاهريًّا الشكليات الدستورية، ولكنه في العمق مخالفٌ لروح الدستور، حيث ترتكز المنظومة السياسية فيه على البرلمان ومنظومة الأحزاب .

إن الخشية الأكبر هي أن تكون حكومة السيد المشيشي حكومة الرئيس فعلًا وليس مجازًا، فيتحوَّل مركز السلطة إلى قرطاج (الرئاسة) بدل القصبة (الحكومة) وباردو (البرلمان)، وحينها ستكون البلاد واقعًا أمام انحرافٍ دستوريٍّ جسيمٍ، ليكون السيد المشيشي وزيرًا أولَ وليس رئيس حكومة. وهي خشية لها ما يبرِّرها، ولكن بالإمكان تلافيها.

لقد انقضى نصف المدَّة المخولة لتشكيل الحكومة التي يجب أن تُقدم للبرلمان في الخامس والعشرين من شهر أغسطس في أقصى الحالات. وإلى الآن لم يصرح المكلَّف بتشكيل الحكومة بشيءٍ يُذكَر بخصوص طبيعة حكومته ومكوناتها وبرنامجها، واقتصر على الاتصال بالمنظمات الاجتماعية والكتل النيابية وبعض النواب المنفردين .

من حيث الشكل، فقد فُهم من هذا الأسلوب الاستهانةُ بالأحزاب السياسية وأدوارها بما يتفق مع رؤية رئيس الجمهورية وتقييمه. ومن حيث المضمون، لم يحصل تبادل حقيقيٌّ مع الضيوف وإنما هو استماع لهم، وهذا أيضًا يذكِّر بمنهج الرئيس .

أما من حيث الطبيعة، فلعل أفضل الحكومات الممكنة راهنًا هي الحكومة التمثيلية الواسعة حول برنامج، ولن يحدث ذلك إلَّا بحوارٍ حقيقيٍّ مع الأحزاب، وعملٍ سياسيٍّ في العمق معها. ونرجِّح أن الأحزاب ستتفاعل إيجابًا مع كل خطوة تقع في هذا الاتجاه، ويمكن أن تقبل حتى بتمثيلية رمزية فيها .

ولكن نرجِّح أيضًا أن يمضي رئيس الوزراء المكلَّف إلى خيار حكومة دون أحزاب[1]، ليستمر العبث بالعمل السياسي والعمل الحزبي، حيث تخوض الأحزاب في الحملات الانتخابية وتأطير الجماهير لتساند في الأخير حكومةً لا تمثِّلها مع استمرار تحمُّلها لمسؤولية نتائجها .

في السياقات الحالية، يمكن للبرلمان أن يصادق على حكومةٍ خاليةٍ من الأحزاب اقتناعًا بالوصفة أو خوفًا من انتخاباتٍ سابقة لأوانها. وبالطبع، فإن “حكومة الخوف” ستكون دون أب، ودون سند قار، ولن تستطيع مواجهة التحديات المطروحة على البلاد ولا غضبة الخريف القادمة.

ستكون مجددًا حكومة تأجيل أزمة، أو ربما حكومة نهاية دورة .

والأسوأ أن تكون حكومة غير حزبية، ولكنها ذات لونٍ فكريٍّ وسياسيٍّ؛ إذ إن الانتماء لا يحتاج إلى بطاقة انخراطٍ في حزب ما، مع تكليف بعض وزاراتها بتصيُّد ملفات المعارضين لها. وقد انطلقت سياسة استعمال أجهزة الدولة للتضييق على الخصوم والمنافسين وإثارة الملفات بطريقة انتقائية منذ أربع سنوات، ويخشى المتابعون استمرار المنهج نفسه .

إن الذاكرة السياسية للتونسيين لم تنسَ حكومةً تشكَّلت في البلاد في أبريل من سنة 1989 بعد تزوير الانتخابات التشريعية مباشرةً، أطلقت عليها الدوريات المؤثرة حينها “حكومة حرب”؛ لأنها كانت حكومة ضدية .

إن السياقات غير السياقات تمامًا. ويجب الانتباه إلى أن العدوَّ هو الفقر والبطالة والهشاشة الاجتماعية وانتشار الإحباط، ووحده تجميع الصفوف يمكن أن يوفِّر شروط كسب الحرب. وما عدا ذلك لن يكون في صالح أحدٍ، بل سيدفع البلاد إلى انتخاباتٍ سابقة لأوانها في أحسن الأحوال، وإلى الفوضى في أسوئها .

مسار مراجعة الدستور وبعض القوانين المؤطرة للحياة السياسية :

يتفق الجميع على ضرورة مراجعة قانون الأحزاب باتجاه مزيدٍ من دعم الشفافية وضبط مسالك التمويل ومراقبة التسيير الداخلي وتشجيع التأطير والتثقيف، بما يؤدي إلى ضبط السوق السياسية، حيث تعيش البلاد حالة إسهالٍ حزبيٍّ، كما يتفق الجميع على ضرورة مراجعة القانون الانتخابي في وجهةٍ إصلاحيةٍ بإقرار عتبة تسمح بإفراز أغلبية قادرة على الحكم بما يضفي معقوليةً على العملية الانتخابية بتحديد الحكَّام وتحميلهم المسؤولية، أو باتجاه جذريٍّ يؤدي إلى مراجعة الفلسفة نفسها ومراجعة الدوائر الانتخابية والاقتراب من تمثيلية محلية .

كما يتزايد عدد المطالبين بإعادة النظر في الدستور لتدارك الإخلالات التي اتضحت في أثناء الممارسة مع المحافظة على روح دستور 2014، أو باتجاه القيام بمراجعة جوهرية تؤدي إلى الانتقال إلى الجمهورية الثالثة .

لا بدَّ من معالجة هذا الملف الثقيل. ولكن أيكون ذلك بتوفير تهدئةٍ تسمح بحوارٍ واسعٍ وعميقٍ وهادئٍ يفضي إلى نتائج مقبولة أم بالمغالبة وتأزيم الأوضاع؟

ج- الفريضة الغائبة: المصالحة الوطنية وثقافة التسامح

لم يكن المفاجئ خلال الأشهر الماضية هو ارتفاع أصوات قوى مناهضة للديمقراطية وللثورة ومكاسبها ومنجزاتها، إنما المفاجئ هو هذه الحرب التي اشتعلت بين قوى تجرَّعت من نفس كأس القمع وكانت في المعسكر المناهض له. فقد تحوَّلت الأحزاب إلى ثكنات، وارتفعت بينها الجدران، وانتعش خطاب التنافي وثقافة القبيلة أن انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا.

لقد عُدنا إلى العالم ثنائي التكوين، حيث الـ “نحن” والـ “هم”، والأخيار والأشرار، وعودة الهوية وتأخُّر السياسة .

عادت أشباح التاريخ، وفزاعات الأيديولوجيا، والتكفير المدني والديني، وعقلية الاحتكار والإطلاقية. وفي جملة واحدة: ماتت النسبيَّة والسياسة  .

إن الانشطارات في السطح السياسي هي أقلُّ خطورةً من الانشطارات الاجتماعية، ولكنها إن لم تؤدِّ إلى حالةٍ من الاقتتال فإنها تؤدي إلى حالةٍ من الشلل المؤسسي الدافع إلى التمرد الاجتماعي .

الرؤية التكاملية :

يمكن الاشتغال على المسار الحكومي باعتباره المسار الأكثر إلحاحًا، غير أن المنهجية السليمة الوحيدة هي المنهجية التكاملية انطلاقًا من الأسفل، بحيث يكون هاجس التشكيل الحكومي لا فقط ما يوفِّر له الأغلبية التي تسمح بمروره أمام البرلمان، بل الذي يسمح له أيضًا بتوفير حزامٍ سياسيٍّ صلبٍ يضمن الاستقرار والمساعدة على قيادة الإصلاحات والنجاح فيها، وهو الذي يسمح أيضًا باستقرار المؤسسة التشريعية؛ إذ لا نجاح دون استقرار وتكامل بين المؤسسات. وهو الذي يستحضر أيضًا توفير المناخات المُعينة على إعادة النظر في القوانين المنظِّمة للحياة السياسية، كما يُعين ويتغذى من مسار الاعتراف المتبادل وإعادة بناء الوحدة الوطنية ونشر ثقافة التسامح.

 الخاتمة 

تبدو التجربة التونسية اليوم أكثر من أي وقتٍ مضى في مفترق طرق بين عودة الوعي والالتقاء على المشتركات، وتشغيل السياسة والحوار، والاستفادة من صبر التونسيين وسَعة صدرهم، والتركيز على الاستحقاق الاقتصادي والاجتماعي، ومعالجة الاستتباعات الكارثية لجائحة كورونا، والتوقي من الأزمات القادمة، وضبط خارطة طريق للقضايا التي تحسِّن من أداء المنظومة السياسية ومنهجية التعاطي معها، أو التوغل في منهج المغالبة الذي يفرغ المنجز السياسي نفسه من محتواه، ويكشف سطحيته وعُقمه وعدم جدواه .

إن هبة الأصوات العقلانية التي انكفأت على ذواتها في الأشهر الأخيرة – وهي موجودة في كل التيارات والأحزاب – لتشتغل بتناغمٍ كلّ في فضائه وفي مبادراتٍ مشتركةٍ يمكن أن تُتوَّج بحوارٍ وطنيٍّ شاملٍ يُكمل عمل المؤسسات دون أن يلغيها أو يعوضها، ويعطي نَفَسًا جديدًا للثورة التونسية، ويمكن أن يمثِّل الهدية الأكبر للتونسيين في الذكرى العاشرة لثورتهم .

[1] هذا النص تمت كتابته قبل إعلان رئيس الحكومة المكلف هشام المشيشي سعيه لتشكيل حكومة كفاءات مستقلة عن الأحزاب.