الذكرى العاشرة للثورة السورية

إبَّان الإطاحة الدرامية والسريعة بِبن علي في تونس ومبارك في مصر، استَبعد بشار الأسد الأصغر سنًّا والأكثر شعبيةً -كما يُزعم- احتمالَ أن يلقى مصيرًا مشابهًا في تصريحاتٍ أدلى بها على الملأ، فقد كان واثقًا من قدرته على الإبحار في المياه العكرة، والحفاظ على علاقةٍ جيدةٍ مع المجتمع الدولي بالرغم من محاولاته السابقة للعزلة، ما منحه شعورًا بالأمان وبأنه مُنزَّه عن النقد. وقد تعزَّز هذا الشعور الزائف بالأمان من خلال عشر سنواتٍ متتاليةٍ من نموٍّ إيجابيٍّ للناتج المحلي الإجمالي، وزيادةٍ كبيرةٍ في دَخْل الأسر في دمشق وحلب، أكبر مركزين حضريَّيْن في سوريا. وفي واقع الأمر، كانت سوريا -في نظر الأسد والكثير من المراقبين- مُحصَّنةً ضد الثورات العربية.

لقد بدا كلُّ شيءٍ هادئًا على السطح، غير أن أسباب الاضطرابات السياسية والاجتماعية الهوجاء كانت تغلي في الأسفل، وفي الواقع يحكمُ سوريا الأسد أحدُ أكثر الأنظمة قمعًا وعنفًا في التاريخ الحديث. لقد ترافق الصعود الشرس لرأسمالية المقربين من النظام مع تحرير الاقتصاد، بالاضافة للقطاع العام الذي كان ينخره الفساد والمحسوبية. ربما أخذ اندلاع الثورة الشعبية واسعة النطاق في 18 مارس/ آذار 2011 النظامَ السوريَّ على حين غرَّة، بَيْد أن قسمًا كبيرًا من الشعب السوري كان ينتظر أية حجةٍ للتخلُّص من 40 عامًا من الدكتاتورية.

لقد بدأت الثورة السورية كصرخةٍ من أجل الكرامة واستعادة الاستقلال الذاتي مع آمالٍ كبيرةٍ في التغيير، وحملت الأهدافَ ذاتها التي نادت بها ثوراتُ الربيع العربي، وهي: الديمقراطية، وسيادة القانون، والتوزيع العادل للثروة، والمشاركة السياسية، والحكم الفعَّال غير التمييزي. كما نادى النشطاء بقيمٍ عالميةٍ، بُغية حشدِ الشعب السوري والحصولِ على دعم المجتمع الدولي، وكلهم إيمانٌ بأن هذه القيم قد تكون بمثابة أسسٍ لسوريا جديدةٍ، ليردَّ نظامُ الأسد بعنفٍ شديدٍ، حيثُ لم يتردَّد في اللجوء إلى كل ما في جعبته من حيلٍ لإذكاء الانقسام الطائفي والتطرف الأيديولوجي والتوترات العرقية.

وقد أدى ذلك إلى اندلاع أكثر الصراعات دمويةً في القرن الحادي والعشرين، فقد قُتل نصف مليون مدنيٍّ، وتشرد نصف السكَّان قسرًا من منازلهم، ودُمرت البنية التحتية في البلاد. لقد كان تطوُّر الثورة السورية من انتفاضةٍ سلميةٍ إلى صراعٍ مسلحٍ نتيجةً لردِّ فعل الأسد القمعي وتدخل القوى الأجنبية لحماية الوضع الإقليمي الراهن أو تغييره. إن نزعة الأسد لإبقاء قبضته مسلطةً على البلاد دفعته إلى السعي لإحداث الدمار والفوضى وإثارة الخوف خارج حدود سوريا. غير أن المدنيين الأبرياء والعُزَّل هم من دفعَ الثمن الباهظ لهذا الصراع.

ومع دخول الصراع عامَه العاشرَ، تمكَّن بشار الأسد من البقاء في السلطة، كما تحوَّل النضال من أجل الحرية إلى وضعٍ أمنيٍّ وإقليميٍّ ودوليٍّ غاية في التعقيد، راحت مضاعفاتُه تتردَّد في جميع أنحاء المنطقة، وأثَّرت في جيران سوريا، وصولا إلى شواطئ أوروبا. تقدِّم هذه الورقة قراءةً للثورة السورية، وللأسباب الرئيسة التي حالت دون انتصارها، وأطالت أَمَدها وعواقبها، وفي الورقة كذلك مجموعةٌ من التوصيات للشعب السوري الذي ما زال يطمح في إحداث تغييرٍ إيجابيٍّ.

عاجزون عن تحقيق الوحدة

لم تَنقصِ الشعبَ السوريَّ الشجاعةُ أو التصميم في السعي إلى تحقيق أهدافه السياسية، فقد تدفَّق المتظاهرون إلى الشوارع وحاولوا سلميًّا احتلالَ الساحات والمواقع الرئيسة في المدن. وأسبوعًا بعد آخر، ازدادت وحشية النظام، وتعرَّض النشطاء وعامَّة المواطنين للتعذيب والموت عند القبض عليهم من قِبل قوات الأمن. وبالرغم من نقص التدريب والسلاح، حملَ بعضُ المدنيين السلاح لحماية الثورة وردعِ اعتداءات النظام على أبناء جلدتهم. وبالمثل، انشقَّ الضباط عن الجيش والحكومة احتجاجًا على عنف النظام رغم كل الأخطار والتهديدات التي ستحدق بعائلاتهم.

بيد أن إظهار الشجاعة والعزم لم يقابله وجود قيادة موثوقة وقادرة؛ إذ فشلتِ الجهاتُ الفاعلة التقليدية والناشئة على حدٍّ سواء في التغلُّب على خلافاتها الأيديولوجية وتشكيل وحدةٍ هي بأمسِّ الحاجة إليها لتقديم بديلٍ موثوقٍ للأسد. وبعد أنِ استنزفتها الخصوماتُ الشخصية، فشلت جميع محاولات توحيد المعارضة السياسية في تشكيل مشروعٍ شاملٍ يمكنه حشد الدعم الشعبي أو الدولي الكافي، وأصبح الشقاق في صفوف المعارضة موضوعًا متكررًا وذريعةً للمجتمع الدولي لتبرير تقاعسه في سوريا.

وبالمثل، وبتشجيعٍ من الداعمين الإقليميين ذوي الأهداف المتضاربة، فضَّلتِ الجهاتُ المسلَّحة الناشئة استقلالَها الذاتي على تشكيل مقاومةٍ مسلحةٍ متماسكةٍ. كما شعرت المعارضة المسلحة، التي شعرت بالتمكين من خلال القوة التي اكتسبتها حديثًا، بأن من حقها السعي وراء مُثلٍ أيديولوجيةٍ، وراحت الفصائل تسعى إلى فرض يوتوبيا الحُكم الخاصَّة بها، ودخلت في صراعٍ داخليٍّ لحماية مكاسبها السياسية والاجتماعية المتصوَّرة في أثناء دخولها ساحة المعركة ضد كلٍّ من قوات الأسد وجماعات المعارضة الأخرى. وفي نهاية المطاف، أدَّى عدم قدرة المعارضة السورية المسلحة على الاتحاد إلى فشلها في مقاومة استراتيجية الأرض المحروقة التي تبنَّتها قوات النظام، وفَقَدت معظمَ أراضيها بعد سيطرتها على ما يقرب من 60 في المئة من البلاد عام 2014.

ولم يعق تشتُّتُ المعارضة قدرتَها المتأصلة على العمل فحسب، بل شجَّع أيضًا على ظهور مجموعاتٍ جهاديةٍ متطرفةٍ عابرةٍ للحدود، فقد تسرَّب تنظيمُ القاعدة والدولةُ الإسلامية في العراق إلى الثورة مستغلَّين الفراغ، وحشدا المؤيدين في جميع أنحاء العالم للانضمام إليهما في شكليهما الجديدين. وبالاستفادة من القدرات المالية والتنظيمية الفائقة، أقام هذان التنظيمان ملاذاتٍ آمنةً في شرق سوريا، وطردا المعارضة الرئيسة، وغزوَا غربَ العراق، وأعلنا في نهاية المطاف قيامَ الخلافة في عام 2014. لقد أدَّى صعود التيار الجهادي في الساحة السورية إلى تشويه رواية الثورة السورية عن الحرية، وتشويه خطابها تشويهًا لا يمكن إصلاحه.

غير أن هذه الفوضى لم تفد الجهاديين، فقد شجَّعت حزب العمال الكردستاني (PKK) على استجماع قواه في سوريا بعد أن ضَعُف في تركيا. وبموافقة النظام السوري، سيطر حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) -الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني- على شمال شرق سوريا وأسَّس إدارةً أخرى، ما زاد من تعقيد المشهد السياسي ومشهد الحوكمة. كما أدى التوسُّع السريع لحزب الاتحاد الديمقراطي على حدودها الجنوبية إلى تداعياتٍ مضاعفةٍ أثرت في تركيا، وأنهى فعليًّا عملية السلام مع حزب العمال الكردستاني، ودفَعَ الجيشَ التركي في نهاية الأمر إلى التدخل في الصراع.

الإخفاقات الدولية

بعد كارثة العراق، غدا الانسحابُ من الشرق الأوسط جزءًا أساسيًّا من الخطاب السياسي للولايات المتحدة، واكتفى الغرب بدورٍ سلبيٍّ في سوريا على عكس دوره في ليبيا. لقد تمثَّلت استراتيجية الولايات المتحدة في بادئ الأمر في احتواء الصراع داخل حدود البلاد، ومنع السقوط السريع والدراماتيكي للنظام في دمشق خشية حدوث فراغٍ أمنيٍّ. وقد عبَّرت كلٌّ من واشنطن وباريس ولندن وبرلين عن دعمها السياسي للثورة، وطالبوا برحيل الأسد في مناسباتٍ عدةٍ، لكنهم لم يسعَوا أبدًا إلى الإطاحة به بالقوة، وتُرجِم الدعمُ الغربي في الغالب إلى مساعدةٍ ماليةٍ محدودةٍ للمعارضة، ورسم “خطوطٍ حمراءَ” على أمل ردع دمشق عن استخدام القوة المفرطة.

كما أظهرَ تقاعسُ أوباما في الرد على استخدام الأسد للأسلحة الكيماوية في الغوطة الشرقية عام 2013 فشلَ هذه الاستراتيجية. فقد كان لعدم وجود موقفٍ حازمٍ من سوريا تداعياتٌ هائلةٌ على تطور الصراع؛ إذ اعتُبر تقاعس أوباما بمثابة إشارةٍ قويةٍ إلى أن أية قوةٍ عالميةٍ لن تتدخل ضد الأسد حتى وإن استخدم الأسلحةَ الكيماوية. ونتيجةً لذلك، أصبح الأسد وحلفاؤه أكثر جرأةً، فيما استغلَّ المتطرفون مظالمَ الشعب لتوسيع سلطتهم وتأكيدها أكثر فأكثر.

هدَّد تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) المصالحَ الأمريكية في العراق، ونفَّذ هجماتٍ داميةً في العواصم الأوروبية والأراضي الأمريكية، فردَّت واشنطن بتشكيلِ تحالفٍ دوليٍّ لمحاربة التنظيم في تحولٍ عن السياسة السابقة للتركيز على القضاء على داعش فحسب. وقد دفعت إعادةُ تقييم الأولويات هذه الولاياتِ المتحدةَ إلى تسامحٍ أكبر مع دور إيران الإقليمي مقابلَ مشاركة إيران في قتال داعش، كما أدَّت إلى زيادة تمكين حزب الاتحاد الديمقراطي الذي تطوَّعَ عن طيب خاطرٍ للمشاركة مع التحالف في مطاردة التنظيم الإرهابي.

في ظلِّ إدارة أوباما، أدَّى تغيير السياسة الأمريكية -إلى جانب توقيع الاتفاق النووي مع إيران، وخطة العمل الشاملة المشتركة (JCPOA)- إلى إغضاب ممالك الخليج العربي التي شعرت أن حليفها التقليدي قد خانها، وبأنها معرضةٌ لخطر تنامي دور إيران في رسم ملامح النظام السياسي والأمني ​​في المنطقة. وبالمثل، أدَّى دعمُ الولايات المتحدة لحزب الاتحاد الديمقراطي إلى إبعاد تركيا، وشجَّع أنقرة على السعي إلى ترتيبٍ أمنيٍّ مع روسيا للتعويض عن عدم أخذ واشنطن مخاوفَها الأمنيةَ في عين الاعتبار. كما أدَّى الافتقار إلى سياسةٍ أمريكيةٍ متماسكةٍ إلى إضعاف التحالفات التقليدية، ومهَّد الطريق لحربٍ بعيدةٍ تقودها القوى الإقليمية وتغذِّيها القوات المحلية.

المخاصمات والمنافسة الإقليمية

وكردِّ فعلٍ على الفوضى المتعاظمة في سوريا، راحت الجهات الفاعلة الإقليمية تُعنى مباشرةً بالنتائج السياسية والأمنية للصراع، فقد شعرت إيران وتركيا ودول الخليج العربي -التي تأثرت تأثرًا مباشرًا بالأحداث الجارية- بأنها مضطرةٌ إلى زيادة تدخلها في الحرب عندما أصبحت الآثار الجيوسياسية لغيابها مكلفةً جدًّا، بحيث لم يعُد ممكنًا تحمُّلها. بالنسبة إلى تركيا وقطر، بوصفهما داعمَيْن للقوى الثورية، فقد مثَّلت الثورة السورية فرصةً لقيام وقيادة نظامٍ شعبويٍّ جديدٍ عقب الثورات العربية. وأما بالنسبة إلى الأنظمة الملكية العربية الغنية بالنفط -وفي مقدمتها السعودية- فقد كان تدخلها في الصراع يهدف إلى منع أن تصبح سوريا جزءًا من “الممر” الإيراني، وتمدُّد القوة الإيرانية إلى منطقة البحر المتوسط. بالمقابل، رأت طهران في الثورة السورية تهديدًا مباشرًا لوجودها الإقليمي، ووصفت المعارضة بأنها أداةٌ بيد خصومها الإقليميين، وعميلةٌ للولايات المتحدة والقوى الغربية الأخرى.

لقد رسمَ هؤلاء الفاعلون الإقليميون نتيجةَ الصراع بشكلٍ أو بآخر؛ إذ يمكن تفسير جزءٍ من قدرتهم على لعب هذا الدور من خلال الجغرافيا السياسية والقيمة الاستراتيجية لسوريا في منطقةٍ يسودها الاستقطاب وتغصُّ بالمخاصمات. بيد أن هذا التأثير لم يكن ممكنًا لولا التركيبة السكَّانية السورية المعقَّدة والانقسامات الاجتماعية بين المتدينين و”العلمانيين”، والسُّنة والعلويين، والعرب والكُرد، وهي انقساماتٌ غالبًا ما تلاعبت بها القوى الإقليمية الناشئة والتقليدية بمهارة.

بدأ الصراع السوري بمعسكرين رئيسين، أَلَا وهما: تركيا والسعودية وكذلك قطر في صفِّ المعارضة، وإيران وحلفاؤها المحليون في العراق ولبنان في صفِّ النظام. ومع اشتداد حدَّة العمليات العسكرية، ظهرت دينامياتٌ جديدةٌ، وخلقت تحالفاتٍ جديدةً بين هذه الجهات الأجنبية الفاعلة، وغيَّرت طبيعة تدخلاتها وأهدافها. كان الحدث الأكثر أهميةً هو الانقلاب الذي حدث في مصر في الثالث من يوليو/ تموز 2013. لم يكن هذا الحدث مرتبطًا بسوريا ارتباطًا مباشرًا، غير أنه كان إيذانًا ببداية ثورةٍ مضادةٍ بقيادة السعودية والإمارات في الشرق الأوسط. حيث استغلَّت ممالك الخليج العربي الصراعَ السوري لمواجهة إيران، لكنها كانت كذلك متوجسةً للغاية من موجة الديمقراطية التي كانت تَعِدُ باجتياح المنطقة. وقد ازدادت هذه المخاوف عندما بدت تركيا وقطر أكثر انسجامًا مع الحركات الثورية، ما هدَّد قيادةَ الرياض للدول العربية السُّنية. في سوريا، توقَّعت السعودية والإمارات انتصارًا محتملًا للمعارضة ووجَّهتا دعمهما إلى مجموعاتٍ طيِّعةٍ، ما أدَّى إلى استقطاب المعارضة وإضعاف موقفها الموحَّد ضد الأسد.

حلفاء الأسد المخلصون

أظهر الأسد -منذ بداية الصراع- رغبةً قويةً في الاعتماد على المساعدات الخارجية لكي يهزم المعارضة، فقد سعى النظام السوري للحصول على مساعدةٍ عسكريةٍ واستخباراتيةٍ أجنبيةٍ لتعويض خسائره على الأرض، وسمَحَ في نهاية المطاف للكتائب الأجنبية بالقتال إلى جانب قواته. تشير التقارير إلى أن الأسد طلب مساعدةً فنيةً من إيران منذ عام 2011، وخصوصًا دورًا استشاريًّا لتدريب قوات النظام على احتواء الاحتجاجات وتقديم المساعدة المالية للنظام.

في عام 2013، زادت إيران جهودها للحفاظ على بشار الأسد في السلطة زيادةً كبيرةً بعد التقدُّم السريع للمعارضة السورية في شمال سوريا ووسطها، وأرسلت المئات من الخبراء والمعدات من الحرس الثوري الإيراني لمنع انتصار المعارضة، كما أرسلت إيران مقاتلين لبنانيين وعراقيين وأفغانًا وباكستانيين إلى سوريا، وشجَّعت تشكيل جماعاتٍ مواليةٍ للنظام. كما أثَّر انتخاب ترامب، وإعادة التقييم الجديدة لسياسة الولايات المتحدة تجاه طهران- في قدرة إيران على دعم الأسد. فمن الناحية المالية، أعاقت العقوبات الجديدة قدرة الحرس الثوري الإيراني على الحفاظ على إنفاقه العسكري في سوريا، كما هزَّ اغتيال قاسم سليماني الميليشيات المدعومة من إيران كثيرًا، غير أن طهران ظلَّت مواليةً للأسد، واستمرت في دعمها له بالرغم من كل الصعوبات، ولولا هذا الدعم لَما كان النظام لينجو لغاية اليوم.

لم يلقَ هذا المستوى من الدعم دعمًا روسيًّا مقابلًا إلَّا في سبتمبر/ أيلول 2015 عندما تدخل الخبراء الجويون والعسكريون الروس لتعويض الخسائر في صفوف الجيش السوري والميليشيات المدعومة من إيران، ما سمح لهم بمواجهة المكاسب العسكرية التي كانت تحقِّقها المعارضة، وباسترداد ما خسرته في نهاية المطاف. في بادئ الأمر كان الدعم الدبلوماسي الروسي للأسد مدفوعًا بالحاجة إلى الحفاظ على مكانتها الدولية بعد ما اعتبرته “خيانة” الناتو لها في ليبيا. وبعد سعي بوتين إلى منع سقوط الأسد في السابق، راح يكثِّف استثماره في النظام السوري في عام 2015 بعد أن رأى في الصراع فرصةً لزيادة دور روسيا في الشرق الأوسط.

لقد شكَّل التدخل الروسي نقطة تحولٍ في الصراع السوري، وأنهى نظريًّا كلَّ احتمالات التدخل الأجنبي لتغيير النظام، كما وضعَ دعمُ موسكو الأسدَ في موقعٍ أقوى أمام خصومه. إن هدف النظام السوري اليوم هو إعادة توطيد سلطته على المستوى الوطني، وإعادة تأهيل الأسد على الساحة الدولية، ومما لا شكَّ فيه أن موسكو لعبت دورًا كبيرًا حتى الآن في دعم جهود الأسد.

وباستخدام مزيجٍ من الدبلوماسية والقوة العسكرية، صوَّرت روسيا نفسها كبديلٍ أكثر موثوقيةً للولايات المتحدة التي راحت تتراجع وتُظهر وعدم التجاوب مع المنطقة. ومن ثَمَّ لجأ حلفاءُ الولايات المتحدة التقليديون في الشرق الأوسط إلى موسكو لتهدئة مخاوفهم في سوريا بعد أن أحبطتهم لامبالاة واشنطن تجاه أهدافهم الجيوسياسية والأمنية. ولتحقيق هذا الهدف، أظهرت القيادة الروسية انفتاحًا على استيعاب بعض مطالب القوى الإقليمية في سوريا، ولكن ذلك فقط مقابل تقاسم الأعباء في المشكلة السورية، والاعتراف بدور روسيا الجديد في المنطقة. إن استعداد موسكو لإشراك الآخرين في النظام السياسي والأمني ​​الجديد في سوريا يشجِّع عواصم المنطقة على إعادة ضبط سياساتها تجاه الأسد، ويبدو أن روسيا اليوم هي القوة التي يجب التفاوض معها في سوريا أكثر من أي وقتٍ مضى.

دبلوماسيةٌ ضعيفةٌ بلا أسنان

لقد دفعت تداعياتُ الصراع على الأمن الإقليمي، وما خلَّفه من خسائرَ في أرواح المدنيين، جامعةَ الدول العربية والأممَ المتحدة إلى التدخل بعد أسابيعَ قليلةٍ من اندلاع الثورة. منذ عام 2011، تبنَّى مجلسُ الأمن التابعُ للأمم المتحدة 42 قرارًا بفرض الهدنة، وتحديد إطارٍ للمفاوضات السياسية، وإدانة أعمال العنف، والسماح بالمساعدات الإنسانية عبر الحدود. وقد استخدمت روسيا والصين حقَّ النقض ضد 16 قرارًا في مجلس الأمن، ومنعتا كلَّ محاولات محاسبة الأسد على جرائم قواته، وأما القرارات الـ 26 التي جرى تمريرها فلم تنجح في شيءٍ سوى منح وكالات الأمم المتحدة استثناءاتٍ مؤقتةً لإيصال المساعدات من خلال المعابر الحدودية التي تسيطر عليها المعارضة.

ومنذ عام 2011، شكَّلت مبادرتان رئيستان ملامحَ الوساطة في سوريا، وهما: المحادثات التي ترعاها الأمم المتحدة في جنيف، وعملية أستانا برعاية روسيا وتركيا وإيران. وفيما أبقت الاجتماعات المتكررة في جنيف وأستانا ما يمكن وصفه بعملية السلام على قيد الحياة، لم تحرز الوساطة تقدمًا جوهريًّا نحو تسويةٍ سياسيةٍ. وقد تولَّى دبلوماسيون متمرسون -مثل كوفي عنان والأخضر الإبراهيمي وستافان ديميستورا وجير بيدرسن- أدوارًا متتاليةً لإقناع دمشق والمعارضة السورية بالتفاوض على إنهاء الصراع، غير أن المناقشات اتسمت في غالبها بالرسميات والشكليات الأوَّليَّة والمزايدات السياسية بدلًا من المشاركة الجادة في القضايا الجوهرية.

لقد أثبتت المعارضة أنها أكثر عقلانيةً، غير أن الأسد أكَّد عناده وهوسه بالسلطة بغض النظر عن التكلفة، فقد أبدى النظام السوري ترددًا كبيرًا في الانخراط في أية مفاوضاتٍ جادةٍ وذات مصداقية لإنهاء الصراع؛ لأنه رأى فيها اعترافًا بالمعارضة السورية؛ أضف إلى ذلك أن دمشق لم تطبق أبدًا الهدفَ الأساسي من المفاوضات، ألا وهو تشكيل حكومةٍ انتقاليةٍ.

يعتقد الأسد أن نجاة حكومته تعتمد على الحفاظ على سيطرةٍ مطلقةٍ لا ينازعه فيها أحدٌ على الدولة السورية، ويعتقد أن هذه السيطرة ستجبر المجتمع الدولي على الانخراط معه في علاقاتٍ سياسةٍ محدودة، وترتيباتٍ أمنيةٍ، ومسائلَ اقتصاديةٍ، ما سيؤدي إلى إعادة تأهيله على الساحة الدولية في نهاية الأمر. يعتبر النظام أيَّ حلٍّ سياسيٍّ تهديدًا مباشرًا لشرعيته ووجوده.

وبدلًا من ذلك، عوَّضت الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي عدم تدخلها بمعاقبة النظام؛ إذ تركِّز العقوبات الحالية على الأفراد والتكنوقراط وشبكات الأعمال التي تعمل مع السلطات السورية، وهدفُها المعلنُ هو إحداث تغييرٍ في سلوك النظام. ومن ناحيةٍ أخرى، أدَّت العقوبات إلى دفع المزيد من المدنيين إلى ما دُونَ خط الفقر، في حين ظلَّت قدرة النظام على السيطرة على الاقتصاد كما هي إلى حدٍّ كبير.

لا حلَّ سريعٌ

مضت عشر سنواتٍ على خروج الشعب السوري إلى الشوارع في أول تظاهرٍ ضد قمع نظام الأسد، والمطالبة بحكومةٍ منتخبةٍ تمثِّل الشعب. إن الأزمات السياسية والأمنية والاقتصادية المديدة التي ولَّدها الصراع السوري جاءت نتيجة عنفٍ لا مثيل له من النظام، ومعارضةٍ قاصرةٍ وغير منظمةٍ، وصعود جهاتٍ متطرفةٍ، وفشل المجتمع الدولي في التدخل، والخصومات الإقليمية.

لقد تحوَّل دعمُ إيجاد بديلٍ موثوقٍ للأسد إلى مجموعةٍ من الحلول المؤقتة والمتضاربة للتهديدات الأمنية، كما انحسر الإطار السياسي لحلِّ النزاعات إلى محادثاتٍ تقنيةٍ تدور حول عودة اللاجئين، ومكافحة المنظمات الإرهابية، والرفع المشروط للعقوبات.

كما أن ما يهمُّ الشعب السوري في المقام الأول قد تغيَّر هو أيضًا، فكل ما يحتاجونه حاليًّا هو عودة الحياة إلى طبيعتها، واستعادة سُبل عيشهم، ووقف إراقة الدماء دون أن يترتب عليهم دفع ثمن ذلك. قد يتأجل التغيير السياسي الحقيقي بسبب غياب الدعم الدولي الكافي، لكن الأسباب التي حفّزت الثورة السورية لا تزال قائمةً، وربما تفاقمت وازدادت سوءًا. إن الضماناتِ الوحيدةَ للتوصل إلى حلٍّ سلميٍّ ومستدامٍ هي تحقيق العدالة الانتقالية والحكم العادل، وكلاهما يتطلب رحيل الأسد.

يستحقُّ الشعب السوري تدخلًا عاجلًا لتخفيف آلامه وتلبية احتياجاته الفورية، كما يجب الاستفادة من الانخفاض الأخير في الأعمال العدائية وتحويله إلى اتفاق وقف إطلاق نارٍ مستدامٍ تدعمه كلٌّ من الولايات المتحدة وروسيا وكذلك تركيا وإيران. ولتعزيز مثل هذا الاتفاق، يجب بلورة اضمحلال السلطة القائم في هيئة حكمٍ لامركزيٍّ واقعيٍّ يحافظ على مصالح الجهات الأجنبية في سوريا، ويضمن مشاركة المجتمعات المحلية.

وأخيرًا، يستدعي الوضع الاقتصادي المتردي الذي يعيشه الشعب السوري في مناطق سيطرة النظام استجابةً دوليةً جماعيةً للتخفيف من معاناته، وينبغي على الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي دفعُ الأمم المتحدة للعب دورٍ أكثر ديمومةً في سوريا بدلًا من تقديم دعمٍ جديدٍ للأسد من خلال رفع العقوبات. يجب أن تذهب مساعدات الأمم المتحدة للأفراد الأكثر ضعفًا فحسب، بما في ذلك النساء والأطفال وملايين الأشخاص النازحين داخليًّا ممَّن أُجبروا على ترك منازلهم بسبب آلة النظام العسكرية. لا يوجد حلٌّ سريعٌّ للمستنقع السوري، لكن على الأسد ألَّا يستغلَّ هذا العجز لإعادة تأهيل نفسه.