سياسة قطر تجاه الملف الأفغاني:

يثير حضور السياسة القطرية ونشاطها المكثَّف في الملف الأفغاني تساؤلاتٍ مهمَّة عن أسباب نجاح الدوحة في كسب ثقة حركة طالبان، ومبررات الاهتمام القطري بلعب دور الوساطة بين الحركة والمجتمع الدولي، على الرغم من التعقيدات والتحديات التي يعجُّ بها هذا الملف، خصوصًا بعد الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، الذي يطرح مجموعةً متداخلةً من الفرص والتحديات أمام القوى الدولية والإقليمية، التي تتنافس على ملء الفراغ الذي خلَّفته واشنطن.  

وعلى الرغم من امتلاك قطر عددًا من الأدوات والمؤهلات التي جعلتها وسيطًا مقبولًا في الملف الأفغاني، فإن هذه الوساطة لم تكن لتحرز نجاحًا لولا تمتُّعها بقبول حركة طالبان وثقتها في دور الدوحة، استنادًا إلى عاملين أساسيَّيْن: أولهما نجاح الدوحة في بناء الثقة مع الحكومة الأفغانية (حكومة أشرف غني) وحركة طالبان في الوقت نفسِه، فالدور القطري في أفغانستان ليس وليد اللحظة، بل يعود إلى يونيو/حزيران 2013 على الأقل، حينما جرى افتتاح مكتب سياسي لحركة طالبان في الدوحة، الذي كان إيذانًا بانطلاق مفاوضاتٍ غير مباشرة في البداية، قبل النجاح في إقناع واشنطن وحركة طالبان بالجلوس وجهًا لوجه على مائدة المفاوضات، التي أثمرت في النهاية اتفاق الدوحة (29 فبراير/شباط 2020)، الذي كان من بنوده: اكتمال انسحاب الجيش الأمريكي من أفغانستان في 31 أغسطس/آب 2021، مقابل تعهدات من طالبان، كان أبرزها دخولها في مفاوضات سياسية مع حكومة كابل، ومنع أي حركة مسلَّحة من استغلال الأراضي الأفغانية لشنِّ هجمات على الولايات المتحدة الأمريكية.

أما العامل الثاني فيتعلَّق بديناميكية السياسة القطرية، وطموح نخبتها الحاكمة، وحُسن قراءتها وتوظيفها متغيرات البيئة الدولية والإقليمية، وتركيزها على استخدام أدوات القوة الناعمة، وتواصلها الدؤوب مع الأطراف الداخلية والإقليمية والدولية المنخرطة في الصراع الأفغاني. إذ تمكَّنت قطر من جعل نفسها “وسيطًا مقبولًا”، يحظى بتقديرٍ أمريكي وغربي وأُممي واضح، ناهيك عن تمتُّعها بدرجة من القبول من الطرف الآسيوي المقابل، المعنيِّ باستقرار الساحة الأفغانية وعدم عودتها للاضطراب، بسبب تداعياته على الأمن الإقليمي والحدود المشتركة بين هذه القوى الآسيوية وأفغانستان، وانعكاساته على طرق التجارة والاستثمارات، خصوصًا مشروع “الحزام والطريق” الذي تتبنَّاه الصين.

لقد تدرَّجت سياسة قطر تجاه أفغانستان عبر خطواتٍ دبلوماسية دقيقة، بدايةً من توفير منصات التفاوض مع حركة طالبان، مرورًا ببذل المساعي الحميدة لطمأنة واشنطن ومختلف الأطراف الإقليمية والدولية المنخرطة في الصراع الأفغاني، ووصولًا إلى تدشين الخطوط الجوية القطرية جسرًا جويًّا، بهدف تقديم المساعدة اللوجستية في عمليات إجلاء الرعايا الغربيين من كابل، فضلًا عن إجلاء الأفغان الراغبين في مغادرة بلادهم، وانتهاءً بتوفير أغلب التجهيزات اللازمة لإعادة تشغيل مطار كابل ومنشآته، في وقتٍ قياسيٍّ نسبيًّا، بهدف انتظام خطوط الرحلات الداخلية والدولية من أفغانستان وإليها، بالإضافة إلى استضافة بعض اللاجئين الأفغان في قطر مؤقتًا إلى حين ذهابهم إلى وجهتهم النهائية.

ونتيجةً للدبلوماسية القطرية النشيطة، واعترافًا بدورها المحوريِّ في ملف أفغانستان، قامت دول عديدة بنقل بعثاتها الدبلوماسية من أفغانستان إلى الدوحة، وتوالت زيارات وزراء خارجية دول غربية (أمريكا، وألمانيا، وبريطانيا، وهولندا، وإسبانيا، وفرنسا) منذ بداية سبتمبر/أيلول2021 إلى قطر، التي تحوَّلت إلى “نقطة عبورٍ إلزامية” بالنسبة إلى جميع البلدان المهتمَّة بالمسألة الأفغانية.

وفي سياق جهود الدوحة لتحصيل أكبر قدر ممكن من الدعم الإقليمي والدولي لأفغانستان، كان لافتًا الجولة الإقليمية لوزير الخارجية القطري، محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، التي شملت ‎إيران و‎باكستان و‎تركيا وروسيا، والتي ختمها بزيارة كابل في 12 سبتمبر/أيلول 2021، بهدف التباحث مع قيادات حركة طالبان، ورئيس حكومة تصريف الأعمال الأفغانية الملَّا محمد حسن أخوند، فضلًا عن الرئيس السابق حامد كرزاي، والزعيم السابق لمجلس المصالحة الوطنية عبد الله عبد الله.

ومن تحليل مجمل تصريحات المسؤولين القطريين، ولقاءاتهم مع وسائل الإعلام الغربية حول المسألة الأفغانية، والتي أجملتها كلمة أمير قطر، تميم بن حمد آل ثاني، أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة (21 سبتمبر/أيلول 2021)، فإن مقاربة قطر لملف أفغانستان ارتكزت على ثلاثة أمور:

أولها: توصيف المسألة في أفغانستان بأنها “ليست مسألة انتصار ولا هزيمة، بل مسألة فشل فرض نظام سياسي من الخارج بعد 20 عامًا”، وتشجيع الأطراف الأفغانية على الانخراط في مصالحة وطنية شاملة، لتجاوز تداعيات الصراعات التي أنهكت البلاد منذ التدخل السوفياتي فيها عام 1979.

وثانيها: التركيز على أهمية استثمار المجتمع الدولي لبراغماتية حركة طالبان، وحاجتها الماسَّة للاعتراف الدولي وتحصيل الشرعية الخارجية، بدلًا من الاستمرار في سياسات عزلها ومعاقبتها، إذ إن هناك حاجة دولية للتفكير في طرق أخرى للتعامل مع حركة طالبان، عبر عملية بناء الثقة، فحركة طالبان تدرك حاجتها إلى المجتمع الدولي، وهو ما يتيح فرصةً للقيام “بعقلنة السياسات التي ستتبعها الحركة. أما تغيير أيديولوجيتها فقد يحتاج إلى سنوات وعقود، إذا حصل أصلًا”، على حدِّ قول لولوة الخاطر، مساعدة وزير الخارجية القطري.

وثالثها: الفصل بين الخلاف السياسي مع حركة طالبان وبين استمرار تقديم المساعدات للشعب الأفغاني، مع التحذير من “حدوث اضطرابات اجتماعية في أفغانستان، تقود في النهاية إلى حرب أهليَّة، إذا لم يساعد المجتمعُ الدولي الشعبَ الأفغاني”، وحثّ المنظمات الدولية -خاصةً الأمم المتحدة- على حشد مواردها وتعبئتها لدعم أفغانستان، تجنبًا لسقوطها في دوامة أزمات مالية واقتصادية واجتماعية جديدة.  

وبعيدًا عن نجاح السياسة القطرية في استثمار “اللحظة الأفغانية” وتوظيفها، فلا شكَّ أن تعقيدات الملف الأفغاني تطرح أربعة تحدياتٍ مستقبلية تتجاوز جدلية الاعتراف الدولي بحركة طالبان واستمرار تدفق المعونات الإنسانية والإغاثية على البلاد، ما يؤكِّد أنه لا يزال مبكرًا التنبؤ بميلاد “أفغانستان الجديدة”، الخالية من الصراعات الداخلية التي توظِّفها القوى الدولية والإقليمية:

أولها: كيفية إدارة حركة طالبان هذه المرحلة الانتقالية، لا سيما ملفات الأمن والاقتصاد وتشكيل حكومة شاملة تستطيع تمثيل وإدارة مجتمع متنوع في إثنياته وأعراقه. وبعبارة أخرى، كيفية تحوُّل حركة طالبان من “تنظيم قَبَلي مقاتل” إلى بنية دولة حديثة، وكيفية إدارة معضلات التحوُّل من فاعلٍ من غير الدول إلى المأسسة والحوكمة ورسم سياسات عامَّة ملائمة لهذه المرحلة.  

وعلى الرغم من رغبة قادة طالبان في بناء أفغانستان علاقاتٍ طبيعية مع غيرها من الدول، فإنه ليس واضحًا كيف يمكن لقطر أن تساعد حركة طالبان في تحقيق هذا المطلب، ناهيك عن صعوبة تفسير إحجام قطر عن الاعتراف بحكومة تصريف الأعمال التي شكَّلتها حركة طالبان، إذا كانت تريد أن تساعدها بالفعل في تحصيل الاعتراف الدولي وتدعيم استقرار البلاد تحت حكم الحركة، التي تنظر إلى قطر بوصفها أفضل “بوابة إقليمية” لتحصيل الشرعية الإقليمية والدولية.

وثانيها: سُبل إخراج أفغانستان من أتون الصراعات الدولية على أرضها، في ظل اشتداد الصراع بين واشنطن وبكين على قمَّة النظام الدولي، وعلى القارة الآسيوية خصوصًا، لا سيما بعد الإعلان عن الشراكة الأمنية بين الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة وأستراليا “أوكوس” (AUKUS)، التي تتيح لكانبيرا الحصول على غواصات هجومية تعمل بالدفع النووي، ما يعني عزم واشنطن على تصعيد التنافس مع الصين في منطقة المحيطَيْن الهندي والهادئ.

وثالثها: كيفية تشكيل “شبكة أمان” إقليمية تدعم استقرار أفغانستان (قد تتكوَّن من ثلاثي قطري تركي باكستاني)، تعمل على التأثير في الموقفَيْن الصيني والروسي، بما يدعم استقرار البلاد، ويمنع انزلاقها إلى صراعات داخلية مجددًا.

ورابعها: قدرة قطر على التأثير في المقاربة الأمريكية خصوصًا، والسياسات الدولية عمومًا، في “محاربة الإرهاب”، التي تميل إلى تصنيفات “استشراقية” و”جوهرانية” و”اختزالية” للجماعات الإسلامية، وهي مقاربة تحفل بتعميمات مفرطة، دون الوقوف على تنوُّع هذه التيارات وتبايناتها الحقيقية.