مما لا شك فيه أن مستقبل الوجود العسكري التركي في محافظة إدلب مرهونٌ باستمرار الاتفاق الروسي التركي بخصوص إدلب، وقد صمد ذلك الاتفاق- على الرغم من هشاشته وتعقيدات تطبيق بنوده- نحو 18 شهراً، منذ توقيعه بين الرئيسين التركي رجب طيب أردوغان والروسي فلاديمير بوتين في الخامس من آذار 2019، وسمّي الاتفاق رسميّاً “ملحق اتفاقية سوتشي لعام ٢٠١٨”، وعُرِف اختصاراً بـ (اتفاق موسكو)، وقد نصّ الاتفاق على وقف إطلاق النار، وإقامة ممرّ أمني بعمق ستة كيلومترات شمال طريق الترانزيت / M4، وستة كيلومترات جنوب الطريق الذي يربط المدن التي تسيطر عليها الحكومة السورية في حلب واللاذقية، ونشر دوريات روسية – تركية مشتركة على طول طريق “إم 4″، ابتداءً من 15 آذار/ مارس، إضافة إلى محاربة الفصائل المصنّفة على قوائم الإرهاب الدولية.

وجاء الاتفاق عقب توتر الأوضاع في إدلب، بسبب مقتل 36 جندياً تركياً في معسكر (بليون) في جبل الزاوية جنوب إدلب؛ حيث ردّت تركيا على ذلك الهجوم بقسوة وقصفت قوات النظام وعدداً من الميليشيات الإيرانية، كما خسر حزب الله اللبناني عدداً من جنوده في تلك المعارك، وأدخلت تركيا جنودها إلى جانب فصائل المعارضة السورية في مواجهة مباشرة ضد قوات النظام، لاستعادة بلدة النيرب الحيوية، بينما فشلت فصائل المعارضة في استعادة مدينة سراقب الاستراتيجية الواقعة على مفترق طريقي M4 وM5، وانهارت الفصائل تنظيمياً، بالرغم من الدعم التركي الكبير لها؛ بسبب شدة القصف الجوي الروسي، واتساع جبهة الهجوم البري لقوات النظام والميليشيات الإيرانية.

وقد وضع الاتفاق تركيا أمام تحديات عديدة عليها أن تتعامل معها، ويأتي في مقدمة تلك التحديات قضية إحداث الممرّ الأمني، وإبعاد فصائل المعارضة عنه، إضافة إلى تعثّر الاتفاق على معايير محددة، بين وزارتي دفاع البلدين لإنجاز الممرّ الأمني، على الرغم من حصر المدّة المحددة بسبعة أيام فقط، أضف إلى ذلك الفشل في عمل دوريات مشتركة بين الجيش التركي والشرطة العسكرية الروسية على كامل طريق M4، ولم تسجل سوى مرات قليلة أتمت فيها الدوريات مهمتها قبل أن توقفها روسيا متذرعة بهجوم الفصائل عليها خصوصاً في المنطقة القريبة من مدينة أريحا.

وتعتبر استعادة الحركة على طريق الترانزيت من أولويات المطالب الروسية، وهذا الأمر يشكّل التحدي الرئيس بالنسبة لأنقرة للحيلولة دون وقوع عمل عسكري في إدلب. إنّ عدم حلّ عقدة الطريق ومسألة الممرّ الأمني- بسبب مراعاة تركيا لحساسية الفصائل من القرار- سيدفع محور النظام بقيادة روسيا إلى الهجوم على إدلب والسيطرة على الطريق، وفرض ممرّ أمني، وسينتج عن هذا الأمر بالتأكيد عزل جبل الزاوية تلقائياً، ولن تكون هناك حاجة إلى الاحتكاك مع القوة التركية الرئيسة المتمركزة في جبل الزاوية، إضافة إلى أن البدء بهجوم -سواء أكان من سهل الغاب أم من سراقب أم من أي خاصرة رخوة- سيؤدي إلى حركة نزوح فورية لعشرات الآلاف من المدنيين المتبقين بجبل الزاوية.

ومن غير المستبعد أن يكون محور الهجوم من بلدة الأتارب باتجاه سرمدا ومعبر باب الهوى مما سيسفر عن شطر مناطق النفوذ التركي عن بعضها، وتحويل ما يتبقى من إدلب إلى جيب معزول عن عفرين وريف حلب الشمالي، ومن ثَم تفقد المعارضة القوة السياسية.

لكن التكتيك الحربي الروسي المتبع بسوريا منذ ٢٠١٥ لا يُرجح ذلك؛ لكونه يعتمد التقدّم وعدم ترك جيوب قلقة خلفه، ولا يمكن توقع هذا الهجوم، إلا إذا كان هدف النظام استعادة السيطرة على كامل المحافظة، وهو التكتيك الذي استخدمه النظام في السيطرة على جيب اللطامنة في صيف عام ٢٠١٩، عندما التفّ على جيب اللطامنة، وسيطر على مدينة خان شيخون، بعد أن لاقى مقاومة شديدة للغاية من قبل فصائل المعارضة، وعلى رأسها جيش العزة المحلي، ولكنّ المقاتلين اضطروا حينذاك إلى الخروج، خشية إطباق الحصار عليهم بشكل كامل.

ومن المعروف أنّ هيئة تحرير الشام بسطت نفوذها الأمني والعسكري على إدلب، بعد أن هاجمت فصائلَ الجيش الحر، بين عامي 2014 و2017، والفصائل الإسلامية السورية في وقت لاحق، ومنذ ربيع 2020 بدأت حرباً على الفصائل الجهادية المتبقية في إدلب التي تعمل خارج مشروعها وتنافسه، ومن ثم تمكّنت الهيئة من تفكيك خلايا تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق والشام” في إدلب بشكل كبير، وما زالت تتعقبها بشكل يومي، كما استطاعت الهيئة أن تمنع الانشقاقات عنها، وضربت بيد من حديد كلّ من حاول شق صفها وتهديد بنيتها، وفي سياق ذلك، اعتقلت القيادي البارز في صفوفها الشيخ “أبو مالك التلي”، قائد قطاع القلمون في الهيئة، بعد إعلانه الانشقاق عنها، وأضعفت تنظيم “حرّاس الدين”، وهو جماعة جهادية صغيرة مبايعة لتنظيم القاعدة، من خلال الهجوم على مستودعاته والسيطرة على نقاط رباطه ضد النظام، وقاومت تشكيل غرفة عمليات لخمس جماعات جهادية (حرّاس الدين، وجبهة أنصار الدين، وفصائل جهادية صغيرة أخرى) وأخيراً طلبت من المقاتلين الشيشان تسليم سلاحهم ومقراتهم على خطوط الجبهات مع النظام، وطالبتهم بمغادرة إدلب.

 على الرغم من كلّ السيطرة الأمنية لهيئة تحرير الشام فإنها لم تحُل دون شنّ هجمات متفرقة ضد الدوريات الروسية التركية المشتركة من قبل مجهولين، ومن غير المستبعد أن تكون الهيئة ضالعة في تنفيذ تلك الهجمات أو بعضها، وسواء أكانت هذه أو تلك فعلى ما يبدو أن هذه الهجمات تصبّ في تحسين شروط الهيئة التفاوضية؛ كونها تسعى للشراكة والحصول على وكالة حماية طريق M4، وهناك من يرى أن الهيئة تحتاج إلى بقاء الجماعات الجهادية، ولا تفضّل القضاء عليها، على اعتبار أن ذلك سيزيد من خسارتها وانتقادها في الأوساط الجهادية، فضلاً عن أن بقاء تلك الجماعات يُعزز الحاجة إلى بقاء الهيئة كشرطي قادر على ضبط الوضع في إدلب، وهذا يعني أن تأثير منافسة الجماعات الجهادية في المشهد الأمني ​​في إدلب يكاد يكون معدوماً، ويمكن القول إن الهيئة هي المتحكّم الفعلي في تلك البقعة.

وبناء على ذلك فرضت هيئة تحرير الشام نفسها كسلطة أمر واقع في محافظة إدلب، وكانت هناك محاولات ظاهرة لتسويقها كجماعة ناضجة سياسيّاً يمكن التعاون معها دولياً، وتوكيلها بضبط الوضع الأمني وتصفية الجهاديين. وقد اعتمدت محاولات تحسين صورة الهيئة وتأهيل زعيمها الجولاني على أربعة عناصر:

1-فكّ ارتباط الهيئة منذ نسختها الثانية التي سُميت “فتح الشام”، بتنظيم القاعدة الدولي.

2-قبول الهيئة التعاون مع تركيا وروسيا، لتنفيذ جزء من “اتفاق موسكو”.

3-عدم وجود أي نشاط أمني وعنيف لجبهة النصرة في البلاد العربية أو الأجنبية، باستثناءات قليلة تتعلق بجمع الأموال.

4- التحوّل التدريجي في شكل الجولاني وهندامه هو وقادة الصف الأول.

ويحاول ملمّعو صورة التنظيم أن يركزوا على الشكل الظاهر في تغيّر السلوك؛ حيث أخذ قادة التنظيم يشذّبون لحاهم، ويلبسون الثياب المدنية الحضرية، بدلاً من الجلابية الأفغانية (التي أصبحت الزيّ الرسمي للمقاتلين العرب خلال رحلة جهادهم في أفغانستان ضد الاتحاد السوفيتي، واعتمدتها القاعدة كزيّ شبه رسمي في مرحلة نشاطها هناك، تقرّباً من المحليين الأفغان وعدم ظهورهم بمظهر المخالف).

ويمكن القول- في العموم- إن ثمت حملة للعلاقات العامة تتوجه إلى إقناع صنّاع القرار الأمريكان بالدرجة الأولى ثم الأوروبيين، بأن الهيئة تقدّمت خطوات عدة، بغية رفع اسم هيئة تحرير الشام عن قائمة التنظيمات الإرهابية في واشنطن، وقد تثمر تلك الجهود في نهاية الأمر، وتؤدي إلى تطبيع ما، ومن ثم إلى اعتماد واشنطن على التنظيم، لمكافحة الإرهاب في شمال غرب سوريا.

ولكن المبالغة في الاهتمام بالدور الأمريكي في إدلب، وإهمال الدور الروسي أو التخفيف من أهميته، يدلّ على قصور بيّن في تلك النظرة؛ حيث راهنت على فرضية مراعاة روسيا للانتشار التركي في إدلب إلى أجل غير مسمّى، وهذا يخالف السياسة الروسية الساعية إلى استعادة كامل المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، بما فيها مناطق النفوذ التركي، وقد حاصرت قوات النظام- في وقت سابق- نقاط المراقبة التركية، وأجبرتها على إعادة الانتشار خارج تلك المناطق.

وفي سياق سعي هيئة تحرير الشام للتطبيع مع الغرب، بدا بوضوح أن قيادة الهيئة تسعى لتطبيع العلاقات مع الغرب عموماً، ومع أمريكا خصوصاً، وذلك على مستويين: الأول أمنيّ عبر قنوات أمنية يقوم بها بعض الوسطاء، ولكن حجم الدور الأمني الذي تقوم بها لصالح الغرب ما يزال يحتاج إلى مزيد من الوقت حتى يُثمر؛ وذلك بسبب تعقيداته وانحصاره بأجهزة أمنية دولية، أما المستوى الثاني فهو من خلال التواصل المستمر مع مؤسسات أمريكية وأوروبية مقربة ونافذة في بلدانها، مثل مجموعة الأزمات الدولية التي كان يرأسها مستشار الأمن القومي لشؤون الشرق الأوسط روبرت مالي، وشبكة فرونت لاين الأمريكية، وقد أكد الجولاني مراراً أن تنظيمه لا يمثّل تهديداً أمنياً على أمريكا والدول الغربية. وكذلك أعرب الشرعي العام للتنظيم عبد الرحيم عطون، في أيلول ٢٠٢٠ عن رغبته في تطبيع العلاقة مع الدول الغربية، ولعلّ ثمرات هذا التواصل تجلّت في تصريح المبعوث الخاص لسوريا جيمس جيفري بضرورة التواصل مع الهيئة التي لا تشكّل خطراً على بلاده، وبناء على ذلك لا يُستبعد أن تكون هناك خطوات أخرى من الطرفين، تؤدي إلى إزالة الجماعة من قائمة الإرهاب، في الأشهر المقبلة.

ومن الأمور التي تعتمد عليها الهيئة، في سياق تحسين صورتها، إبراز دور حكومة الإنقاذ وإظهار إنجازاتها، وهذا ما يجعل مستقبل حكومة الإنقاذ مرتبطاً بمستقبل الهيئة، فإذا نجحت الهيئة في إقناع المجتمع الدولي بقدرتها على تثبيت حكمها وتنفيذ المتطلبات الدولية (ولا يخفى أن الهيئة نجحت في فرض حالة أمنية مستقرة إلى حد كبير، مقارنة بمناطق سيطرة الجيش الوطني في عفرين وريف حلب الشمالي، وذلك بسبب نشاط جهاز الأمن المركزي في تحرير الشام، ضد خلايا داعش، إلى جانب جهد وزارة الداخلية في حكومة الإنقاذ)- إذا نجحت في ذلك فقد يُكتب لكليهما حينذاك البقاء إلى أمد غير معلوم، ولكن الهيئة لا تزال تعاني من مشكلات عديدة، قد لا تنجح في مواجهتها ومعالجتها، فهي أمام امتحان شاق يصعب تجاوزه لا سيّما أن المنطقة مهددة بشنّ هجوم جديد للنظام وحلفائه، يصعب التنبؤ بنتائجه وتبعاته.