السياسات الانتقالية والتحوُّل السلمي في السودان

مقدمة

منذ سقوط نظام “عمر البشير” في أبريل/ نيسان 2019، ظهر المجلس العسكري الانتقالي -بوصفه مؤسسة سيادية- مشرفاً على المرحلة الانتقالية. وقد أجرى عبر مراحل مختلفة، مشاورات مع مكونات ثورة ديسمبر/ كانون الأول 2018، حيث كشفت الملامح الدستورية والسياسية للانتقال السياسي، التي ارتكزت على الأدبيات السياسية للمراحل الانتقالية السابقة، عن التوازن بين تمثيل الفواعل السياسية في إطارين: مجلس السيادة والسلطة التنفيذية، والمجلس التشريعي الانتقالي، والتي تعمل معًا وَفق خارطة طريق.

ويُعَدُّ التوصل إلى الوثيقة الدستورية، أغسطس/ آب 2019، بين المجلس العسكري وتحالف “إعلان الحرية والتغيير” من العلامات المهمَّة في العملية الانتقالية، حيث تشكَّلت من إطارين عسكري ومدني، ومن ثَمَّ ظلت المناقشات متعلِّقة بكيفية الوصول إلى نقطة التوازن بين أطراف العملية السياسية، وخصوصًا ما يتعلَّق بدور الجيش وإصلاح المؤسسات العامة، وتمثيل الأحزاب والحركات خارج الإطار الانتقالي.

وبشكل عام، شهدت المرحلة الانتقالية تغيرات كثيرة، كان أهمها متمثلًا في دخول أطراف جديدة في العملية السياسية، بحيث صارت خريطة الفاعلين مُتغيرة بشكل دائم، بحيث تفكَّك تحالف الحرية والتغيير، فيما عمل مجلس السيادة على توسيع التواصل السياسي مع الحركات السياسية/ المسلحة. وهو سياق أدى للتوصل إلى تفاهمات شكلت ضغطًا أدى إلى تعديل الإطار الدستوري ليشمل كل الديناميات القابلة للانخراط السلمي في المرحلة الانتقالية.

وقد أدت التفاعلات الدستورية والسياسية على مدى عامين إلى إقدام المجلس العسكري على تغييرات واسعة، تمثَّلت في إعادة تشكيل مجلس السيادة بناء على معايير تجاوزت تحالف “الحرية والتغيير” والأحزاب السياسية، وكذل؛ التوجُّه نحو التمثيل الجغرافي حسب الأقاليم، بالإضافة إلى تمثيل الحركات الإقليمية. تشكِّل هذه التوجهات مسارًا نحو العودة إلى السياسات التقليدية، والتباعد مع البنى الحديثة في المجتمع المدني.

ويسعى هذا التحليل إلى مناقشة التفاعلات بين المكونات العسكرية والمدنية، وإلى أي مدى تؤدي إلى التحوُّل السلمي، وهنا تبدو أهمية قراءة مضمون الوثائق المُؤسِّسة للمرحلة الانتقالية وتلك المعبرة عن المكونات المختلفة للوقوف على اتجاهات التوزان أو الهيمنة في العلاقات السياسية، وبما يشمل الفترة من توقيع الوثيقة الدستورية وحتى صدور الاتفاق السياسي في 21 نوفمبر/ تشرين الثاني 2021، بالإضافة إلى بعض بيانات الأحزاب والحركات السياسية، بحيث يساعد تحليل مضمونها في اختبار قدرة محتواها على تلبية متطلبات الانتقال السياسي.

 الحكومة الانتقالية وبناء تحالفاتها

مع بدء المرحلة الانتقالية، ظهر تحالف “إعلان الحرية والتغيير” طرفًا رئيسًا، باعتباره مظلة واسعة للمكونات المدنية، فبعد تركيز الوثيقة الدستورية على ملامح الأزمة السياسية في الدولة منذ الاستقلال، اعتبرت أهداف التحالف وإسهاماته في ثورة 19 ديسمبر/ كانون الأول 2019 مُلزمة للسياسات الانتقالية([i])، ومن ناحية التوجهات العامة للمرحلة الانتقالية،  صاغت المادة 8 نمطَيْن من السياسات الانتقالية: فمن ناحية أولى، ركَّزت على إحلال السلام والتصدي لجذور الأزمة المُزمنة، عندما أشارت إلى تأهيل المناطق المُضارة من الحرب. أما النمط الثاني، فقد ارتبط بقضايا العدالة الانتقالية ومحاسبة النظام السابق، وتمَّ تحويل النص سريعًا للتطبيق، حيث تكوَّنت لجنة إزالة التمكين واتخذت أطرًا تنظيمية وقضائية في مواجهة حزبي المؤتمر الوطني والمؤتمر الشعبي.

وقد أُبرمت سلسلة من الاتفاقيات بين الحكومة السودانية وعدد من الحركات السياسية/ المسلحة، والتي كان من شأنها إدخال أطراف جديدة في العملية الانتقالية، حيث شمل اتفاق جوبا لسلام السودان، 3 أكتوبر/ تشرين الأول 2020، عدداً من الحركات السياسية والعسكرية التي كانت تنضوي تحت تحالف “الجبهة الثورية” والتي لم تكن مُدرجة ضمن الوثيقة الدستورية، وهي: الحركة الشعبية لتحرير السودان قطاع الشمال، وحركة العدل والمساواة، وحركة/ جيش تحرير السودان، وتضمن ثماني قضايا لتنظيم العلاقة بين الحكومة والجبهة الثورية في ما يتعلق بالحكم الانتقالي ومنع العودة إلى الحرب الأهلية([ii]).

وفي سياق توسيع إطار المشاركين في المرحلة الانتقالية، بدأت مفاوضات بين الحكومة والحركة الشعبية/قطاع الشمال (عبد العزيز الحلو)، كانت مُخرجاتها انعكاسًا لمقترحات قدَّمتها الحركة واستجابت لها الحكومة؛ ولذلك اتَّسم المحتوى بفكرة تقاسم الدولة، فلم يقتصر على الحكم والسلطات والصلاحيات في ولايتي جنوب كردفان (جنوب) والنيل الأزرق (جنوب شرق)، ولكنها شملت خمسة مسارات تتعلَّق ببقية مناطق السودان. وقد تشكَّلت العلاقة السياسية بين الطرفَيْن عبر إعلاني مبادئ، تضمَّنا تصورات وسياسات تشمل حياد الدولة في الشأن الديني، وبرامج دمج قوات الحركة الشعبية في جيش قومي، ومعالجة التهميش السياسي والاقتصادي، ورغم وضوح الكثير من التفاصيل فقد تعطل تطوير العلاقات للخلاف على تعريف اللامركزية وطبيعة الفيدرالية([iii]).

وفي هذا السياق، تمثِّل انقسامات الحركة الشعبية الشمالية، في يونيو/ حزيران 2017، تهديدًا للمرحلة الانتقالية، حيث يتصرف جناحاها بطريقة غير متماثلة تجاه الحكومة المركزية والعملية السياسية، بما يحول دون إنضاج الاتفاقيات السياسية، كما يتنافس قسماها -عبد العزيز الحلو ومالك عقار- في طرح صيغٍ متطرفة للعلمانية والفيدرالية والحكم الذاتي وتوسيع السيطرة الميدانية، وقد استطاعت الحركة الشعبية تطوير شروطها تجاه الحكومة في وضع العلمانية ضمن قضاياها المركزية والاحتفاظ بحق تقرير المصير بوصفه حلًّا قائمًا وأخيرًا، مع السعي إلى دمج قواتها في الجيش السوداني، وهنا تبدو اتفاقيات السلام اتفاقيات مرحلية حتى تنضج الظروف الانفصالية([iv]).

وعلى مستويات أخرى، انعقدت تفاهمات ثنائية بين الأحزاب السياسية المتحالفة مع الحكومة والقريبة منها لتوسيع نطاق التحالفات لتشكِّل فاعلًا إضافيًّا في المشهد السياسي، يسعى إلى دعم السلام والفيدرالية ومعالجة الحرمان التاريخي، وضمان تكافؤ الفرص للمشاركة في الحكم الانتقالي، وذلك بجانب الدعوة إلى توسيع اتفاق السلام المُوقَّع في جوبا، حيث يُشكل تجاوز بعض الحركات قيدًا على تحقيق السلام وتوسيع الحاضنة السياسية للمرحلة الانتقالية. لقد سار الحزب الاتحادي نحو توسيع الحوار مع إقليم شرق السودان، لكي يندمج في العملية السياسية ومعالجة مشكلة تهميشه([v]).