العمليات الفلسطينية في الداخل الإسرائيلي وأثرها في مستقبل الصراع العربي الإسرائيلي

مدخل: الموجة الأخيرة من عمليات المقاومة الفلسطينية ليست الموجة الأولى من نوعها التي تواجهها إسرائيل، كما أنها أيضًا ليست الأعنف، وليست أكثرها إيقاعًا للخسائر في صفوف الإسرائيليين. ونقصد بهذه الموجة تحديدًا تلك العمليات التي أوقعت أربعة عشر قتيلًا إسرائيليًّا بالإضافة إلى المصابين، والتي نُفذت باستخدام أسلحة نارية، بداية من عملية بئر سبع ثم عملية الخضيرة في الثاني والعشرين والسابع والعشرين على الترتيب من شهر مارس/آذار الماضي، وكلتاهما نُفذتا على يد عناصر من فلسطينيي الداخل، وأعقبهما عمليتا بني باراك ثم شارع ديزنجوف في تل أبيب، اللتان نُفذتا على يد فلسطينيين من مدن الضفة يومي التاسع والعشرين من مارس، ثم السابع من أبريل/نيسان الحالي.

وتختلف هذه الموجة عن الموجات السابقة في نقاط ملحوظة؛ كاختلاف الواقع الإقليمي وما صاحبه من تطبيع سياسي، مُعلَن وغير مُعلَن، بين إسرائيل وعددٍ من الدول العربية، ومواكبة ذلك مع جمود مفاوضات السلام منذ عدَّة سنوات، واختلاف الظرف الداخلي في إسرائيل إما بالصعود الكبير لليمين وسيطرته على أكثر من 70 مقعدًا من مقاعد الكنيست، مما يؤثر في طبيعة القرار السياسي الإسرائيلي، أو بمشاركة حزب عربي في الائتلاف الحاكم الهشِّ في إسرائيل، واختلاف الظرف الداخلي لدى الفلسطينيين بضعفٍ واضحٍ للسلطة الفلسطينية، وتصاعد مكانة حركات المقاومة، يضاف إلى ذلك تعقُّد الأوضاع الدولية وتراجع مكانة القضية الفلسطينية في خارطة الاهتمام الدولي.

هذه العوامل مجتمعة وغيرها هي التي تجعل من الضرورة بمكانٍ الإجابة على كثيرٍ من الأسئلة مثل: هل انقضت هذه الموجة، أم أنها في بداياتها؟ وكيف تقرأ إسرائيل أسبابَ هذه الموجة؟ وكيف يمكن أن تؤثر في الوضع الداخلي في إسرائيل سياسيًّا واجتماعيًّا؟ وهل أخطأت إسرائيل بتجميد التفاوض مع السلطة الفلسطينية، وإعطاء الأولوية لصالح التطبيع والعلاقات الخارجية؟ وهل تؤدي موجة العمليات الحالية لانعكاسات سلبية على السلطة الفلسطينية؟ وكيف يمكن أن تخدم حركات المقاومة؟ وهل يضرُّ دخول تنظيم داعش على الخط بمستقبل القضية الفلسطينية؟

تحاول هذه الورقة الإجابةَ عن هذه الأسئلة وغيرها من خلال تحليل ما تقدِّمه مراكز الدراسات الإسرائيلية، واستطلاعات الرأي، ومقالات الخبراء، وعناوين الأخبار. كما تحاول استشراف التصور المستقبلي المحتمل وما يمكن أن تُسفر عنه الأحداث، وذلك من خلال عدَّة نقاط، أولاها القراءة الإسرائيلية لهذه الموجة من العمليات، ثم دور تنظيم داعش في الهجمات وإن كان ذلك مصدر قلق إسرائيلي، ثم تأثيرها في الوضع السياسي الداخلي في إسرائيل، ثم الانتقال للإجابة عن سؤال إن كانت إسرائيل قد أخطأت بتجميدها لمفاوضات السلام، ثم الحديث عن جدوى استمرار السلطة الفلسطينية بالنسبة إلى إسرائيل.

  كيف تقرأ إسرائيل هذه الموجة؟ 

هناك ثلاث نقاط واضحة تظهر من تعامل مراكز الدراسات الإسرائيلية وخبراء الأمن عند حديثهم عن الموجة الحالية من العمليات الفلسطينية: إحداها التمييز بين العمليات الإرهابية التي تنطلق من أساس قومي أو أساس ديني، والثانية أن هذه العمليات ظهرت نتيجة مشاكل اجتماعية وسياسية يعيشها الفلسطينيون سواء في الضفة وغزة أو في الداخل الإسرائيلي، والأخيرة هي أن العمليات الحالية فردية الطابع حتى وإن كان لأصحابها انتماء حركي.

وطبقًا لشاجيت يهوشع، المحاضرة في الجامعة العبرية وجامعة ريخمان والمتخصِّصة في شؤون الإرهاب وعلم الإجرام، فإن الهجمات الأخيرة -وخاصةً تلك التي وقعت في بئر سبع والخضيرة المنسوبتَيْن لتنظيم داعش- تختلف اختلافًا جوهريًّا عن الهجمات التي عرفتها إسرائيل في الماضي؛ فالهجمات التي تعرضت لها إسرائيل في ثمانينيات القرن الماضي كانت ذات طابع قومي، وهذا كان سَمْت العمليات الإرهابية على المستوى العالمي؛ حيث كان السعي للتحرُّر من الاحتلال أو من السلطات ذات القومية المغايرة. لكن مع تسعينيات القرن الماضي، ومطلع القرن الحادي والعشرين، تغيَّر الأمر على يد تنظيم القاعدة، ثم على يد تنظيم داعش في العقد الثاني من القرن الحالي، وفيها أصبح الإرهاب دينيًّا في أساسه، يعمل أفراده بشكل مستقل ومنفرد في أغلب الأحيان، وليس بالضرورة أن يكون وراءه دوافع اجتماعية[i].

فإذا عدنا للعمليات التي كان الفلسطينيون ينفذونها في تسعينيات القرن الماضي ومطلع القرن الحالي، فسوف نلحظ أنه إلى جانب الدافع الإسلامي للعمليات التي نفذتها المقاومة حينها، فإن الدافع القومي كان أيضًا حاضرًا فيها بقوة، مع تفاوتٍ بين حركات المقاومة في مدى تأثُّرها بالدافعَيْن حسب المرجعية الفكرية التي تأسَّست عليها هذه الحركات، سواء كانت مرجعية إسلامية أو قومية. كانت العمليات في ذلك الوقت موجَّهةً من حركاتٍ تصفها إسرائيل بالإرهاب، كحركة حماس أو فتح أو الجهاد الإسلامي، وهذه العمليات كانت تهدف إلى تغيير أوضاع اجتماعية أو سياسية، وعادةً ما يكون لها تأييد كامل من الحركة التي ينتمي إليها المنفذون، وكذلك تأييد الأغلبية الكاسحة من المناطق التي أتوا منها.

وعلى هذا الأساس، ترى شاجيت أن موجة العمليات الأخيرة داخل إسرائيل تنتمي للنوع الثاني، فغالبًا لن تكون هناك صلة مباشرة لمنفذيها بأعضاء التنظيمات الفلسطينية الأخرى، وأغلبهم يتحرك منفردًا بناءً على أيديولوجياته الجهادية. وإن كان ذلك لا يمنع من أن العمليات التي تنطلق من دوافع قومية لا تزال قائمةً ومزدهرةً في إسرائيل داخل المجتمع الفلسطيني الذي لا يزال مستمرًّا في نقل مفهوم النكبة عبر الأجيال. كما أننا لا يمكن أن نغفل دور الوضع الاجتماعي في تأجيج هذه الموجة[ii].

وهناك تركيز إسرائيلي واضح على دور العنصر الاجتماعي في العمليات الحالية، وإبراز أن منفذي العمليات الأخيرة ينتمون لبيئة عربية تعاني أزمة هوية بحكم أنهم وُلِدوا وكبروا في إسرائيل لكنهم ينتمون للأقلية العربية التي تشعر بازدواجية المعايير تجاهها، مما يعمق الإحساس بالتمييز والإقصاء، ويغذي العداء تجاه المجتمع الإسرائيلي، وهذا بالطبع يقود كثيرًا منهم في النهاية إلى اتخاذ مواقف عنيفة ومتطرفة ضد الدولة، يشعرون من خلالها أنهم جزء من شيء كبير وقوي.

وتميز إسرائيل بين الهجمات المنسوبة لفلسطينيين من عرب 48 (عمليتي بئر سبع والخضيرة) والهجمات التي نفذها فلسطينيون من الضفة، فالأولى وقعت بدافع ذاتي دون توجيه من قيادة، أو دعم تنظيمي، وغالبًا دون تأييد كامل من عائلاتهم أو الأوساط المحيطة بهم؛ حيث تمكَّن المنفذون بمفردهم من الحصول على السلاح وتحديد الأهداف، ثم التنفيذ، وإذا كانت ثمة مشاكل اجتماعية دفعتهم إلى ذلك، فإن التعامل يجب أن يكون وَفْقَ إجراءاتٍ تجمع بين الردع والوقاية، ومعالجة المشاكل الاجتماعية التي تعالج مشاكل الهوية والانتماء. أما عمليتا بني باراك وديزنجوف، فيجب أن ننظر إليهما على أنهما محاكاة للعمليات التي سبقتهما، ورغبة في استغلال زخمهما، وهما وإن اختلفتا عن العمليات السابقة في وضوح الأثر التنظيمي بانتماء منفذي العمليتَيْن لإحدى الحركات الفلسطينية، إلا أنه رغم هذا الانتماء جرى التنفيذ بشكل ذاتي ومستقل، وإن ظلَّ الدافع في أساسه اجتماعيًّا وسياسيًّا وليس شخصيًّا[iii].