تطور العلاقات التركية الإسرائيلية حول ملف تصدير الغاز

مقدمة: يتزامن تقارب العلاقات التركية الإسرائيلية -بعد سنوات من التوتُّر والقطيعة- مع أزمة الطاقة الأوروبية التي اندلعت مع الغزو الروسي لأوكرانيا، مما استدعى البحث عن حلول سريعة، ويا للمصادفة، فقد شكَّلت حقول الغاز الإسرائيلية أحد هذه الحلول، مما جعل موضوع الغاز واحدًا من الملفات الثنائية للبحث المشترك بين تركيا وإسرائيل، من خلال قدرته على تجاوز توتُّر علاقاتهما، خاصةً أن تل أبيب لم تُخفِ رغبتها في استخدام البنية التحتية التركية لتصدير الغاز إلى أوروبا لتعويض النقص الحاصل في الغاز القادم من روسيا.

يترافق هذا التوجُّه الإسرائيلي مع الوضع الاقتصادي المضطرب في تركيا، مما دفعها إلى استئناف المحادثات مع الولايات المتحدة وإسرائيل ودول الخليج لبحث موضوع الغاز الطبيعي، لكن المسألة الأساسية على المحك تتمثَّل في اعتماد خط أنابيب الغاز التركي بحيث يكون الناقل الرئيس للغاز إلى أوروبا، كبديل للغاز الروسي، الذي يسعى الأوروبيون إلى تقليل اعتمادهم عليه، ومن المتوقَّع أن يكون مصدر الغاز هذا من إسرائيل بصفة أساسية، مما سيُسهِم بدوره في إذابة الجليد القائم بين أنقرة وتل أبيب.

وقد نشأ هذا الموضوع في محادثات الرئيس الإسرائيلي يتسحاق هرتسوغ، في اليونان وقبرص في فبراير/ شباط، وتركيا في مارس/ آذار، وكذلك في القمة الثلاثية التي شارك فيها رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق نفتالي بينيت، مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، والرئيس الإماراتي محمد بن زايد في مارس/ آذار في شرم الشيخ، عقب اندلاع الحرب الأوكرانية، وبدا أن الجميع مهتمون بالانضمام إلى استكشاف وتطوير حقول جديدة في جميع المناطق البحرية من دول شرق البحر المتوسط​​، واختصار طرق نقل الغاز الذي تنتجه إلى أوروبا.

تفاصيل وتطورات

عرفت علاقات إسرائيل وتركيا صعودًا وهبوطًا على مرِّ السنين، وبعد أحداث القافلة البحرية إلى غزة عام 2010، تراجعت العلاقات إلى أدنى مستوى تاريخي، وعاد السفيران إلى بلديهما، واندلعت مظاهرات لديهما ضد الدولة الأخرى، ومنذ ذلك الحين عرفت العلاقة جملةً من التقلُّبات غير المستقرة، حتى وصل العام 2013، وشهد اعتذار رئيس الوزراء السابق بنيامين نتنياهو للرئيس رجب طيب أردوغان عن حادثة مافي مرمرة، وعادت العلاقات إلى طبيعتها، ولكن عند اندلاع حرب غزة الثالثة في صيف 2014، انزلقت العلاقات الى منحدرٍ أكثر صعوبة، وصولًا الى الموقف التركي المؤيد لمسيرات العودة على حدود غزة في عام 2018.

اليوم، يبدو أن الجانبَيْن قرَّرا طيَّ صفحة هذه التوترات، من خلال زيارة هرتسوغ إلى أنقرة مؤخرًا، وحديثه مع أردوغان عن التعاون مع إسرائيل في مجال الغاز الطبيعي، مع وجود تقدير إسرائيلي مفاده أن الرغبة التركية في دفء العلاقات لا تنبع من الاعتراف بقيمتها، بل لأنها في وضعٍ اقتصاديٍّ صعب، وهي تبحث عن مصادر جديدة للاستثمار، وتريد تحسين صورتها في عيون الولايات المتحدة، ومهتمَّة بالغاز الإسرائيلي لتعزيز موقعها الاستراتيجي.

ومنذ أن التقى أردوغان مع هرتسوغ، بدأ الجانبان محادثات استكشافية حول خطة لبناء خط أنابيب غاز بينهما، ورغم الطلب الهائل على الغاز اليوم في أوروبا، فإن العوائق التي تحول دون تنفيذ مثل هذا المشروع ما زالت مرتفعةً للغاية، مع العلم أن فكرة إنشاء خط أنابيب غاز من إسرائيل إلى تركيا قد نوقشت في الماضي مباشرة بعد اكتشاف حقلي الغاز الكبيرين تامار وليفياثان في عامي 2009-2010، لكن أحداث أسطول مافي مرمرة إلى قطاع غزة قد أضرت بالعلاقات.

في التفاصيل، فإن خط الأنابيب الإسرائيلي التركي تبلغ تكلفة بنائه لمسافة 550 كم مليارًا ونصف المليار دولار، مقارنة بستة مليارات دولار لخط الأنابيب EastMed من إسرائيل عبر اليونان إلى أوروبا، مما سيشكل جائزة كبيرة لتركيا التي تستعد لإجراء الانتخابات الرئاسية في يونيو 2023، وتبحث عن حلٍّ لارتفاع أسعار الطاقة فيها، خاصةً بعد رفع سعر الغاز بنسبة 50٪ وسعر الكهرباء بنسبة 28٪، وقد يوفر هذا الخط الجديد عاملًا آخر يُضاف إلى ميزانية الدولة.

الفرص القائمة

تتمثَّل الفكرة التي يتم الترويج لها في كلٍّ من إسرائيل وتركيا في استخدام البنية التحتية لأنابيب الغاز التركية القادمة إلى أوروبا، ونقل كميات كبيرة من الغاز الإسرائيلي عبرها، رغم أن هذا الاحتمال قد يعقد الصراع بين تركيا واليونان وقبرص على المياه الاقتصادية المُطلَّة على شمال شرق البحر المتوسط​​، التي تسمح بربط نقل الغاز عبر خط الأنابيب التركي.

وفي الوقت ذاته، يحمل خط أنابيب الغاز بين إسرائيل وتركيا سلسلةً من الفرص الاقتصادية والاستراتيجية لهما، وقد أسهم دفء علاقاتهما مؤخرًا في إعطاء حياة جديدة لهذا المشروع الذي تم الحديث بشأنه سابقًا، لا سيما بالنظر للتكاليف المرتفعة المتوقَّعة في مشروع خط أنابيبEastMed ، والحاجة الأوروبية لبدائل الغاز الطبيعي، ولم تُخفِ تركيا سعادتها بإعادة الولايات المتحدة نظرها في دعمها لمشروع خط أنابيب الغاز السابق بين إسرائيل واليونان وقبرص، مما قد يجعل من المشروع التركي الإسرائيلي ذا فرصٍ أفضل، ومن شأنه أن يقوِّي علاقات إسرائيل وتركيا استراتيجيًّا واقتصاديًّا.

وبالإضافة إلى ذلك، تخطِّط تركيا لتوريد الغاز الطبيعي المسال عن طريق البر، حيث ستشتري غازًا طبيعيًّا مسالًا من السوق العالمية، ثم تزوِّده إلى الدول الأوروبية من خلال نظام خطوط الأنابيب الخاص بها، مع العلم أن موقعها مثاليٌّ لكونها مركزًا للطاقة، وهي جسر بريٌّ بين غرب آسيا وأوروبا، وعبرها يرتبط الشرق الأوسط وبحر قزوين والبحر الأسود بجنوب أوروبا، وعلى عكس إسرائيل، فلا يتعيَّن على تركيا مد خطوط أنابيب تحت الماء للوصول إلى أوروبا، حيث تتمتَّع بميزة تكلفة في نقل الغاز إلى أوروبا، وتريد استخدامه لتصريف كل تدفُّق الغاز من المنطقة إليها.

في هذه الحالة، فإن الرغبة التركية في تصريف الغاز من إسرائيل، والمرور عبر خط الأنابيب لديها، من شأنه أن يخدمها في تعزيز قوتها الاستراتيجية، وهذا يعني أن الخطة التركية تتمثَّل في إشباع نفسها بالغاز، ونقله إلى أوروبا، أي إنها ليست بحاجة للغاز الإسرائيلي، وحتى لو خطَّطت لقطع الغاز الروسي، وهي لا تفعل ذلك، فلديها موارد كافية لتحل محلَّ الغاز الروسي دون إسرائيل، خاصةً أنه في عام 2023 ستنتج تركيا الغاز الطبيعي من الحقل الشاسع الذي اكتشفته في البحر الأسود، وسيوفر 20-30٪ من استهلاك الغاز التركي، أي إنه سيكون قادرًا على استبدال واردات الغاز من روسيا بالكامل.

المخاطر المتوقَّعة

في الوقت ذاته، يتخوَّف بعض الإسرائيليين من كون خط أنابيب الغاز بين إسرائيل وتركيا قد يصبح أداة ضغط عليهم، ومن ثَمَّ فإن هناك مَن يقترح اشتراط تنفيذ المشروع مع تركيا بعددٍ من المتطلبات التي من شأنها أن تقلِّل قدرتها على استخدامه كأداة ضغط على إسرائيل: أولها أن تتحمَّل بعض تكاليف إنشاء خط الأنابيب، وثانيها ألَّا يكون خط الأنابيب المذكور هو طريق التصدير الوحيد أو المفضَّل لإسرائيل، وثالثها اتخاذ هذه الخطوة بموافقة شركاء إسرائيل الاستراتيجيين في شرق البحر المتوسط، وهم اليونان وقبرص ومصر؛ ورابعها حتى لو لم يأخذ الأتراك الغاز، فسيظل عليهم دفع ثمنه.

أكثر من ذلك، فإن هناك مواقف إسرائيلية أكثر تشددًا، مفادها أنه ليس لدى إسرائيل أيُّ سبب للترويج لخط أنابيب غاز مع تركيا، بغض النظر عن الشروط التي توافق عليها، في ظل وجود عدَّة أسباب رئيسة: أولها التوجُّه الاستراتيجي، بزعم أن تركيا تضع نفسها كقوة غير منخرطة في المنظومة الغربية، بل تعمل بشكل مستقل في الساحة الدولية، ولعل إبراز “عضلاتها” تجاه فنلندا والسويد مؤخرًا -الساعيتَيْن إلى الانضمام لحلف الناتو- أحدثُ مثال على أنها لا ترى نفسها جزءًا من المعسكر الغربي، مما سيؤدي في النهاية إلى زيادة احتكاكها بالغرب، لا سيما في ساحة البحر المتوسط، مع مزاعم إسرائيلية عن تهديد الأتراك لليونان، وتقويض سيادة قبرص، والتنافس على النفوذ مع فرنسا.

ثاني هذه الأسباب يتزامن مع تكثيف تركيا العسكري، بما في ذلك استخدام القوة البحرية، مما يطرح علامات استفهام حول رغبة إسرائيل في أن تربط نفسها بدولة تحمل بوضوحٍ تطلعات الهيمنة في البحر المتوسط​​، مع العلم أن الأتراك يحصلون على معظم احتياجاتهم من الغاز من روسيا بنسبة 58% بما قيمته 30 مليار متر مكعب، ومن إيران بما نسبته 19٪ بقيمة 10 مليارات متر مكعب.

من وجهة نظرٍ إسرائيلية قد تبدو مغايرةً للخط الرسمي السائد، فإن خط أنابيب الغاز الإسرائيلي إلى تركيا قد لا يكون مفيدًا على الأرجح لإسرائيل، لكنه يستحقُّ العناء بالنسبة إلى تركيا التي ترى في تصدير الغاز الطبيعي لأوروبا وسيلةً لزيادة نفوذها على الساحة الدولية، خاصةً أنها تعمل كمركز للغاز لأذربيجان وروسيا، ومن خلالها تزودان جنوب أوروبا به، سواء عبر خط أنابيب تيرك ستريم الروسي، أو عبر خط أنابيب عبر الأناضول الذي يمدُّ الغاز من أذربيجان.

وفي الوقت نفسه، فإذا تم بناء خط أنابيب تركي، فسيؤثر ذلك حتمًا في طرق أخرى لنقل الغاز الطبيعي الإسرائيلي، وفي ظل أن تركيا لديها نظام خطوط أنابيب متصل بأوروبا، فلن يكون لدى الاتحاد الأوروبي أيُّ سبب لإنفاق أمواله على خط أنابيب EastMed إذا تم تصريف إسرائيل للغاز عبر نظام خطوط الأنابيب التركي.

ومن المحتمل أن يكون التصدير عبر خط الأنابيب التركي أرخصَ من تصدير الغاز الإسرائيلي عبر مصر، وفي هذه الحالة سيعرض الأتراك توسيع خطوط الأنابيب، وستجد إسرائيل نفسها -دون تخطيط- معتمدةً على تركيا فقط، وهذا مكمن خطرٍ في نظر بعض الأوساط الإسرائيلية، التي تطالب بتعزيز رؤيتها الاستراتيجية لمنطقة البحر المتوسط ​​وأوروبا الشرقية، وهي السوق التي تتنافس فيها إسرائيل مع تركيا.

وفي الوقت ذاته، فإن التقارب الإسرائيلي التركيا شرطٌ ضروريٌّ للاتفاق على صادرات الغاز الإسرائيلية إلى تركيا، ولن تتمكَّن الشركات الاسرائيلية -التي تحاول الترويج لصادراتها من الغاز- من تحقيق هدفها دون تطبيع العلاقات الثنائية، على اعتبار أن إنجاز اتفاقية تجارية بشأن توريد الغاز من إسرائيل إلى تركيا سيتطلب تفاهمًا بين حكومتيهما.

خاتمة

رغم ما يظهر أنه تحمُّس إسرائيلي تركي حول مدى جدوى المشروع من الناحية الاقتصادية، فإن هناك تبايناتٍ وتعقيداتٍ هندسية يصعب إخفاؤها تحيط بالمشروع، صحيح أنه يمثِّل إذابةً تدريجيةً للجمود الحاصل في علاقاتهما، ويُعَدُّ فرصةً نموذجيةً لهما، لكن استثمارات الغاز طويلة الأَجَل في العادة، ويصعب حصاد ثمارها بالتطورات الفوريَّة، وصحيح أن أوروبا تريد الغاز من إسرائيل اليوم، لكن الأخيرة ليس لديها بنى تحتية للإنتاج والنقل تسمح لها بزيادة الصادرات بشكل كبير، في حين أن المصلحة التركية واضحةٌ في مواجهة ظروف التضخم المرتفع، والسقوط المريع لليرة التركية.