يتطلب فهم قرار نقل السفارة الأميركية إلى القدس الذي أصدره الرئيس الأميركي دونالد ترامب تحليلًا متزنًا للتيارات التي أدَّت إلى اتخاذه، قبل تولي ترامب منصبه بوقتٍ طويل. وبصفتي مُراسلًا حقَّق في “عملية السلام” المزعومة وأرَّخها، وغطى أخبار القدس على مدار الأعوام الخمسة عشر الماضية؛ فقد آلمتني مشاهدة هذا النزاع وهو يزحف ببطء نحو الكارثة الحالية[1]. تتماشى مناورة ترامب حيال القدس مع استراتيجيةٍ هادفة تطورت في عهد الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الابن. إذ قال كارل روف العقل السياسي للرئيس بوش رافضًا الانتقادات الموجهة إلى السياسات الأميركية بعد الحادي عشر من سبتمبر/أيلول في حوارٍ تليفزيوني:

“نحن الآن إمبراطورية، وحين نتحرك، نخلق واقعنا الخاص. وبينما تدرسون الواقع الذي صنعناه، بتروٍ وتأنٍ كما تشاؤون، سنتحرك مرة أخرى، ونخلق واقعًا جديدًا يمكنكم دراسته هو الآخر، وهكذا ستسير الأمور. نحن صانعو التاريخ. وأنتم – جميعًا – ستكتفون بدراسة ما نفعله”[2] .

لاحظتُ بعد تولي ترامب رئاسة الولايات المتحدة أنَّ الكثيرين في بلاد الخليج العربي يرون في ترامب رئيسًا جيدًا للعلاقات – التجارية على الأقل[3] – بين الولايات المتحدة والمنطقة، بصفته رجلَ أعمالٍ. وتشبث البعض بوهم أن ترامب – شأنه شأن الرؤساء السابقين – كان يقول كلامًا فارغًا بشأن نقل السفارة إلى القدس، ربما من أجل استرضاء قواعده اليمينية.

كشفت الأحداث زيف الافتراضين كليهما. فمع أنَّ الكونغرس مرَّر قانون سفارة القدس عام 1995، كانت لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية “أيباك” – وهي أقوى جماعات الضغط الموالية لإسرائيل في الولايات المتحدة – تضغط من أجل تمرير القانون لعقود[4]. ويسترجع مارتن إنديك – الذي كان يعمل لحساب أيباك قبل شغله منصب سفير الولايات المتحدة إلى إسرائيل – مرتين في لقاءٍ معه كيف كتب “مذكرته الأولى عن نقل السفارة إلى القدس في عام 1982″؛ لأنَّ “حكومة مناحم بيغن في إسرائيل كانت تضغط من أجل تنفيذ الفكرة حينها”[5]. وكما اتضح مرارًا، صنع إنديك مسيرته المهنية عبر تجربة عددٍ من الأفكار الإسرائيلية على حساب العرب، وتقديم أغلبها على أنَّها أفكار “أميركية”[6]. لم يكن السلام هو النتيجة ولا القصد من هذه الأفكار؛ إذ كان الفلسطينيون يخرجون دائمًا بأقل مما دخلوا به، ولغرابة الأمر كان الإسرائيليون يحصلون على المزيد من المكاسب.

كانت هذه العملية سمةً مميزةً للوساطة الأميركية المنحازة التي قدمها إنديك ورئيسه ورفيقه دينيس روس في الفترة ما بين عامي 1992 و2001. إذ اعترف نائب روس في عام 2005 بأنَّ “كثيرًا من المسؤولين الأميركيين المُشاركين في عملية السلام العربية الإسرائيلية، وأنا من ضمنهم، تصرفوا كمحامين لإسرائيل، ينسقون مع الإسرائيليين ويُرضونهم على حساب نجاح مفاوضات السلام”[7]. وأكد دينيس روس في عام 2016 هذا الطرح بعدها، مُعترفًا بالاتهامات التي وجهها له العرب لأعوامٍ طوال، حين قال: “لسنا في حاجة إلى مناصرة الفلسطينيين. نحن في حاجة إلى مناصرة إسرائيل”[8]. ونتائج طريقة “محامي إسرائيل” هذه، من الناحية العملية، كانت تدمير المصالح الفلسطينية والإسلامية، بزعامة فريقٍ من المسؤولين الأميركيين اليهود في غالبيتهم الساحقة، حتى وإن اختلفت توجهاتهم السياسية حيال إسرائيل (إمَّا دعم حزب العمل وإمَّا حزب الليكود). عاد روس وإنديك في عهد الرئيس أوباما إلى الساحة، متولين مناصب دبلوماسية رفيعة من أجل التأثير في السياسة تجاه إسرائيل، بزعم أنَّهم “يكترثون” للقضية بدلًا من تحقيق أي نجاحاتٍ فعلية فيها. ونسبة النجاحات إلى الإخفاقات التي شهدتها عملية السلام تحت إدارتهما لا تحتاج إلى تعليق. لاحظ كيف كان عدد المستوطنين في الضفة الغريبة 200 ألف مستوطنٍ فقط حين بدأت عملية أوسلو في عام 1993. وبعد قُرابة ربع قرن، لا نشهد غياب السلام وفقط، وإنَّما أكثر من 600 ألف مستوطن إسرائيلي يعوقون تحقيقه[9].

كانت القدس ضحيةَ تلك العملية، وخاصةً بسبب زحف إسرائيل على الأحياء العربية في القدس الشرقية، مدمرةً المنازل ومقيمةً مستعمراتٍ مقصورة على اليهود[10]، وانهماك الحكومات الإسرائيلية المتتابعة في عمليات التنقيب بالقرب من المسجد الأقصى[11]. اتجه الإسرائيليون إلى علم الحفريات كسلاحٍ مبتكر ضد مُطالبات المسلمين بالقدس. ويسعى الإسرائيليون عن طريق الحفر حول المسجد الأقصى وبالقرب منه – عابرين في عملياتهم بحقبٍ عديدة من التاريخ الإسلامي – إلى العثور على بقايا أثرية تنتمي حصريًا إلى التاريخ اليهودي، تساعدهم على تبرير سرقة الأرض واستعمار القدس. يفعلون هذا برغم مخاطر أعمال التنقيب على المباني القائمة، ومن ضمنها الجدار الذي يقوم عليه مجمع المسجد الأقصى.

وفي المفاوضات حول وضع القدس، عمِل الدبلوماسيون الأميركيون المتعاقبون كمفتشين فاسدين يُعاونون مُختلسًا على الإفلات بما سرق. ويروي روس في مذكراته أنَّه قال لإنديك في قمة كامب ديفيد لعام 2000: “يُستحسن أن نفكر في طرق تعويض الفلسطينيين عما سيفشلون في الحصول عليه من الإسرائيليين بخصوص القدس”، مُقترحًا أن يقول الأميركيون إنَّ “السفارة الأميركية ستُبنى في حي أبو ديس، في الجزء الواقع في النطاق الإداري الحالي للقدس الشرقية”[12]، كـ”رسالةٍ كبيرة موجهة إلى ياسر عرفات”.

إنَّ الترويج لحي أبو ديس باعتباره عاصمة فلسطين المستقبلية ومركزها كان فكرةً حاول روس تمريرها بقوة في تلك القمة. وإنَّ تعديلاته المكتوبة بخط اليد في مسودة الاقتراح الأميركي بقمة كامب ديفيد – بإصرارٍ من إسرائيل – أثارت غضبًا عارمًا من جانب عرفات، لدرجة أنَّها أفقدت باقي إجراءات القمة مصداقيتها وضروريتها، وكان هذا سببًا من أسباب الفشل الكثيرة[13].

وفي حين كان الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد متعنتًا بشأن استعادة كل مترٍ مربع من مرتفعات الجولان المحتلة في مفاوضاته مع إسرائيل، أظهر عرفات مرونةً كبيرة مع إسرائيل بخصوص الأراضي الفلسطينية وملف اللاجئين، غير أنَّ القدس كانت بوضوح خطًا أحمر. ونقل البعض عن عرفات أنَّه قال قبل موته: “لو كانوا أعطوني القدس والمسجد الأقصى، لكُنت أعطيتهم أي شيء”[14]. ومَنْ درس عرفات كما درسته، يعرف أنَّه كان قطعًا يعني ما يقول.

لا ينطبق هذا على الطاقم الذي جاء بعد وفاة عرفات المُريبة في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2004[15]. إذ ضعُفت الروابط العربية والإسلامية مع القدس في أثناء المفاوضات التي قادها محمود عباس. وهاجت السلطة الفلسطينية وماجت في عام 2010 حين بنت إسرائيل 1600 وحدة استيطانية جديدة في مستوطنة رمات شلومو بالقدس الشرقية العربية، والتي أُعلن عنها فور وصول نائب الرئيس الأميركي جو بايدن في زيارة إلى المنطقة. وتجاهلت إسرائيل الغضبة الفلسطينية من جانبها كما لو كانت ضوضاءَ فارغة، واستمرت في البناء.

وحين وقعت في حوزتي بعد أقل من عام ما سُميت بـ”أوراق فلسطين” – أكبر تسريب لسجلات المفاوضات السرية في الصراع العربي الإسرائيلي – فهمتُ السبب حينها. قرأتُ في تلك السجلات تفريغاتٍ مُذهلة تشي بخيانةٍ غير مسبوقة للقدس، هذه المرة من جانب مسؤولين كبار بالسلطة الفلسطينية. إذ تفاخر أحمد قريع رئيس الوزراء السابق في اجتماعٍ مع تسيبي ليفني وزيرة الخارجية الإسرائيلية السابقة في عام 2008 قائلًا: “اقترحنا أن تضُم إسرائيل كل مستوطنات القدس فيما عدا جبل أبو غنيم (مستوطنة هار حوما). إنَّها أول مرة في التاريخ نتقدم فيها بمثل هذا المُقترح، فقد رفضنا هذا في كامب ديفيد”[16]. واشتكى صائب عريقات كبير المفاوضين الفلسطينيين في اجتماعٍ مع مسؤولين بإدارة أوباما في عام 2010 من أن الإسرائيليين لا يأخذون العرض على محمل الجدية، قائلًا: “العرض الموجود في هذه الورقة يمنحهم أكبر أورشليم في التاريخ اليهودي، وعودة عددٍ رمزي من اللاجئين، ودولة منزوعة السلاح … ماذا يمكنني أن أقدم أكثر من ذلك؟”[17].

وبينما ألمح مسؤولو السلطة الفلسطينية إلى إسرائيل أنَّ مساحاتٍ واسعة من القدس ستصير في النهاية إليهم، تظاهروا علنًا بالعكس. وتقبلت إسرائيل من جانبها هذه التنازلات الفلسطينية، وكثفت جهودها لتهويد الأحياء العربية وتطهيرها، مدركةً أنَّها يمكن أن تحقِّق بذلك “أمرًا واقعًا على الأرض” يمنحها السيادة دون الاضطرار إلى إعطاء الفلسطينيين أي شيء. وفي غياب أي مفاوضاتٍ ذات معنى – أو حتى مفاوضات لا تتزعمها الولايات المتحدة، التي تلعب في الحقيقة دور المحرض أو المفاوض الإسرائيلي الإضافي – فإنَّ طريقة “فرض الحقائق على الأرض” صارت أكثر منطقيةً لتتبعها إسرائيل وداعموها الأميركيون.

ويكفي القول إنَّ المسألة كانت مسألة وقتٍ منذ أشعلت أيباك فتيل قنبلة القدس قبل أن يأتي سياسي يتخذ قرار التنفيذ، بالأخص مع تحول السياسة الداخلية الأميركية إلى اليمين، وكذلك نظيرتها الإسرائيلية. رأى العديد من الرؤساء الحكمةَ في عدم اتخاذ القرار، من كلينتون إلى بوش الابن إلى أوباما، ووقعوا جميعًا وثائقَ تنازلٍ يعلقون بها إجراءات نقل السفارة كل ستة أشهر، مُجادلين بأنَّ تنفيذ ما ينص عليه قانون سفارة القدس سيحدّ من قدرة الرئيس الأميركي على مُمارسة مهام السياسة الخارجية، وهو ما وافق عليه الكونغرس.

وأعلن الرئيس كلينتون في عام 1995 – وهو العام نفسه الذي أقر فيه الكونغرس تشريع سفارة القدس – “حالة طوارئ وطنية”، مُصدرًا القرار التنفيذي رقم 12947، الذي يقضي بتجميد ممتلكات المنظمات والجمعيات الخيرية الإسلامية الفلسطينية وغيرها التي اتهمها الرئيس بالتهديد بـ”عرقلة عملية السلام في الشرق الأوسط”[18]. واستهدف كل شيء في عهد كلينتون وبوش وأوباما اجتثاث الحق الفلسطيني في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، رغم أنَّه حقٌ مكفول بموجب القانون الدولي[19].

تدفقت في تلك الأثناء مليارات الدولارات الأميركية إلى تل أبيب من واشنطن لتعزيز أدوات القمع والقتل الإسرائيلية، التي توصف بالـ”دفاعية” اتساقًا مع غرض إسرائيل. وبينما حُظِر في عهد كلينتون إرسال المال إلى الفلسطينيين لمساعدتهم على مقاومة الاحتلال الإسرائيلي الوحشي، توسع الحظر في عهد بوش ليشمل “الدعم المادي” بكافة أنواعه، بما يشمل مجرد إمداد جماعات المقاومة الفلسطينية بالمشورة القانونية. ولا عجب في ذلك، ففي عهد أوباما و”وسيطه النزيه” المزعوم جورج ميتشل، حُوصر الفلسطينيون ودُفِعوا دفعًا إلى مقاومة إسرائيل بأكثر الطرق سلمية: الدعاوى القضائية. ومرةً أخرى وجدتُ في أوراق فلسطين، وحتى في تسريبات الجاسوس الجنوب إفريقي بعدها، أدلةً تشي بأنَّ السلطة الفلسطينية تنازلت عن تحقيقٍ بالمحكمة الجنائية الدولية يتناول جرائم الحرب في عدوان 2008 و2009 على قطاع غزة، استجابةً لضغوطاتٍ أميركية إسرائيلية شديدة[20].

في الوقت نفسه، تظل الأبواب مفتوحةً أمام الأميركيين على مصراعيها لدعم بناء المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية المحتلة وتمويلها، في انتهاكٍ للسياسات الأميركية وربما حتى القانون. وما يزيد الدعم المادي الأميركي للمستوطنين الإسرائيليين في سرقتهم للأراضي الفلسطينية سوءًا – وهو فعلٌ عنيف بطبيعته – هو أنَّ ذلك الدعم يأتي على حساب دافع الضرائب الأميركي الغافل؛ إذ إنَّ التبرعات الموجهة إلى الجمعيات الخيرية المسجلة في الولايات المتحدة مُعفاة من الضرائب. ومع أنَّ صحيفة نيويورك تايمز الأميركية ومنابر إعلامية أخرى وثقت ذلك الانصياع الأميركي للجمعيات الخيرية المموِّلة للمستوطنات الإسرائيلية في الخارج، فإن ذلك الانصياع يستمر في طريقه[21]. وفي حين تبذل الولايات المتحدة قصارى جهدها لمنع المقاتلين الأجانب من الانضمام إلى حركات المقاومة أو المنظمات الإرهابية في الشرق الأوسط، لا يواجه الأميركيون أي عائقٍ أمام ارتداء البذلة العسكرية الإسرائيلية، وارتكاب أعمال عنف لا توصف ضد الفلسطينيين، ضد طرفٍ ليست الولايات المتحدة في حربٍ معه ظاهريًا[22].

قمع المقاومة الفلسطينية، وزيادة الدعم الأميركي للمستوطنات المقصورة على اليهود، وتقويض المطالب العربية والإسلامية؛ كان من المقرر لهذه الأمور أن تصبح خصائصَ مميزةً للسياسة الأميركية ما إن تتولى إدارة ترامب السلطة. وما يُسمى بـ”حظر المسلمين” الذي واجهته الحكومات العربية بصمتٍ مُخجل لم يكُن إلا أول الغيث في عام 2017. ومع أنَّ ترامب ترك أغلب المناصب الرفيعة في وزارة الخارجية فارغةً طوال العام، فإنَّه لم يضِع وقتًا في مسألة إسرائيل وفلسطين. مهَّد ترامب لقرار القدس في الأشهر الأولى من رئاسته حين عيَّن ثلاثة من المساعدين اليهوديين المتشددين، ليضرب وتدًا في قلب المصالح العربية والإسلامية. ووظيفتهم بِخلاف العناوين والألقاب البراقة كانت هي تسريع إرساء “واقع جديد” على الأرض لإسرائيل، واقع من شأنه أن يُسيء إلى جامعة الدولة العربية في القاهرة ويُغضبها، ويتركها تشجب وتدين وتستنكر.

كانت مهمة جاريد كوشنر زوج ابنة ترامب هي التوصل إلى “الصفقة النهائية” وقيادة الجهود الأميركية. ولم يرفض الفلسطينيون قبوله مبعوثًا أميركيًا رغم صلاته الشخصية والعائلية بنتنياهو وأعوامٍ من التبرع للمستوطنات الإسرائيلية غير القانونية[23]. بل إنَّ أحد مسؤولي السلطة الفلسطينية أخبرني قبل بضعة أسابيع أنَّ كوشنر “مستمعٌ جيدٌ” كما اتضح له. (سرٌ صغير: في الولايات المتحدة، يُرجِع المسؤولون إنصات كوشنر وقلة حديثه لا إلى حُسن السريرة، بل إلى الجهل المُطبق). ويُعاونه جيسون غرينبلات “المبعوث الخاص المكلف بالمفاوضات الدولية”، الذي ترقى من عمله السابق كمحامٍ بمنظمة ترامب. ومؤهلات غرينبلات للوساطة بين الإسرائيليين والفلسطينيين – إن كنت ترى أنَّ هناك أية مؤهلات – قد تكون مستمدةً من كتابٍ نشره في عام 2015 بعنوان “Israel for Families:  An Adventure Guide in 12 Days”، أو “إسرائيل للعائلات: دليلك للمغامرة في 12 يومًا”. يُمكن الاستدلال على منهجه في التعامل مع قضايا الصراع العربي الإسرائيلي الشائكة مِن خلو الكتاب تمامًا من أي إشارةٍ إلى فلسطين أو الاحتلال. وأخيرًا، فإن رجل ترامب على الأرض هو ديفيد فريدمان، السفير الأميركي إلى تل أبيب (أم هي القدس الآن؟). كتب فريدمان في عام 2017 مقالًا افتتاحيًا يقول فيه إنَّ حل الدولتين كان “خدعة”[24]. ولم يكتفِ فريدمان بإرسال الأموال إلى المستوطنات اليهودية غير القانونية، بل شغل منصب مدير جمعية أصدقاء بيت إيل الأميركيين، التي ضخَّت ملايين الدولارات على مدار الأعوام إلى مستوطنة بيت إيل في الضفة الغربية[25].

مثل ترامب، اتفق كوشنر وغرينبلات وفريدمان على إخبار الأجانب أنَّ الولايات المتحدة ستنقل سفارتها إلى القدس. واستقبل المسؤولون السعوديون المستبدون كوشنر في عام 2017، وكانوا – وفقًا لرويترز – “على وفاقٍ” مع جهود “السلام” من جانب ترامب، رغم مزاعمهم اللاحقة بالعكس[26]. وكما كتبتُ مؤخرًا، فمن الواضح أنَّ هؤلاء “القادة” أنفسهم في السعودية والإمارات يحملون في قلوبهم كراهيةً لإيران تفوق حبهم للإسلام والقضية الفلسطينية متمثلةً في القدس[27].

تفهم إسرائيل والولايات المتحدة أنَّ العواقب الرسمية ستكون ضئيلةً، مع الغياب المُفجع للوحدة الإسلامية والعربية على المستوى الرسمي. بل إنَّ القرار سيستفز حركات المقاومة والجماعات الإرهابية التي تستهدف قتل الإسرائيليين والأميركيين، وأي هجماتٍ تُنفَّذ لن تجني سوى تعزيز السردية الأميركية الإسرائيلية التي طورها ترامب (ووافقت عليها الرياض)؛ سردية “محاربة التطرف” و”طرده”[28]. حتى الاحتجاجات المتفرقة، مثل التظاهرات أمام السفارة الأميركية في بيروت، لن تُزعج ترامب كثيرًا.

ما زال الكثيرون لا يرون أنَّ تصرفات ترامب تُظهر العديد من اضطرابات الشخصية المُميِّزة لمُشعلي الحرائق. مثل هؤلاء المجرمين المضطربين، يجد ترامب لذةً في التواجد في مسرح الجريمة، ومشاهدة الدراما والصدمة التي خلقها. وكلما غطت الحريقَ كاميراتٌ أكثر، كان هذا أفضل. حتى وإن حاول إقناعك بأنَّه يكره وسائل الإعلام، فإن ترامب يقضي في الواقع عدة ساعات كل يومٍ يشاهد تغطية وسائل الإعلام له، وفقًا لصحيفة نيويورك تايمز الأميركية[29].

لم يكُن قرار ترامب عُدوانًا على الدين الإسلامي والقضية الفلسطينية فقط، بل انتهاكًا لأساسات القانون الدولي التي قامت عليها الأمم المتحدة، على سبيل المثال لا الحصر المادة الثانية من ميثاق الأمم المتحدة التي تحظر “استعمال القوة في السيطرة على الأراضي”. ومهدت إدارة ترامب لاتخاذ القرار قبله بأسابيع، حين هددت بطرد بعثة منظمة التحرير الفلسطينية إلى واشنطن[30]. فكِّر في الأمر: بدلًا من تخويف منظمة التحرير الفلسطينية ودفعها إلى الاعتقاد بأنَّ القنوات الدبلوماسية مع الولايات المتحدة ستنقطع تمامًا، قرر ترامب أن هذا ليس أمرًا كبيرًا بما يكفي، ومضى ليعبث بالقدس. انسَ كل التنبيهات التي ألحقها بالقرار، من أنَّ الولايات المتحدة “لن تتخذ موقفًا بشأن الحدود النهائية”[31]. إنَّ الموقف عبَّرت عنه بأفضل تعبيرٍ زلةٌ فرويدية من لسان نيكي هالي السفيرة الأميركية إلى الأمم المتحدة في حوارٍ تليفزيوني حين قالت: “لقد أزال الرئيس القدسَ من مائدة المُفاوضات[32]. هذا ما فعله؛ لأنَّ الناس لطالما قالوا إنَّنا نستخدم القدس كورقة مساومة”.

نهاية الوساطة الأميركية، وإفلاس السلطة الفلسطينية وجامعة الدول العربية والأمم المتحدة نفسها – ولا ينبغي أن ننسى انحياز المنظمة وعملها على تحصين إسرائيل من المساءلة على جرائم الحرب والاستعمار – تفتح الباب أخيرًا أمام احتمالاتٍ جديدة واعدة. فبقراره حيال القدس، وضع ترامب حمضًا على جثة حلِّ الدولتين. وبينما تتحلل الجثة سريعًا – عبر “واقع أميركا الجديد” – يمكن أن يلتفت العالم الآن إلى اللعبة الحقيقية: حركة “المُقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات”، والمعروفة اختصارًا بـ”BDS”. إنَّ إسرائيل تدرك أنَّ المقاطعة هي التهديد العالمي الحقيقي[33]، وتعمل أيباك جاهدةً على تمرير قوانين تحظر مقاطعة إسرائيل في الولايات الأميركية الخمسين[34].

لكن هذا لن يمنع بقية دول العالم من المقاطعة، أو يقلل من أثرها، فقد سرَّع ترامب من عملية تحول إسرائيل إلى دولةٍ منبوذة تمامًا. وهو يستحق منا الشكر حين نرى الأمر من هذا المنظور. ستعود القدس إلى أصحابها الشرعيين، ومن سيسلمها لهم هي الحشود المناهضة للفصل العنصري التي ستتوحد في كل قارات العالم – من اليهود والمسيحيين والمسلمين – لا النُخب السياسية والمؤسسات الفاشلة التي أنتجت هذه الفوضى.

الهوامش:

[1] See Clayton Swisher. The Palestine Papers: The End of the Road? London:  Hesperus Press, 2011.  Also, Swisher, Clayton. The Truth About Camp David: The Untold Story About the Collapse of the Middle East Peace Process New York: Nation Books, 2004.
[2] Ron Suskind.  “Faith, Certainty and the Presidency of George W. Bush.”  New York Times Magazine, Published on:  October 17, 2004.
[3] Ben Walsh, Ryan Grim, and Clayton Swisher.  “Jared Kushner Tried and Failed to Get A Half-Billion Dollar Bailout from Qatar,”The Intercept, Published on July 10, 2017.
[4] Mearsheimer, John, and Walt, Stephen. The Israel Lobby and U.S. Foreign Policy. (New York: Farrar, Straus and Giroux, 2008), p 127.
[5] Amir Tibon.  “From Bill Clinton to Trump:  The Never-ending Story of the Jerusalem Embassy Move,” Haaretz, Published on December 6, 2017.
[6] From “Martin Indyk on Israel and the US”, Al Jazeera, Published on September 11, 2016, Last Accessed on December 12, 2017, http://www.aljazeera.com/programmes/headtohead/2016/06/transcript-martin-indyk-israel-160613082408332.html.
[7] Aaron David Miller.  “Israel’s Lawyer,” Washington Post, Published on May 23, 2005.
[8] Phillip Weiss. “Dennis Ross tells American Jews:  ‘We need to be advocates for Israel’—and not for Palestinians.” Mondoweiss,Published on: June 17, 2016, Last Accessed on: December 11, 2017. http://mondoweiss.net/2016/06/american-advocates-palestinians/
[9] Noura Erekat.  “Thank you President Trump, you have finally ended US double-speak on Middle East ‘peace,’” Middle East Eye,Published on December 8, 2017, Last accessed on:  December 11, 2017.  http://www.middleeasteye.net/columns/palestinians-should-have-long-changed-rules-game-582609215
[10] Clayton Swisher.  “Jerusalem Palestinians fear eviction by Israel.  Al Jazeera English.  Published on April 17, 2009.  Last Accessed on:  December 11, 2017, https://www.youtube.com/watch?v=-cAeIvbMgFg
[11] Clayton Swisher.  “Excavations deepen Israel-Palestine divide.”  Al Jazeera English.  Published on April 16, 2009.  Last accessed on:  December 11, 2017.  https://www.youtube.com/watch?v=5qJAZOnN9o4
[12] Dennis Ross. The Missing Peace. (New York: Farrar, Straus, and Giroux, 2004), 681.
[13] Clayton Swisher. The Truth About Camp David: The Untold Story About the Collapse of the Middle East Peace Process New York: Nation Books, 2004.  266-270.
[14] Kurtzer, et. al. The Peace Puzzle:  America’s Quest for Arab-Israeli Peace, 1989-2011. (Washington DC:  Cornell University Press, 2013), 137.
[15]  See Clayton Swisher.  “What Killed Arafat”. Al Jazeera Investigates. Published on: July 4, 2012. Last Accessed on: December 11, 2017, https://www.youtube.com/watch?v=KBT7o0piZ8E
Also, Clayton Swisher.  “Killing Arafat”. Al Jazeera Investigates. Published on: November 10, 2013. Last Accessed on: December 11, 2017, https://www.youtube.com/watch?v=qr2DULWPzAs
[16] “Trilateral Meeting Minutes”, Jerusalem-Inpal Hotel (Larome), June 15, 2008.  Palestine Papers, Al Jazeera English.  Last Accessed on December 11, 2017, http://transparency.aljazeera.net/files/2825.PDF
[17] “Meeting Minutes,” Dr Saeb Erekat- Amb. David Hale, January 15, 2010.  Palestine Papers, Al Jazeera English, Last Accessed on December 11, 2017, http://www.ajtransparency.com/files/5012.PDF
[18] Clayton E. Swisher. The Truth About Camp David: The Untold Story About the Collapse of the Middle East Peace Process. (New York: Nation Books, 2004), 141.
[19] Mya Guarnieri.  “Palestinian right to fight occupation not only moral, but legal as well.”  +972Magazine, Published on December 22, 2011, Last Accessed on December 11, 2017.  https://972mag.com/on-the-palestinians-legal-right-to-fight-the-occupation/30855/
[20] Clayton Swisher.  “Spy Cables:  Abbas and Israel ally against 2009 UN Probe. Al Jazeera English, Published on February 23, 2015, Last Accessed on December 11, 2017.  http://www.aljazeera.com/blogs/middleeast/2015/02/spy-cables-abbas-israel-ally-2009-probe-goldstone-palestine-report-gaza-guardian-150222142146258.html
[21] Jim Rutenberg, Mike McIntyre and Ethan Bronner.  “Tax-Exempt Funds Aid Settlements in West Bank,” New York Times. Published on July 5, 2010.
[22] Clayton Swisher.  “America’s Israeli Jihadist,” Huffington Post, Published on June 23, 2014.  Last Accessed on December 11, 2017.  https://www.huffingtonpost.com/clayton-swisher/americas-israeli-jihadist_b_5611869.html
[23] Jodi Kantor.  “For Kushner, Israel Policy May Be Shaped by the Personal.”  New York Times, Published on February 11, 2017.  Last Accessed on December 11, 2017.  https://www.nytimes.com/2017/02/11/us/politics/jared-kushner-israel.html
[24] David Friedman.  “End the two-state narrative.”  Arutz Sheva 7, Published on August 2, 2016, Last Accessed on December 11, 2017.  http://www.israelnationalnews.com/Articles/Article.aspx/18368
[25] Karen DeYoung.  “Trump picks a supporter of West Bank settlements for ambassador to Israel. “ Washington Post, Published on December 15, 2016, Last Accessed on December 11, 2017.  https://www.washingtonpost.com/world/national-security/trump-picks-a-supporter-of-west-bank-settlements-for-ambassador-to-israel/2016/12/15/1a50c03c-c32e-11e6-9a51-cd56ea1c2bb7_story.html?utm_term=.681698a0b892
[26] Samia Nakhoul, Stephen Kalin, Suleiman Al-Khalidi.  “Despite furor over Jerusalem move, Saudis seen on board with U.S. peace efforts,” Reuters, Published on December 8, 2017, Last Accessed December 11, 2017.  https://www.reuters.com/article/us-usa-trump-israel-saudi-insight/despite-furor-over-jerusalem-move-saudis-seen-on-board-with-u-s-peace-efforts-idUSKBN1E22GR
[27] Clayton Swisher. “Losing Jerusalem to focus on Iran,” TRT World, Published on December 7, 2017, Last Accessed on December 11, 2017.  https://www.trtworld.com/opinion/losing-jerusalem-to-focus-on-iran-12926
[28] “President Trump’s Speech to the Arab Islamic American Summit” White House, Published on May 21, 2017, Last Accessed on December 11 2017. https://www.whitehouse.gov/the-press-office/2017/05/21/president-trumps-speech-arab-islamic-american-summit
[29] Maggie Haberman, Glenn Thrush and Peter Baker.  “Inside Trump’s Hour-By-Hour Battle for Self-Preservation,” New York Times, Published on December 9, 2017, Last Accessed on December 11, 2017.  https://www.nytimes.com/2017/12/09/us/politics/donald-trump-president.html?_r=0
[30] Dov Lieber. “Mission Impossible: How an old US law could scotch peace talks before they start,” Times of Israel, Published on November 20, 2017, Last Accessed on December 11, 2017.  https://www.timesofisrael.com/mission-impossible-how-an-old-us-law-could-scotch-peace-talks-before-they-start/
[31] “Statement by President Trump on Jerusalem,” White House, Published on December 6, 2017, Last Accessed on December 11, 2017.  https://www.whitehouse.gov/the-press-office/2017/12/06/statement-president-trump-jerusalem
[32] Nikki Haley.  Interview on Face the Nation, Published December 10, 2017,  Last Accessed on December 11, 2017.  https://www.cbsnews.com/news/transcript-nikki-haley-on-face-the-nation-dec-10-2017/
[33] Clayton Swisher.  “The Lobby,” Al Jazeera Investigates, Published on January 7, 2017.  Last Accessed on:  December 11, 2017.  http://www.aljazeera.com/investigations/thelobby/
[34] MJ Rosenberg.  “Democrats Join Republicans in Bill Criminalizing Speech Critical of Israel,” Huffington Post, Published on July 27, 2017, Last Accessed on December 11, 2017.