الثورة المصرية وارتداد الاستبداد: قراءة تحليلية تفكيكية

لماذا أعادت السلطوية إنتاج نفسها في مصر؟ أو لماذا نجحت في دَحْر الثورة؟

تأتي الإجابة السائدة على هذا الأمر من دراسات التحوُّل الديمقراطي، وهي دراساتٌ معتبرة شهدت ذروتها بعد ثورات شرق أوروبا وانتصار الديمقراطية الليبرالية على مستوى عالمي، بعد انهيار المعسكر الشرقي دولة تلو الأخرى. وتقول الفرضية السائدة في تحليل الواقع المصري: إن ما أعاد إنتاج السلطوية في مصر هو انفجار المجال السياسي وخيانة الديمقراطية من قِبَل الأطراف الفاعلين في الصراع السياسي، وتجلَّى هذا في الانقلاب السياسي أولًا على نتائج الانتخابات التي جاءت بالإخوان المسلمين إلى الحكم، ثم الانقلاب العسكري على الحكم المدني الديمقراطي بقيادة الجنرال عبد الفتاح السيسي ومباركة القوى السياسية العلمانية. ويتبنَّى قطاع واسع من الإسلاميين هذا الفرضية، ومعهم بعض منظري دراسات ما بعد الاستعمار، مثل جوزيف مسعد. ويضيف أصحاب هذه الفرضية العنصر الإقليمي والعالمي كبُعْد آخر للصراع، الذي قام بحسمه لصالح قوى الثورة المضادة. ويُختزل هذا البُعْد في الإمارات والسعودية كقوى للثورة المضادة في المنطقة، وتحديدًا في الإمارات العربية المتحدة. ويضاف لهذا الأمر بُعْد أيديولوجي عميق، وهو أن جُلَّ ما حدث كان مؤامرةً كبرى للإطاحة بحكم الجماعات الإسلامية: كانت إسرائيل المخطط الرئيس لها، وكانت الإمارات المُموِّل، وكان الجيش المصري مجرَّد أداة تنفيذية.

وهناك رأي آخر يقول: إن ما حدث كله لم يكن ثورة، بل مجرد هبَّة شعبيَّة دفع بها الجيش للخلاص من مبارك وأسرته، وإيقاف محاولة التوريث وتهميش مبارك للجيش من الماكينة السياسية في الحكم. وفي هذه الرواية نحن أمام انقلابٍ عسكريٍّ صريح، ولم تكن أدوات إخراجه هي الدبابات فقط، ولكن الجماهير أيضًا. ويأتي هذا الرأي من بعض القطاعات اليسارية والليبرالية لا الإسلاميين فقط.  

وبعيدًا عن حديث المؤامرة، هناك بعض الوجاهة في كلٍّ من الطرح القائل بأن انفجار المجال السياسي استتبع خلفه إعادة إنتاج للسلطوية، والرأي الأخر القائل بوجود انقلاب عسكري. وللاشتباك مع كليهما، يجب النظر سريعًا في بعض ملامح الثورة المصرية نفسها.    

تحالف طبقي واسع – تحالف طبقي ضيق

كان حكم الرئيس حسني مبارك أعزل طبقيًّا عشيَّة الثورة، وذلك بسبب الانقسام الحاد داخل النظام السياسي لحكمه، الذي يتمثَّل -أولًا- في تصدُّع الحزب الحاكم بين الحرس الجديد (بقيادة أحمد عز وجمال مبارك) والحرس القديم الذي تشكَّل من البيروقراطية القديمة ورجال الدولة المخضرمين وأعيان ووجهاء الصعيد والدلتا، أو من مجموعات جديدة نسبيًّا (تعود إلى ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، من العائلات التي تشكَّلت حول البلطجة وفرض النفوذ). ويتمثَّل -ثانيًا- في الاضطراب بين مبارك والجيش، الذي تعود جذوره إلى نكسة 1967، ثم محاولة السادات تنحية الجيش من القيادة السياسية المباشرة وتقوية وزارة الداخلية، ثم عقب ذلك محاولة مبارك توريث الحكم لنجله جمال مبارك واحتدام المنافسة بين رجال الأعمال الجدد والجيش على الصعيدين السياسي والاقتصادي.

وليس المقصود هنا أن النظام العام في مصر لم يكن لديه حلفاء طبقيون، ولكن نظام مبارك السياسي لم يكن لديه حلفاء طبقيون على استعدادٍ لخوض غمار القمع معه بشكل اجتماعي وسياسي مباشر، وما يتطلبه الأمر من مواجهاتٍ ميدانية عنيفة وإعادة التمترس داخل المدن (مسرح العمليات الثوري في عام ٢٠١١). وهنا توافرت عدَّة عناصر لنجاح الثورة: تصدُّع كبير داخل بنية النظام السياسي، وغياب قوى اجتماعية قادرة على الدفاع عن النظام، وغياب الشرعية المؤسسية والاجتماعية اللازمة لممارسة العنف المطلوب لدحر الثورة. ومن ثَمَّ شنَّت قطاعات من الطبقة الوسطي المدينية في 25 يناير 2011 هجومًا كبيرًا على النظام وذراعه اليمنى المتمثلة في الداخلية. ثم اتسعت رقعة الصراع أكثر فأكثر، وشنَّت الطبقة الوسطى -ومعها قطاعات كبيرة من الطبقة الوسطى الدنيا والشرائح الأفقر في المجتمع- هجومًا كاسحًا على النظام، وسقطت الداخلية سريعًا جرَّاء هذا الهجوم الكثيف والعنيف في بعض المناطق.

 وعلى الرغم من التمايز الطبقي والجيلي الواضح منذ الخامس والعشرين من يناير حتى أغلب مسارات الثورة وصيرورتها، يمكن القول: إن الوعي الطبقي بما حدث لم يكن شديد الحضور، ولم يكن هناك خطاب طبقيٌّ واضح حول ما يحدث في الثورة، وقد أخذت الثورة خطابًا وطنيًّا فضفاضًا حول مصر والديمقراطية والكرامة ومكافحة الفساد والظلم بشكل مجرَّد أو مُنصبٍّ على انتهاكات الداخلية. وليس المقصود هنا أن نضع الفقراء في مواجهة النظام، بل تفصيل ما حدث طبقيًّا، بمعنى مَن هؤلاء الفقراء؟ ولماذا انتفضوا ضد النظام؟ ومَن انتفض من الطبقة الوسطى والطبقة الوسطى الدنيا ولماذا؟ وقد اقتصر الأمر على تسمية ما حدث بثورة شباب مُحب لمصر.

لم يكن الجيش حاضرًا في مشهد الخامس والعشرين من يناير، ولكنه حضر بقوة مع انهيار الداخلية في الثامن والعشرين من الشهر نفسِه. كان حضور الجيش واضحًا منذ اليوم الأول: لم ينزل الجيش للقمع ولا للاشتباك مع الثورة، بل للحضور داخل الأحداث والسيطرة على مؤسسات الدولة والسيطرة الميدانية بشكل موسَّع. وقد رُسِمَ على الدبابات شعارات إسقاط النظام ويسقط حسني مبارك. وسواء كُتبت هذه الشعارات على الدبابات في طريقها إلى ميدان التحرير، أو أنها خرجت من مقراتها حاملة هذه الشعارات، فقد كانت الرسالة واضحةً: لن يصطفَّ الجيش مع مبارك ضد الثورة. وما يُغفله الكثيرون بأثرٍ رجعيٍّ هو أن الجيش كان مرتبكًا مثل الجميع. فلم يكن لديه خطَّة واضحة، ولم يكن يعلم مسبقًا بحجم ما قد يحدث ولا تداعياته. وهو أمر لا يمكن إخفاؤه، فالجيش مكوَّن في أصله من قطاعاتٍ واسعة من المجندين من الجامعات، الذين ينتسبون بشكلٍ واسعٍ للطبقة الوسطى والوسطى الدنيا في مصر، أما الأكثر فقرًا وغير المتعلمين فيتمُّ تحويلهم إلى قطاعات الأمن المركزي بالداخلية. وقد كان كلُّ هؤلاء -سواء كانوا في مواقع قيادية نسبيًّا كضباط احتياط أو مجرَّد مجندين أو ضباط محترفين من الأكاديميات العسكرية المتخصِّصة- في حالة ارتباك من الحدث. وعلى الرغم من جود خبرة تاريخية للجيش في التعامل مع أحداث شبيهة، مثل انتفاضة الخبز في عام ١٩٧٧، أو الأمن المركزي في عام ١٩٨٦، فقد ساد المشهد ميدانيًّا الكثير من الارتجال، وكانت الحشود ترشد مركبات الجيش للطرق والمؤسسات في بعض الأوقات. وأخذ الجيش مدة طويلة ليتعرَّف إلى قوى الثورة وفهم مكوناتها بعيدًا عن الإخوان المسلمين وبعض الأحزاب المنظَّمة. ولكن الجيش كان له موقف واضح من الأحداث، وموقع بنيوي أصيل منها. فلم يكن الجيش أحد الداعين للثورة ولا طرفًا فاعلًا أصيلًا في اندلاعها، ولكنه كان يريد ذلك التمايز عن نظام مبارك، كما أنه قد رأى بشكلٍ واضحٍ عدم فاعلية هذا النظام وشيخوخته وموقفه غير المتناغم مع المؤسسة بسبب صعود جمال ونخبته. وبحلول الثلاثين من يناير، وربما قبل ذلك، كثَّف الإخوان من انخراطهم في الحدث الثوري، واتضح كذلك وجود قوى ثورية ذات مطالب ديمقراطية راديكالية نسبيًّا، وانخرطت أيضًا الأحزاب السياسية التي اتسمت بموقفٍ متحفظٍ ومترقبٍ مثل الوفد والتجمُّع.

أصبحت الأمور واضحةً من الناحية الطبقية والمؤسسية والسياسية. فعلى المستوى الطبقي -كما أشرت- سيطر شباب الطبقة الوسطى على الحيز المديني ومعهم قدر لا بأس به من الطبقات الدنيا. أما على المستوى المؤسسي، فقد انتهى أمر الحزب الوطني سريعًا كقوى فاعلة لها حضور واضح قادر على لعب دور ما، والجيش غير مصطفٍّ مع مبارك، والداخلية منهارة ومبعثرة، والوزارة مفتقرة لأيِّ فعالية تُذكَر، ورجال الأعمال التابعون لجمال مبارك في حالة هلع وانتظار لمصيرهم. وأما على المستوى السياسي، فلم يكن ثمة جديد، فنفس تركيبة حركة كفاية وحملة دعم البرادعي والحملة الوطنية للتغيير كانت قد نزلت إلى الأرض في أقصى صورها وقوتها وحضورها الرمزي والطبقي والسياسي، مع انخراط وحضور مكثَّف لجماعة الإخوان المسلمين.

وكان الجديد والمباغت في الأمر هو الحضور القوي للشبكات الثورية التي تشكَّلت على هامش الحراك السياسي الواضح منذ عام ٢٠٠٥، والتي أصبحت أكثر قوةً في المناورة والتعبئة والحشد بفضل بعض الخبرات النضالية والتقنية، وبفضل وسائل التواصل التي أتاحت لها مساحاتٍ جديدةً من تعبئة مواردها، وشن خطاب احتجاجي كبير، وتعضيد التواصل بين أبناء الطبقة الوسطى. وعلى الرغم من عدم ضخامة عدد مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي في ذلك الوقت، فإن تأثير هذه الشبكات عبرها بفضل قدرة الواقع الافتراضي على الوصول إلى قاعدةٍ أوسع من مستخدميه، جعلهم في مقدمة الحدث وقادرين على التأثير في مجرياته بما يمتلكون من أدوات. كذلك فهذه الشبكات لم تكن على الواقع الافتراضي فقط، فأبناء هذه الشبكات هم من قادوا التظاهرات والحراك بأنفسهم وبشكل مباشر على الأرض، وقاموا بالتخطيط وتوزيع أنفسهم جغرافيًّا على المدينة، وخلق الشعارات والهتافات اللازمة للحدث في ذلك الوقت. ثم تزامن ذلك مع أمرين شديدي الأهمية: موجة واسعة من الإضرابات العمالية، وانخراط قطاعات مهنية واسعة مثل الأطباء والمحامين (وهذه القطاعات تحديدًا تضمُّ أيضًا طيفًا واسعًا من الطبقة الوسطى والوسطى العليا). ويمكن القول: إن ثورةً وقعت بفضل ما يسميه الفيلسوف الفرنسي لويس آلتوسير بالتضافر المُحدد، والتناقض الحاد الذي جعل النظام السياسي في أضعف حلقاته وتوقيتاته الزمنية والتاريخية؛ حيث تعثَّر في إحداث نقلة جذرية في بنية حكمه ربما لو كانت حدثت ما كان للثورة أن تنجح بهذه السهولة في مراحلها الأولى.

ومنذ الثامن والعشرين من يناير وما بعده ونحن نشهد عملية ثورية شديدة التركيب والتناقض والتنافر بين عناصرها. فهناك ثورة بداخلها قوى راديكالية، ولكن بلا أُفق سياسي واجتماعي واضح المعالم، وقوى شديدة الرجعية ومحافظة متمثّلة في القوى الإسلامية، وفي أفضل الأحوال ذات طابع إصلاحي محدود، وانقلاب عسكري سيتضح معالمه بحدود ١١ فبراير. أما القوى الرأسمالية في مصر، فكانت تحت نيران هجومٍ عنيفٍ من قِبَل الثورة، واشتدَّ بعد اندلاعها بسبب التصاق هذه القوى بجمال مبارك ووصمها بالتبعية له. ولكن بعض هذه القوى متمثلة مثلًا في عائلة ساويرس لم تعادِ الثورة، وأخذت موقفًا بين تأييد الثورة في بعض جوانبها وكبح زمامها عن طريق عرض نفسها من خلال أفق الإصلاح والتفاوض. ولكن يجب الالتفات إلى هشاشة هذه القوى بعد تعري وسقوط النظام السياسي عنها، فقد ظلت هذه القوى قويةً من الناحية الطبقية والمالية وتحظى بقدر من الاستقلال النسبي، ولكنها لم تكن قويةً بما يكفي على المستوى السياسي والاجتماعي لتستطيع أن تصيغ بفاعلية وحدة مجال سياسي جديد ذي طابع ديمقراطي وليبرالي مستقل عن الدولة ونظامها السياسي.

كان الانقلاب العسكري أولَ الرابحين بشكل شبه ميكانيكي، فمع انهيار النظام السياسي سريعًا، حتى قبل تنحي مبارك نفسه، ومع سقوط الداخلية، كانت السيادة مطلقةً له على الدولة. أما تنحي مبارك من عدمه بالنسبة إلى المؤسسة العسكرية، فلم يكن بالأمر الفارق في حدِّ ذاته. وقد أبدى الإخوان مرونةً عاليةً في التفاوض مع كلٍّ من الجيش ونظام مبارك من خلال عمر سليمان، فبالنسبة إليهم كان رحيل مبارك محملًا بمكاسب أكبر من بقائه، ولكن بقاءه المشروط أيضًا لم يكن أمرًا سيئًا هو الآخر. ولكن تبقى أمران: القوى الثورية التي كانت حاضرةً ومسيطرةً إلى حدٍّ بعيدٍّ على الحيز المديني، وأصبح بينها وبين نظام مبارك ثأر واضح، كما أنها لم تكن مهتمةً بسؤال السياسة بمعنى الصراع على الموارد والتمثيل الاجتماعي؛ والإجماع الذي كان قد تشكَّل عبر سنوات من النضال بمحطاته المختلفة منذ عام ٢٠٠٥. وقد تمثَّل هذا الإجماع في ثلاثة أبعاد: إسقاط مبارك وعملية التوريث، ومكافحة الفساد واحترام القانون، وانتخابات حرة وديمقراطية تمثيلية على غرار الليبرالية الغربية. وعلى الرغم من هشاشة هذا الأفق والإجماع السياسي كما سنرى، فإنه كان كفيلًا بأن يحكم كلًّا من المخيال السياسي، والحركة السياسية وأفقها وحدودها، واللغة السياسية، وخطابات التغيير. وقد بدى عجز الثورة واضحًا بعد انتصارها في موقعة الجمل. فبعد انهيار كل أذرع مبارك، بما فيها آخر محاولته الرثَّة والركيكة التي تمثلت في هجوم البلطجية بالجمال والخيول على المعتصمين في ميدان التحرير، لم يكن لدى الثورة ما يكفي من قوة أو حتى أفق سياسي وتصور ما لانتزاع السلطة. وقد التقط عمر سليمان هذا الأمر مبكرًا وحدَّد المسار الممكن لهذه الثورة حين قال: “إما التفاوض أو الانقلاب”. وعلى الرغم من أن خطاب عمر سليمان لم يحظَ بالتناول الجاد بما يكفي، كان الجميع من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار -مهما ادعوا العكس- في انتظار إطاحة المجلس العسكري بمبارك. وهو ما حدث في ١١ فبراير ٢٠١١. وهنا يجب تحديد الموقف بشكل واضح: فما حدث في هذا اليوم كان إجبار المجلس العسكري لمبارك والضغط عليه لتسليم السلطة إليه. وببساطة، هذا انقلاب عسكري واضح، ولكنه ناعم إلى درجة ما. ويجب أيضًا الإشارة إلى أن حدوث انقلاب عسكري في ظل ثورة كبيرة متعثِّرة ولها وضع بنيويٌّ مأزوم لا ينفي عنها صفة الثورة، ولا يقدح فيها، ولا يمدح في الانقلاب نفسه. فالأمر محض اصطفاف تاريخي وصراع لقوى اجتماعية مختلفة ومتباينة. ومن المريب أنه بعد عشر سنوات من الثورة ما زال يتمُّ التعامل مع هذا الأمر بقدرٍ كبيرٍ من الحرج والتعفُّف، وإنكار أن ما حدث هو انقلاب عسكريٌّ بالفعل. وعلى كلٍّ، فهذا الخليط من الثورة والإصلاح والقوى الرجعية والانقلاب العسكري كان محلَّ قبول قطاع واسع من القوى الاجتماعية والسياسية المختلفة، كما أنه كان يتناغم مع تصوراتٍ ما عن الوطنية المصرية، والإجماع الوطني، وروح الجماعة المصرية، وكلها مفردات لم تكن غريبةً قطُّ عن المشهد السياسي المصري ولغته السياسية، بل كانت محلَّ ترحيبٍ أيديولوجي وسياسي قبل الثورة وفي أثنائها.

نجاح مبكر ولكن محدود

وبالفعل مضت البلاد في تحقيق هذا الأفق. وفي ظل هذا الأفق يمكن القول: إن الثورة قد حقَّقت أهدافها كاملةً: ١- إسقاط مبارك. ٢- إسقاط الحزب الوطني. ٣- إسقاط النظام السياسي القديم. ٤- تحقيق الديمقراطية التمثيلية من الناحية الإجرائية. وفي الخلفية كانت هناك مؤسسة شديدة الأهمية والحساسية سيأتي دورها سريعًا في ثاني أيام انتصارات الثورة: مؤسسة القضاء. فمنذ عام ٢٠٠٥ أيضًا، وتحديدًا مع موجة استقلال القضاء في عام ٢٠٠٦، ساد اعتقادٌ بأن تفعيل دور القضاة والقانون وإنفاذه سيكونان كفيلين بتحسين الأوضاع في مصر وتحقيق العدالة الاجتماعية. فالعدالة الاجتماعية في الأفق السياسي الذي سيطر على مصر لم تكن مرتبطةً قطُّ بإعادة توزيع الثروة، ولا تغيير نمط الإنتاج، ولا تغيير شروط عمليات الإنتاج وقوى الإنتاج، ولا أي شيء من هذا القبيل، بل كانت مرتبطةً بمحاربة الفساد وإنفاذ القانون، وبجوار هذه الرؤية كانت هناك رؤية أخرى تدعو إلى استعادة القطاع العام، الذي تمت خصخصته أيضًا بسبب الفساد واستبداد نظام مبارك ومسحوبيته. كان هذا كله شرطه إزاحة نظام مبارك، ومن هنا جاء دور المؤسسة العسكرية بوصفها القوة الوحيدة صاحبة الشرعية والقوة الكافية للإطاحة به. أما شرط تحسين الظروف وتطوير الحياة، فكان مرتبطًا بإنفاذ القانون، ومن هنا جاء دور المؤسسة القضائية. هل كان ثمة أُفق آخر؟ لا، ولا حتى أفق إسلامي. فالأفق الإسلامي نفسه -مهما ادعى أصحابه وخصومه معًا- لم يكن أكثر من الاستيلاء على ماكينة الدولة، وتشديد الطابع الإجرائي والشكلي في ممارسة السلطة عبر الخطابات الإسلامية والشكل الإسلامي، وتدعيم القوانين ببعضٍ أو بمزيدٍ من الصياغات الإسلامية والمزيد من الضبط الأخلاقي للمجال العام والخاص من خلال أحكام الشريعة. ولكن المطلب الرئيس للإسلاميين في مصر لم يكن يختلف كثيرًا عن مطالب الجماعات المسيحية في القرنَيْن الثامن عشر والتاسع عشر في أوروبا: وهو حياكة الأخلاقيات الإيمانية بالعملية التشريعية والقوانين. الأمر الذي يمكن اعتبار جزء منه متحققًا بالفعل في بنية القوانين المصرية، فماكينة الدولة في مصر تستحوذ على هذا الأمر بالفعل عبر سلطاتها ومؤسساتها المختلفة، وتقوم الدولة أيضًا بهذا الدور الوصائي والأخلاقي. وكثيرًا ما يتغافل الإسلاميون وكذلك خصومهم عن أن محاكمة بعض عمليات الإبداع -على سبيل المثال- لم تكن من خلال الإسلاميين بشكل مباشر، فقد كان الإسلاميون يحرضون فقط ويقومون برفع القضايا على خصومهم، أما المحاكمة والمصادرة فكانت تتمُّ عبر أجهزة القضاء الحديثة! وبالقطع قام بعض الإسلاميين بتجاوز هذا الأمر، واخترقوا سيادة الدولة وعاقبوا خصومهم بالقتل مباشرةً، وهنا لم يكن الخلاف حول المحتوى، بل كان حول الإجراء وشرعيته ومَن يقوم به. فالدولة كانت تنقضُّ بعنفٍ على الإسلاميين في هذه الحالة لانتهاكهم سيادة الدولة وأجهزتها، وكان الإسلاميون المعتدلون ينكرون الفعل أيضًا من باب التغول على سلطة الحاكم. وعلى مستوى بنيويٍّ أعمق في تركيبة بنية السلطة داخل الأسرة المصرية، فهي خليط من الفكر والقيم الإسلامية ممزوجة بخليط محافظ أو رجعي مستقل أو متجذر في الإسلام نفسه.

لنعُد مرةً أخرى للأفق القانوني. إن ما ميَّز هذه الثورة سريعًا هو أنها حصرت نفسها بين مؤسستين: الجيش والقضاء. وتحوَّلت كل معالجات الثورة للواقع إلى أروقة المحاكم والقنوات القانونية. أما المؤسسة العسكرية فخرجت رابحةً، ولكنها لم تخرج بانتصار ساحق وماحق، أو ربما بشكل أدق في ذلك الوقت لم يكن هناك مجالٌ للحديث عن انتصار كاسح للمؤسسة. ولكن أهم مكاسب المؤسسة العسكرية كان احتكار السيادة على القرار بشكل كامل. والسيادة في تعريف كارل شميت ليست احتكار الدولة للعنف الشرعي كما عند ماكس فيبر، بل تتلخَّص وتتجلَّى في السيادة على القرار. وهو الأمر الذي حرص عليه المجلس العسكري، فالميدان كانت لديه قوة ضغط وتحريك للأمور على المستوى السياسي، ولكنه لم يكن قادرًا أبدًا على إنتاج القرارات، ومن هنا يمكن القول: إن الشرعية الثورية لم توجد في مصر بشكل حقيقي، ولم تكن كل الشعارات -مثل الشرعية للميدان، ولا أحد صادق غير الدم، والشرعية للثوار، وما إلى ذلك- أكثر من رطانةٍ ثوريةٍ لم تستطع مأسسة نفسها لحظة واحدة.

ولهذا يجب قلب السؤال الأوَّلي الذي انطلقت منه هذه الورقة: هل اختفى الاستبداد والسلطوية في أيِّ وقت؟ لم يتم تفكيك السلطوية مؤسسيًّا وعلى مستوى التفاعلات ولو للحظة. فما حدث هو أن إحدى الأذرع المهمَّة لها قد سقطت بشكلٍ عنيفٍ في المراحل الأولى للثورة. ومع تفجُّر الأحداث وانتشار رقعة الاحتجاج والتمرد، يمكن القول: إن ماكينة القمع لم تكن قادرةً على العمل بأقصى كفاءتها، كما كانت مظلتها الخطابية والأيديولوجية تعاني بشكل مكثَّف. ما حدث هو أن الماكينة القمعية لجأت إلى العنف المباشر بشكل دائم. والأمثلة على ذلك كثيرة، من قمع الإضرابات العمَّالية إلى مذبحة الأقباط أمام ماسبيرو، إلى توحُّش الأحداث الطائفية، ومذبحة استاد بورسعيد، والهجوم المتكرر على النساء في المجال العام، والاشتباكات المتكررة مع الثوار في ميدان التحرير ومحيطه وفي المدن المختلفة، إلى أحداث محمد محمود ومجلس الوزراء، وما إلى ذلك من أحداث عنفٍ مختلفة. واضطرت الماكينة القمعية والحاكمة -لأسبابٍ سياسية وثقافية واجتماعية مختلفة- إلى إنشاء تحالفٍ واسعٍ مع القوى الرجعية المختلفة، التي كانت شريكةً بدرجة أو بأخرى -كما أشرنا- في العملية الثورية نفسها. وهنا بدأ يتشكَّل تحالف واسع من هذه القوى شمل مؤسسة الجيش، والقضاء، والكنيسة، والإخوان المسلمين، والسلفية العلمية وممثلها السياسي حزب النور، والسلفية المدخلية، والأزهر بدرجة ما. وبدأت هذه الجهات كلها تعيد إنتاج خطاب مبارك حول الأمن والاستقرار والفوضى. كما تقاسمت هذه الجهات كلها استقطاب شريحة الطبقة الوسطى التي قادت الحراك الثوري بدرجة كبيرة في مصر. كما ظهرت قوانين تجرِّم الاعتصام والإضراب، وتبنَّت القوى الإسلامية خطاباتٍ دينية تجرِّمهما على المستوى الديني أيضًا. وبشكل غريزي، تحرَّكت هذه القوى ضد جميع المحاولات التحرُّرية التي حاولت طرح سؤالي الحرية والمساواة في مصر. فقد شنَّت الكنسية هجومًا واسعًا على هذا الأمر منذ أن رأت أن هذه الأسئلة تهدِّد سلطتها الكنسية، وشنَّت القوى الإسلامية هجومًا واسع النطاق على كل هذه الأفكار تحت شعارات مكافحة الكفر والعلمنة، وكان القضاة في منتهى الوضوح والصرامة في مواجهة أي زعزعة لسطلتهم على المستوى المعرفي والطبقي، وتحديدًا سؤال المساواة، وخرج بعضهم بلا تورعٍ للقول بأنه لا يمكن مساواة ابن عامل النظافة أو حارس العقار بأبناء القضاة، ووضعت المؤسسة العسكرية الأمرَ بشكل واضح: ليس المدني مثل العسكري تحت أي حالٍ من الأحوال، وظلَّت وزارة الداخلية على خطابها القديم: الشعب المصري مجموعة من الهمج والرعاع، ونحن أسياد البلد، وسوف نعود مرةً أخرى وننتقم من هؤلاء الرعاع.

ولكن المعسكر الرجعي كان مليئًا بالتناقضات هو الآخر. فالطائفية كانت حائلًا واضحًا بين تحالفٍ متماسكٍ بين الكنيسة والقوى الإسلامية، كما يجب ألَّا نغفل أن الكنيسة المرقسية بالعباسية -وهي المقر الرئيس للكنيسة القبطية بعد المقر التاريخي بالإسكندرية- تمت محاصرتها في عهد الإخوان وضربها بقنابل الغاز. أما التماهي بين العسكر والإخوان فكان يعجُّ بالتناقضات منذ اللحظة الأولى، وطوَّعت المؤسسة العسكرية سيادتها على الدولة لتحجيم نفوذ الإسلاميين، كما كانت شديدة القلق من التماهي اليميني بين السلفية الجهادية والإخوان المسلمين؛ ولهذا لم تتورع عن استخدام قدرٍ ضخمٍ من العنف ضد مظاهرات حازم أبو إسماعيل، وتحديدًا في موقعة العباسية التي ظهر بها أخو القيادي الجهادي أيمن الظواهري. وكان هناك تحالف واضح بين المؤسستَيْن العسكرية والقضائية، لم يستطع الإخوان حلحلته إطلاقًا، بل ازداد الأمر حدةً مع تغيير النائب العام والإعلان الدستوري الذي أخرجه محمد مرسي في فترة حكمه.

لماذا أوروبا الشرقية وليس الحالة المصرية؟

إذن، لماذا لم يمر التحوُّل إلى الديمقراطية بسهولة على غرار أوروبا الشرقية؟ أولًا، هناك تصوُّر به قدر من التوهم حول هذا التحول نفسه، فقد عانت كثيرٌ من دول أوروبا الشرقية وما زالت تعاني من نُظُمٍ ذات طبيعية استبدادية كبيرة. ولكن على كل حال، لأنه لا يمكن إيضاح الأمر بشكل مركب وتاريخي في هذا النص، فالفكرة حول هذا التحوُّل الديمقراطي في المعسكر الشرقي تقوم حول عدَّة أفكار مهمَّة. أولًا، توصيف ما حدث هناك بأنها ثورات سياسية، وهي -على حد تعريف زيجمونت باومان- تحرير أو انعتاق النظام الاجتماعي من نظامه السياسي، أي إن النظام السياسي في هذه الدولة كان عبئًا على علاقاتٍ اجتماعية-اقتصادية متقدمة تاريخيًّا عنه؛ ولذلك فقد تمثَّلت مهمَّة الثورة هناك في إزاحة النظام السياسي. ولم يكن الاتحاد السوفيتي في ذلك الوقت قادرًا على نجدة هذه الأنظمة مثلما حدث في ثورة ألمانيا الشرقية في عام ١٩٥٣ أو ربيع براغ في الستينيات. ولذلك كانت فرصة المعسكر الغربي في الانقضاض ميسرةً بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية. ثم قامت الولايات المتحدة مثلًا في ألمانيا الشرقية بتفكيك الجهاز الأمني بشكل كبير وإخراج أحشائه للمجتمع، ومن ثَمَّ لم يكن هناك عقل ومؤسسة قادرة على تنظيم صفوف الثورة المضادة وإعادة إنتاج السلطوية بشكل مباشر أو الحفاظ عليها. والأهم من ذلك هو البُعْد الطبقي، الذي أشار إليه جلبير الأشقر بذكاء شديد. فهذه الأنظمة كانت أنظمة بيروقراطية، وفي حالة الإطاحة بالنظام السياسي، فإن هذه البيروقراطية لم يكن لديها ما يدفعها إلى الاستبسال في قتال الثورة وقمعها، وكانت تضمن بقاءً ما في ظل المنظومة الجديدة، بل ربما المزيد من العيش الرغيد والانفتاح على الغرب. وكذلك كانت هذه الأنظمة تُحكَم من قِبَل أجهزة أمنية، وليست دولة بوليسية عميقة تدير جميع مناحي الحياة، وتتجسَّس عليها وتقمعها. أما الحكومة نفسها فكانت ذات طابع أمني وأيديولوجي وبيروقراطي، وتنظيم آخر لعلاقات العمل والإنتاج. ومن هنا جاءت أغلب نظريات التحوُّل الديمقراطي، والثورات المخملية، والثورات القائمة على التفاوض.

أما في الحالة المصرية، فإن تطبيق هذا النموذج وجعله بوصلة ووحدة قياس التحول الديمقراطي يتجاوز ببساطة حقائق التاريخ والاجتماع والجغرافيا السياسية. فلم يكن انفجار المجال السياسي في مصر هو العامل المركزي فقط في بقاء السلطوية وارتدادها العنيف. فالثورة المصرية بكل عناصرها المتناقضة: 1- لم تفكِّك أو حتى تتعامل بجديَّة مع الدولة البوليسية العميقة. ٢- لم تنجح في إعادة صياغة العلاقات المدنية العسكرية. ٣- لم تستطع تقديم مشروع اقتصادي قادر على حشد قطاعٍ واسعٍ من الجمهور وتعبئته خلفها وجعله قوة قادرة وراغبة في التصدي للاستبداد ودحره، وتمَّ الاكتفاء بمعالجاتٍ جزئية مثل الحد الأدنى للأجور أو مكافحة الفساد، ومعاقبة قطاعاتٍ اقتصادية مهيمنة عبر القنوات القضائية، وهذا أمر لا يُحدث هيمنة وتصورًا اقتصاديًّا جديدًا، وحتى هذا الكم الرهيب من الإضرابات العمالية والمهنية كلها انصبَّت على مكافحة الفساد أو تحسينات جزئية أو علاوات، وهو أمر مشروع قطعًا، ولكن له سقف واضح، وحتى هذا السقف المحدود كان يتمُّ التحريض عليه دينيًّا وسلطويًّا وطبقيًّا. ٤- تمت إعادة الخطاب الأمني وتبنِّيه بشكل كامل، وهو ما دفع الأمور إلى حجر المؤسسة العسكرية والمؤسسات الأمنية الأخرى، وكذلك عزَّز هذا الخطاب من نفور قطاعاتٍ اجتماعية كبيرة من الفقراء والأغنياء في الوقت نفسِه، بسبب اعتماد الاقتصاد المصري -في جانب كبير منه- على القطاع غير الرسمي والخدمي، وهي قطاعات لا تستطيع الصمود طويلًا أمام أي زعزعة أمنية واسعة، وعلى استعدادٍ واضحٍ لمقايضة حريتها السياسية مقابل العيش اليومي، وهو أمر لا يعيبهم مباشرة، ولكنه آفة هذه النُّظم الاقتصادية. ٥- تحالف أيديولوجي عنيف ضد قيم الحرية والمساواة. ٦- عدم الرغبة في خلخلة العلاقات الاجتماعية-الاقتصادية وإعادة تشكيلها والحفاظ على الطابع والنهج النيوليبرالي. ٧- وهي نقطة شديدة الحساسية، وعلى الرغم من سوء استغلالها من قِبل المؤسسة العسكرية في مصر، فإنها تظل واقعًا معاشًا، وهي تفجُّر الإقليم العربي بشكل كامل، حيث أصبح يعجُّ بالإرهاب والعنف، ودخل في أتون حرب أهلية/إقليمية واسعة النطاق، تعرضت فيها جميع الجماعات والإثنيات والأقليات لعمليات ذبحٍ على الهوية، وتعرضت الأغلبية لإرهاب داعشي مسلَّح ولإرهاب دولها معًا. الأمر الذي خلق حالة زعر حقيقية من تفكُّك الأوضاع في مصر وتزعزع قدرات الدولة على السيطرة.  

وهذا لا يعني فشل الثورة المصرية، فما زال من المبكِّر الحديث عن فشلها. ولكن يمكن القول بوضوحٍ: إن الثورة المصرية قد مُنيت بهزيمة عنيفة وممتدَّة، وما زالت شروط هذه الهزيمة البنيوية حاضرةً بفضل الحرب. والحرب هي النقطة الأخيرة التي أودُّ أن أختم بها هذا النص. فما شهدته مصر منذ خطاب التفويض الشهير لعبد الفتاح السيسي، هي حرب أهلية بقيادة الدولة. فالإسلاميون لم يستطيعوا قراءة المشهد بشكلٍ جيدٍ. فبغض النظر عن كل تناقضات موجة ٣٠ يونيو ودوافعها، وهو أمر يطول شرحه، فقد تحركت مكونات المجتمع المصري ضدهم. وقد تمَّ هذا في ظل وجود جهاز دولة قوي، ولديه خبرات تاريخية واسعة وكبيرة، وعلاقات دولية مستقرة ونافذة، وتسليح ضخم. الأمر الذي يعني ببساطة أنه قادرٌ على قيادة حرب أهلية من الناحية التقنية والتسليح والعتاد، والأهم من الناحية الشرعية والاجتماعية أنه سيقوم بهذا بالنيابة عن مكونات المجتمع المختلفة، التي كانت -مرةً أخرى- في تناقضٍ وتصدعٍ مع الإسلاميين، وتحديدًا الإخوان والسلفية الجهادية، ولكنها لم تكن في تصدعٍ أو تناقضٍ مع مؤسسة الجيش. وكانت مؤسسة الداخلية في تربصٍ لهذه اللحظة التاريخية. فالأمر كان محسومًا، ولن يحدث تصدُّع اجتماعيٌّ أو مؤسسيٌّ يسمح لهم بمناورة حقيقية مثل سوريا، التي ينتصر فيها نظام بشار منذ مدَّة، ولم يكن من الممكن تحقيق أي تدخلٍ خارجيٍّ عنيفٍ ضد مصر على غرار ليبيا، ومن ثَمَّ كان انتصار العسكر محسومًا.

لقد أتاحت الحرب الفرصةَ الذهبية لعبد الفتاح السيسي، لا لاستعادة الاستبداد فقط، بل المضي قدمًا فيه لأُفقٍ لم تكن ممكنةً من قبل على مستوى القمع والقهر والقتل. ولكن الأهم من ناحية خصائص استبداده واستراتيجيته التي اعتمدها في حربه، أن السيسي قد نجح في توحيد جهاز الدولة وبقية القوى الرجعية والرأسمالية والبرجوازية خلفه، وتبقت له بعض الجيوب البسيطة داخل مؤسسات الدولة، مثل مؤسسة الجيش التي قام بمحاكمة هذه الجيوب عسكريًّا فيها، وبعض القضاة الذين قام بعزلهم، وبعض العناصر في وزارة الداخلية الذين قام بفصلهم أو محاكمتهم، وبعض العناصر المناوئة له داخل المخابرات العامة الذين قام بتصفيتهم على دفعاتٍ مختلفة. بل ذهب إلى أبعد من ذلك، فقد نجح السيسي في القضاء على كل التناقضات التي اتَّسم بها نظام مبارك من تصدعاتٍ داخلية، وشنَّ السيسي حربًا أيديولوجية واضحة على القيم التحرُّرية، ولم يتوقَّف الأمر عند الحدود الخطابية، فهو يسجن الكتَّاب والمبدعين والذين يخالفون الكنيسة، ويسجن الفتيات الصغيرة بدعوى الحفاظ على قيم الأسرة المصرية، وتعمل جميع أجهزة الدولة بشكلٍ جادٍ ضد كل هذه النزعات. ولم يلتفت الإسلاميون -مرةً أخرى- إلى أن قدرة السيسي وجهاز الدولة في الاستحواذ على قطاعٍ واسعٍ من الجمهور والمؤسسات والحركات المحافظة والمتدينة كانت أسهل من قدرتهم. فجهاز الدولة يبتلع داخله مكونات الشريعة، وقادر على إنتاج نسخته من الخطاب الإسلامي المحافظ؛ ولهذا ليس من الصعب قتلُ الإسلاميين باسم الخطاب الإسلامي نفسه. وعلى المستوى الإقليمي، يغفل الإسلاميون عن أن الدولة المصرية ومؤسسة الجيش قد تلقَّتا بعد انقلاب ٣ يوليو ٢٠١٣ برقيات التهنئة من المعسكرين المتناحرين في الإقليم: المحور الإماراتي والسعودي، والمحور الإيراني والسوري وحزب الله. فقد كان هناك إجماع بين هذين المعسكرين المتناقضين على الإطاحة بالإسلاميين من الحكم في مصر، وذلك في مواجهة المعسكر القطري والتركي. وهنا نجح السيسي في التموضع الاستراتيجي الذكي ضد الإخوان والسلفية الجهادية، مع تدفق المساعدات والأموال عليه، وكذلك الدعم اللوجيستي والأمني والاستخباراتي. وبالمناسبة، فعلى الرغم من تماهي السيسي الشديد مع الإمارات والسعودية، فإنه لم يتصادم ولو للحظة مع المحور الإيراني والروسي، فلم يتدخل بأيِّ شكل في اليمن كما أُشيع، بل ذهب أبعد من ذلك وأخذ موقفًا معاديًا لتوجهات السعودية في سوريا صراحةً. الأمر في التحليل الأخير هو جملة من التناقضات والصراعات، أحسنت بعض القوى استغلالها والتموضع داخلها ودفعها لصالحها، وأخفقت قوى أخرى. ولا يمكن إحالة الأمر فقط إلى التمويل فقط، بل الأمر أبعد من ذلك.

لم يتبقَ في أتون هذه الحرب إلَّا قوى قليلة تآكلت بفعل الصدامات الثورية وتآكل قاعدتها من الطبقة الوسطى والشرائح الأفقر؛ بسبب قاعدتها التي هي نفس قاعدة الإسلاميين والجيش والقوى المحافظة، وبسبب عدم نضجها الطبقي والسياسي، وتتمثَّل هذه القوى في بعض الشبكات الثورية من القوى المعادية للسلطوية وذات الميول اليسارية بشكلٍ ما. وعلى كلٍّ، فمع اشتداد رياح الحرب على المستوى الإقليمي والوطني، وبسبب ضعف الأبنية التنظيمية وعدم قدرتها على بلورة أفق سياسي واجتماعي جديد بعد الثورة، وكذلك صدامها الواضح مع الإسلام السياسي على المستوى الأيديولوجي والسياسي والاجتماعي، وإن كان يوجد بينهم نقطة التقاء حول حقوق الإنسان وعدم القبول بقتل الإسلاميين دون مبرر واضح في قواعد الاشتباك الدولية، فإن هذه القوى غير قادرة على تغيير معادلة الحرب، فالأمر متجاوز للسلطوية. ولم يكن مطلوبًا من السيسي أكثر من نفي السياسة في مصر، وكان الرجل واضحًا، فهو لا يحبُّ السياسة وليس بسياسي، ولم يأتِ أصلًا في مهمة سياسية. فالناس تتغافل أنه لم يترشح بالزي العسكري فقط، بل ترشح بالزي العملياتي، وقبل ترشحه أخذ تفويضًا من المجلس العسكري. وكان ترشحه الحقيقي في خطاب التفويض.  

هذه محاولة لفهم بعض جوانب الارتداد أو بمعنى أدقّ استمرارية الاستبداد وتوحُّشه في مصر بعيدًا عن حصره في مقاربة التحول الديمقراطي أو المؤامرة أو انفجار المجال السياسي بتصوراته الليبرالية. فما حدث في مصر أكثر تعقيدًا من مجرَّد تشظي المجال السياسي وانهياره، فهو أقرب إلى تشظي المكونات الاجتماعية والصدام الواسع بين القوى والأيديولوجيات على مستوى محلي وإقليمي، وسيظل يتمخَّض عنه الكثير في المستقبل. لقد نجحت الحرب في إخضاع الثورة في هذه المرحلة من تاريخنا.