تصاعدت أجواء التوتر في القرن الإفريقي إثر إرسال مصر مساعدات عسكرية رفقة جنود في طائرتين إلى الصومال بعد أيام معدودة من توقيع القاهرة ومقديشو بروتوكولًا للتعاون العسكري في منتصف أغسطس/ آب 2024 (‏1)، فضلًا عن إعلان الاتحاد الأفريقي مشاركة قوات مصرية في بعثة الاتحاد الأفريقي لدعم وتحقيق الاستقرار في الصومال “أميصوم”، والمقرَّر أن تبدأ عملها مطلع عام 2025 (‏2). وجاءت تلك الخطوات إثر عقد أنقرة ومقديشو اتفاقية للتعاون الدفاعي في فبراير/ شباط 2024، وبموجبها ستتولَّي تركيا مهمة بناء وتأهيل القوات البحرية الصومالية، كذلك حصلت أنقرة على حق التنقيب عن النفط والغاز أمام سواحل الصومال .(‏3).

وقد حدثت تلك التطوُّرات المتسارعة ردًا على توقيع إثيوبيا وإقليم “أرض الصومال” مذكرة تفاهم مطلع عام 2024 تحصل بموجبها أديس أبابا على حق بناء قاعدة بحرية عسكرية بامتداد 20 كيلومترًا على الساحل الصومالي وحقَّ استخدام ميناء بربرة، مقابل الاعتراف باستقلال كيان “أرض الصومال”، ومنحه حصة من ملكية شركة الخطوط الجوية الأثيوبية.(4)

 رأت حكومة مقديشيو في الاتفاق بين أديس أبابا وأرض الصومال تطورًا خطيرًا يهدد وحدة الصومال، فيما رأت فيه القاهرة تغييرًا لموازين القوى في القرن الأفريقي يتيح لإثيوبيا الوصول إلى البحر الأحمر مما يهدد حرية الملاحة في مضيق باب المندب وقناة السويس، ويطوِّق مصر من الجنوب عند إضافته لسد النهضة والتحكم في مياه النيل، فيما تشاركت جيبوتي وأريتيريا القلق من طموحات آبي أحمد للهيمنة الإقليمية.

من جهتها اعتبرت إثيوبيا أنَّ إرسال قوات مصرية إلى الصومال يعني العبث بفنائها الخلفي، وخرقًا للعرف بأن تتولَّى قوات من دول شرق أفريقيا المساهمة في بعثات الاتحاد الأفريقي بالصومال، ودقَّت ناقوس الخطر مع اقتراب القوات المصرية من الحدود الأثيوبية، وهدَّد رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد بعدم التهاون مع أي ”تهديد يمس سيادة وكرامة بلاده“(‏5).

إن تلك التطورات المتلاحقة تطرح أسئلة حول جذور التوتر بين الدول المذكورة وأسبابه وتداعياته على الصومال واستقرار القرن الأفريقي، ومدى احتمال حدوث حرب إقليمية في المنطقة.

جذور الأزمة: من مشروع الصومال الكبير إلى التفتيت

يعيش الصومال تداعيات حقبة الاحتلال الأوروبي، فقد انتزع البريطانيون من مصر السيطرة على “شمال الصومال” في عام 1884، ثم شجَّعوا الإيطاليين على احتلال وسط وجنوب الصومال لمنع إنشاء إمبراطورية فرنسية تمتدُّ من المحيط الأطلسي غرب القارة الأفريقيا إلى المحيط الهندي في شرقها. وانتهت تلك اللعبة الجيوسياسية في القرن العشرين بتجزئة الأراضي الصومالية إلى خمس كيانات، الصومال الفرنسي (الذي أصبح لاحقًا دولة جيبوتي)، والصومال البريطاني (ما يدعى الآن أرض الصومال)، والصومال الإيطالي (بقية أرض الصومال الحالي)، فيما منحت بريطانيا لأثيوبيا غرب الصومال المعروف باسم أوغادين، وضمت كينيا مناطق شاسعة من الصومال إلى شمالها الشرقي بالاتفاق مع بريطانيا(‎6).

نتج عن ذلك التفتيت بروز نزعة وحدوية تدعو لتشكيل الصومال الكبير، وهو ما يعكسه علم الصومال ذي النجوم الخمسة. وبالفعل اتحد “الصومال الإيطالي“ مع ”الصومال البريطاني“ عقب استقلالهما عام 1960. وشنت دولة الصومال الوليدة حربًا ضد أثيوبيا عام 1977 لاستعادة إقليم أوغادين، وسيطرت على 90% من مساحته، ولكن تدخَّل الاتحاد السوفيتي وكوبا عسكريًا لدعم أثيوبيا، مما أدى لهزيمة الصومال. وأعلن الصومال الفرنسي في ذات العام استقلاله تحت اسم جيبوتي، فانهار مشروع الصومال الكبير، وحدثت محاولة انقلاب عسكري فاشلة ضد نظام سياد بري الحاكم في الصومال على خلفية تحميله أسباب الهزيمة في الحرب، وأعقبه اندلاع تمرد مسلح دعمته أثيوبيا، وانتهى التمرد بانهيار النظام الحاكم وتفكك الدولة ذاتها بحلول عام 1991 ليصطف  الصوماليون خلف انتماءاتهم العشائرية.

أعلن “الصومال البريطاني” الذي تُشكِّل قبيلة إسحاق أغلبيته استقلاله تحت اسم “أرض الصومال” من جانب واحد في عام 1991 في ظل نفور سكانه من تجربة الوحدة التي عانوا فيها من التهميش السياسي والاقتصادي، ومن القمع الذي وصل حد تدمير عاصمتهم هرجيسا في عام 1988. واعتبر زعماء أرض الصومال أنهم بقرار الانفصال استعادوا السيادة التي سبق أن تخلوا عنها طواعية لتشكيل دولة الصومال الاتحادية.

تمتع كيان أرض الصومال غير المعترف باستقلاله بعلاقاتٍ ثنائية مع دول مثل إثيوبيا والإمارات وتركيا، إذ توجد مكاتب للخدمات القنصلية لتلك الدول في هرجيسا. فيما تقدم أثيوبيا أنواعًا مختلفة من المساعدة مثل التدريبات العسكرية والمنح الدراسية وخدمات المعاملات المالية عبر البنوك الأثيوبية‎‎ (7). وتطمح هرجيسا للحصول على اعتراف بالاستقلال كي تتمتع بميزات السيادة بما تشمله من حق توقيع اتفاقيات تجارية وعسكرية والانضمام للمؤسسات الدولية.

التدخل الأجنبي يعزز هشاشة الدولة الصومالية

تتوجس إثيوبيا وكينيا من تشكيل حكومات صومالية قوية يمكن أن تتبنى مشروع “الصومال الكبير” مجددًا، واحتفظت أديس أبابا لنفسها بحق الفيتو تجاه التطورات السياسية والعسكرية داخل الصومال عقب انهيار الدولة في عام 1991. ولذا عندما تمكنت المحاكم الإسلامية من السيطرة على مقديشيو في عام 2006 وبدا أنها في طريقها لتحقيق الاستقرار داخل البلاد، سارع الجيش الإثيوبي لغزو الصومال بضوء أخضر أمريكي تحت لافتة مكافحة الإرهاب، ولدعم الحكومة المؤقتة الموجودة آنذاك في مدينتي جوهر وبيدوا.

رأت أديس أبابا استحالة التعايش مع المحاكم الإسلامية باعتبارها تمثل تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي في ظل دعم المحاكم لجماعات مسلحة معارضة للحكومة الإثيوبية وطلبها استعادة إقليم أوغادين، فيما خشيت واشنطن من تأسيس ملاذ آمن لعناصر القاعدة داخل الصومال في ظل وجود علاقات بين التنظيم وبعض قادة المحاكم الإسلامية، واستخدامهم الصومال قاعدة خلفية لتجهيز لوجستيات الهجوم على سفارتي الولايات المتحدة في نيروبي ودار السلام في عام 1998.

 تحول التدخل الأثيوبي إلى تدخل إقليمي متعدد الأطراف عبر تشكيل بعثة دعم السلام التابعة للاتحاد الأفريقي “أميصوم” في عام 2007، والمكونة من قوات من بوروندي وأوغندا، ثم انضمت لها تباعًا جيبوتي وسيراليون، بينما شنَّت كينيا عملية “حماية الأمة” في عام 2011 لبناء منطقة عازلة داخل أراضي الصومال، وحين أثقلت كاهلها التكلفة المالية انضمت نيروبي لبعثة أميصوم في عام 2012، فيما انضمت القوات الإثيوبية إلى أميصوم في عام 2014 بينما أبقت جزءًا من قواتها داخل الصومال خارج بعثة أميصوم(‎8).

بعد التدخل الأثيوبي، انقسمت المحاكم الإسلامية إلى عدة مكونات منها حركة “شباب المجاهدين” التي بايعت في عام 2012 تنظيم القاعدة، والتحالف مـن أجـل إعـادة تحريـر الصومال “جناح جيبـوتي” بقيادة شريف شيخ أحمد الذي رحب بالتفاوض مع إثيوبيا، وهو ما توج بتعيينه رئيسًا للصومال في عام 2009.

عملت بعثة “أميصوم” ثم خليفتها منذ عام 2022 “أتميس” كقوة قتالية وليس كقوة لحفظ السلام، وتمثلت أهدافها في مواجهة حركة الشباب، والتسليم التدريجي للمسؤوليات الأمنية إلى قوات الحكومة الصومالية. واستفادت الدول المشاركة في “أميصوم” عسكريًا وماليًا من التعاون مع الولايات المتحدة في الحرب العالمية على الإرهاب، إذ قدمت الولايات المتحدة منذ عام 2007 نحو2 مليار دولار للدول المساهمة في بعثة “أميصوم”‎(9)، كما اكتسبت تلك الدول عباءة الشرعية لوجودها في الصومال من خلال العمل تحت مظلة الاتحاد الأفريقي.

 لقد استفادت نيروبي وأديس أبابا من إدامة هشاشة الوضع السياسي داخل الصومال، حيث تشكل في عام 2012 نظام فيدرالي تتنازع فيه الحكومة في مقديشو الصلاحيات مع الأقاليم الفيدرالية وبالأخص ما يتعلق بالسيطرة على الموارد والإيرادات. وتشكل الجيش الصومالي من دمج بعض الضباط القدامى من عهد سياد بري مع المليشيات العشائرية، وبالتالي ظل الجيش يواجه تحديات جوهرية من أبرزها تقديم الجنود الولاء للعشيرة على الولاء للحكومة، وكثرة حالات الهروب مـن الخدمة.

 وفي محاولة لحل تلك المعضلات، شكل الاتحاد الأوروبي بعثة لبناء قدرات الجيش وأجهزة الأمن، وخصص مساهمات مالية في بعثات الاتحاد الأفريقي الانتقالية في الصومال بمقدار 2.4 مليار يورو خلال الفترة الممتدة من 2007 إلى 2024 (‎10). بل وأعلن الاتحاد الأوروبي في عام 2021 أن منطقة القرن الأفريقي تمثل له أولوية جيواستراتيجية حيث تمر به نحو 20% من تجارة دول الاتحاد بما في ذلك إمدادات الطاقة، مما يجعل الأمن البحري على طول شواطئ القرن الأفريقي يحظى بأهمية كبيرة. كما أرسلت الولايات المتحدة مستشارين عسكريين، وقدمت غطاءً جويًا في مواجهة حركة الشباب، وأشرفت بشكل مباشر على تدريب وتأهيل قوات داناب “البرق” التابعة للجيش الصومالي المختصة بمكافحة الإرهاب.

أما تركيا، فقد بدأت تنخرط في الصومال منذ عام 2011 مع زيارة رئيس الوزراء آنذاك “إردوغان” إلى مقديشو، فعززت من صورتها كجهة فاعلة عالميًا، وحصلت على مكاسب اقتصادية من قبيل الفوز بعقود لتطوير وإدارة مطار مقديشو الدولي ومينائها البحري، والتنقيب عن النفط والغاز أمام سواحل الصومال. كذلك ساهمت في مهام تدريب قوات الأمن الصومالية عبر بناء أكاديمية “تركسوم” العسكرية، والتي يعمل بها نحو 200 ضابط وجندي تركي.

ومن جهتها، دخلت الإمارات بعمق في ملف الصومال لاتخاذه قاعدة لوجستية لتأمين النشاط العسكري الإماراتي في حرب اليمن، وقد دفعت رواتب عدة ألوية بالجيش الصومالي، وقدمت لهم التدريب، كما تولت شركات إماراتية تطوير وتشغيل مينائي بوساسو في بونتلاند وبربرة في أرض الصومال‎(11).

لقد تدربت قوات الجيش والأمن الصومالية على يد الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وتركيا وأريتيريا وأثيوبيا وأوغندا وكينيا وجيبوتي ومصر، وتفاوتت أهداف كل دولة، فالجهود الأمريكية ركزت على قدرات مكافحة الإرهاب بينما ركزت أطراف أخرى على جهود بناء الدولة. وفي المحصلة أدى التدريب وفق مناهج مختلفة إلى تأسيس قوات مجزأة متعددة الولاءات. وظلت الحكومة الصومالية تعتمد على الدعم الخارجي الذي يغطي ثلثي الموازنة السنوية، ولا تستطيع تحمل تكاليف الرواتب والمعدات والتدريب والبنية التحتية للجيش، وبالتالي أصبح الصومال موطنًا لنفوذ دول متعددة تتصارع فيما بينها ولكل منها مصالحها الخاصة، مما زاد من تعقيد الوضع الأمني ​​وتفتيته، وجعل بعثة الاتحاد الأفريقي لا غنى عنها لبقاء الحكومة في مقديشيو.

ماذا تريد إثيوبيا؟

إثيوبيا هي ثاني أكبر دولة إفريقية من جهة عدد السكان إذ يبلغ 129 مليون نسمة (‎12)، ويشكل الإثيوبيون ثاني أكبر مجموعة مهاجرة أفريقية في الولايات المتحدة(‎13) مما يوفر لهم حضورًا في دوائر صنع القرار الأمريكية. وتعد أثيوبيا شريكًا أمنيًا مهمًا في منطقة القرن الأفريقي لواشنطن والاتحاد الأوروبي، ولديها علاقات جيدة مع الصين وروسيا، فالصين أكبر شريك تجاري لإثيوبيا، بينما استحوذت موسكو على نصف إجمالي مبيعات الأسلحة إلى إثيوبيا على مدار العقدين الماضيين(‎14). وتستضيف أديس أبابا مقر الاتحاد الأفريقي، وتتمتع بنفوذ قوي على المستوى القاري.

لدى أديس أبابا بقيادة آبي أحمد طموح بالوصول إلى البحر الذي يبعد عن حدودها 60 كيلومترًا فقط (‏15)، فالحصول على ميناء وقاعدة بحرية يعني التخلص من الاعتماد على موانئ جيبوتي التي تستنزف نحو مليار ونصف دولار سنويًا رسومًا على البضائع الأثيوبية(‎16)، ويتيح استيراد الاحتياجات من الأسلحة والبضائع دون رهن ذلك لموافقة جيبوتي، ويساهم في تنويع منافذ الدخول دون الاعتماد على دولة واحدة قد تكون عرضة لتقلبات سياسية مستقبلًا، كما يسهل اندماج إثيوبيا مع الأسواق العالمية، فضلًا عن تطوير قوات بحرية يمكنها النشاط في مضيق باب المندب وغرب المحيط الهندي، مما يجعل أديس أبابا أكثر قدرة على نشر قواتها في الخارج ولعب دور أكبر في القرن الأفريقي ومحيطها الإقليمي، كما يحقق حلمها بالتخلص من الشعور بالتطويق من طرف جيرانها عبر حصرها داخل مرتفعات وهضاب الحبشة.

لقد أقدمت أثيوبيا على عقد مذكرة تفاهم مع إقليم أرض الصومال تعترف فيه باستقلالها إثر توطد علاقتها مع الإمارات التي أبدت الاستعداد لتوفير التمويل لعمليات تطوير الطرق الرابطة بين ميناء بربرة  – في أرض الصومال – والأراضي الإثيوبية. وجاءت الخطوة الإثيوبية بعد انخراط شركة موانئ دبي العالمية في تطوير ميناء بربرة عقب حصولها في عام 2016 على حق تطوير وإدارة الميناء لمدة ثلاثين عاما(‏17). وبذلك ستتمكن أثيوبيا من تجاوز عقبة إحجام الشركات الأجنبية عن الانخراط في عقود ومشاريع مع كيان أرض الصومال غير المعترف باستقلاله.

وتراهن إثيوبيا على قدرة أبوظبي على تطويع موقف القاهرة، فضلًا عن ميزة الانتهاء من بناء الجزء الأكبر من سد النهضة مما يمنحها ورقة تأثير ضخمة على مصر بملف مياه النيل، وهو ما يتواكب مع انشغال السودان بحربه الداخلية مما يحول دون إرسال قوات مصرية عبر أراضيه إلى الحدود الأثيوبية. ولذا اتجهت أديس أبابا للحصول على منفذ بحري بعد اطمئنانها على اكتمال مشروع سد النهضة.

التداعيات واحتمالات المواجهة

لقد أثارت مذكرة التفاهم الإثيوبية مع أرض الصومال، هواجس عدة دول مجاورة في القرن الأفريقي، فحكومة مقديشيو اعتبرت الخطوة تكريسًا لمخططات تفتيت الصومال، وتخشى من تبعاتها على إقدام أقاليم صومالية أخرى على الانفصال، ولذا هددت مقديشيو على لسان وزير خارجيتها بدعم الحركات الأثيوبية المتمردة ضد حكومة أديس أبابا في حال تنفيذ مذكرة التفاهم(‎‏18).

أما أريتريا التي تعيش توترًا مع الحكومة الإثيوبية على خلفية دعمها لمقاتلي الأمهرة والأورومو المتمردين ضد أديس أبابا، فتخشى من تغير ميزان القوة الإقليمي بوصول إثيوبيا إلى البحر. وقد حرصت منذ استقلالها عن أثيوبيا في عام 1991 على أن تظل الأخيرة دولة حبيسة لتحجيم دورها الإقليمي. فيما تخشى جيبوتي من فقدانها عائدات الرسوم على البضائع الأثيوبية والتي تمثل الجزء الأكبر من إيرادات الدولة.

على جانب آخر، فقد شجَّعَ موقف مصر غير الفاعل تجاه سد النهضة إثيوبيا على المطالبة بمنفذ بحري وقاعدة عسكرية بحرية يمكنها أن تهدد حركة الملاحة في مضيق باب المندب مما تطلب منها تحركًا سريعاً لتحجيم الطموحات الأثيوبية. واستغلت القاهرة مذكرة التفاهم الإثيوبية مع إقليم أرض الصومال لإيجاد موطئ قدم للجيش المصري قرب الحدود الإثيوبية بالتزامن مع حركة زيارات مكثفة بين الرؤساء ووزراء الخارجية ومديري أجهزة الاستخبارات في مصر والصومال وأريتريا وجيبوتي، ضمن جهود القاهرة لتشكيل محور مضاد لأديس أبابا في المنطقة.

إن خيار المواجهة المباشرة بين مصر وإثيوبيا مكلف، وبالأخص في ظل طول خطوط الإمداد اللوجستي من مصر إلى الصومال، والوضع الاقتصادي الصعب بمصر، ووعورة الأراضي الإثيوبية، فضلًا عن وجود دول أخرى لها مصالح استراتيجية بالمنطقة مثل تركيا وقطر والإمارات والسعودية، كذلك تتواجد قوات من الولايات المتحدة والصين وفرنسا وإيطاليا واليابان في جيبوتي على مقربة من الصومال، ومن مصلحة تلك الدول الحفاظ على درجة من الاستقرار في إثيوبيا والصومال، ولذا يُرجح أن تسعى للوساطة بين أثيوبيا ومصر لمنع حدوث اقتتال بينهما، فيما قد تكتفي مصر برسالة وجود قوات من جيشها قرب حدود إثيوبيا في محاولة لدفع أديس أبابا للتفاوض الجاد في الملفات العالقة والكف عن سياسة فرض الأمر الواقع.

عمليًا، يمكن للقاهرة وحلفاءها دعم الحركات المتمردة داخل إثيوبيا في منطقتين من أكثر مناطق البلاد اكتظاظًا بالسكان، وهما أوروميا وأمهرا، حيث يقاتل جيش تحرير أورومو منذ عام 2019 القوات الحكومية، كما تقاتل مليشيا فانو الأمهرية قوات الحكومة(‎‎19)، فيما لا يزال التوتر كامنا في مناطق التغراي ضد حكومة آبي أحمد، وهو ما يمكن أن يؤدي لإشغال الحكومة الإثيوبية وكبحها عن التصعيد خارج حدودها.

وفي المقابل لدى أديس أبابا العديد من الأوراق والحلفاء داخل الصومال، إذ يمكن حثهم على استهداف وإزعاج التواجد المصري لرفع كلفته، مع العلم أن بعثات الاتحاد الأفريقي المتتالية فقدت نحو 3500 جنديًا منذ بداية تدخلها في الصومال (‎20). كذلك ينشط داخل البلاد ما بين خمسة وعشرة آلاف من مقاتلي حركة الشباب الذين يقاتلون القوات الحكومية الصومالية وحلفائها الأجانب حسب تقديرات وكالة استخبارات الدفاع الأمريكية (‎21)، وهي عوامل تهدد التواجد العسكري المصري الذي لم يعتد على التعرض لخسائر كبيرة خارج أرضه منذ حقبة الانخراط المصري في حرب اليمن في عهد الرئيس الراحل عبدالناصر.

إنَّ أي صراع جديد في الصومال سيفاقم من التوترات في منطقة تعاني من حروب داخلية في السودان وأثيوبيا والصومال، وفي منطقة حيوية تقع على مقربة من خطوط التجارة الدولية البحرية بين الشرق والغرب، وتمر بها خطوط شحن النفط والغاز من الخليج إلى أوروبا، ويهدد بتحويل القرن الأفريقي إلى بلقان جديد ليس لأحد مصلحة في إشعاله.

 

المصادر

  1. الرئيس عبد الفتاح السيسي يستقبل رئيس جمهورية الصومال بقصر الاتحادية، موقع الرئاسة المصرية، 14 أغسطس 2024. الرابط.
  2. African Union, Communiqué of the 1225th Meeting of the Peace and Security Council held on 1 August 2024, on Consideration of the Concept of Operations of AU-Led Mission in Somalia post-ATMIS, 17 September 2024. الرابط
  3. تركيا تعتزم التنقيب عن النفط والغاز قبالة سواحل الصومال، وكالة الأناضول، 19 يوليو 2024. الرابط.
  4. مذكرة تفاهم بين إثيوبيا و”أرض الصومال”، وكالة الأناضول، 1 يناير 2024. الرابط.
  5. إثيوبيا تتوعد بأن “تذل” أي دولة تهدد سيادتها وسط توترات مع مصر والصومال، فرنسا 24، 9 سبتمبر 2024. الرابط.
  6. Francisco Javier Ullán de la Rosa & Sylvester Tabe Arrey (2021) Understanding Somalia’s multidimensional protracted war: an updated structural-processual analysis, Small Wars & Insurgencies, 32:7, p: 1065.
  7. Nasir M Ali, Ethio–Somaliland Relations Post-1991: Challenges and Opportunities, International Journal of Sustainable Development, Vol 4, No (4) 2011, P: 5.
  8. Paul D. Williams (2017): Joining AMISOM: why six African states contributed troops to the African Union Mission in Somalia, ournal of Eastern African Studies, Vol 12(No. 1), 172–192.
  9. Paul D. Williams, Understanding US Policy in Somalia Current Challenges and Future Options, Chatham House, July 2020, p:12.
  10. Council of the European Union. 2023. “EU support to Somalia: Council approves further support under the European Peace Facility to the Somali National Army and to the African Union Transition Mission in Somalia (ATMIS)” الرابط
  11. Dominic Dudley, Testing Ground For UAE And Qatar As They Battle For Influence And Opportunity, Forbes, 4 April, 2018.
  12. United Nations Population Fund, World Population Dashboard Ethiopia, 2024. https://www.unfpa.org/data/world-population/ET
  13. Ethiopia: In Brief, Congressional Research Service, 23 January 2024. P: 1.
  14. The European Union in CRU Policy Brief a crowded Horn of Africa, Clingendael, November 2023, p:18.
  15. الاستراتيجية الرئيسية للجسمين المائيين: حوض النيل والبحر الأحمر، ترجمة محمد جمال مختار، معهد الشؤون الخارجية الأثيوبي، مايو 2024، ص52.
  16. Ethiopia: In Brief, Congressional Research Service, 23 January 2024. P: 9.
  17. موانئ دبي تفتح محطة الحاويات الجديدة بميناء بربرة في أرض الصومال، الشرق الأوسط، 24 يونيو 2021.
  18. الصومال يحتج على أديس أبابا ويهدد بدعم متمردي إثيوبيا، الجزيرة نت، 14 سبتمبر 2024.
  19. Ethiopia: In Brief, Congressional Research Service, 23 January 2024. P: 5-7.
  20. Somalia, Congressional Research Service, 27 July 2023. P: 2.
  21. Lead Inspector General Report to the United States Congress (2020), East Africa and North and West Africa Counterterrorism Operations, p.15.