ترجمة بتصرف بسيط لمقال للكاتب نشر باللغة الإنجليزية في مجلة (Horizons) التي يصدرها مركز العلاقات الدولية والتنمية المستدامة CIRS (عدد أغسطس 2024).
إذا كان هناك شيء يتفق عليه بنيامين نتنياهو وحركة حماس، فهو أن الشرق الأوسط لن يكون على نفس الحال بعد السابع من أكتوبر 2023. لكن من الواضح أن لكل منهما رؤية مختلفة تماما لمستقبل الشرق الأوسط. تعكس هذه الاختلافات طبيعة الصراع والمأزق الذي تعيشه المنطقة منذ عدة عقود. وعلى الرغم من خطر تبسيط الأمور، يكمن جوهر هذا المأزق في طرفي معادلة الهيمنة والسيطرة من قبل أطراف متعددة، والحق في تقرير المصير والتحرر من قبل أطراف أخرى. تبدأ القصة مع الرؤى المتنافسة لإعادة تشكيل المنطقة والتحولات التي تم إحباطها من أجل التحرر. من الواضح أن الشرق الأوسط يقف عند مفترق طرق حرج، متأثراً بالديناميكيات الداخلية المعيقة والسياسات الخارجية المهيمنة. وهناك حاجة واضحة وملحة لإعادة تشكيل أساسية للمنطقة، ولكن لا يمكن السماح بأن يتم “هندستها” من الخارج وبشكل مصطنع. يجب أن ينبع مستقبل المنطقة من الداخل ويستند إلى الروابط والتطلعات المشتركة الأصيلة لشعوبها.
رؤى متنافسة وقواعد الهيمنة الخمسة
تتنافس رؤيتان حول مستقبل الشرق الأوسط: الأولى تعتمد على التبعية التي يحتضنها الغرب ووكلاؤه المحليون؛ والثانية تتطلع إلى وحدة واستقلالية القرار وتتوق إلى الكرامة والحرية، وتتبناها قوى النهوض والتحرر في المنطقة. لطالما نظرت القوى الخارجية إلى الشرق الأوسط (الذي يتألف في معظمه من دول عربية) باعتباره منطقة استراتيجية حيوية لها، أكثر أهمية من أن تُترك لشعوبها لتقرر مصيرها. وعلى مدى أكثر من قرن، كانت المنطقة ساحة لتنافس القوى الخارجية—بين البريطانيين والفرنسيين، والأمريكيين والسوفييت، وحالياً، بين الأمريكيين والروس والصينيين. وظل مسار الهيمنة على المنطقة يتبع نمطًا متكررا حسب خمس قواعد ثابتة.
القاعدة الأولى: منع ظهور أي قوة إقليمية قوية تهدد المصالح الاستراتيجية للقوى الخارجية
تعود جذور هذه القاعدة إلى القرن التاسع عشر عندما تجاوزت طموحات محمد علي، والي مصر آنذاك، حدود مصر، محاولاً بناء إمبراطورية إقليمية وتحدي الدولة العثمانية. تحالفت بريطانيا وفرنسا، الخصمان الاستعماريان اللدودان آنذاك، مع العثمانيين لهزيمته في عام 1840 وسحق طموحاته الإقليمية. شملت شروط هزيمته المهينة تقليص حجم الجيش المصري وتفكيك صناعاته لمنع إعادة بناء قوة مصر وأي تهديدات مستقبلية من جانبها. تكرر هذا النمط في القرن العشرين والواحد والعشرين، مع جمال عبد الناصر في مصر، وصدام حسين في العراق، والنظام الجمهوري الإسلامي في إيران. وسيظل هذا النمط يتكرر طالما أن القوى الخارجية تعتبر الموارد الجيوستراتيجية والمصادر الطبيعية للمنطقة جزءًا من مصالحها الحيوية. ومن المحتمل أن تواجه أي قوة إقليمية قوية تسعى إلى تأكيد السيادة السياسية والاقتصادية مصيرًا مشابهًا.
القاعدة الثانية: منع وحدة المنطقة العربية وإبقائها مفككة
اتبع التكوين السياسي للمنطقة العربية مسارًا مختلفًا عن النموذج الأوروبي للدولة الوطنية (nation-state). منذ القرن السابع، تطورت المنطقة تدريجيًا إلى كيان هائل (إمبراطورية واسعة تحت حكم الأمويين والعباسيين، أو إمبراطوريات إقليمية تحت حكم العثمانيين والصفويين والمغول). استمرت الإمبراطوريات الثلاث الأخيرة لقرون وكانت قوى مؤثرة حتى الهجوم الاستعماري في القرن التاسع عشر والعشرين. لم يكن هذا التاريخ بعيداً عن أذهان “الشرقيين” القدامى. كانت جدتي تُعرّف نفسها بأنها “رعايا الدولة العثمانية” وتنتمي إلى المنطقة التي انحدر منها أهلها، وليس إلى “الدولة القومية.” في واقع الأمر، لم تكن هناك دول قومية في عصرها (باستثناء إيران وتركيا ومصر)، بل كانت هناك في الغالب ولايات وأقاليم ينتمي معظم سكان المنطقة إليها. كانت هناك خلافة تمثل، رمزيًا، وحدة “الأمة” الإسلامية، أو المجتمعات العرقية والدينية داخلها حتى إلغائها في عام 1924. و”الأمة” مصطلح عضوي يشير إلى مجتمع المسلمين الذي شمل مختلف الأعراق واللغات والمناطق الجغرافية. ويبدو أن هذا النموذج كان في تناقض حاد مع نموذج الدولة الوطنية المستوحى في بعض أجزائه من النموذج الغربي والذي اعتمدته فيما يعرف اليوم بدول الجنوب التي ظهرت في فترة ما بعد الاستعمار. لا يزال الطموح لاستعادة النموذج القديم والأكثر إدماجا حياً بين بعض الفاعلين، وخاصة الإسلاميين، وخاصة بسبب قدرته على حل القضايا الطائفية والإثنية المتعددة التي فاقمها نموذج الدولة الوطنية أو دولة ما بعد الاستعمار (Postcolonial State)، فضلا عن تحقيق الوحدة المستقبلية للمجتمعات الإسلامية، مستحضرين العصر الذهبي للإسلام عندما كانت المنطقة أكثر اتساقا وتكاملاً.
تشترك الشعوب العربية في العديد من القواسم المشتركة، بما في ذلك اللغة والتاريخ والدين والتقاليد والطموحات الوطنية، مما يجعل وحدتها أو على الأقل انتظامها تحت شكل من أشكال التكامل الوظيفي أمرًا ممكنًا. ومع ذلك، تدخلت القوى الخارجية، بالإضافة إلى القادة المحليين، باستمرار لمنع هذه الوحدة من خلال استراتيجيات وخطط متنوعة. كان لاتفاقيات سايكس-بيكو لعام 1916، التي أبرمت بين بريطانيا وفرنسا، تأثير دائم حيث قسمت مقاطعات الإمبراطورية العثمانية وأقامت حدودًا مصطنعة أنشأت بموجبها دولا عربية متعددة. شملت التدابير الأخرى إنشاء تقسيمات إقليمية، وتعزيز الانقسامات الطائفية، والتدخل في النزاعات، ودعم الأنظمة التي تبنت الانتماءات المحلية.
ساهمت الأنظمة العربية أيضًا في تفكك المنطقة من خلال تنافساتها السياسية وسعيها لتحقيق مصالح ضيقة. حيث ساهمت الخلافات الأيديولوجية بين الأنظمة الجمهورية والملكية في تفكيك المنطقة، وإقامة الحواجز بين دولها، وإثارة الحروب بالوكالة. لقد عززت الأنظمة العربية ما بعد الاستعمار المشاعر المحلية على حساب الهوية العربية الجامعة. وركزت الرؤى والاستراتيجيات الاقتصادية على المصالح الوطنية وأعاقت التكامل الإقليمي بين الدول العربية. كما استغلت الأنظمة الانقسامات الطائفية وقمعت المعارضة بوحشية لتوطيد السلطة. وبقيت المنظمات الإقليمية مثل مجلس التعاون لدول الخليج العربية وجامعة الدول العربية ضعيفة وغير فعالة بسبب تضارب مصالح دولها الأعضاء. وتروج الأنظمة التعليمية والدعاية الحكومية للهويات الوطنية على حساب الهوية العربية الأكبر. وتُفرض القيود القانونية على الحركات والأحزاب القومية العربية، بل ويتم قمعها بشدة في بعض الدول العربية. تعيق هذه الإجراءات الوحدة وتزرع عدم الثقة والعداء بين الشعوب التي تشترك في الأصل في الكثير من القواسم المشتركة.
القاعدة الثالثة: إغراق المنطقة في صراعات مستمرة
يُعرف الشرق الأوسط خطأً بأنه منطقة من طبيعتها الصراع والعنف. لا تعود هذه الصراعات المستمرة إلى التدخلات الخارجية فقط، بل أيضًا إلى النزاعات السياسية الداخلية، والتنافس بين الأنظمة، والتوترات الطائفية. ولم يكن من قبيل الصدفة أن البريطانيين والفرنسيين قاموا قبل مغادرتهم المنطقة برسم حدود مصطنعة في العالم العربي، أنشأت دولا متعددة. هذه الحدود المصطنعة لم تعكس الطموحات الوطنية لشعوب المنطقة، وتستمر في تغذية الصراعات الدائمة والمحتملة. وأدى إنشاء إسرائيل بدعم من القوى الخارجية إلى إنهاك المنطقة في حروب مستمرة، استنزفت مواردها البشرية والطبيعية. تسمح “الحروب منخفضة الكثافة والصراعات الممتدة” – كما يسميها الغرب – للفاعلين الخارجيين بالتدخل والسيطرة على النتائج. فمنذ عام 1914، شهدت المنطقة العشرات من النزاعات المسلحة والثورات الشعبية، بعضها استمر لعقود. شملت هذه النزاعات حروب عالمية وحروب التحرير، والحروب الأهلية، وحروب الحدود، والحروب الإقليمية، وحروب الغزو، وحروب الاحتواء، وحروب العقوبات، والحروب العرقية. وفي بعض هذه الصراعات، كانت القوى الخارجية طرفًا رئيسًا، تشارك فيها بشكل مباشر أو عبر وكلاء محليين، أو تدعم كلا الجانبين المتحاربين. وكلفت هذه النزاعات المنطقة ملايين القتلى منذ عام 1914، ولا تزال تفعل ذلك حتى اليوم. لقد شهدتُ شخصيًا أكثر من عشرة من هذه الحروب خلال حياتي. وتمثل القضية الفلسطينية – المتعمد عدم حلها – صراعا محوريا في المنطقة، حيث تعكس التوترات الجيوسياسية الأوسع، وتسلط الضوء على تعنت الغرب في معالجة الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني ومظلوميته المستمرة. وتمثل الحرب الحالية في غزة فصلًا مظلمًا آخر في الجغرافيا السياسية بالمنطقة واستراتيجيات القوى الغربية، خاصة الولايات المتحدة، التي عملت بوصفها شريكًا مباشرًا في هذه الحرب المروعة، وكذا العديد من الدول الأوروبية التي استمرت في إظهار عدم الفعالية وقدر كبير من النفاق. ومع ذلك، فإنّ جزءًا كبيرًا من سبب هذه الصراعات يعود إلى القادة العرب الذين لم يطوروا أي هيكل فعّال لحماية أنفسهم وحل النزاعات والحفاظ على السلام.
القاعدة الرابعة: عزل المنطقة عن حزامها الأمني الطبيعي
تشكل الدول العربية، التي تضم أكثر من 400 مليون نسمة في 22 دولة، قلب الشرق الأوسط، وتحيط بها تركيا وإيران، وهما قوتان إقليميتان هامتان بالنسبة للأمن الإقليمي من منظور عربي. شكلت التطورات التاريخية والديناميات الجيوسياسية العلاقة بين هاتين القوتين الإقليميتين والمنطقة العربية. وتذبذبت هذه العلاقة بين التعاون والصراع. وعلى مدى أكثر من أربعة قرون، حمت الإمبراطورية العثمانية المنطقة العربية من التوسع الأوروبي، بينما تشكل تركيا الآن بوابة استراتيجية إلى الغرب، تربط المنطقة بحلف الناتو وأوروبا، في حين عملت إيران بوصفها حاجزا ضد الطموحات الروسية للوصول إلى البحر الأبيض المتوسط. وأصبحت تركيا العلمانية مصدرًا ملهمًا للعديد من القادة في المنطقة، بينما حافظت إيران قبل الثورة على علاقات سلمية مع دول الخليج العربي ومصر، برغم تطلعات إيران طويلة الأمد للتأثير على منطقة الخليج. ثم شهدت العلاقات العربية الإيرانية توترات واضحة، خصوصًا بعد نجاح الثورة الإسلامية في إيران والقلق بشأن احتمال انتشار التشيع والمد الثوري في الدول الخليجية السنية. وأصبح هذا الأمر أكثر وضوحًا خلال الحرب العراقية-الإيرانية. ويثير حاليا الدور التركي في سوريا وإجراءاتها العسكرية ضد الأكراد قلق بعض الدول العربية. كما أظهر الحصار المفروض على قطر في 2017 مدى أهمية دور أنقرة الإقليمي، إذ لعبت تركيا دورًا حاسمًا في الدفاع عن قطر ضد تدخل عسكري محتمل من دول الخليج الأخرى بقيادة السعودية. ومع مواجهة المنطقة لتحديات أمنية خطيرة وتحالفات متطورة، من الضروري الحفاظ على علاقات إيجابية مع كلا البلدين واعتبارهما حلفاء طبيعيين. كما أبرزت الحرب في غزة أهمية إيران في الأمن الإقليمي. وكانت الاتفاقات الإبراهيمية، التي وقعت في 2020، مصممة جزئيًا لإعادة تشكيل تحالفات المنطقة والدفع بالدول العربية نحو إسرائيل والولايات المتحدة وإبعادها عن تركيا وإيران.
القاعدة الخامسة: دمج المنطقة في الاقتصاد العالمي مع إبقائها تابعة ومتخلفة
المنطقة العربية مدمجة جيدًا في الاقتصاد العالمي، لكن بطريقة غير متوازنة تضر بسيادتها الاقتصادية وتعيق تنميتها الحقيقية. تجلى هذا الاندماج بشكل رئيسي من خلال النفط، وتدفق الاستثمارات، والديون الخارجية. تعتمد المنطقة، وبشكل خاص دول الخليج، على احتياطاتها الضخمة من النفط (30 في المئة من احتياطيات العالم الإجمالية)، وأصبحت مصدرًا رئيسيًا للنفط الخام والغاز الطبيعي، مما يجعلها لاعبًا حاسمًا في سوق الطاقة العالمية. ومع ذلك، كما أشار الباحثان الأمريكيان كليمنت مور هنري وروبرت سبرينجبورغ في كتابهما الصادر عام 2010 “العولمة وسياسة التنمية في الشرق الأوسط”، فإن اقتصاد المنطقة غالبًا ما يُوصف بأنه “غنى أكثر من كونه متطورا.” فعلى الرغم من كونها منطقة ذات دخل متوسط وتستحوذ على ثروات كبيرة، فإن اعتمادها المفرط على النفط ونمط الاقتصاد الريعي بدلا من الإنتاج الحقيقي قد خلق اختلالات هيكلية خطيرة في الاقتصاد وأعاق تنويعه.
تُعتبر تدفقات الاستثمارات مؤشرًا آخر على اندماج المنطقة في الاقتصاد العالمي. يمتلك العالم العربي إمكانات هائلة للاستثمار في قطاعات متنوعة. ومع ذلك، تُوجه معظم التدفقات الاستثمارية، التي بلغت 76 مليار دولار في 2022 (مقارنةً بـ 82.9 مليار دولار في تدفقات خارجة)، إلى قطاعي الطاقة والعقارات. بالإضافة إلى ذلك، فإن المنطقة العربية مدمجة بعمق في الاقتصاد العالمي من خلال القروض الخارجية والمساعدات المالية. في عام 2020، بلغ الدين الخارجي 104 تريليون دولار. هذه القروض تأتي مع شروط قاسية لتحرير الاقتصاد والخصخصة، مما يؤدي غالبًا إلى تبني سياسات تقشف لسداد القروض المستحقة للمؤسسات المالية الدولية (انخفض الإنفاق الحكومي كنسبة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي من 37٪ في عام 2010 إلى 28.7٪ في عام 2020).
وتزايد تكامل دول المنطقة في الاقتصاد العالمي من خلال اتفاقيات التجارة الحرة التي سعت إليها للمساعدة في تنويع اقتصاداتها وجذب الاستثمارات المباشرة. ومع ذلك، فإن شروط التجارة تعمل لصالح الدول المتقدمة والصناعية، مما يكرس حالة التبعية والاختلالات الهيكلية. ومن المدهش أن حجم التجارة بين الدول العربية والعالم الخارجي يتجاوز بكثير التجارة البينية العربية، التي تشكل حوالي 6 في المئة فقط من إجمالي حجم تجارتها. هذا الافتقار إلى التكامل الاقتصادي الداخلي يُضعف التماسك الاقتصادي للمنطقة واستقلالها.
أخيرًا، تتجلى التبعية الشديدة للمنطقة من خلال الإنفاق العسكري المفرط الذي يتجاوز 200 مليار دولار، وهو يمثل أعلى نسبة من الناتج المحلي الإجمالي عالميًا. يوجه هذا الإنفاق العسكري الهائل الموارد بعيدًا عن القطاعات الحيوية مثل الصحة والتعليم، مما يزيد من تفاقم مشكلة التخلف وإعاقة التنمية. ولأن المنطقة العربية هي مستورد رئيس للغذاء والمنتجات الزراعية وتعتمد على السوق العالمية لتأمين احتياجاتها الغذائية، فإنها عرضة بشكل دائم لتداعيات تقلبات الأسعار. وقد راكمت بعض الدول العربية ديونًا هائلة في محاولة لتأمين الاحتياجات الغذائية لشعوبها.
وتزايدت مؤخرا الجهود التي تقودها الولايات المتحدة لإعادة تشكيل المنطقة وضمان التكامل الاقتصادي والسياسي لدولها مع إسرائيل، ولكن من المرجح أن يؤدي ذلك إلى خلق المزيد من الاختلالات الاقتصادية. لقد صُممت الاتفاقيات الإبراهيمية التي هدفت إلى تطبيع العلاقات بين إسرائيل وخمس دول عربية، بما في ذلك الإمارات العربية المتحدة والبحرين والسودان والمغرب، من أجل تعزيز التكامل الاقتصادي لإسرائيل في المنطقة وتعزيز التعاون الاقتصادي في قطاعات مهمة مثل التكنولوجيا والتمويل والسياحة والرعاية الصحية. والفكرة الرئيسة هي الاستفادة من الخبرة التكنولوجية الإسرائيلية لتحفيز الابتكار وريادة الأعمال. ومن المتوقع أن يطغى الاقتصاد المتقدم والمدعوم لإسرائيل على الاقتصادات العربية المتعثرة، مما يزيد من هشاشتها وتبعيتها الخارجية.
تحديات لم يتم مواجهتها
بينما يلعب الفاعلون الخارجيون دورًا كبيرًا في عدم استقرار المنطقة وتخلفها، فإنّ حكام المنطقة يتحملون قدرًا متساويًا أو ربما أكبر من المسؤولية. فعلى الرغم من الاستقلال الاسمي لأكثر من سبعين أو ثمانين عامًا، لم تتمكن الأنظمة العربية من بناء مؤسسات فعالة للتكامل الاقتصادي الإقليمي، أو لحل النزاعات، أو لتحقيق التنمية المشتركة. وبشكل أكثر تحديدًا، فشلت في حل أربع تحديات رئيسة، هي: الهوية، والتحديث، والتنمية الاقتصادية، والحريات.
تحدي الهوية: الثقافة السائدة في المنطقة هي الثقافة العربية، وديانة أغلب سكانها هي الدين الإسلامي في المقام الأول. لكن قادة دول ما بعد الاستعمار تبنوا نموذج الدولة الوطنية وروجوا لهويات قومية ضيقة أو مصطنعة، مما جعل العالم العربي، كما وصفه تشارلي غلاس، “قبائل ترفع أعلاما”. كما أعادت المناهج التعليمية وعملية التنشئة الاجتماعية إحياء الثقافات والحضارات القديمة (مثل الفرعونية والفينيقية والبابلية) كأساس للقومية في “دولة ما بعد الاستعمار”. وطغت هذه القوميات الضيقة على الهوية العربية الإسلامية الأكبر. وظهرت إلى السطح المشاعر الوطنية الفرعية في بعض الدول العربية، داعية إلى الاعتراف بهوياتها المستقلة وحتى الانفصال. وفي ظل غياب أنظمة ديمقراطية مستوعبة لكافة مواطنيها، يحدث هذا انقسامات كبيرة في علاقات الدولة والمجتمع، وغالبًا ما يؤدي إلى قمع الحقوق المشروعة للجماعات الفرعية. ويظهر هذا الصراع حول الهوية بوضوح أكبر بين الأجيال الشابة التي تنشأ بحس مشوش للهوية، ممزقة بين المشاعر الإسلامية والعربية من جانب، والوطنية الضيقة من جانب آخر. لا تقوم القومية العربية على العرق أو الجنس، بل على اللغة والثقافة والتاريخ، واليوم كل هذه العناصر في خطر. وتنتشر ما يسمى ظاهرة “العربيزي” — مزيج من اللغة العربية واللغات الأجنبية، خاصة الإنجليزية — بسرعة بين الشباب والأجيال المتقنة للتكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي، إلى جانب كتابة اللغة العربية بالحروف اللاتينية وعمليات التغريب المستمرة، مما يعمق اغترابهم عن لغتهم وتراثهم الأصليين. ويُعاد اختراع التاريخ، بل وتزويره، لتعزيز هوية معينة. في استطلاع للباروميتر العربي لعام 2019، حدد 27٪ من الشباب العرب هويتهم في الوطنية الضيقة، بينما شعر الأغلبية بالانتماء إلى الهوية العربية والإسلامية الأوسع. ومن غير المرجح أن يتحسن هذا الانقسام دون جهود منسقة وإعادة هيكلة الأنظمة التعليمية لتبني وتعزيز الثقافة العربية والإسلامية التي تشكل حجر الزاوية لهوية المنطقة الأصلية.
تحدي التحديث: استقطبت عملية التحديث قادة الشرق الأوسط منذ نهاية القرن التاسع عشر. كان يُنظر إلى اكتساب أنظمة التعليم الغربية والهياكل القانونية الحديثة والتنظيم العسكري والبيروقراطي والتكنولوجيا والصناعات على أنها مفتاح لبقاء الأنظمة والمجتمعات. لكن هذه العملية كانت مصحوبة بعملية اقتلاع ثقافي عميقة وارتهان للخارج، إذ تم الخلط بينها وبين التغريب والعلمانية في منطقة كانت تسودها القيم والقوانين الإسلامية. وتظهر هذه التناقضات والتبعيات بوضوح في معظم مدن الشرق الأوسط، فبينما يفاخر البعض بوجود “أطول برج” وناطحة سحاب، أو بالمطارات الحديثة، والبنية التحتية المتطورة، فإن فهم هؤلاء للحداثة وجوهر التقدم يظل سطحيًا للغاية. تعلن الدول العربية عن بناء اقتصادات المعرفة وتطوير الذكاء الاصطناعي كأولويات وطنية بينما هي لا تنتج المعرفة في الأساس. ويعمق الاعتماد المتزايد على الغرب في الاستثمار ورأس المال والتكنولوجيا والمعرفة مشكلة التبعية ويُقوض الهوية المميزة للمنطقة. وهذا يمنح المؤسسات الدولية والقوى الخارجية الفرصة لتشكيل أجندة التحديث واستراتيجيات التنمية الخاصة بها. تكشف هذه الفجوة عن عملية تحديث فارغة تركز على التقدم المادي أكثر من رأس المال الفكري، بينما تتجاهل الديناميات الأساسية التي أدت إلى ذلك. يمكن أن تتحقق الحداثة في العالم العربي فقط عندما يستعيد الإنسان العربي إحساسه بالاحترام لذاته والفخر بتراثه الذي أنتج في السابق حداثة وحضارة مزدهرة، وعندما يكتسب كذلك الإرادة لإحداث التغيير والتقدم الذي يتماشى مع قيمه الخاصة.
تحدي التنمية: تدعو حالة التنمية في الدول العربية إلى الحيرة والدهشة. من المؤكد أن المنطقة العربية حققت تطورات اقتصادية ملموسة على مدى العقود الماضية، إلا أنها تتخلف بوضوح مقارنة بالمناطق الأخرى ذات الظروف المماثلة. إنها منطقة متوسطة الدخل، حيث يبلغ متوسط الدخل الفرد فيها 5530 دولارًا. ومع ذلك، فهي الأكثر في عدم المساواة في العالم، حيث يمتلك نحو 10٪ من السكان 58٪ من الثروة في عام 2022. وتعاني المنطقة من تفاوت كبير في الدخل بين الدول، حيث يبلغ نصيب الفرد من الدخل 68,793 دولارًا في الدول الغنية مثل قطر، و314 و824 دولارًا في الدول الفقيرة مثل الصومال واليمن، على التوالي. كما تعاني المنطقة من اختلالات هيكلية تتمثل في الاعتماد على النفط والغاز الطبيعي؛ ونمط الدولة التدخلية؛ والتردد في المضي قدمًا في الإصلاح الهيكلي. ففي المتوسط، يمثل النفط والغاز الطبيعي بين 30 و60٪ من الناتج المحلي الإجمالي للدول العربية، ما يعني نجاحًا ضئيلًا في تنويع الاقتصاد. وتُوجه العائدات من قطاع الطاقة نحو الاستثمارات في مشاريع البنية التحتية والعقارات. وتتدخل الدولة العربية بشكل كبير في الاقتصاد، حيث تحدد استراتيجيات التنمية، وتتحكم في الأسواق، وتدير عملية تشكيل الطبقات الاجتماعية. والهدف من هذا التدخل هو عدم السماح بالاستقلال المالي لفئة اجتماعية يمكن أن تهدد النظام القائم. ونتيجة لذلك، تعاني الأسواق من التشوهات وتدفق رأس المال إلى الخارج.
وسبب الخوف من الاضطرابات الاجتماعية، كان التحرك نحو الإصلاح الهيكلي بطيئًا بشكل ملحوظ. يتجلى ذلك في التردد في فرض الضرائب على الإطلاق في بعض الدول العربية أو تنفيذ أنظمة ضريبية فعالة، وتقليل الإنفاق الحكومي، وتعزيز تحرير التجارة. كما تتردد في إدخال الإصلاحات السياسية والمؤسسية، مثل سيادة القانون، والكفاءة البيروقراطية، والقضاء على الفساد. وتشهد المنطقة العربية زيادات في الفقر المدقع، حيث يعيش واحد من كل أربعة أطفال الآن تحت خط الفقر. وشهدت المناطق المتأثرة بالنزاع زيادات مقلقة في الفقر، حيث بلغ 78.5 في المئة من السكان في اليمن و83 في المئة في سوريا في عام 2019.
تتمتع المنطقة العربية بثروة كبيرة تتمثل في رصيدها من الشباب. حيث إن 60% من سكانها هم تحت سن الثلاثين. ومع ذلك، فإن المنطقة تسجل أعلى معدلات البطالة بين الشباب عالميا. تحتاج المنطقة إلى خلق 10 ملايين وظيفة بحلول عام 2050، وهو ما يتطلب معدل نمو سنوي قدره 7.5٪ لفترة مستدامة لمدة 10 سنوات (حاليًا يبلغ المعدل 3.2٪). ولمواجهة هذه التحديات، تحتاج الدول العربية إلى تطوير نظام اقتصادي عربي موحد لتعزيز التجارة والاستثمارات وتدفق البشر والتنمية الاقتصادية في جميع أنحاء المنطقة، وبناء سوق عربية مشتركة، ومناطق تجارة حرة، وتنسيق اللوائح والجمارك، والاستثمار في البنية التحتية لتعزيز التجارة داخل المنطقة. وهذه الأمور تتطلب بدورها تحركًا جادًا نحو تحسين جودة الإدارة العامة والحكم، وتنويع الاقتصاد، وتوجيهه نحو التصدير، وتحسين بيئة الأعمال، وتطبيق العقود، وتطوير النظام القضائي.
تحدي الديمقراطية وحقوق الإنسان: الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان هما المشكلة الأكثر إلحاحاً في المنطقة العربية. فمن بين 22 دولة عربية، لا تُعتبر أي منها حرة. فقط أربع دول صُنفت بوصفها دولا شبه حرةً — المغرب، الكويت، تونس، ولبنان. لم تتمكن الديمقراطية من ترسيخ جذورها رغم وجود أنظمة برلمانية وإرث ديمقراطي قديم، وإن كان ضعيفاً (أول دستور لتونس عام 1860، ودستور مصر عام 1866، والدستور العثماني عام 1879، والدستور الإيراني عام 1905). كانت هناك أنظمة متعددة الأحزاب حتى الخمسينيات في العراق وسوريا ومصر والمغرب وليبيا. أمّا حالياً، فيتم ترسيخ السلطوية والاستبداد بشكل كبير ويتم ممارستهما على نطاق واسع من خلال “الدولة العميقة” (العسكرية والأمنية وأجهزة الدولة. وعلى الرغم من الانتفاضات الشعبية، المطالبة بالحرية والكرامة، أظهر الاستبداد مقاومة قوية وقدرة كبيرة على البقاء، وذلك بدعم من القوى الإقليمية غير الديمقراطية ودعم قوى دولية أيضا. يتولى القادة السلطة من خلال الحكم الوراثي، أو الترتيبات الطائفية والقبلية، أو دعم الجيش، وموافقة القوى الخارجية. ولا يمكن إزاحتهم من السلطة أو تغييرهم بطرق سلمية. ومعارضة هؤلاء الحكام تُعد خيارًا محفوفَا بالمخاطر والتي لا يمكن تحملها. تؤدي تلك الممارسات لآراء متناقضة بين المواطنين العرب حول مدى صلاحية الديمقراطية. فبينما يعتقدون أن الديمقراطية هي نظام أفضل بشكل عام، فإنهم يشككون في قدرتها على حل المشكلات والحفاظ على الاستقرار. وليس من المفاجئ أن هذه الأنظمة تدعمها القوى الخارجية عسكريا وماليا وبشكل وثيق. وهؤلاء جميعا يشكلون “نخبة عالمية” تفرض مصالح استراتيجية معينة وترسخ سياسات الهيمنة والسيطرة.
يعيق النقص المستمر في الحريات واستمرار الحكم الاستبدادي، والدعم الخارجي له، التقدم نحو عالم عربي ديمقراطي وحُر. وتغذي هذه السياسات التوترات السياسية والطائفية في المجتمع، وتحول دون تقدمه نحو الاندماج والمشاركة الكاملة في عملية صنع القرار.
الاستعمار الداخلي
لا تستطيع الأنظمة العربية الحالية حل هذه التحديات أو القيام بإصلاح حقيقي، فهي عالقة فيما يعرف بــ “معضلة الملك”، بمعنى أنها تعلم أن الإصلاح الجدي والانفتاح الحقيقي سيقوضان أنظمتها. لذلك تفتقر هذه الأنظمة إلى الإرادة والدافع للقيام بذلك. وبدلاً من قيادة شعوبها نحو الاستقلال الحقيقي وتقرير المصير، تبنت هذه الأنظمة العديد من سمات وممارسات القوى الاستعمارية السابقة للبقاء في السلطة.
السمة الأولى هي أن الدولة تحكمها أقلية، سواء أكانت سلالة، أو عائلة، أو قبيلة، أو جنرال عسكري، أو ديكتاتور. ومن المفارقات أن هذا النموذج مدعوم من قبل الدول الغربية التي تجد أنه من الأسهل التعامل مع المستبدين مقارنة بالحكومات المنتخبة ديمقراطيًا والتي تكون مسؤولة أمام شعوبها. لقد قدّم الربيع العربي فرصة ممتازة لتغيير هذه المعادلة، ولكن الدول الغربية كانت أكثر قلقًا بشأن مصالحها الاستراتيجية وفضّلت الاستقرار مع الاستبداد على عدم اليقين الذي قد تجلبه الديمقراطية.
وبدلاً من دعم القوى الديمقراطية الصاعدة في المنطقة، دعمت الدول الغربية الانقلاب العسكري الذي قاده الجنرال عبد الفتاح السيسي في مصر، متجنبة وصفه بالانقلاب لتفادي قطع المساعدات العسكرية التي كانت تقدمها لبلاده. وبالمثل، رضخت للانقلاب على الديمقراطية في تونس، البلد الذي كان مصنفا كبلد حر. كانت المخاوف من تأثير الجماعات الإسلامية ونجاحها في الوصول إلى السلطة عبر العملية الديمقراطية تلاحق الفاعلين الخارجيين، مما زاد من تعقيد الأمور في كلتا الدولتين.
ثانياً، باعتبارها أقلية حاكمة لا تؤمن بالعملية الديمقراطية، تعمل الأنظمة العربية بدرجة كبيرة من الاستقلالية عن مجتمعاتها. فهي تدرك أنها صانعة الطبقات ومحطمتها، وليس العكس. جاءت معظم هذه الأنظمة إلى السلطة بالقوة أو بالتقاليد، وليس من خلال انتخابات ديمقراطية. ونتيجة لذلك، وكما فعلت القوى الاستعمارية القديمة، تفرض رؤاها وقيمها وأيديولوجياتها وهياكلها وقواعدها واستراتيجياتها التنموية من الأعلى، وليس من خلال عملية تشاورية تشارك فيها قطاعات واسعة من المجتمع وتساهم في اتخاذ القرارات. يخلق هذا الافتقار إلى المشاركة والانفصال حالة من الاغتراب بين النخب الحاكمة وبقية الشعب، فيما يتعلق بالقضايا الأساسية مثل عملية التغريب المستمرة، والعدالة الاجتماعية والتوزيع، والأمن. ومؤخراً، كشفت حرب غزة عن الفجوة الهائلة التي تفصل بين هذه النخب وشعوبها.
التشابه البارز الثالث مع الممارسات الاستعمارية هو احتكار استخراج الموارد الوطنية من قبل الأقلية الحاكمة، إذ تعاني معظم الأنظمة العربية، إن لم يكن جميعها، من نقص في الشفافية والمحاسبة المالية. يكشف تراكم الثروات غير الخاضعة للرقابة من قبل العائلات أو الحكام الاستبدادين عن مستوى مذهل من الفساد والاستغلال، وهو ما يذكرنا بالممارسات الاستعمارية. فعلى سبيل المثال، كانت كمية الذهب والنقد الذي وُجدا في خزائن زين العابدين بن علي ومعمر القذافي صادمة. كما أنه غالباً ما تُدرج ميزانيات الجيوش كبند واحد في الموازنات الوطنية، دون أي رقابة من الهيئات التشريعية. تُدار الأموال العامة من قبل النظام الحاكم أو الحاكم الاستبدادي، مع القليل من الشفافية، وغالبًا ما تُستثمر في البلدان الغربية (مصر تحت حكم السيسي قد تراكمت عليها ديون خارجية بقيمة 160 مليار دولار، بينما يتحكم هو شخصيًا في بعض الصناديق الخاصة). يحدث هذا في دول يعيش فيها ثلث السكان أو أكثر تحت خط الفقر. ويتردد صدى استخراج الموارد بلا حدود من قبل أقلية حاكمة صغيرة في الممارسات الاستغلالية للمستعمرين ويزيد من تفاقم الفجوات الاجتماعية ويعيق آفاق التنمية المستدامة.
التشابه الرابع مع الممارسات الاستعمارية هو التبعية الخارجية للأنظمة العربية. لا تزال دول ما بعد الاستعمار في المنطقة تعتمد على القوى الخارجية من أجل أمنها والدفاع عنها واستدامة اقتصادها—بكلمة واحدة، من أجل “البقاء”. لم يتردد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب في جعل ملك المملكة العربية السعودية يواجه تلك الحقيقة القاسية، مذكرًا إياه بأنه “لن يستمر لأكثر من أسبوعين دون دعم الولايات المتحدة.” ينطبق نفس الأمر على مصر وسوريا وربما بقية الدول العربية في المنطقة. ويثير هذا جدلا حول القيم الغربية والمصالح الاستراتيجية، وهي ليست بمعضلة من نوع أيهما أسبق “الدجاجة والبيضة”. فعلى الرغم من ادعاءاتها خلاف ذلك، فإن الدول الغربية ليست مهتمة بوجود ديمقراطية في العالم العربي، لأن ذلك يمكن أن يجلب بسهولة إلى السلطة الإسلاميين أو الحكومات الديمقراطية المسؤولة، ومن ثم يعرض المصالح الغربية للخطر (النفط، حماية إسرائيل، الوصول غير المقيد إلى المياه والممرات الجوية، ومنع ظهور قوة إقليمية قوية). ويفسر هذا تغيير موقف الرئيس جو بايدن تجاه الجنرال السيسي—الذي يُعد بوضوح منتهكًا جسيمًا لحقوق الإنسان وأبسط قيم الديمقراطية – أو الاستعداد لتجاهل جريمة القتل البشعة التي ارتكبها النظام السعودي في حق الصحفي جمال خاشقجي. لا يكرس هذا الدعم النظم الاستبدادية ويخنق الحركات المؤيدة للديمقراطية فحسب، بل يعزز أيضًا الهيمنة الغربية والديناميكيات الجيوسياسية غير المواتية في المنطقة.
وأخيراً، لا يمكن الحفاظ على هذا الوضع دون استخدام القمع وكبح أي مقاومة لهذا النوع من الحكم، مما يشكل تشابهاً آخر مع الحكم الاستعماري. فبسبب عدم امتلاكهم الشرعية الانتخابية وعدم إمكانية التصويت ضدهم، تلجأ الأنظمة العربية إلى القمع وخنق المعارضة بغرض الحفاظ على السلطة. بالإضافة إلى ذلك، تستخدم الدول العربية الغنية سياسة المحسوبية وتوزيع المساعدات لاستمالة سكانها وشراء رضاهم. كما يتم تضخيم دور الجيش والأمن والبيروقراطية لخلق مناخ من السيطرة والخوف والترهيب. وتعد الأجهزة الأمنية ووكالات الاستخبارات أكثر القطاعات تقدمًا وتمويلاً وتجهيزًا. كما تجمع الجيوش العربية الأسلحة الغربية التي تستخدمها في حروبها بالوكالة، أو ضد شعوبها، أو تخزنها في المستودعات ليتراكم فوقها الغبار. وتوظف البيروقراطيات ملايين المواطنين، وتجردهم من استقلالهم المالي وتجعلهم يعتمدون على رواتب الدولة، ما يعرقل ظهور طبقة وسطى مستقلة ماليًا وتدفع نحو الديمقراطية.
ظاهريا، تبدو الأنظمة العربية راسخة وقادرة على الصمود، ويرجع ذلك بشكل رئيس إلى القمع والدعم الغربي، لكن هذه القوة الظاهرة تخفي خلفها درجة كبيرة من الهشاشة. واتضح ذلك بشكل أكبر خلال الانتفاضات الشعبية في عام 2011، فقد انهارت الأنظمة السلطوية الشرسة، مثل نظام بن علي في تونس، ومبارك في مصر، والقذافي في ليبيا، انهارت أمام الانتفاضات الشعبية التي تحدت سلطتها وداعميها الخارجيين.
نحو نظام عربي جديد
خلال خطابه أمام القادة العرب في قمة المنامة بالبحرين في 16 مايو 2024، ألقى الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، الضوء على قصة العرب ووضع خارطة طريق للمستقبل:
لديكم الموارد. لديكم الثقافة. لديكم الشعب.
لكن هناك شرط جوهري واحد للنجاح في عالم اليوم: الوحدة.
مرارًا وتكرارًا، أثبت لنا التاريخ أن الانقسامات تتيح للغرباء التدخل—الترويج للصراعات، وإثارة التوترات الطائفية، وبشكل غير مقصود، تغذية الإرهاب.
هذه هي العقبات أمام التنمية السلمية ورفاهية شعوبكم.
التغلب على هذه العقبات يتطلب كسر الدائرة المفرغة من الانقسام والتلاعب الأجنبي—والمضي قدمًا معًا لبناء مستقبل أكثر سلامًا وازدهارًا لشعوب العالم العربي وخارجها.
ليس هناك وقت أفضل لتتحد المنطقة العربية.
الوحدة والتضامن في جميع أنحاء العالم العربي سيعززان الصوت الحيوي للمنطقة ويعززان تأثيرها على الساحة العالمية.
يمكن أن يساعد ذلك هذه المنطقة في العثور على السلام، والاستفادة القصوى من إمكاناتها الهائلة، والمساهمة بشكل أكبر في الخير العالمي.
في حين أن غوتيريش كان محقًا في رسالته، فإنه وجهها إلى الجمهور الخطأ. فالقادة العرب لديهم أجندات مختلفة تمامًا، تتمحور في معظمها حول البقاء في السلطة وليس على الوحدة.
إن وحدة المنطقة العربية أمرٌ حتمي، وإعادة تشكيلها ضرورةٌ قصوى، إلا أن هذه العملية يجب أن تأتي من الداخل ولا تكون مدفوعة من الخارج. يجب أن تستند إلى روابط ومصالح مشتركة حقيقية وتطلعات صادقة.
من المعروف على نطاق واسع أن مصطلح “الشرق الأوسط” تسمية خاطئة. فهو مصطلح جيوسياسي صنعه الغرب، وغالبًا ما يتم التلاعب به ليتماشى مع أجنداته الجيوستراتيجية. وقد تم استخدامه لدمج دول لا تشكل جزءًا أصيلا من هذه المنطقة ولا تشاركها ثقافتها، وكذلك لتوسيع أو تقليص حدودها الجغرافية لجعلها قابلة للتكيف مع المصالح الاستراتيجية الغربية المتغيرة. لا يوفر مصطلح “الشرق الأوسط” هوية وطنية واضحة ولا يعكس الخصائص الثقافية والروابط التاريخية التي تجمع شعوب المنطقة. ومن الواضح أننا لا نستطيع أن نبدأ بداية جديدة تحت هذا الاسم الخطأ. بالإضافة إلى ذلك، يجب علينا التصدي الفوري لمعالجة قضايا الوحدة والتنوع، والهياكل الإقليمية، والتنمية الاقتصادية، والاندماج والديمقراطية والحكم، والعلاقة مع الغرب.
برغم التجزئة الحالية، تشترك الشعوب العربية في قواسم مشتركة هامة، مما يجعل فكرة الوحدة أو التكامل الوظيفي فكرة مشروعة. ويتطلب هذا إعادة تصور المنطقة من “الشرق الأوسط” إلى “الأمة العربية” أو “الوطن العربي” ليعكس هويتها المشتركة وتراثها الحضاري – كخطوة أولى نحو تحقيق مشروع نهضوي إسلامي – ويسلط الضوء على التجربة التاريخية التي تتجاوز الحدود المصطنعة، ويطلق الإمكانيات الهائلة للتنمية الاقتصادية والتقدم. وفي الوقت نفسه، تُظهر المنطقة العربية كفسيفساء غنية ومتماسكة من الأعراق والثقافات والطوائف المتعددة. سيتطلب ذلك استعادة ثقافة التعددية والتعايش التي ميزت المنطقة لقرون، وإيلاء اهتمام جاد للاعتراف بالتنوع واحترامه.
منذ التسعينيات، تزايد عدد الدول الفاشلة بسرعة كبيرة (الصومال، اليمن، ليبيا، لبنان، السودان، سوريا، العراق). يعود ذلك إلى عوامل متعددة تشمل الانقسامات الطائفية، والقيادة غير الكفؤة، وغياب الديمقراطية، وسوء الإدارة، والتدخلات الخارجية. وقد ساهم غياب الهياكل الإقليمية الفعالة لحل النزاعات وتعزيز التنمية الاقتصادية وتنمية الموارد البشرية بشكل كبير في هذا التدهور. الهياكل الحالية مشلولة بسبب تضارب المصالح وتناقض الأجندات. وسيتطلب أي نظام جديد للدول العربية ضرورة إنشاء هياكل ومؤسسات قوية لاحتواء النزاعات وحلها وبناء السلام.
إن المنطقة العربية غنية بالموارد البشرية والطبيعية، لكنها تعاني من سوء الإدارة، وتفتقر إلى الاستفادة الفعالة من الموارد. إن الاتجاه العالمي هو أن تتحرك الدول نحو التعاون الاقتصادي الإقليمي والتكامل. كانت هذه الفرصة متاحة للدول العربية على مدار ثمانية عقود وأكثر، ولكن للأسف تم اهدارها. وبدلاً من ذلك، طورت الدول منفردة “رؤى وطنية” واستراتيجيات اقتصادية لا ترقى إلى تحقيق اقتصاد متنوع ومستدام وسيادة اقتصادية حقيقية. ويكمن البديل المطلوب في التعاون الهيكلي والتكامل بين الدول العربية لتحقيق تنمية اقتصادية حقيقية. وكما نصح غوتيريش، هذا هو المسار لفتح إمكانات المنطقة، والقضاء على الفقر، وتعزيز الرخاء المشترك.
تعاني المنطقة العربية من عجز واضح في الديمقراطية والحوكمة الرشيدة. ويعتمد تحقيق تقدم ملموس وتغيير في المنطقة على كليهما. يشمل ذلك تمكين المواطنين من حقوقهم السياسية والإنسانية الكاملة؛ وتوسيع نطاق المشاركة في عملية صنع القرار؛ وإنشاء حكومات تمثيلية وهيئات تشريعية ذات سلطة حقيقية ورقابة فعّالة؛ واحترام التعددية؛ وحقوق الإنسان؛ وسيادة القانون؛ وتعزيز الشفافية والمساءلة.
وأخيراً، تحتاج المسألة المعقدة للعلاقة مع القوى الخارجية إلى معالجة جدية. لقد تغيرت نظرة العرب إلى الغرب على مر السنين، من الانبهار بتفوقه التكنولوجي والتقدم، إلى اعتباره قوة معادية تعرقل المنطقة وتقوض استقلالها. إن الدعم الأعمى من الغرب لإسرائيل، ودعمه للأنظمة الاستبدادية، وكبح إمكانات المنطقة، كلها أمور تشير إلى الحاجة لإعادة النظر في طبيعة هذه العلاقة. إذا تم سؤال العرب عن توقعاتهم من الغرب، خاصة بعد بداية الحرب في غزة، فإنّ رد الكثير منهم سيكون “اتركونا وشأننا وأخرجوا من المنطقة.” وحدها الأنظمة الديمقراطية المسؤولة يمكنها استعادة التوازن والاحترام في هذه العلاقة وتنفيذ الإصلاحات الهيكلية الضرورية، وتحقيق التنمية الاقتصادية، وتحسين الحوكمة.