مقدمة:

من المؤكد أن الانتخابات الرئاسية الأمريكية حدث عالمي بالغ الأهمية، لكن تأثيرها على أفريقيا ظل محدودًا نسبيًا بسبب الاتفاق السياسي التقليدي بين الحزبين الأمريكيين حول القارة، فمنذ إدارة كلينتون كانت المقاربة الأمريكية تتبنى صيغة مماثلة، تتضمن برامج التنمية والحديث الطموح حول الديمقراطية وحقوق الإنسان والشراكات الأمنية والتي أبقت العلاقات الأمريكية – الافريقية على مسار ثابت، ولكن ليس أكثر من ذلك.

وفي خضم سلسلة من الصدمات العالمية والأميركية، منذ جائحة كوفيد-19 إلى احتجاجات جورج فلويد وأحداث السادس من يناير 2021 في أمريكا، والحرب في أوكرانيا والحرب على غزة، واشتعال التوترات الجيوسياسية في القارة الافريقية من شرقها في القرن الأفريقي إلى غربها في منطقة الساحل، ثم أزمة السودان، فضلاً على تصاعد المنافسة العالمية والإقليمية على النفوذ في القارة، هذه المتغيرات تستدعي بلورة مقاربة أمريكية جديدة نحو القارة لاسيما أفريقيا جنوب الصحراء باستثناء بعض الدول التي طورت واشنطن بالفعل شراكتها معهم خلال الفترة الماضية مثل كينيا وأنغولا .

 وفي الوقت نفسه، يعمل الاستقطاب السياسي العميق و المتنامي في الولايات المتحدة على تقويض حتى المجالات التقليدية للاتفاق الحزبي، مثل السياسة تجاه أفريقيا، ونتيجة لهذا فإن نتيجة انتخابات نوفمبر 2024 من شأنها التأثير على مجموعة من الأسئلة السياسية التي لا تهم أفريقيا فحسب، بل ستؤثر أيضا على مصداقية الولايات المتحدة في القارة لسنوات قادمة.

يحاول هذا المقال استشراف مستقبل وأبعاد العلاقة بين أفريقيا والولايات المتحدة، في ضوء توجهات من سيحكم البيت الأبيض لأربع سنوات مقبلة، بعد أن اشتعلت المنافسة بين مرشح الحزب الجمهوري دونالد ترامب زعيم حركة (ماجا) المثيرة للجدل وبين كاميلا هاريس مرشحة الطوارئ للحزب الديمقراطي.

كثير من الضجيج قليل من الطحين 

يعد تقييم أداء إدارة الرئيس المنتهية ولايته جو بايدن نحو أفريقيا أمراً ضرورياً، لمعرفة المكانة الحالية للولايات المتحدة في القارة، والتي تمثل الأرضية التي سيبدأ منها ساكن البيت الأبيض الجديد تعاطيه مع أفريقيا.

كان بايدن يسعى لتعويض التراجع الكبير الذي طرأ على العلاقات الامريكية -الافريقية خلال سنوات حكم سلفه دونالد ترامب، وبعد نحو شهر واحد من توليه منصبه قال بايدن في خطابه إلى قمة الاتحاد الأفريقي في فبراير 2021 “إننا نؤمن بدول أفريقيا، وبروح ريادة الأعمال والابتكار التي تسود القارة بأكملها. وعلى الرغم من التحديات التي تنتظرنا، وعظمتها، فلا شك أن دولنا وشعوبنا والاتحاد الأفريقي قادرون على القيام بهذه المهمة”، وبعد نحو عام ونصف من هذا الخطاب أطلق بايدن (استراتيجية الولايات المتحدة نحو أفريقيا جنوب الصحراء)، كان محورها الأساسي هو التزام  الولايات المتحدة بتطوير شراكتها مع القارة لتحقيق التنمية المستدامة، وأنه أينما يتم اتخاذ القرارات ذات التأثير العالمي يجب سماع الأصوات الأفريقية، وفي ديسمبر 2022 بَدَا بايدن متحمساً وهو يخاطب زعماء 49 دولة أفريقية حضروا قمة زعماء الولايات المتحدة وأفريقيا  في واشنطن، مؤكداً على عزم بلاده الأكيد على المضي قدمًا في تحقيق الأهداف الأربعة التي حوتها هذه الاستراتيجية، والتي تتعلق بمساعدة المجتمعات الأفريقية في تعزيز الانفتاح المجتمعي على العالم وترسيخ الممارسة الديمقراطية والاستجابة للتحديات الأمنية إضافة إلى تعزيز التعافي من الوباء وإتاحة الفرص الاقتصادية مع دعم الحفاظ على البيئة والتكيف مع المناخ والتحول العادل للطاقة.

والآن بعد عامين من هذه الوعود واقتراب نهاية الفترة الرئاسية الأولى والأخيرة لجو بايدن، نجد أنه من الصعب الوقوف على تقدم واقعي ملموس في أي من هذه الأهداف، بل على العكس فشلت إدارته في الاستجابة للتحديات التي تواجه أفريقيا سواء على المستوى الجيوسياسي أو الاقتصادي أو الأمني مما فتح الباب لتسجيل خصم ملحوظ للنفوذ الأمريكي التاريخي في أفريقيا لصالح قوى عالمية أخرى، إلى جانب تأييد إدارة بايدن المطلق لإسرائيل في هجومها على غزة، حيث ينظر للقضية الفلسطينية على نطاق واسع في افريقيا انها انعكاسا للتجربة المريرة التي خاضتها القارة مع القوى الاستعمارية وهو ما تجلى في المظاهرات الشعبية الرافضة للعدوان الاسرائيلي في عدد من الدول الافريقية وأيضاً في قمة الاتحاد الأفريقي التي انعقدت في فبراير 2024 إذ تصدر التضامن الأفريقي مع الشعب الفلسطيني وقضية غزة القمة الأفريقية، بينما واجهت إسرائيل منعًا من حضور جلسات القمة الافتتاحية، ووصف رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي موسى فكي ما تتعرض له غزة بالإبادة الجماعية، مؤكداً دعم موقف دولة جنوب أفريقيا التي رفعت في أواخر ديسمبر الماضي دعوى قضائية أمام محكمة العدل الدولية لادانة الانتهاكات الاسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني،
بالرغم من تواضع استجابة إدارة بايدن للأزمة السودانية، التي أدت إلى واحدة من أشد الأزمات الإنسانية الحالية وأسهمت في واحدة من أكبر موجات النزوح عالميًا خلال العقد الأخير، فقد أصبحت السودان ساحة لحرب بالوكالة بين قوى إقليمية تُعد حليفة لواشنطن. هذا بالإضافة إلى أن بايدن لم يفِ حتى الآن بوعده بزيارة أنغولا، إذ أرجأها عدة مرات. ربما كان التعهد الوحيد الذي نفّذه تجاه القارة الإفريقية هو الإعلان مؤخرًا لمنح إفريقيا مقعدين دائمين في مجلس الأمن الدولي، بدلًا من مقعد واحد، دون أن يشمل ذلك حق النقض (الفيتو).

سيواجه خليفة بايدن بلا شك إرثه الثقيل الذي سيتركه وراءه، إلا أن الدرس الأهم الذي ينبغي على الرئيس الأمريكي القادم استيعابه فيما يتعلق بأفريقيا هو أن التوقعات التي لم تتحقق قد تكون أكثر إيلامًا من الوعود التي لم تُقدم أساسًا.

علي طاولة المكتب البيضاوي 

تحديات متعددة ستواجه الإدارة الأمريكية القادمة إذا ما قررت تعميق وإعادة تجسير العلاقة مع أفريقيا لعل في مقدمتها أن الساحة أصبحت مليئة باللاعبين وبينهم تنافس محموم أكبر من أي وقت مضى مما جعل البعض يعتبر القارة ميداناً للحرب الباردة الجديدة وهو خلاف ما كان سائدًا منذ القرن الـ19. إضافة إلى أنه خلال العقد الماضي عملت بعض الدول الافريقية بنشاط على تنويع شراكاتها السياسية والاقتصادية والأمنية بعيدًا عن واشنطن، حتى وإن تعارض ذلك أحيانًا مع المصالح الأمريكية.

في مطلع سبتمبر الماضي انعقدت القمة التاسعة لمنتدى التعاون الصيني – الإفريقي (فوكاك) التي تقام بصفة دورية كل 3 سنوات منذ العام 2000 في بكين واستهل الرئيس الصيني شي جين بينغ خطابه في افتتاح القمة مستشهدًا بمثل صيني معبر “إن الزهور في الربيع تتحول إلى الثمار في الخريف، والحصاد الوافر هو بمثابة مكافأة للعمل الجاد”، على مدى العشرين سنة الماضية أصبحت الصين أكبر شريك تجاري لأفريقيا، والمستثمر الأكبر في البلدان الأفريقية، وأكبر دائن لها، وقد بلغت قيمة التجارة الصينية مع الدول الأفريقية في عام 2023 نحو 280 مليار دولار في حين بلغ حجم التبادل التجاري بين الولايات المتحدة وأفريقيا نحو 83 مليار دولار فقط في العام 2021 إلى جانب ذلك زاد الاستثمار الأجنبي المباشر الصيني بشكل كبير على مدى العقدين الماضيين ففي عام 2003 بلغ تدفق الاستثمار الأجنبي المباشر السنوي من الصين إلى أفريقيا نحو 75 مليون دولار ليبلغ ذروته عام 2021 حوالي 5 مليار دولار، تجاوزت تدفقات الاستثمار الصيني المباشر إلى أفريقيا تلك القادمة من الولايات المتحدة منذ عام 2013، حيث كانت تدفقات الاستثمارات الأمريكية المباشرة في انخفاض بشكل عام منذ 2010، وبينما كانت حصة الصين من إجمالي الدين العام الخارجي لدول أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى أقل من 2% قبل عام 2005، فقد نمت إلى نحو 17%، أي ما يعادل 134 مليار دولار، بحلول عام 2021، كما وعدت بكين في ختام أعمال (فوكاك)  بتقديم دعم مالي لأفريقيا بقيمة 50 مليار دولار على مدار الأعوام الثلاثة المقبلة مع إعفاء الواردات القادمة من 33 دولة أفريقية التي تُعد من الاقتصادات الأقل نموًا، من الرسوم الجمركية، فضلًا عن توسيع الوصول إلى سوق الصين الذي يعد ثاني أكبر اقتصاد في العالم، هذا بجانب تعزيز التعاون في المجالات العسكرية والأمنية، وكأن بكين تترجم على أرض الواقع أجندتها الاستراتيجية مع أفريقيا والتي أسمتها “شراكة بين متساويين”.

من ناحية أخرى استطاعت روسيا أيضًا تعزيز شراكتها الأمنية مع الدول الأفريقية لاسيما في منطقة الساحل، بعد التغيرات السياسية الأخيرة في كل من بوركينا فاسو ومالي والنيجر، الفضل في ذلك يعود بشكل أساسي الى مجموعة فاغنر شبه العسكرية التي جرى إعادة هيكلتها مؤخراً إلى الفيلق الافريقي، فيما أعلنت نيامى  مؤخراً عن إغلاق قاعدتين عسكريتين للولايات المتحدة لديها، أحدهما كانت للطائرات المسيرة وهو ما وصفته مجلة الفورين بوليسي بالفشل الذي تحتاج معه السياسة الأمريكية نحو أفريقيا إلى إعادة ضبط، جاء وصف مجلة “فورين بوليسي” قبل أن تعلن تشاد في بيان رسمي نفيها الموافقة على عودة القوات الأمريكية إلى أراضيها، وذلك وفقًا لتصريح الجنرال كينيث إيكمان من القيادة العسكرية الأمريكية في أفريقيا (Africom). وكانت القوات الأمريكية قد غادرت تشاد قبل ستة أشهر بناءً على طلب انجمينا، التي أعلنت في الوقت نفسه عن افتتاح المبنى الجديد للمركز الثقافي الروسي، لتبدأ (أفريكوم) وعلى غير المعتاد رحلة البحث عن  قواعد جديدة محتملة للقوات الأمريكية في كوت ديفوار وبنين وتشاد وليبيا بما يضمن تواجد لها في المنطقة لمواجهة النفوذ المتزايد للجماعات الجهادية التابعة لتنظيمي القاعدة والدولة الإسلامية. موسكو ايضاً عززت من اتصالاتها مع الجيش السوداني مع إعادة الحديث عن استحقاق القاعدة الروسية في بورتسودان، إلى جانب نفوذها في جمهورية أفريقيا الوسطى الذي مكنها من تجنيد شباب من بانغي للقتال في حربها ضد أوكرانيا.

هذا فضلاً عن التوتر المتصاعد في القرن الأفريقي والذي يلقي بظلاله على البحر الأحمر وما يمثله من أهمية استراتيجية لحركة الملاحة العالمية، على خلفية حرب التيغراي وسعي إثيوبيا لامتلاك منفذ بحري سيادي، إلى جانب الوجود القوي لتنظيم الدولة الإسلامية ولحركة شباب المجاهدين في الصومال، مؤخراً نقلت CNN عن مصادر استخباراتية أمريكية وجود اتصالات بين الأخيرة وحركة الحوثي في اليمن في إطار سعي الجماعات المسلحة لتعزيز نفوذها الإقليمي وتأمين مصالحها الاستراتيجية المشتركة في المنطقة. 

مبادرة الحزام والطريق مقابل ممر لوبيتو

أما فيما يخص السباق التقليدي على الثروات الطبيعية بالقارة لاسيما احتياطيات أفريقيا الوفيرة من المعادن النادرة والمواد الخام الحيوية والعناصر الأساسية لتقنيات الطاقة المتجددة Critical Minerals، فيبدو أن مبادرة الحزام والطريق الصينية التي تم الإعلان عنها في 2013 أكثر جذبًا للدول الأفريقية من خطة إعادة إحياء  ممر لوبيتو في جنوب غرب القارة الأفريقية التي أعلن عنها بايدن قبل عام.

مبادرة الحزام والطريق هي إستراتيجية اتبعتها الصين للسيطرة على سلاسل توريد المعادن الحيوية، معتمدة على استثمار مليارات الدولارات في بناء الطرق ومحطات الطاقة والموانئ والسكك الحديدية والبنية الأساسية الرقمية في جميع أنحاء العالم، وخلال العقد الماضي، شهدت مبادرة “الحزام والطريق” استثمار الصين نحوتريليون دولار أميركي في مشروعات البنية التحتية بالدول النامية، وحتى الآن وقَّعت 52 حكومة إفريقية مذكرات تفاهم مع الصين بشأن الانضمام إلى مبادرة الحزام والطريق، حصلت الدول الافريقية علي استثمارات صينية فى إطار هذة المبادرة تقدر بـ 10 مليارات دولار سنويًا في الفترة من 2012 إلى 2018، وبحلول منتصف العام الماضي شهدت بلدان مبادرة الحزام والطريق في بلدان افريقيا جنوب الصحراء الكبرى زيادة بنسبة 130% في الاستثمارات الصينية لتصبح ثاني أهم منطقة مستهدفة لاستثمارات مبادرة الحزام والطريق (بعد شرق آسيا)، ساهمت المقاربة الصينية في تعزيز وصول بكين الى الثروات الأفريقية من هذه المعادن، في جمهورية الكونغو الديمقراطية بشكل خاص تسيطر الصين على أكثر من 80% من مناجم النحاس، كما أصبحت المسؤولة عن استخراج أغلب المعادن النادرة هناك بما في ذلك الكوبالت وهو معدن أساسي في تصنيع بطاريات السيارات الكهربائية وطائرات إف-35 المقاتلة.

استحوذت شركة التعدين الصينية CMOC على ما يزيد عن ثلث إمدادات الكوبالت العالمية من خلال مناجمها في جمهورية الكونغو الديمقراطية. إضافة إلى ذلك، استثمرت الصين حوالي 4.5 مليار دولار في قطاع تعدين الليثيوم في دول أخرى، مثل زيمبابوي وأنغولا وناميبيا، خلال الفترة الممتدة بين عامي 2018 و 2023. أما خطة إعادة إحياء ممر لوبيتو الأمريكية التي تهدف إلى تصدير الكوبالت والنحاس، بالإضافة إلى اليورانيوم ومعادن استراتيجية أخرى، مباشرةً إلى الولايات المتحدة من وسط أفريقيا، خاصة من جمهورية الكونغو الديمقراطية وزامبيا عبر ميناء لوبيتو في أنغولا على المحيط الأطلسي، فقد جاءت متأخرة وتواجه العديد من التحديات، من بينها قضايا تتعلق بالسلامة والتشغيل، حيث قد تؤدي الحرب الأهلية في شرق الكونغو إلى تأخير أو تعليق بناء الجزء الخاص بالكونغو من المشروع. كما توجد مشكلات تتعلق بالجدوى الاقتصادية والتجارية، إضافة إلى المنافسة الجيوسياسية المتزايدة مع الصين، مما يتطلب من واشنطن أولاً بناء الثقة مع الشركاء المحليين وتقديم فوائد ملموسة تتوافق مع تطلعات الدول الأفريقية. 

على الصعيد الاقتصادي، يعد قانون النمو والفرص في أفريقيا (AGOA) تشريعًا أصدرته إدارة كلينتون في عام 2000، ويتيح للدول الأفريقية المؤهلة تصدير منتجات معينة إلى الولايات المتحدة معفاة من الرسوم الجمركية، بهدف تحويل العلاقة بين الطرفين من المساعدات إلى التجارة. حتى الآن، استفادت 32 دولة أفريقية فقط من أصل 54 من هذا القانون، فيما تذهب 80% من عوائده إلى خمس دول أفريقية فقط. خلال إدارة بايدن، استبعدت 7 دول من هذا القانون، بينما سُمِحَ بانضمام دولتين جديدتين. من المتوقع أن يخضع AGOA للتجديد في العام القادم، مما يثير حالة من عدم اليقين حول استمراره، خاصة إذا عاد ترامب إلى البيت الأبيض، حيث كانت إدارته السابقة تنتقد مثل هذه القوانين. 

في الوقت نفسه، تفاقمت أزمة الديون في أفريقيا مؤخرًا، مما يعيد إلى الأذهان أزمة مماثلة شهدتها القارة في الثمانينات، والتي أدت إلى تداعيات اقتصادية سلبية كبيرة، إجمالي الدين العام في أفريقيا وفقاً للبنك الافريقي للتنمية قُدر بنحو 1.1 تريليون دولار في عام 2022، مع توقعات أن يكون قد وصل إلى 1.13 تريليون دولار بنهاية عام 2023، وكان من مسببات تفاقم أزمة الديون الأفريقية التوترات الجيوسياسية العالمية التي تعد الولايات المتحدة طرفاً فاعلاً فيها، إلى جانب التشديد النقدي الذي أقره الفيدرالي، وكان من تداعياته تخلف ثلاث دول أفريقية حتى الآن عن سداد ديونها، إضافة إلى خمسة وعشرون دولة أفريقية تعاني من الديون أو معرضة بشدة لخطر المديونية الحرجة،
انعكاسًا لذلك، أصبحت قضية إصلاح المؤسسات المالية الدولية من أبرز القضايا المشتركة التي طرحتها الوفود الأفريقية خلال القمة الـ 79 للأمم المتحدة قبل نحو شهر. جاءت المطالب الأفريقية مستوى عالٍ من الطموح، مصحوبة بخطاب قوي، حيث أكد الزعماء الأفارقة على ضرورة إصلاح الهيكل المالي الدولي وقواعد عمل مؤسساته لضمان تمثيل عادل للدول النامية في عملية صنع القرارات المتعلقة بالحوكمة الاقتصادية الدولية، والتي تؤثر بشكل مباشر على مسار تنميتها الوطنية. من ناحية أخرى، انضمت كل من مصر وإثيوبيا مؤخرًا إلى تكتل “البريكس” الذي تقوده الصين وروسيا، في حين أعربت دول أفريقية أخرى عن رغبتها في الانضمام إلى هذا التكتل، الذي يُنظر إليه من قبل البعض كمحاولة لبناء نظام اقتصادي عالمي جديد بعيدًا عن الهيمنة الأمريكية.

أما على صعيد قضايا المناخ فلم تقدم الولايات المتحدة الدعم المناسب لأفريقيا بصفتها القارة الأكثر تضرراً من التغيرات المناخية وفي نفس الوقت الأقل مسؤولية عنها. 

آخر هذه التحديات التي تواجه الإدارة الأمريكية القادمة في مقاربتها نحو أفريقيا وربما أعقدها هي القناعة التي أصبحت راسخة لدى قطاع واسع داخل بعض الدول الأفريقية أن واشنطن تفرض قيمها الاجتماعية كشرط مسبق لبرامجها التنموية وحتى الإنسانية بالقارة مثل البند الذي يلزم الدول باحترام حقوق المثليين وتوسيع نطاقها، وفقًا لسياسة إدارة بايدن، وهو ما انعكس عمليًا في طرد أوغندا من قانون النمو والفرص في أفريقيا (AGOA) العام الماضي بسبب عدم التزامها بهذه السياسة. كما تم تعليق تمويل الخطة الأمريكية الطارئة للإغاثة من الإيدز (PEPFAR) بقيمة مليار دولار أمريكي، نتيجة مزاعم الجمهوريين بأن البرنامج يدعم أيضًا تمويل عمليات الإجهاض في الخارج.

اتجاهات مرشحي الرئاسة الأمريكية نحو افريقيا 

فيما يخص مرشح الحزب الجمهوري دونالد ترامب فقد شهدت أفريقيا تجربة سابقة في ولايته الأولى بها سلبيات كثيرة، وفي تكثيف بليغ يصف روناك غوبال داس مدير مؤسسة “سيغنال ريسك” المتخصصة في إدارة المخاطر بالقارة الأفريقية النهج الذي اتبعه ترامب تجاه أفريقيا بأنه تراوح بين “الازدراء والإهمال”. 

هذا عن ماضي ترامب القريب مع القارة الأفريقية أما بخصوص المستقبل هناك ثلاثة تيارات أساسية داخل الحزب الجمهوري تتنافس فيما بينها على التأثير في السياسة الخارجية أولها أنصار الهيمنة الذين يدعمون استمرار قيادة الولايات المتحدة دوليًا وبقاء القوات العسكرية الأمريكية في مختلف أنحاء العالم أما الثاني فهو تيار العزلة الذين يريد أنصاره تقليص دور الولايات المتحدة الأمني في الخارج بشكل جذري بينما التيار الأخير فهو الوسط الذي يدعو لتركيز السياسة الخارجية الأمريكية على آسيا والصين.

من جهة أخرى، أصبح ترامب مسيطرًا بشكل كبير على المعسكر الجمهوري، وهو في الوقت نفسه قائد حركة “لنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى” والمعروفة اختصارًا بـ “ماجا” (MAGA)، والتي كان لها تأثير ملموس على السياسة الخارجية للولايات المتحدة، بما في ذلك علاقاتها مع أفريقيا، والتي من أبرز ملامحها الانعزالية والسعي لتقليص الوجود الأمريكي، حيث حدث في فترة ولاية ترامب الأولى تراجع ملحوظ في تعامل الولايات المتحدة التقليدي مع أفريقيا، فقد قامت الإدارة بتقليص ميزانيات المساعدات، وانسحبت من المبادرات المتعددة الأطراف التي كانت منذ فترة طويلة ركائز العلاقات بين الولايات المتحدة وأفريقيا. وشهدت برامج مثل فيلق السلام انخفاضاً في التمويل، وواجهت المبادرات الرامية إلى مكافحة أمراض مثل فيروس نقص المناعة البشرية والملاريا حالةً من عدم اليقين، وكان هذا التخفيض بمثابة إشارة للعديد من الدول الأفريقية بأنها لم تعد قادرة على الاعتماد على الولايات المتحدة كشريك ثابت في جهود التنمية والجهود الإنسانية، ولم يقم ترامب بأي زيارة لأفريقيا، صحيح أن بايدن فعل الشيء نفسه لكنه استقبل زعماء بعض الدول الأفريقية في القمة الأمريكية الأفريقية الثانية أواخر عام 2022، لذا في حالة عودة ترامب للبيت الأبيض فمن المرجح أن تتنافس التيارات الثلاثة داخل الحزب الجمهوري السابق الإشارة إليها في توجيه السياسة الخارجية نحو أفريقيا بشرط أن تتماهى مع توجهات حركة (ماجا) في ثوبها الجديد وعليه من المحتمل أن تعود السياسات الأمريكية إلى اتّباع منظور أكثر عزلة وتقييدًا للعلاقات الدولية أو أن يؤدي التركيز المتجدد على المصالح الأمريكية المباشرة إلى تعزيز التوترات الجيوسياسية في القارة، خاصة في ظل المنافسة المتزايدة مع الصين وروسيا.

على الجانب الآخر لم تقدم مرشحة الطوارئ للحزب الديمقراطي كاميلا هاريس تصوراً واضحاً حول مستقبل العلاقات الأمريكية الأفريقية، كما يبدو أن السردية التي تقدمها هاريس باعتبارها من نسل المهاجرين ذوي الأصول الأفريقية والهندية التي شقت طريقها التعليمي ثم كافحت وظيفيًا وسياسيًا لتصبح مدعيًا عامًا في مدينة سان فرانسيسكو ثم ولاية كاليفورنيا لا تجد صدى واسعًا لدى الدول الإفريقية كما حدث مع حالة الرئيس الأسبق باراك أوباما، كما أن الفكرة القائلة بأن رئيسًا أميركيًا ذو جذور أفريقية من شأنه أن يرفع من أهمية القارة في واشنطن بطريقة أو بأخرى سرعان ما تبددت على يد إدارة أوباما التي لم تبتعد كثيرًا عن المقاربة الأمريكية التقليدية نحو القارة التي تتفاخر بالديمقراطية وحقوق الإنسان في حين تسعى في الوقت نفسه إلى تحقيق مصالحها التي كثيرًا ما تتعارض مع قيمها المعلنة.
يتميز الحزب الديمقراطي بتحالفاته الواسعة مع الأقليات الأمريكية، وخاصة الأمريكيين من ذوي الأصول الأفريقية، واللاتينية، والآسيوية. ومن المحتمل أن تستند مقاربة كامالا هاريس تجاه أفريقيا بشكل رئيسي إلى استراتيجية بايدن المتعلقة بالقارة، والتي تم ذكرها سابقًا. إضافة إلى ذلك، أعلنت هاريس في قمة قادة الولايات المتحدة وإأفريقيا في ديسمبر 2022 عن تأسيس مجلس الشتات الإفريقي، الذي يُعد أول مجلس استشاري رئاسي من نوعه في البيت الأبيض. ومع ذلك، لم يظهر حتى الآن أي دور ملموس أو تأثير فعلي لهذا المجلس على السياسة الأمريكية رغم مرور عام على إنشائه.

ختامًا وبغض النظر عن شخصية الرئيس القادم للبيت الأبيض فعلى أمريكا تقديم مقاربة مختلفة نحو القارة تتطلب جهدًا مضاعفًا لإقناع الدول الإفريقية بأن الشراكة مع الولايات المتحدة هي الخيار الأمثل لكلا الطرفين، وأن واشنطن مستعدة لتقديم تنازلات حقيقية لتحقيقها، كما أن كلفة التأخير في التعاطي بإيجابية مع تحديات هذه الشراكة قد تكون كبيرة وغير متوقعة على المصالح الاستراتيجية الأمريكية بالقارة الإفريقية.