مقدمة

من الواضح أن إبرام حكومة اليمين الإسرائيلي لصفقة تبادل الأسرى مع حماس لم يمرّ بهدوء على الائتلاف الحاكم، في ضوء معارضتها منذ بداية الحديث عن خطوات جدية لتنفيذها مع الإعلان عن فوز الرئيس الأمريكي دونالد ترمب في الانتخابات أوائل نوفمبر 2024، حيث تبين حينها أن رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو كان واقعاً تحت ضغوط وابتزاز شركائه اليمينيين الذين طالما حذروه من مغبة الإقدام على وقف الحرب، والاتفاق على صفقة التبادل.

وبالفعل فقد نفّذ أحد شركائه إيتمار بن غفير تهديده بالاستقالة، وبقي الآخر بيتسلئيل سموتريتش معلقاً استقالته في حال لم تعد الحكومة للحرب بانتهاء المرحلة الأولى من الصفقة التي تنتهي أوائل مارس المقبل، فقد هدد شريك ثالث ممثل بالحاخام آرييه درعي وقادة اليمين الديني بحلّ الحكومة في حال لم يقرّ قانون التهرب من الخدمة العسكرية في الجيش لعناصره الحريديم.

التقدير التالي يسلط الضوء على أبرز معالم مستقبل الائتلاف الحكومي اليميني في ظل المضيّ قدما في إبرام صفقة التبادل، وما هي العقبات التي قد يضعها شركاء نتنياهو أمامه في حال مضى نحو المرحلتين الثانية والثالثة من الصفقة، وأين يكمن الموقف الأمريكي في عدم منح هؤلاء الشركاء لاستخدام حق النقض على استكمال مخططها الخاص بطيّ صفحة الحرب، والاتجاه نحو مخططات إقليمية ودولية.

توليفة دينية قومية

من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن الائتلاف اليميني الحاكم في إسرائيل المشكل من ستة أحزاب، وهي: “الليكود ويهودوت هاتوراة وشاس والصهيونية الدينية والعصبة اليهودية ونعوم وأمل جديد”، ويمثل توليفة متطرفة في جانبيها القومي والديني، ويوصف بأنه الائتلاف الأكثر يمينية وتطرفاً في تاريخها، ومع ذلك فلم تكن مواقفه متطابقة إزاء صفقة التبادل مع حماس.

وفيما أبدى اليمين الديني ممثلا بحزبي شاس ويهودوت هاتوراه، لاسيما الحاخام آرييه درعي، ترحيباً بإبرام الصفقة انطلاقا من معتقدات توراتية تنادي بتخليص اليهود من أيدي آسريهم، وبكل ثمن، ومنحوا رئيس الحكومة نتنياهو كامل الدعم والإسناد للمضيّ قدما في الصفقة، فقد وقف اليمين القومي ممثلا بالصهيونية الدينية والعصبة اليهودية، بالمرصاد لأي تحرك يقضي بوقف العدوان على غزة، واستعادة المختطفين مقابل إطلاق سراح آلاف الأسرى الفلسطينيين.

ليست المرة الأولى التي يقف فيها الائتلاف الحكومي أمام مفترق طرق، وسط خلافات عاصفة أحاطت به منذ تشكيله في ديسمبر 2022، لكن الخلاف هذه المرة أخذ أبعادا سياسية وأمنية واستراتيجية، بل وشخصية في كثير من الأحيان، مما منح بعض شركاء نتنياهو الفرصة لأن يمارسوا عليه ابتزازاً سافراً، دون أي اعتبار أخلاقي.

مع العلم أن المعارضة الاسرائيلية، لاسيما زعيمها يائير لابيد، والجنرالين بيني غانتس وغادي آيزنكوت، منحت نتنياهو شبكة أمان برلمانية في الكنيست لتفادي أي معارضة داخلية من قبل اليمين، لكن الأخير رفض اللجوء لهذا الخيار، بحجة أنه لا يريد أن يكون ممتنّاً لخصومه، مفضّلا في الوقت ذاته أن يلجأ لألاعيبه الحزبية، وبموجبها استطاع “تدوير الزوايا” مع شركائه حديثي العهد في العمل السياسي والحزبي، وهو ما نجح فيه فعلاً، على الأقل حتى كتابة هذه السطور..

استقالات مباشرة وأخرى مشروطة 

لم يتردد وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، زعيم العصبة اليهودية، الموصوف بأنه “وزير التيك توك”، في تقديم استقالته من الحكومة قبل ساعات معدودة من تنفيذ صفقة التبادل صباح الأحد التاسع عشر من يناير، بزعم أنه لا يريد أن يوقع على قرارات إطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين من سجون الاحتلال، التي يتولى الإشراف عليها بموجب موقعه الوزاري.

اللافت أنه باستقالته غير المفاجئة، تعهد بن غفير بأنه لن يُسقط حكومة نتنياهو، لحرمان خصومه من الوسط واليسار من العودة للسلطة، وفي الوقت ذاته مُعلناً أنه سيعود للحكومة في حال تراجعت عن استكمال مراحل صفقة التبادل، والعودة للحرب مجددا في غزة.

صحيح أن استقالة بن غفير ووزرائه من الحكومة لم يؤثر في بقائها، لأن نتنياهو يحوز على أغلبية في الحكومة والمجلس الوزاري المصغر للشئون الأمنية والسياسية- الكابينت، لكن الأخير معني بألا يسمح بزعزعة استقراره الحكومي، ولذلك فقد بذل جهودا حثيثة، ما زالت مستمرة حتى اليوم، لإعادة بن غفير الى صفوف الحكومة، ولعله ينجح في هذه المساعي.

في المقابل، لم يسارع سموتريتش زعيم الصهيونية الدينية، ووزير المالية والوزير بوزارة الحرب، في تقديم استقالته، ومارس أسوأ أنواع الابتزاز على نتنياهو، الذي اضطر للاجتماع به ست مرات خلال 36 ساعة، لإقناعه بالعدول عن خطوته تلك، وهو ما نجح فيه، وجعله يعلّق استقالته الى حين استجابة الحكومة لمطلبه المتمثل بالعودة للعدوان على غزة مع انتهاء المرحلة الأولى من الصفقة.

لم يكن امتناع سموتريتش عن تقديم استقالته رغبًة فقط بالإبقاء على حكومة نتنياهو، بل لاعتقاده الجازم أنه في أي انتخابات مبكرة قادمة قد تجري خلال الشهور القادمة، وفق الكثير من التقديرات، لن يجتاز نسبة الحسم، وهو ما تؤكده جميع استطلاعات الرأي الأخيرة.

في الوقت ذاته، فإن بقاء سموتريتش في الحكومة يعود لأطماعه الحقيقية التي تتجاوز الحرب في غزة لما هو أخطر بنظره، وهي الضفة الغربية، واستكمال مخطط الضمّ فيها، وتوسيع رقعة الاستيطان، الذي شهد معدلات غير مسبوقة خلال العامين الأخيرين. 

وهنا يمكن منح الكثير من  المصداقية للتسريبات التي تحدثت أن نتنياهو وعد سموتريتش بمنحه المزيد من الصلاحيات في الضفة الغربية، وإعلان وزير الحرب يسرائيل كاتس عن إلغاء قرارات الاعتقال الاداري بحق عدد من عتاة المستوطنين، والطلب من قيادة الجيش التساهل مع الممارسات العنيفة الاجرامية التي ينفذها “فتيان التلال” من المستوطنين، ضد الفلسطينيين وممتلكاتهم وأراضيهم وحقولهم الزراعية.

بل إن شروع الاحتلال فور وقف الحرب على غزة، مؤقتاً، في تنفيذ عدوان واسع النطاق في مدينة ومخيم جنين يحمل إشارة لا تخطئها العين على أن سموتريتش حصل على “الرشوة” التي طلبها من نتنياهو لتمرير الصفقة، الأمر الذي يبعث برسائل خطيرة لمستقبل العدوان القادم على الضفة الغربية.

لا يختلف إسرائيليان اثنان على أن اللحظة التي أعلن فيها فوز ترامب في الانتخابات الرئاسية، بدأ العدّ التنازلي لإبرام صفقة التبادل مع حماس، والإعلان العملي عن وقف الحرب على غزة، ليس بالضرورة حبّاً بالفلسطينيين، وشفقة على دمائهم، ورغبة بوقف العدوان عليهم، لكنها لحسابات أمريكية بالأساس.

كان مفاجئاً أن اليمين الديني والقومي الاسرائيلي الذي رحّب أيّما ترحيب بفوز ترامب، معتقدا أنه “المسيح المخلص”، وسيعمل لديه مقاولا لتنفيذ مخططاته التوسعية والعدوانية في الأراضي الفلسطينية والعربية، وهو أمر حقيقي فعلاً في ضوء ما أسمته اسرائيل “فريق الأحلام” الذي شكله ترامب، خاصة فريقه الضيق من وزراء ومستشارين.

لكن الغائب عن اليمين الإسرائيلي أن ترامب، رجل الأعمال المقاول، الذي لم يتبقَّ له سوى ولاية رئاسية واحدة، وهو في عجلة من أمره لإنجاز جملة من المخططات الإقليمية والدولية، تبدأ بالتطبيع الاسرائيلي مع السعودية، مرورا بالتعامل مع البرنامج النووي الايراني: صفقة أو ضربة، وصولا لإنهاء حرب أوكرانيا، وانتهاء بالتعامل مع التحدّي الصيني المتصاعد.

كل هذه الملفات تجعل ترامب يرى في الموضوع الفلسطيني الإسرائيلي الأكثر قدرة على معالجته، لاسيما بالنظر لما قدّمه لدولة الاحتلال من إنجازات في ولايته الأولى، بدءً نقل سفارة بلاده إلى القدس المحتلة، مروراً بالاعتراف بسيادة الاحتلال على هضبة الجولان السورية المحتلة، وصولاً لمخطط ضمّ الضفة الغربية، وكل هذه “الإنجازات” تجعله في حلّ من أي التزامات تجاه اليمين عموماً، ونتنياهو خصوصاً، الأمر الذي دفعه لإصدار تهديدات موجهة للأخير بضرورة وقف الحرب على غزة.

في بعض التفاصيل، يظهر سلوك إدارة ترامب مغايرا لما اعتادت عليه اسرائيل زمن إدارة الرئيس السابق جو بايدن في تعاملها مع الحرب على غزة، وصفقة التبادل، وحالة التعاطي والدعم لموقف الاحتلال، وتغطيته بكل الأشكال: سياسياً ودبلوماسياً وعسكرياً.

مع العلم أن الجولات البطيئة التي قام بها مبعوثو بايدن للمنطقة، ولم تسفر عن شيء، قابلها جولات مكوكية معدودة لمبعوث ترامب للشرق الأوسط، ستيف فيتكوف، الذي بات خلال أيام أكثر شهرة ممن سبقه من مبعوثي بايدن، لأنه أنجز في أيام معدودة ما عجزوا عنه طيلة خمسة عشر شهرا، وهم الذين صدّعوا رؤوس الفلسطينيين في مباحثاتهم “العبثية”، لاسيما جاك سيوليفان وأنتوني بلينكين.

القراءة الإسرائيلية أن نتنياهو سيضطر للمفاضلة بين بقائه الحاضر في الحكم مع شركائه اليمينيين، الذين يناكفونه ويبتزّونه في ملفات داخلية ومماحكات تبدو “صبيانية”، ومستقبله السياسي المرهون مع ترامب، حيث الملفات الثقيلة الإقليمية والدولية، وهنا تبدو خياراته واضحة.

مع العلم أن ترامب، بما لديه من مخططات لحلّ القضية الفلسطينية، قد تدفع لإعادة تثبيت أوراق الائتلاف الحكومي، من خلال طرحه مؤخرا لمخطط تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة، الأمر الذي قوبل بترحيب شركاء نتنياهو، الذين قد يتراجعون عن شرطهم للبقاء في الحكومة باستئناف الحرب على غزة، مقابل المضيّ قدماً بمخطط التهجير الطوعي للفلسطينيين. 

خاتمة

عديدة هي المخاطر التي أحاطت بالائتلاف اليميني الحاكم في اسرائيل بسبب اتفاق وقف إطلاق النار، وإبرام صفقة التبادل مع حماس، ولكن رغم ما صاحب هذه المخاطر من استقالات فعلية، وتهديدات باستقالات مشروطة، لكن إمكانية انفراط عقده كلياً، والذهاب الى انتخابات مبكرة لا يبدو في الأفق. 

مع العلم أن أحزاب اليمين المتطرف تدرك أكثر من سواها أن هذا الخيار لا يضمن لها العودة للسلطة من جديد، وبالتالي يبدّد أمامهم فرص تحقيق تطلعاتهم الاستيطانية في الأراضي الفلسطينية من جهة، ومن جهة أخرى يحرمهم من فرض رؤيتهم الدينية الأيديولوجية على الدولة ذاتها من خلال الانقلاب القانوني الذي بدأ يطل من جديد بعد توقف قسري بسبب اندلاع الحرب على غزة.