كثيرة هي الرسائل التي ضجَّ بها تشييع أميني حزب الله العامين السيدين حسن نصر الله وهاشم صفي الدين. فمن المعروف عن حزب الله أنه الأكثر قدرة في لبنان على تشكيل الصور وإعطاء الرسائل منها، وهو ما بدأ قبل التشييع؛ فكانت رسالة المكان، إذ تم التشييع من مدينة الرئيس اللبناني التاريخي كميل شمعون الرياضية، التي أعاد تأهيلها رئيس الحكومة الأشهر رفيق الحريري. من خلال ذلك، سعى الحزب إلى ترسيخ انطباعٍ بأن الشخصيات المشيَّعة تحمل مكانةً تاريخية، كما كان شمعون والحريري، وأن التشييع يتجاوز الطائفية ويمدّ يده للجميع.
أما مكان الدفن فلم يكن في منطقة الاستهداف، ولا ضمن مربعات حزب الله الخاصة في الضاحية الجنوبية، بل كان على طريق المطار. وكأنّ المراد أن يكون مقام نصر الله محجاً لأنصاره، رسالةً لإضفاء طابع ديني حزبي على مطار بيروت وما حوله لا يتغير مع الزمن، ولا مع تغير موازين القوى السياسية، ولا حتى الاجتماعية أو الديمغرافية؛ فيكون حزب الله ممسكاً بمنطقة المطار ما يفتح له باب الاحتفاظ بسلطته على المطار نفسه، وهو ما أدركه خصومه فتكثّف الحديث عن تأهيل مطار القليعات (عكار-لبنان) على مصراعيه وهو الذي وإن افتتح لن يشكل منافسًا ولو ثانويًا لمطار العاصمة.
أما في اختيار عنوان التشييع، فقد أدرك حزب الله، كما الجميع، أن مشيعي نصر الله لن يكونوا فقط من جمهور حزب الله اللصيق؛ فرمزية نصر الله وتاريخه واللحظة التي تمر فيها الطائفة الشيعية بلبنان، ستدفع عديدين لحضور تشييع السيد، وإن لم يكونوا في وفاق تام مع الحزب. لذلك، استبق حزب الله ذلك معنونًا التشييع بـ “إنّا على العهد”، محاولًا كسب وتثبيت هذه الجماهير من حوله في الفترة المقبلة، في رسالة للجمهور بأن وداع نصر الله الحقيقي يكون ببيعة حزب الله في الأيام القادمة والسير خلفه.
على الرغم من أن عددًا من الحلفاء خيَّبوا ظن الحزب، فلم يحضر التشييع حليف الحزب الأول من خارج البيئة الشيعية في العقدين الماضيين رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل، كما غاب عدد من الشخصيات السياسية التي تحالفت تاريخيًا مع حزب الله. كذلك، غاب رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة واكتفيا بإرسال ممثلين عنهما. ومع ذلك، لم يخيّب الجمهور ظن الحزب، فسطّر أكبر تجمع جماهيري في تاريخ لبنان.
إضافةً إلى رسالة الحضور الشعبي، فقد كان الحضور الإيراني الرسمي رفيعًا، حيث حضر وزير الخارجية، ورئيس مجلس الشورى، ونائب قائد الحرس الثوري. كما أن رسائل العلاقة مع إيران تمسَّك بها أمين عام الحزب الشيخ نعيم قاسم الذي طل على الجماهير وطالبهم إعلان البقاء على عهد ونهج نصر الله الذي “ذاب في ولاية الفقيه” على حد تعبير قاسم. أما إسرائيل، فقد ردت على تأكيد علاقة الحزب بإيران – وما تحمله من حمولة – من خلال الطلعات الجوية الإسرائيلية التي أرادت القول بأنه، كما أن إيران ترفض الإستسلام في وجه مشروع اسرائيل في لبنان والمنطقة، والتخلي عن علاقتها بالأذرع، فإن الحرب الإسرائيلية عليها وعليهم مستمرة.
أما في كلمة التأبين المنتظرة من أمين عام حزب الله، الشيخ نعيم قاسم، فكانت الرسالة الأولى الموجهة إلى الجمهور بتثبيت سردية الحزب التاريخية وخلال المعركة الأخيرة. فأعاد تثبيت نصرة فلسطين والعداء لإسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما ضحى لأجله السيدان، بحسب قاسم. كما ذكَّر بسردية الحزب بأن معركة الإسناد كانت من أجل غزة، وهي معركة استباقية تأكيدًا على يقين الحزب بأن إسرائيل كانت ستبادر بالهجوم. في الإطار نفسه، حاول قاسم تأكيد وتثبيت نظرة الحزب ودوافعه لإيقاف الحرب، في ظل غياب الأفق السياسي والميداني بحسب قاسم، وهي رسالة بدت ركيكة وغير متماسكة، لكل متابع لما آلت إليه أمور الحرب وما بعدها.
الرسالة الثانية التي وجهها قاسم هي إعلانه الدخول في مرحلة جديدة “تختلف أدواتها وأساليبها وطريقة التعامل معها.” تكون الدولة مسؤولة عن الدفاع عن لبنان فيها.
نظرًا لحساسية الظرف وطبيعة المناسبة والحشود الغفيرة، فقد أراد قاسم أن يبقى في المنطقة الرمادية التي تحافظ على اندفاعة الجمهور وتعفيه من التزامات محددة، إلا أن الرسالة كانت واضحة بأن المرحلة المقبلة لن تكون مرحلة المقاومة العسكرية بالطريقة السابقة، بل أن الحزب سيقاوم عبر الانخراط في الدولة والتمسك بمطالبتها بتحقيق أكثر ما يهمه، وهو إخراج الإسرائيلي من لبنان، وإعادة الأسرى وإعادة الإعمار، بالإضافة إلى الإقلاع عن فكرة إلغاء الحزب وسحب سلاح شمال الليطاني، على أن تكون الدولة هنا بمعناها التشاركي الذي يقع حزب الله في صلبها. فالحشد أعطى الحزب القدرة على توجيه رسالة بأنَّه الممثل الحصري للطائفة الشيعية بالتشارك مع حركة أمل، وهي الرسالة التي قصدها قاسم عند حديثه عن وحدة الحزب وحركة أمل واستحالة التفريق بينهما.
أما رسالة قاسم التي تعمد التلفظ بها، وهو إيمان الحزب بأن لبنان وطنٌ نهائي لجميع أبنائه، إضافة إلى ذكره لمطالب اعتبرها أساسية، وهي خطة إنقاذ ونهضة اقتصادية، فقد أراد من خلالها قاسم القول بأن حزب الله في طوره الجديد يدخل في الإطار اللبناني الدولاتي، أولًا اجتماعيًا ودينيًا مع إيمان بنهائية الكيان اللبناني، وثانيًا برفع الأولويات الاجتماعية والاقتصادية الداخلية التي لطالما كانت أحد أكبر الانتقاداتات على الحزب الإقليمي بطبعه وتفكيره وممارسته.
أما الرسالة المبطنة التي ألمح إليها قاسم، وهو إقراره برؤية الحزب للتحرير التي يعود فيها إلى رؤية الإمام المغيب موسى الصدر، وهي أن تحرير فلسطين لا يقع على عاتق حزب الله بل على عاتق الأمة، قائلاً: “نُؤمن أنّ النصر النهائي حتميٌّ كنصرٍ مطلق، يتأخّر لأنّ القلة هي التي تُواجه، ولو واجه الجميع لتغيّرت المعادلة.” وإن كانت الرسالة بصيغة الماضي، إلا أنها بصيغة المستقبل على الحقيقة، وهي أن حزب الله – وكما يريد جمهوره – لن يدفع بعد اليوم فاتورة فلسطين وحده، بل ستكون فلسطين في عمق إدراكه وتفكيره وعقيدته، إلا أنه لن يأخذ على عاتقه نصرتها دون الأمة، وهي جزء من التراجع الذي يقر به حزب الله.
يلخّص قاسم – بالتلميح والتصريح – مرحلة حزب الله الجديدة، مقراً بالنكبة التي ضربت دوره الإقليمي ومعادلات الردع، مؤكدًا التراجع الى الداخل اللبناني، وعلى ارتضائه أن يكون خلف الدولة اللبنانية ولاعبًا بداخلها لا فوقها ولا حتى بجانبها، وأن يتخلى عن قرار السلم والحرب للدولة اللبنانية. مقابل هذا الإقرار يريد الحزب الإقرار له بتمثيله الشعبي، ومن ثم حجمه داخل الدولة باعتباره ممثلًا لطائفة كاملة، إضافة إلى الإعمار والانسحاب الإسرائيلي وعودة الأسرى، وارتضاء إبقاء مقاومته وجزء من سلاحه في جعبته – ولو بشكل خفي شمال الليطاني – تحسبًا لما قد تؤول إليه الأمور مستقبلًا.
ينتظر حزب الله الرد المقابل على طرحه، وهو ما لا يبدو حتى الآن إيجابيًا، تحت رسائل التفوق الإسرائيلية جنوبًا وفوق بيروت، في انتظار مصير الحوار الأمريكي الإيراني المرتقب، الذي لن يكون مصير لبنان عنه ببعيد والذي يقع على عاتقه إما فتح الباب لهبوط لبناني آمن وإما غير ذلك.
يدرك حزب الله وجمهوره ضبابية المرحلة المقبلة وصعوبة الظرف الذي دفعهم أكثر فأكثر للتكتل في ساحات بيروت، مقدمين الاحتشاد والوداع الأكبر في تاريخ لبنان، متمنّين أن يُترجم نجاح الحشد وتجديد بيعتهم للحزب في تحقيق الرؤية التي قدمها قاسم والتي تبقي لهم علو كعب – لو بسيط – في الداخل ولو فقد دورهم في الخارج، وهو ما يبدو صعبًا في ظل العصر الأمريكي الذي دخله لبنان وفي ظل دموية تاريخ العلاقة بين حزب الله وخصومه اللبنانيين.