منذ اندلاع الثورة السورية عام 2011، تابعت إسرائيل تحولات الداخل السوري باعتبارها مسألة استراتيجية تتجاوز الحسابات الأمنية الظرفية. فبعد فترة من الترقب الحذر، انتقلت تدريجيًا إلى سياسة تدخل عسكري مباشر من خلال ضربات جوية ممنهجة استهدفت البنية العسكرية للدولة السورية. ومع تآكل سلطة النظام وتفكك مؤسسات الدولة المركزية، أعادت تل أبيب تقييم موقعها وحدود تدخلها، ليس فقط كرد فعل على التهديدات الآنية، بل بوصفها طرفًا فاعلًا في صياغة ترتيبات سوريا المستقبلية.
الضربات الإسرائيلية الأخيرة، لا سيما التي طالت قلب العاصمة دمشق ومحيطها في عامي 2024–2025، تعكس تحوّلًا نوعيًا في الموقف الإسرائيلي. فالمستهدف في هذه المرحلة لم يعد النظام بتركيبته القديمة، ولا التهديدات العسكرية التقليدية، بل باتت العمليات العسكرية الإسرائيلية موجّهة بشكل استباقي نحو حرمان أي حكومة سورية جديدة من بناء مقومات دولة ذات سيادة فاعلة. فالهجوم على المنشآت العسكرية والمقار السيادية يُفهم في سياق سعي إسرائيل لمنع استعادة التماسك الداخلي، والسيطرة على وتيرة إعادة تشكّل السلطة المركزية في دمشق.
وترتبط هذه الرؤية بتحوّل إسرائيلي أوسع بعد 7 أكتوبر 2023، إذ باتت تل أبيب ترى أن النظام الإقليمي بعد تلك اللحظة لم يعد يحتمل قيام دول ذات توجهات غير خاضعة أو قد تعارض المصالح الإسرائيلية مستقبلاً. ومن هذا المنطلق، فإن الضربات الإسرائيلية على سوريا اليوم تأتي في سياق إعادة ضبط ميزان القوة في مرحلة ما بعد الأسد، بحيث تظل أي سلطة بديلة محكومة بهشاشة عسكرية وسياسية تمنعها من امتلاك قرار مستقل أو من ممارسة سيادة كاملة على المجال الوطني.
تسعى إسرائيل إلى ترسيخ وجود أمني مباشر في الجغرافيا السورية، وخاصة في الجنوب المحاذي للجولان، ضمن سياسة بناء مناطق عازلة وتأمين حدود “مرنة” قابلة للتعديل. لا يقتصر الأمر على الدفاع، بل يشمل امتلاك أدوات تحكم في الحيز الجغرافي القريب لتقويض أي تهديد محتمل من الجبهة الشمالية، سواء من الدولة السورية أو حلفائها الإقليميين.
في أعقاب الاشتباكات الأخيرة التي شهدتها محافظة السويداء جنوب سوريا، عادت إسرائيل لتوظف مسألة “حماية الأقليات”، وتحديدًا الدروز، كذريعة سياسية وأمنية لتبرير تدخلها المتكرر في الجنوب السوري، سعت تل أبيب إلى إعادة تفعيل خطابها القديم بشأن علاقتها التاريخية بالدروز، وتقديم نفسها “ضامن لأمن الطائفة” في ظل الفراغ الأمني والسياسي الذي يمكن أن يرافق مرحلة ما بعد الأسد.
لطالما استخدمت إسرائيل في أدبياتها الأمنية عبارة “عدم السماح بالمساس بالدروز“، في محاولة لتصوير تدخلها في الجنوب السوري على أنه جزء من مسؤولية أخلاقية أو حماية إنسانية، وليس امتدادًا لمشروع استراتيجي. إلا أن هذا التبرير سرعان ما يتكشف عن بُعد آخر، يتمثل في رغبة إسرائيل بخلق واجهة محلية موالية أو غير معادية، تتيح لها ممارسة تأثير سياسي وأمني على الأرض دون الحاجة إلى احتلال مباشر. فحماية الأقليات هنا لا تأتي في إطار إنساني بحت، بل كمُدخل إلى تفتيت سوريا إلى مكوّنات طائفية يسهل التحكم بها.
تعمل إسرائيل على ترسيخ بيئة ردع مستدامة على حدودها الشمالية، ليس عبر تموضع دفاعي فقط، بل عبر بناء قدرات هجومية تمكنها من الضرب الاستباقي. ويشمل ذلك السيطرة على محاور استراتيجية في القنيطرة ودرعا، وتعطيل أي مشروع لإعادة بناء الجيش السوري في هذه المناطق.
وبهذا المعنى، فإن ورقة الدروز ليست سوى أداة إضافية في صندوق أدوات المشروع الإسرائيلي للتدخل في سوريا ما بعد الأسد، حيث يُعاد تشكيل الجنوب كمنطقة نفوذ خاصة، بذرائع إنسانية ظاهرًا، لكنها تخدم أهدافًا جيوسياسية دقيقة في العمق.
هذا التوجه يعكس رؤية إسرائيلية ترى في انهيار النظام فرصة لإعادة تعريف قواعد الاشتباك في الجنوب السوري، وهو ما يجعلها تسعى إلى جعل تدخلها جزءاً من الواقع الميداني طويل الأمد، لا مجرد رد فعل مؤقت.
لم تكتفِ إسرائيل بحماية حدودها، بل سعت إلى التغلغل في النسيج المحلي الجنوبي من خلال تقديم مساعدات إنسانية محدودة لبعض القرى السورية تحت مظلة “عملية حسن الجوار“. الهدف من هذه الخطوة لم يكن إنسانيًا فحسب، بل سياسيًا بامتياز: فرض وصاية غير مباشرة على الجنوب السوري، وتحويله إلى منطقة نفوذ معزولة عن المركز في دمشق.
هذا النمط يعكس توجهًا استراتيجيًا لإسرائيل في ما بعد الأسد، إذ تعمل على إنتاج فضاء محلي موالٍ أو على الأقل غير معادٍ، يمكن أن يتحول لاحقًا إلى عنصر ضغط على أي حكومة سورية جديدة. ومن خلال علاقاتها مع بعض الفصائل المحلية، تسعى إسرائيل إلى تشكيل كانتونات موالية في الجنوب، تكون أقرب إلى الحزام الأمني الذي شكّلته في جنوب لبنان خلال فترة احتلالها بين 1982 و2000.
إن تل أبيب ترى في الجنوب السوري خط تماس استراتيجي ينبغي السيطرة عليه سياسيًا، حتى لو لم يكن ذلك عبر احتلال مباشر، بل عبر أدوات التأثير الناعم عن طريق دفعها للتطبيع وإن لم يكن فعن طريق الردع الصلب.
من أبرز أهداف العدوان الإسرائيلي المتكرر على سوريا هو التدمير الممنهج للبنية التحتية العسكرية والمؤسسات السيادية السورية، وبشكل خاص مراكز القيادة والسيطرة، منظومات الدفاع الجوي، المطارات، ومخازن السلاح. بل يتعداه إلى حرمان أي سلطة سورية مستقبلية من امتلاك أدوات الدولة الحديثة.
تحاول إسرائيل بذلك تفكيك قدرة الدولة السورية على استعادة دورها المركزي، لا سيما في مرحلة انتقالية قد تتسم بتعدد مراكز القوى ووجود نزعات تمردية متطرفة. في هذا السياق، فإن حرمان أي إدارة جديدة من مقدرات استراتيجية يعزز من هشاشتها ويمنح تل أبيب القدرة على التأثير في التوازنات المحلية، سواء عبر الفصائل المسلحة أو من خلال أدوات اقتصادية واستخباراتية.
أن استراتيجية إسرائيل في سوريا تتضمن إضعاف قدرة الدولة على التشكل من جديد، عبر سلسلة من الضربات التي تحرمها من موارد السيادة، وتسهم في إنتاج حالة فوضى يمكن التحكم بها.
لا تقتصر الغايات الإسرائيلية على استهداف ما هو قائم حاليًا، بل تمتد لتشمل فرض خطوط حمراء استراتيجية على مستقبل بناء الجيش السوري. ومن خلال ضرباتها المتكررة، تسعى إسرائيل إلى تكريس ما يمكن وصفه بـ”الفيتو الميداني” على نوعية تسلح الجيش السوري، وتركيبته، ومواقعه، بما يضمن بقاءه في حالة ضعف مزمن.
وهذا الفيتو المفروض بالقوة لا يشبه آليات حظر التسلح الدولية، بل هو فعل عسكري مباشر يُذكّر الحكومة الحالية أو أي سلطة مستقبلية بأن ميزان القوة لن يُسمح له بالتحول لصالح دمشق. وقد طالت هذه الضربات منشآت تطوير الصواريخ الدقيقة، ومصانع الطائرات بدون طيار، ومستودعات الذخيرة الثقيلة، ما يعني أن إسرائيل تفرض مستوى مقبولًا من التسلح لا يتجاوز الحد الأدنى الدفاعي.
أعادت عملية 7 أكتوبر 2023 تعريف طبيعة التهديدات الأمنية التي تواجهها إسرائيل، ليس في غزة فحسب، بل على امتداد محيطها الجغرافي. سوريا، في هذا السياق، لم تعد ساحة ثانوية، بل تحولت إلى نقطة ارتكاز استراتيجية في صراع إقليمي مفتوح، حيث تبرز الحاجة الإسرائيلية إلى امتلاك أوراق ضغط تفاوضية إقليمية.
تُكثّف إسرائيل ضرباتها على سوريا بهدف توسيع هوامش المناورة التفاوضية في أي تسويات مستقبلية، سواء مع إيران أو روسيا أو حتى في الإطار الأمريكي الخليجي. وتمثّل القدرة على ضرب العمق السوري باستمرار مؤشراً على تفوّق تكتيكي يمكن استخدامه كورقة مساومة، خصوصًا في حال تغيرت موازين القوى بعد نهاية الحرب في غزة أو في حال تطورت مفاوضات إقليمية كبرى.
إنّ الضربات الإسرائيلية المكثفة في سوريا بعد أكتوبر تأتي في إطار استراتيجية إقليمية موسعة تهدف إلى ضمان مكان لإسرائيل في أي ترتيبات مستقبلية تخصّ أمن المنطقة. إذ أن التوجه لا يقتصر على حماية الأمن القومي المباشر، بل يرتبط بإعادة تعريف النظام الإقليمي بعد 7 أكتوبر، حيث باتت إسرائيل تعتبر أن أمنها لا يمكن تحقيقه عبر الدفاع فقط، بل عبر فرض “الردع النشط” و”المعركة بين الحروب”.
تستخدم إسرائيل هذه الاستراتيجية في ساحات لا ترتبط معها باتفاقيات سلام، مثل سوريا ولبنان والعراق، وهو ما يعكس عقلية توسعية أقرب إلى نموذج الهيمنة الإمبراطورية المحدودة أو القوة الإقليمية الوحيدة، فمن خلال توجيه الضربات إلى سوريا، تعيد إسرائيل تأكيد نفوذها الاستراتيجي وتوجه رسائل للخصوم مفادها أنها صاحبة الكلمة الفصل في محيطها الجغرافي.
وفقًا لمعهد INSS الإسرائيلي (ديسمبر 2024)، فإن “إسرائيل تحاول تحويل الجنوب السوري إلى خط دفاع نشط من خلال ضربات استباقية، تعيد بذلك تعريف المجال الحيوي من حدود سيادية تقليدية إلى نفوذ أمني ممتد داخل العمق السوري.”
لا يمكن فهم العدوان الإسرائيلي على سوريا بمعزل عن الأهداف الكلية التي تسعى إليها تل أبيب، سواء في سياق ما بعد الأسد أو ما بعد 7 أكتوبر. فإسرائيل لا ترى في سوريا مجرد تهديد عسكري تقليدي، بل فرصة استراتيجية لإعادة رسم توازنات الإقليم على نحو يخدم مشاريعها الأمنية والسياسية. وإن الاستغراق في تحليل الأهداف الظرفية أو التكتيكية دون ربطها بالغايات الكبرى يُعدّ خطأً تحليليًا، ويُفضي إلى فهم قاصر لطبيعة الصراع وآليات المواجهة المطلوبة.