(تمت ترجمة هذا النص من النسخة الإنجليزية الأصلية)

شكلت الأحداث الأخيرة في جنوب سوريا منعطفًا خطيرًا بالنسبة لعملية السلام المتجددة التي أطلقتها تركيا، قبل عقد كامل من الزمان، مع حزب العمال الكردستاني، فقد تسببت التطورات الأخيرة في محافظة السويداء ذات الأغلبية الدرزية في جنوب سوريا بحدوث انتكاسة في عملية السلام التركية، فقد انهارت عملية السلام في عام 2015 نتيجة سيطرة وحدات حماية الشعب وحزب العمال الكردستاني على جزء كبير من شمال سوريا. بكلمات أخرى، فقد ضحّى حزب العمال الكردستاني بعملية السلام مع الدولة التركية، التي نشطت بين عامي 2013 و2015، من أجل تحقيق سعيه في الحصول على دولة محتملة في شمال سوريا. واليوم، فإن أكبر عقبة أمام نجاح عملية السلام في تركيا تتمثل في دمج الهياكل العسكرية والإدارية في النظام السياسي الناشئ في دمشق.

لم تكن عملية السلام الأخيرة في تركيا متوقعة، لا من حيث التوقيت ولا من حيث قادة هذه العملية، إلا أنها أظهرت تقدمًا مهماً، إلا أن نقطة التحول الجوهرية كانت في سقوط النظام في سوريا في الثامن من ديسمبر 2024. وقد تزامن التقدم في عملية السلام مع توطيد السلطة في دمشق، وتزايد الدعم الدولي الذي ظفرت به إدارة احمد الشرع. تأثرت عملية السلام هذه أيضا بالحرب في غزة، إضافة الى هذه التطورات فقد لعبت مبادرة دولت بهجلي، رئيس حزب الحركة القومية (MHP)، في أكتوبر الماضي، على تسريع جهود السلام المتجددة.

تطوّرت هذه المبادرة تدريجيًا إلى عملية أوسع نطاقًا، فقد تبنّتها الدولة للتحوّل في النهاية إلى مشروع دولة. وتماشيًا مع دعوة زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان، عقد حزب العمال الكردستاني مؤتمره الثاني عشر، وحلّ نفسه، وأعلن عن نيّته المشاركة في عملية ديمقراطية داخل تركيا. وفي حدث يحمل طابعًا رمزيًا، وبمشاركة بَسّة هوزات، القيادية في اتحاد مجتمعات كردستان (KCK)، أحرقت مجموعة من مسلّحي حزب العمال الكردستاني أسلحتهم خلال حفل أُقيم في السليمانية، في إقليم كردستان العراق. كما تمّ مؤخرًا أيضًا الإفراج عن أحد كبار الشخصيات المرتبطة بحزب العمال الكردستاني، فيسي أكتاش، الذي نُقل إلى جزيرة إمرالي بناءً على طلب أوجلان، بعد أن قضى أكثر من 31 عامًا في السجن.

وعلى الرغم من أنّ التقدّم في عملية السلام كان واضحًا في تركيا والعراق، إلا أنّ الأمر كان مختلفًا في سوريا. فقد استغلّت قوات سوريا الديمقراطية (قسد) الهشاشة السياسية بسبب حداثة النظام السياسي في دمشق، لتُظهر نوعًا من التردّد في الالتزام بالاندماج في الجيش السوري الجديد، على الرغم من الاتفاق الذي وُقّع في 10 مارس بين قائد قوات سوريا الديمقراطية مظلوم عبدي والرئيس السوري أحمد الشرع، كما لعب التدخّل الإسرائيلي في السويداء جنوب سوريا دورًا في زيادة جرأة قوات سوريا الديمقراطية والإدارة الذاتية التي يقودها حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) في شمال شرق سوريا.

كانت الخسائر الجسيمة التي تكبّدتها قوات دمشق بسبب الغارات الجوية الإسرائيلية، والاشتباكات مع ميليشيات درزية في السويداء تدعمها إسرائيل، سببًا اضطراريًا جعل دمشق تتخذ قرار التراجع، وهو ما أدّى بدوره إلى ضعف نفوذها وهيبتها. التدخّل الإسرائيلي، الذي أدّى إلى تغيّر دراماتيكي في ميزان القوة، جعل قوات سوريا الديمقراطية أكثر حزمًا وتصلّبًا فيما يخص اندماجها في الجيش السوري الجديد. وبالتزامن مع ذلك، دعا الزعيم الدرزي المدعوم من إسرائيل، حكمت الهجري، إلى إنشاء ممر يربط المناطق التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية بالسويداء، مما يشير إلى وجود رؤية مشتركة بين الطرفين لسوريا علمانية ولا مركزية. 

ماذا تريد قوات سوريا الديمقراطية (قسد)؟

لا تُعارض قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، وحزب الاتحاد الديمقراطي (PYD)، ووحدات حماية الشعب (YPG) الاندماج مع دمشق من حيث المبدأ. ومع ذلك لا ترى قسد بأن اندماجها مع النظام الجديد في سوريا مرتبط مع عملية السلام في تركيا. بينما تمتلك تركيا وجهة مخالفة، حيث تعتبر إن اندماج قوات سوريا الديمقراطية في الجيش السوري جزء من عملية السلام، ولا يمكن للسلام أن ينجح بدون عملية الاندماج. هذا الاختلاف العميق في وجهات النظر يهدد بفشل عملية السلام التي بدأتها تركيا.

تدرك قوات سوريا الديمقراطية (قسد) وحزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) الضعف الحالي لموقف الحكومة السورية الجديدة، وهو ما يجعلها تتمسّك بمواقفها وتؤكّد نفوذها السياسي. فهدفهم هو الاندماج مع دمشق ككتلة جماعية، محتفظين بالمكاسب التي حققوها خلال الصراع السوري، مع الحفاظ على الاستقلال الإداري والعسكري. هذه المطالبات نراها بوضوح أيضًا في تصريحات قادة قوات سوريا الديمقراطية ووحدات حماية الشعب. تصطدم عملية الاندماج بعدة تحديات، أهمها القدرة المحدودة لحكومة دمشق على إعادة فرض سيادتها الكاملة على كل التراب السوري. أمّا التحديات الأخرى فتشمل التباينات السياسية والإدارية الكبيرة بين دمشق والهياكل الحاكمة في شمال شرق سوريا. على سبيل المثال، صرّح أحد قادة حزب الاتحاد الديمقراطي، صالح مسلم، خلال أحداث السويداء، بأنهم “لا يريدون أن يكونوا جزءًا من سوريا تحكمها الخلافة الإسلامية”.

أكدت إلهام أحمد، الرئيسة المشتركة لدائرة العلاقات الخارجية في الإدارة الذاتية التي يقودها حزب الاتحاد الديمقراطي، التباينَ السياسي والإداري بينهم وبين دمشق. ووفقًا لأحمد، يجب أن يتضمن الاندماج اعترافًا متبادلًا، لا استيعابًا من طرف واحد. وانتقدت مفهوم الدولة المركزية، قائلة إنّه لم يجلب للسوريين سوى المعاناة. كما أكدت أحمد أيضًا أن نظامًا لا مركزيًا من شأنه أن يخفف الضغط على دمشق. إلا أن النقطة الأهم كانت تأكيدها أنه لا توجد خطط حالية لإلقاء السلاح، وبررت ذلك بسبب استمرار حالة عدم الاستقرار في سوريا. فإلقاء السلاح، وفقًا لها، سيكون خطاءً فادحاً وبمثابة إعلان الموت.

ومع ذلك، أقرت أحمد بضرورة الإشراف المركزي في قلة من المجالات المحددة، مثل إدارة المعابر الحدودية والمطارات، على أن تكون بعض المجالات الأخرى تحت الحكم الذاتي الإقليمي اللامركزي، مثل الأمن الداخلي، وتوفير الخدمات العامة للسكان المحليين، والتعليم، والرعاية الصحية، واللغة، والشؤون الثقافية. هذه المطالب لا تتعارض مع رغبة أحمد في التعاون مع الحكومة السورية الجديدة. كما أكدت أيضًا وجود قناة اتصال مباشرة مع الجانب التركي أيضًا.

في غضون ذلك، وعلى الرغم من تحوّل خطاب تركيا ليكون أقل عداءً لقوات سوريا الديمقراطية (قسد) مقارنة بالماضي، فلا تزال تركيا ترفض قرار قسد المتعنت إزاء الاندماج الكامل مع دمشق. وبعد اجتماع رفيع المستوى عُقد مؤخرًا في باريس، حضره السفير الأمريكي لدى تركيا والمبعوث الخاص لسوريا توماس باراك، ووزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو، ووزير الخارجية السوري أسعد الشيباني، عبّر وزير الخارجية التركي هاكان فيدان وزعيم حزب الحركة القومية دولت بهتشلي عن انتقادهما لموقف قوات سوريا الديمقراطية. وأكّد كلاهما أنه يجب الالتزام بالاتفاق بين مظلوم عبدي وأحمد الشرع.

بعد الهجمات الإسرائيلية الأخيرة على سوريا، عُقد اجتماع رفيع المستوى في باريس بين وزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي رون ديرمر ووزير الخارجية السوري أسعد الشيباني، بوساطة من المبعوث الأمريكي الخاص توماس باراك. ويُعد هذا الاجتماع أعلى مستوى من التواصل الدبلوماسي بين الجانبين منذ عام 2000 . وبينما لم يؤكد أو ينفِ أي من الطرفين الاجتماع رسمياً، أقر باراك لاحقاً بأنه قد أجرى محادثات مع الوفدين في باريس.

إضافة إلى ذلك، وبعد اجتماع ثلاثي بين باراك ووزير الخارجية الفرنسي بارو والشيباني، صدر بيان رسمي مشترك جاء فيه: “التزامًا بالحوار وخفض التصعيد، اتفقت الولايات المتحدة وفرنسا وسوريا على ضرورة ضمان ألا يشكّل جيران سوريا تهديدًا لاستقرارها، كما التزمت سوريا من جانبها بعدم تشكيل تهديد لجيرانها، من أجل تحقيق الاستقرار في جميع أنحاء المنطقة.”

كان من المتوقع أن يحضر قائد قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، مظلوم عبدي، الاجتماع الثلاثي المذكور أعلاه. ويبدو أن أنقرة دعمت هذا الاجتماع أيضاً. إلا ان عبدي غاب عن هذا الاجتماع. وبدلاً من حضور الاجتماع الجماعي، عقد مظلوم عبدي في وقت لاحق اجتماعاً منفصلاً مع وزير الخارجية الفرنسي بارو.

بعد الاجتماع الثلاثي في باريس، ذكر بيان مشترك صادر عن سوريا وفرنسا والولايات المتحدة أن الأطراف اتفقت على عقد جولة محادثات بين قوات سوريا الديمقراطية (قسد) والحكومة السورية في باريس خلال الفترة المقبلة. بعد وقت قصير من هذه التطورات التي أثارت انتقادات من الحكومة السورية الجديدة، ظهر قائد قوات سوريا الديمقراطية (قسد) عبدي في مقابلة مع قناة العربية السعودية، متبنياً لهجة أقل حدة، كما بدت أكثر تصالحية بشكل واضح من تلك التي تبنتها إلهام أحمد. ودعا عبدي مؤسسات الحكومة السورية الجديدة إلى المناطق ذات الأغلبية العربية في شمال شرق سوريا، مثل الرقة ودير الزور، وأعرب عن التزامه بمبدأ “جيش واحد وحكومة واحدة ودولة واحدة” في سوريا.

في الوقت نفسه، شدّد على أن الدعوة للامركزية لا تعني الدعوة للتقسيم، مشيرًا إلى صعوبة دمج آلاف من عناصر قوات سوريا الديمقراطية في الجيش السوري باعتبار ذلك تحديًا صعب التحقق. كما أكّد عبدي أيضًا نيته المشاركة في المفاوضات القادمة المخطَّط لها مع الحكومة السورية في باريس.

تعكس تصريحات مظلوم عبدي وإلهام أحمد نية حزب الاتحاد الديمقراطي وقوات سوريا الديمقراطية في استغلال نفوذهما السياسي للدفاع عن فكرة سوريا لا مركزية، على الرغم من أن طبيعة وتفاصيل وهيكل هذا النظام لا يزالان غير واضح. لذا يمكن اعتبار هذا دليل بعدم وجود رؤية موحدة لدى حزب الاتحاد الديمقراطي وقوات سوريا الديمقراطية حول شكل وحدود النظام اللامركزي الذي يطالبون به في سوريا.

دور فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية

تهدف مبادرة باريس، التي تترأسها فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية، إلى تحريك المياه الراكدة منذ فترة طويلة فيما يخص اندماج قوات سوريا الديمقراطية في حكومة دمشق، وهو تطور قد يؤثر بشكل كبير على مستقبل عملية السلام في تركيا.

لطالما دعم الممثل الأمريكي باراك دمشق وشجع على اندماج قوات سوريا الديمقراطية في سوريا الجديدة. إلا ان الاحداث الأخيرة في السويداء، أدت الى تغيير في نبرة خطاب باراك اتجاه دمشق ودعاها إلى ان تكون انفتاحا. وشدد على أنه بخلاف ذلك، قد تفقد الإدارة السورية الجديدة الدعم الدولي، وقد تُجر سوريا إلى حرب أهلية جديدة أسوأ من حرب ليبيا.

مع ذلك، فإن وحدات حماية الشعب وقوات سوريا الديمقراطية تواصل تلقي دعماً كبيراً من القيادة المركزية الأمريكية (سنتكوم). في نفس الوقت فإن السياسة الأمريكية تجاه سوريا ليست واضحة المعالم بشكل كامل للآن. ومن الجدير بالذكر أن البنتاغون من المقرر أن يقدم 130 مليون دولار كمساعدات لقوات سوريا الديمقراطية في عام 2026، وهو ما يمثل عقبة أخرى أمام اندماجها في الجيش السوري الجديد.

بطبيعة الحال، لا يمكن تحقيق الاستقرار في سوريا دون أن تصبح قوات سوريا الديمقراطية جزءًا من الجيش السوري. فالبديل – أي مواجهة عسكرية بين قوات سوريا الديمقراطية ودمشق – سيكون كارثيًا على الجميع. في المقابل، فإن دمج قوات سوريا الديمقراطية سيعزز موقف دمشق عسكريًا ودبلوماسيًا، ويعزز شرعيتها الدولية.

باختصار، تعيش سوريا لحظات حاسمة في مستقبلها، فهي تقف عند مفترق طرق. وفي الوقت نفسه، تمتلك قوات سوريا الديمقراطية وحزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) الآن فرصة حقيقية ليصبحوا جزءًا من سوريا الجديدة التي تعيد بناء نفسها. من المهم التذكير بأن الأكراد السوريين حُرموا لفترة طويلة من حقوق المواطنة الأساسية تحت حكم نظام بشار الأسد المخلوع. لذا، فإنه من المهم عدم إهدار هذه اللحظة بالتمسّك بمواقف متطرّفة متصلّبة، فهذا لن يقوّض فقط آفاق الأكراد السوريين، بل قد يعطّل أيضًا جهود السلام الأوسع التي تشمل تركيا.

لا شك أن دمشق لا زالت تعاني من نقاط ضعف كثيرة، ولم تتعافَ بشكل كامل من آثار الصراع المستمر لمدة 14 سنة، وغير قادرة على فرض سيادتها على كل شبر من الأرض، وقوات سوريا الديمقراطية (SDF) تدرك هذا الواقع. لكن ميزان القوى في سوريا شهد تحولاً كبيراً منذ الثامن من ديسمبر. فلم يعد لدى قوات سوريا الديمقراطية إيران أو الأسد أو روسيا كحلفاء تواجه بهم الأزمات الكبرى. فقد تحول ميزان القوى لصالح دمشق.

علاوة على ذلك، فإن كل الفاعلين الإقليميين تقريباً – باستثناء إيران وإسرائيل – يسعون لتحقيق الاستقرار في سوريا. لذلك، فإن النتيجة الأكثر واقعية والمنفعة المتبادلة للجميع هي أن تخفف جميع الأطراف من خطوطها الحمراء وتعمل نحو صيغة سياسية تُدمج قوات سوريا الديمقراطية في الدولة السورية.

كان قرار حل حزب العمال الكردستاني (PKK) يُعد من الأخبار النادرة الجيدة في الشرق الأوسط وسط إبادة جماعية مستمرة في غزة.  كما ان تعزيز عملية السلام في تركيا يتماشى مع مصالح الدول الفاعلة الإقليمية. ورغم صعوبة عملية السلام وكثرة التحديات، فإن هذه المهمة ليست مستحيلة.