لم يكن سقوط نظام بشار الأسد في عام 2025 مجرّد حدث محلي في سوريا، بل زلزالًا استراتيجيًا هزّ المنطقة بأكملها، وألقى بظلاله الثقيلة على حزب الله. فقد ارتبط الحزب طوال عقد كامل بالنظام السابق بعلاقة تحالف وثيق وفّر له خطوط إمداد استراتيجية، وغطاءً سياسياً وشرعيًا في ساحة إقليمية معقدة. وبسقوط هذا الحليف، وجد الحزب نفسه أمام فراغ استراتيجي لم يكن مهيًأ للتعامل معه بسهولة.

جاءت هذه التطورات في توقيت بالغ الحساسية. فحزب الله كان قد خرج للتو من حرب مدمّرة مع إسرائيل فقد خلالها جزءًا كبيرًا من منظومته الصاروخية والقيادية، وتراجعت قدرته على الردع والذي شكّل ركيزة لخطابه السياسي والعسكري منذ نشأته. 

هذا التزامن بين حدثين كبيرين– سقوط الحليف السوري وخسائر بشرية وعسكرية أمام إسرائيل – وضع الحزب في موقع دفاعي غير مألوف. ما اعتبر أنه بات في موقع ضعيف في الخاصرة السورية، ما اضطره إلى مراجعة شاملة لأولوياته، تركّزت على حماية الحضور الداخلي، وضبط الحدود الشرقية، والابتعاد عن أي مواجهة مباشرة مع الحكومة السورية الجديدة والتي قد تفتح عليه جبهة إضافية، في ظل التربص الإسرائيلي المستمر واستمرار الاغتيالات.

هذه المراجعة لم تكن سهلة، فقد طرحت داخل الحزب أسئلة عميقة عن معنى التضحيات التي قُدمت في سوريا طوال سنوات الحرب، وعن جدوى الاستمرار في استثمار سياسي وأمني في بلد تغيّرت موازينه. لكن ما كان واضحًا أن حزب الله لم يعد في موقع المبادرة، بل أصبح في موقع المراقب الذي ينتظر كيف ستتعامل معه الحكومة الجديدة.

في هذا السياق، تعكس الزيارات المتبادلة بين الوفود اللبنانية والسورية، وآخرها زيارة وزير الخارجية السورية أسعد شيباني إلى بيروت، مؤشراً واضحاً على رغبة بيروت الرسمية في بناء علاقة منفتحة ومتوازنة مع الدولة السورية الجديدة، انطلاقاً من منطق المصالح المشتركة وحسن الجوار، بعيداً عن حسابات القوى الداخلية ومواقفها المتحفظة. فلبنان، الذي يخوض مرحلة إعادة تثبيت مؤسسات الدولة وحصر السلاح بيدها، يسعى إلى مقاربة واقعية تنظر إلى دمشق كشريك طبيعي في ملفات الأمن واللاجئين والحدود، بما يرسخ فكرة الدولة مع الدولة، لا الحزب – الدولة، كأساس للعلاقة بين البلدين في المرحلة المقبلة.

 

الإرث العسكري والعلاقة مع الفصائل المسلحة

إلى جانب فقدان الغطاء السياسي الذي كان يوفّره النظام السوري السابق، واجه حزب الله إرثًا ثقيلًا من سنوات الحرب تمثل في علاقته بالفصائل المسلحة، وعلى رأسها هيئة تحرير الشام، والتي أصبحت اليوم أهم القوى الحاكمة في سوريا. فمنذ بداية الحرب السورية، وجد الحزب نفسه في مواجهة مباشرة مع هذه الفصائل في مناطق استراتيجية مثل القلمون، والقصير، والزبداني، وقد خاض معارك كبرى رسخت حضوره العسكري، لكنها تركت أيضًا إرثًا من العداء والاحتكاك المستمر.

لاحقًا، ومع انتقال معظم المعارضة إلى الشمال السوري، تراجع مستوى الاشتباك المباشر، لكن نقاط التماس لم تختفِ. وبقيت المعابر غير الشرعية وممرات التهريب على الحدود اللبنانية–السورية مناطق حساسة تستدعي مراقبة دائمة. هذا الواقع جعل الحزب في موقع دائم الحذر، إذ يدرك أن أي انفلات أمني في هذه المناطق قد ينعكس مباشرة على الاستقرار في الداخل اللبناني.

وشكّلت أحداث منطقة عرسال الحدودية، بين عامي 2014 و2017 أبرز محطة في هذا المسار. فقد تحوّلت البلدة الحدودية إلى ساحة اشتباك مفتوحة بين حزب الله والفصائل المسلحة وعلى رأسها جبهة النصرة (التي أصبحت لاحقاً هيئة تحرير الشام). وشارك الحزب بقوة إلى جانب الجيش اللبناني في المواجهات التي انتهت بعملية “فجر الجرود” في صيف 2017، والتي أدّت إلى إبعاد مقاتلي الفصائل من المنطقة الحدودية. 

هذه العملية لم تكن مجرد انتصار عسكري، بل شكلت أيضًا تسوية سياسية – أمنية، إذ جرى التوصل إلى صفقة قضت بخروج مقاتلي الهيئة وعائلاتهم نحو إدلب مقابل الإفراج عن أسرى لحزب الله. وقد اعتُبرت تلك المواجهة أهم احتكاك مباشر بين الحزب والهيئة داخل الأراضي اللبنانية، وتركَت إرثاً من العداء والذاكرة المشتركة التي ما زالت تؤثر في تعاطي الطرفين حتى اليوم.

من هذه الزاوية، ظلّت علاقة الحزب بتلك الفصائل جزءًا من معادلة أعقد، لا ترتبط فقط بموازين القوى داخل الساحة السورية، بل أيضًا بقدرته على تأمين خاصرته الشرقية من أي تهديد محتمل، في ظلّ ما يعتبره الحزب تهديداً وجوديًا مزدوجًا؛ الأول ناتج عن الهجمات الإسرائيلية المتكررة التي تستهدف بنيته العسكرية ومراكزه القيادية، والثاني عن الضغوط الداخلية المتصاعدة في لبنان بفعل النقاش حول سلاحه ومستقبله ودوره الأمني والسياسي.

 

الحكومة السورية الجديدة وسياسة القطيعة مع التحالفات السابقة

مع وصول الرئيس أحمد الشرع إلى الحكم، برزت مقاربة سياسية جديدة في دمشق. فقد وضعت الحكومة السورية الجديدة على جدول أعمالها هدفين أساسيين: إعادة بناء مؤسسات الدولة المنهكة من الحرب، وكسب الاعتراف الإقليمي والدولي عبر النأي بالبلاد عن الارتباطات والتحالفات السابقة.

منذ مارس 2025، أصدرت وزارة الداخلية السورية بيانات رسمية تتهم مجموعات مرتبطة بحزب الله بالضلوع في اضطرابات أمنية على الساحل، كما أشارت تقارير أمنية إلى مسؤولية الحزب عن بعض الاشتباكات على الحدود اللبنانية–السورية. جاءت هذه الاتهامات في إطار نهجٍ سياسي أوسع تتبعه الحكومة السورية الجديدة، يهدف إلى إعادة تثبيت صورة الدولة واستعادة سيادتها وهيبتها. وقد تبلورت هذه المقاربة في ظل واقع داخلي غير مستقر، فرض نفسه نتيجة تراكم الأزمات السياسية والاقتصادية والأمنية، ما دفع الحكومة إلى إعادة توجيه اهتمامها نحو الداخل وترتيب أولوياتها الوطنية قبل أي انخراط إقليمي أو خارجي. 

كما تزامن ذلك مع تصاعد الانتهاكات الإسرائيلية داخل الأراضي السورية، الأمر الذي عزّز قناعة دمشق بضرورة تحصين الجبهة الداخلية وإظهار الدولة بموقع المبادرة والسيطرة، لا بموقع التلقي ورد الفعل. وفي هذا السياق، حملت السياسة رسائل مزدوجة: إلى الداخل السوري لتأكيد القطيعة مع مرحلة الإنخراط في لعبة المحاور الإقليمية، وإلى العواصم الخليجية والغربية التي تربط أي دعم لسوريا بشرط تقليص أكبر لنفوذ إيران وحزب الله.

ولتعزيز هذا التوجه، أطلقت دمشق حملة إعلامية وأمنية متواصلة، فأعلنت بشكل شبه يومي عن ضبط مخازن سلاح مرتبطة بشبكات تهريب، كما أعادت هيكلة بعض الأجهزة الأمنية لتكون أكثر مركزية واستقلالية. داخليًا، لاقت هذه الإجراءات قبولًا لدى شرائح واسعة تعبت من اقتصاد الحرب ومن أشكال النفوذ الخارجي، وخارجيًا وجدت صدىً إيجابياً لدى دول الخليج والاتحاد الأوروبي التي رأت فيها مؤشرًا على تغيير ملموس في سياسات دمشق.

ومع ذلك، ورغم الخطاب العلني الصارم، كانت الحكومة السورية تدرك أن القطيعة الكاملة مع حزب الله ليست خيارًا عمليًا، فالجغرافيا والتشابكات الأمنية والاجتماعية تفرض مستوى من التعامل ولو في حدّه الأدنى. ويعود ذلك إلى أن الحزب ما يزال يمتلك حضورًا مؤثرًا في المناطق الحدودية عبر شبكات اجتماعية وعشائرية، إلى جانب تمثيله السياسي في البرلمان اللبناني، وهو ما يجعل استبعاد التعامل معه بصورة مطلقة أمرًا غير واقعي.

 

براغماتية الخطاب وقنوات التواصل غير المعلنة

والمفارقة أن الخطاب العلني المتشدد بين الجانبين لم يحل دون استمرار قنوات التواصل الخلفية، إذ يدرك كلٌّ من حزب الله والحكومة السورية الجديدة أن السيطرة على الحدود الطويلة والمعقدة بين البلدين ليست مهمة يمكن لأي طرف إنجازها بمفرده. فمناطق مثل القلمون والسلسلة الشرقية مازالت تتطلب تنسيقًا أمنيًا ولوجستيًا متقدمًا، باعتبارها شريانًا حساسًا لحركة السلاح والأفراد والسلع، وأي انفلات فيها قد يعيد الفوضى ويقوّض الاستقرار في كلا البلدين.

في هذا السياق، برزت محاولات من الحكومة اللبنانية لإعادة تنظيم إدارة الحدود ضمن خطة الجيش لحصر السلاح وضبط المعابر غير الشرعية، وهي خطة حظيت بدعم دولي مباشر. غير أن نجاحها يبقى مرهونًا بالتنسيق الميداني مع الجانب السوري، ومدى تجاوب حزب الله الذي يحتفظ بنفوذ فعلي في تلك المناطق، ما يجعل العلاقة الأمنية بين الأطراف الثلاثة ــ الجيش اللبناني، الحكومة السورية، وحزب الله ــ واقعية وضرورية رغم التوترات السياسية العلنية.

هذا التوازي بين الخطاب العلني المتشدد ومحاولات التواصل غير المعلنة لم يكن حالة تناقض، بل جزءًا من نهج سياسي محسوب تبنّاه الطرفان. الحكومة السورية الجديدة سعت عبره إلى طمأنة الداخل بأنها تمارس استقلالية فعلية عن النفوذ السابق، وفي الوقت نفسه إلى طمأنة العواصم الإقليمية والدولية بأنها لا تنزلق إلى مواجهة مفتوحة مع قوى الأمر الواقع على حدودها. أما حزب الله، فاختار التزام الصمت العلني إزاء الاتهامات الرسمية، مفضّلًا الإبقاء على قنوات تواصل محدودة تضمن له الحد الأدنى من التنسيق الميداني والحماية والاستقرار في مناطق نفوذه الحدودية.

 وقد برز هذا التوازن في تصريحات الرئيس أحمد الشرع أمام وفد إعلامي عربي في دمشق، حين قال إن سوريا “تسعى إلى فتح صفحة جديدة مع لبنان تقوم على المصالح المشتركة وحسن الجوار”. هذه الرسالة اعتُبرت في بيروت مزدوجة: فهي من جهة تطمين للبنانيين بأن دمشق لا تسعى لإحياء وصايتها السابقة، ومن جهة أخرى رسالة ضمنية لحزب الله بضرورة تخفيف خطاب العداء والتعامل مع سوريا باعتبارها دولة مستقلة في خياراتها.

وبالتوازي مع ذلك، كثّفت الحكومة السورية الجديدة إجراءاتها لمحاصرة ما تعتبره نشاطات غير شرعية مرتبطة بالحزب، خصوصاً فيما يتعلق بشبكات التهريب عبر الحدود، سواء للأسلحة أو الأموال، في إطار سعيها لإظهار حرصها على حماية الأمن القومي واستعادة السيادة على المنافذ.

وفي المقابل، حرص الرئيس أحمد الشرع خلال لقائه وفداً شيعياً سورياً على التأكيد أن بلاده تحترم مكانة الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله، وهو ما اعتُبر رسالة طمأنة بأن الإجراءات الأمنية لا تعني قطيعة سياسية بقدر ما تمثل محاولة لإعادة تنظيم العلاقة وفق أسس جديدة.

وبينما سعت دمشق إلى الموازنة بين الضبط الأمني وإشارات الطمأنة، انعكس ذلك على خطاب حزب الله الداخلي، إذ وظّف هذه المواقف للتأكيد على أن ملف سلاحه مرتبط بالظروف الإقليمية أكثر مما هو محصور بالساحة اللبنانية. فالحزب يقدّر أن أي خطوة في اتجاه تسليم السلاح للدولة اللبنانية ضمن قرار الحكومة الصادر في 5-7 آب/أغسطس الماضي، في ظل وجود سلطة سورية جديدة تتخذ مسافة منه، قد تفتح الباب أمام ضغوط إقليمية إضافية من خاصرته الشرقية.

 

معادلة المصلحة المتبادلة والسيناريوهات المحتملة

على الرغم من الخلافات والتصعيد الإعلامي، يظل الطرفان محكومين بواقع المصلحة المتبادلة. فحزب الله يحتاج إلى ضمان أن حدوده الشرقية لن تتحول إلى خاصرة رخوة، وأن خطوط إمداده لن تُقطع بشكل كامل.

والحكومة السورية تحتاج إلى استقرار حدودها مع لبنان، لأن أي انفلات أمني هناك قد يجرها إلى نزاعات معقدة مع العشائر والمجموعات المحلية. كما أن الحزب لا يزال يمتلك شبكة اجتماعية وعائلية واسعة على جانبي الحدود تجعل التعامل معه خياراً اضطرارياً، حتى لو كان مكلفاً سياسياً.

من هنا، يمكن رسم ثلاثة سيناريوهات رئيسية لمستقبل العلاقة:

  1. استمرار صيغة الخصومة المضبوطة: وهي الصيغة القائمة حالياً، حيث تبقى الاتهامات العلنية قائمة، لكن مع قنوات اتصال خلفية محدودة لضبط الحدود وتجنب الصدام المباشر.
  2. تطور الخلاف إلى مواجهة محدودة: وهو سيناريو محتمل في حال توسع الخلاف حول ملفات التهريب أو إذا شعرت دمشق أن الحزب يحاول الاحتفاظ بنفوذ موازٍ داخل سوريا عبر مجموعات أو خلايا.
  3. إدماج العلاقة في تسوية إقليمية شاملة: وهو سيناريو بعيد المدى يفترض وجود ترتيبات دولية وإقليمية جديدة تعيد صياغة موقع حزب الله ودور سوريا في منظومة أمنية أوسع.

وبالنظر إلى موازين القوى الراهنة، يبدو السيناريو الأول هو الأكثر ترجيحاً على المدى القريب. فالحزب غير قادر على مواجهة مفتوحة في ظل انشغاله بإعادة بناء منظومته العسكرية بعد الحرب الأخيرة، والحكومة السورية لا تملك مصلحة في فتح جبهة إضافية تعرقل مساعيها للحصول على دعم خارجي. لذا، فإن استمرار صيغة “الخصومة المضبوطة” يبدو الخيار الأكثر واقعية.

خاتمة

يمكن القول إن العلاقة بين حزب الله والحكومة السورية الجديدة انتقلت من تحالف استراتيجي وثيق في عهد الأسد إلى علاقة اضطرارية تقوم على إدارة الخلافات وضبط الحدود. الحزب فقد القدرة على ممارسة نفوذ واسع في دمشق، فيما تسعى الحكومة إلى تثبيت سيادتها واستقلال قرارها. ومع ذلك، يدرك الطرفان أن القطيعة الكاملة قد تكون أكثر كلفة من التواصل المحدود، وأن صيغة الخصومة المضبوطة تمنح كل طرف الحد الأدنى من الاستقرار في مرحلة إقليمية مليئة بالتحولات.

إن مستقبل هذه العلاقة لن يُحسم بقرار من الحزب أو من دمشق وحدهما، بل سيبقى رهناً بمسارات التوازنات الإقليمية والدولية. وحتى ذلك الحين، يبدو أن الطرفين محكومان بالتعايش في إطار خصومة مُدارة، تنتظر تسويات كبرى لم تنضج شروطها بعد.