بخلاف المتوقع، لم يفض سقوط نظام الأسد إلى تكرار السيناريو العراقي، حيث اتبعت السلطة الجديدة مقاربة تجاه بقايا النظام عنوانها الحزم والبراغماتية. فالحفاظ على مؤسسات الدولة لاعتبارات الشرعية، والحزم تجاه فلول الأسد وهياكله الأمنية والعسكرية مخافة اندلاع ثورة مضادة، وأما الإبقاء على بعض أذرع النظام الاقتصادية والتنموية فكان لضرورات تراها السلطة الجديدة. مقاربة قد تبدو واقعية، لكنها تحتوي ثغرات مولدة للمخاطر على المدى البعيد.

مقدمة

بتاريخ 8 كانون الأول 2024، أزاح السوريون عن كاهلهم نظام الأسد الذي حكمهم لما يزيد عن خمسة عقود بالحديد والدم. سقطت مملكة الخوف أو جمهورية الصمت كما سماها البعض، بواسطة عملية عسكرية تحت مسمى ردع العدوان، أطلقتها هيئة تحرير الشام بدعم من فصائل للمعارضة العسكرية، لتسيطر بمحصلتها على العاصمة دمشق، ويتم إعلان سوريا بلا أسد. كان انهيار نظام الأسد حدثاً مفاجئاً وغير متوقعاً للباحثين وصناع القرار، كذلك مسار المعركة من حيث افتقاد قوات “الجيش السوري” الرغبة بالقتال، وانسحابه التدريجي من المدن بحجة إعادة الانتشار والتموضع، وصولاً إلى انحلاله كذلك الأجهزة الأمنية. أيضاً، كان واضحاً تجنب إدارة العمليات العسكرية للسيناريو العراقي، أي تجنب انهيار الحكومة المركزية وحدوث عملية تطهير شاملة للموالين للنظام تقودان إلى فوضى أمنية. يمكن تلمس ذلك بالانتقال السلس للسلطة بين “الفاتحين” والمهزومين، واستمرار عمل مؤسسات الدولة ولو بخطى متعثرة، فضلاً عن عدم حدوث حملة تطهير شاملة بحق نظام الأسد أفراداً ومؤسسات وهياكل، حيث تم إطلاق عملية لتسوية وضع منتسبي الجيش والأمن، والاستعانة بعدد من نخب النظام البيروقراطية لتسيير الأمور في عدد من المواقع المدنية كما في مثال مصرف سوريا المركزي، كذلك إعادة هيكلة بعض أذرع نظام الأسد، كما حدث مع الأمانة السورية للتنمية على سبيل المثال. 

يطرح سقوط نظام الأسد المفاجئ، وسلوك السلطة الجديدة تجاه بقايا النظام أسئلة من قبيل؛ ما هو مآل تركة نظام الأسد؟ أي مصير مؤسساته وهياكله وشبكاته ونخبته؟ ما دورها في معادلة السياسة الداخلية؟ كذلك ما مدى قبول أو رفض السلطة الجديدة لبقايا النظام؟ وعلى أي مستوى؟ وما هي الدوافع؟ 

تحاول هذه الورقة التحليلية الإجابة على هذه التساؤلات، وذلك من خلال تشريح بنية نظام الأسد عشية السقوط، لمعرفة مستويات انهيار بنى وهياكل النظام، ثم تحليل سلوك السلطة الجديدة تجاه بقايا النظام، باعتبارهم تهديد أو فرصة، ذلك يساعد في تحديد شكل ودور بقايا النظام في مرحلة ما بعد الأسد.

نظام الأسد عشية السقوط: الأسد بلا غطاء

تتعدد الأطر النظرية المستخدمة في تحليل بنية نظام الأسد وآليات بقائه، لكنها تتقاطع بأنه مركب من عدة مستويات وطبقات، جميعها تتمحور حول شخص الأسد، الذي يحركها ويتحكم بها بواسطة مزيج من الآليات والروابط. 

أسس حافظ الأسد نظاماً عائلياً مركباً متعدد الأوجه، جهد الباحثون في توصيفه وتأطيره مفاهيمياً إما بالاعتماد على أحد مكوناته كالطائفة العلوية ليكون نظاماً يسيطر عليه العلويون، أو بالاعتماد على سمات بنية النظام ليكون تسلطياً ذا احتكار فعال للسلطة ومصادر القوة بما يمكنه من اختراق الدولة والمجتمع. أيضاً، تم توصيف نظام الأسد بأنه نظام أبوي جديد (Neopatrimonial Regime1)حيث يلعب فيها الحكم الشخصي (الوراثي) أي الأسد دوراً مركزياً في النظام والدولة، ذلك البعد يتم العمل على تعزيزه باستخدام شبكات الرعاية والزبائنية، لاختراق بيروقراطية الدولة والمجتمع خدمة للنظام. بتكامل الأطر النظرية والمقاربات التحليلية السابقة، يمكن توصيف نظام الأسد بأنه؛ نظام تسلطي يتمحور حول شخص الأسد، الذي عمل على اختراق الدولة والمجتمع والتحكم بهما، بواسطة مزيج من هياكل السيطرة وشبكات رعاية وزبائنية. وفقاً لما سبق، يتكون النظام من عائلة الأسد الحاكمة للقصر الجمهوري وعلى رأسها بشار الأسد، وما يرتبط بها من هياكل خاصة، كالفرقة الرابعة التي يتولاها اللواء ماهر الأسد، ويتبع لها مكتب أمن مسؤول عن إدارة شبكات أنشطة اقتصاد الحرب.2 

كذلك نجحت عائلة الأسد بتطوير شبكات اقتصادية زبائنية غير رسمية (شبكات رجال أعمال المحسوبين التقليدين، أضيف لها شبكات رجال أعمال الواجهات تشكلت بعد اندلاع الثورة)3،يديرها مجموعة صغيرة من رجال أعمال مرتبطين بالنظام. على المستوى الثاني، تتموضع هياكل النظام للرعاية والسيطرة على الدولة والمجتمع، والتي تتألف من الأجهزة الأمنية وحزب البعث والمنظمات الشعبية والاتحادات النقابية المرتبطة به والميليشيات المحلية المشكلة، كذلك الأمانة السورية ومؤسسة العرين الإنسانية باعتبارهما هياكل غير رسمية لتوفير الدعم الإنساني والتنموي لفئات مجتمعية مرتبطة بالنظام. جميع هذه الهياكل يتم إدارتها من خلال حاشية الأسد، أي مجموعة من المسؤولين الذين لا يشك بولائهم وطاعتهم للأسد، وفي هذا المستوى تحضر الروابط العائلية والطائفية والمناطقية، كذلك الاعتبارات المهنية في اختيار وانتقاء هؤلاء المسؤولين. على المستوى الثالث، تتموضع الدولة بمؤسساتها الثلاثة (التشريعية، والتنفيذية، والقضائية)، والتي يتم إدارتها من قبل نخب بيروقراطية موالية، يتم ضمان التزامها من خلال ما يقدم لهم من منح وامتيازات وحماية. وعلى المستوى الأخير تتواجد شبكات النخب والوسطاء المحليين التي تعمل كقنوات غير رسمية للتواصل بين النظام والمجتمعات المحلية والسيطرة عليها، وأولئك يتم احتواؤهم وإدارة التنافس فيما بينهم من خلال هياكل وبنى السيطرة وبيروقراطية الدولة. 

قبل عام 2011، ساهمت بنية النظام في مرونته وتجاوزه لتحديات وجودية، ليفقد النظام ميزاته بمرور الوقت تحت ضغط الديناميات التي أطلقتها الثورة السورية، كذلك سياسات الأسد، وبذلك أصبح النظام أكثر عزلة وبقاعدة اجتماعية ضيقة، وأكثر اعتمادية على الدعم والمساندة الخارجية للبقاء. عمل الأسد على تعزيز طابعه الشخصي على النظام باعتباره مصدر السلطة وصاحب القرار4.

 ظهر ذلك من خلال إزاحة منافسيه داخل العائلة الحاكمة،5 كذلك تركيز الريع الاقتصادي في يده من خلال إزاحة رامي مخلوف من المشهد الاقتصادي6، وإعادة تشكيل مشهد الشبكات الاقتصادية غير الرسمية للنظام، عبر تأسيس شبكات رجال أعمال واجهات أكثر ارتباطاً به، من شبكات رجال الأعمال المحسوبية التقليدية7.

كان للمؤسستين الأمنية والعسكرية دور حيوي في بقاء نظام الأسد، لكنهما أصبحتا أكثر فساداً واختراقاً من قبل شبكات الزبائنية للنظام، كذلك أقل احترافية وتماسكاً مما كانت عليه قبل عام 2011، وأكثر اعتمادية على الدعم الحيوي المقدم من خارجها، سواء عن طريق الاستعانة بميليشيات محلية كان لها قدرة عالية على حشد وتعبئة مقاتلين للدفاع عن النظام، إلى جانب الاعتماد على الدعم من الحليفين الإيراني والروسي8

صحيح أن الدعم الخارجي عزز قدرة المؤسستين على الصمود، لكنه بالمقابل خلق تحديات جدية للنظام على المدى البعيد تتعلق بمسائل؛ التنظيم، والتعبئة، والدمج، والسيطرة. منذ العام 2020، حاول الأسد إصلاح المؤسستين مستفيداً من أجواء التهدئة مع المعارضة عقب اتفاق بوتين_أردوغان حول إدلب، إلا أن خططه تجاوزت موارده وقدراته، كما كانت خططه مصممة لتعزيز هيمنته على كلا المؤسستين أكثر من الاهتمام بترميمها وتطوير أدائهما بشكل احترافي. يمكن تلمس ما سبق من خلال تلاعب الأسد بالنخب الأمنية والعسكرية واستبدالهما بشكل دوري9 ،وحل الميليشيات المحلية مخافة بروز أمراء حرب منها ودمجها بالجيش بطريقة غير احترافية10. كذلك لم يتشاطر الحلفاء رؤية الأسد لإصلاح المؤسستين، ومع تحديات واجهتها إيران وروسيا، تراجع دورهما في توفير الدعم الحيوي للمؤسستين الأمنية والعسكرية.

ما بعد عام 2011، كان هنالك انحسار تدريجي في القاعدة الاجتماعية الموالية لنظام الأسد، حيث ساهمت عدة عوامل في إضعاف قدرة هياكل النظام أي حزب البعث والنقابات والاتحادات، على حشد الدعم من فئات مجتمعية وإضفاء الشرعية على النظام. من أهم هذه العوامل: 

1) مواصلة الأسد سياساته النيو ليبرالية في تحرير الاقتصاد وبروز نخب رأسمالية المحاسيب (Crony capitalism)، أكثر اهتماماً بتعظيم ثرواتهم على حساب إفقار طبقات اجتماعية كانت داعمة للنظام11.

2) أثر العقوبات الاقتصادية والدمار الواسع الذي خلفته الحرب في تراجع الموارد الاقتصادية المتاحة، ذلك حد من قدرة مؤسسات الدولة وهياكل النظام على توفير الخدمات لفئات مجتمعية واسعة، كانت تعتمد على النظام في بقائها الاقتصادي. كما حد ذلك من قدرة النظام على توفير الامتيازات لحاشيته ولنخبة بيروقراطية الدولة.

3) بالمقابل، لم تستطع هياكل النظام غير الرسمية كالأمانة السورية ومؤسسة العرين الإنسانية (وريثة جمعية البستان الخيرية التي كانت تتبع لرامي مخلوف)، ملئ الفراغ الناجم عن انحسار الدور المجتمعي لهياكل النظام الرسمية ومؤسسات الدولة، فحجم الاحتياج أكبر من حجم الموارد المتاحة، ذلك أضعف ارتباط فئات مجتمعية بنظام الأسد، مفقداً إياه دعمهم. 

أيضاً، لا يمكن تجاهل التغيرات التي طرأت على المجتمعات المحلية ومنظومة الوسطاء المحليين، أولئك الذين شكلوا قنوات غير رسمية لربط النظام بالمجتمعات المحلية، والذين كانوا جزءاً من إستراتيجية النظام لاختراق المجتمعات المحلية، وضمان ولائها من خلال تنظيمهم بهياكل النظام ومؤسسات الدولة، والاعتماد عليهم لنشر شبكات النظام الزبائنية في طول البلاد وعرضها12.

قوضت سياسات بشار الأسد قبل عام 2011 دعائم المنظومة التي أرساها والده في المحليات، لتفرض الثورة على الأسد إعادة تشكيل منظومة الوسطاء المحليين، عبر تقريب بعضهم وتهميش وسحق آخرين، مع استحداث وسطاء جدد. يبدو بأن مسار هذه العملية ارتبط بالديناميات الاجتماعية-السياسية الخاصة بكل منطقة، سواء فيما يتعلق بماضيها أو بما استجد فيها خلال سنوات الثورة. هذا يفسر ظهور نماذج متعددة من الوسطاء في مرحلة ما بعد الصراع. لكن لا يبدو بأن مساعي الأسد تكللت بالنجاح، فالتعويل على وسطاء ما بعد الحرب لإعادة تثبيت سلطة النظام أمر فيه شك، طالما أنهم يفتقدون للموارد والسلطة اللازمة لبناء شبكات الزبائنية، كذلك فإن تشظي السلطة محلياً وضعف هياكل النظام ومؤسسات الدولة، صعب من مهامهم. 

في ظل مشهد الأسد أو لا أحد، وتراجع فعالية هياكل السيطرة والرعاية بشكل مؤثر، وانحسار القاعدة الاجتماعية الموالية للنظام، وضعف فعالية منظومة الوسطاء المحليين، بات الأسد بلا غطاء داخلي وأكثر اعتمادية على الدعم الخارجي للبقاء، وبغيابه سقط الأسد.

 السلطة الجديدة وبقايا النظام: مزيج من الحزم والبراغماتية

بسقوط الأسد تداعت هياكل نظامه، وكان مفاجئاً سلوك السلطة الجديدة إزاء بنى وهياكل النظام، حيث حافظت على استمرارية مؤسسات الدولة بقيادة حكومة جديدة، بينما أبدت حزماً تجاه عائلة الأسد وبقايا المؤسستين الأمنية والعسكرية، لتقوم بجانب آخر بإعادة هيكلة بعض بنى النظام والتراخي تجاه أخرى. مقاربة عنوانها الحزم والبراغماتية

انهارت تلقائياً العائلة الحاكمة وهياكلها الخاصة بهروب بشار الأسد إلى موسكو، فلم يعد هنالك وجود للفرقة الرابعة كوحدة عسكرية منظمة. بالمقابل كان أثر السقوط متبايناً على هياكل السيطرة. بعضها انهار كالمؤسستين الأمنية والعسكرية حيث لم يعد لهما تواجد كهياكل مؤسساتية رسمية، في حين أعلن حزب البعث تعليق أعماله وتسليم مقراته لمؤسسات الدولة13. بالمقابل، بقيت شبكات النظام الاقتصادية والتنموية نشطة بأشكال ومستويات مختلفة، ولم تسجل حالات اعتقال واسعة النطاق بعد لرجال أعمال مرتبطين بالنظام، أو الاستيلاء على ممتلكاتهم بقرارات رسمية لحين كتابة هذه الورقة، وفي حين غادر قسم منهم سوريا، واصل آخرون نشاطهم في غرف التجارة والصناعة، تلك التي لم يعاد هيكلتها بعد. 

بخلاف المتوقع، لم يفض سقوط نظام الأسد إلى انهيار مؤسسات الدولة السورية، وتكرار السيناريو العراقي. ظهر ذلك جلياً للعيان بعدم تعرض إدارة العمليات العسكرية لردع العدوان للمؤسسات خلال سيطرتها على المدن، كذلك الإبقاء على حكومة محمد غازي الجلالي لتسيير الأعمال مؤقتاً لحين نقل السلطة إلى حكومة جديدة، تولاها محمد البشير رئيس حكومة الإنقاذ في إدلب14.

استعانت السلطة الجديدة بالعديد من النخب البيروقراطية للنظام لإدارة بعض مؤسسات الدولة ومثال ذلك مصرف سوريا المركزي، في حين قامت باستبدالها في مواقع أخرى كما في الجمارك والمعابر، لعل المعيار الأساسي كان مدى امتلاكها لكوادر قادرة على شغل هذه المناصب من عدمه. أيضاً، بدأت حكومة تسيير الأعمال بإعادة تنظيم واقع موظفي الدولة، مصدرة في سبيل ذلك قرارات كفصل الآلاف من الخدمة العامة، وما يرافق ذلك من احتجاجات واعتصامات تركزت في الساحل السوري. غالب الظن، جاء قرار الحفاظ على مؤسسات الدولة مدفوعاً بالاعتبارات التالية:

1) تفهم السلطة الجديدة لإجماع عابر للقوى الإقليمية والدولية بضرورة الحفاظ على هياكل الدولة السورية، تجنباً لتكرار فوضى عراق ما بعد صدام حسين.

2) طمأنة فئات المجتمع السوري بما فيهم النخب البيروقراطية تجاه التغيير الحاصل، بما يوسع من قاعدة الدعم المجتمعية للسلطة الجديدة.

3) مرونة هيئة تحرير الشام وتجربتها السابقة في حكم منطقة إدلب، حيث تعايشت حكومة الانقاذ مع هياكل الحكومة السورية المؤقتة، لحين تمكنها من فرض هيمنتها حوكمياً.

4) إمكانية تعامل كوادر الإنقاذ مع مؤسسات الدولة السورية، فالهيكل العام للإنقاذ في إدلب مشابه لمؤسسات الدولة التي يديرها نظام الأسد، من حيث الشكل والدور والمرجعيات القانونية.

5) انخفاض مستوى قلق السلطة الجديدة من مؤسسات الدولة لجهة إمكانية انخراطها في ثورة مضادة، في ظل ما تعانيه من ضعف ملموس لا تخفى مؤشراته على أحد، بل حاجتها إلى تلك المؤسسات لتأكيد شرعيتها كممثل للدولة السورية. بالمقابل، كان تسامح السلطة الجديدة أقل تجاه عائلة الأسد، وجزء معتبر من هياكل وبنى السيطرة التابعة للنظام. يمكن لحظ ذلك من خلال إزالة الأسد كرمز وفكرة لدى السوريين. ظهر ذلك بإجراء تعديلات على المناهج الدراسية لإزالة كل ما يمت بصلة للعهد القديم، وإعادة تسمية المراكز والمستشفيات الدالة على الأسد ونظامه بأسماء جديدة. أيضاً، شنت إدارة العمليات العسكرية حملات أمنية ضد فلول نظام الأسد في عدد من المحافظات، كما أعلنت فتح مراكز لتسوية وضع منتسبي الجيش والأجهزة الأمنية، دونما إجراءات واضحة لمحاسبة الجناة ومرتبكي الجرائم منهم، فيما لا يبدو بأن هنالك تقبلاً لدى السلطة الجديدة لفكرة ضم عناصر سابقة من المؤسستين العسكرية والأمنية في الهياكل الأمنية والعسكرية الجديدة. أيضاً، تم تجميد العديد من هياكل السيطرة والحشد لنظام الأسد، كما ظهر مع الاتحاد الوطني لطلبة سوريا، كذلك الحديث عن حل هياكل أخرى في مؤتمر الحوار الوطني السوري المزمع عقده في المستقبل القريب،15فيما يزال الموقف غامضاً تجاه حزب البعث16، الذي أعلن تعليق نشاطه الحزبي من تلقاء نفسه. يُظهر الموقف المتشدد للسلطة الجديدة تجاه عائلة الأسد وما يرتبط بها من هياكل سيطرة وتعبئة، أنها مسكونة بهاجس الثورات المضادة التي درستها بوقت سابق17، وما يمكن أن تشكله تلك الهياكل من تهديد لسيطرتها ولاستقرار سوريا، لما تمتلكه من موارد وخبرات وشبكة علاقات. 

من هنا كان الاعتقاد بوجوب التعامل معها بحزم. تواجه السلطة الجديدة جملة من التحديات لعل أهمها وأكثرها إلحاحاً، ما يتصل بإنعاش الاقتصاد السوري المتردي، ومع رؤيتها للانتقال من اقتصاد اشتراكي إلى اقتصاد حر تنافسي بحسب تصريحات وزير الاقتصاد في حكومة تصريف الأعمال، 18 وتجربتها السابقة في تطوير قطاع خاص في إدلب قائم على شبكات تجار ورجال أعمال مقربين منها19، تجد السلطة الجديدة بجزء من شبكات النظام الاقتصادية ورجالات أعماله غير المرتبطين بشكل عضوي بالأسد، فرصة يمكن استثمارها لتنشيط الاقتصاد السوري وتطوير شبكتها الاقتصادية، لما يمتلكونه من رؤوس أموال وشبكة علاقات واسعة وخبرات لا يستهان بها في عدة قطاعات. كذلك رغم إعلان العديد من ممثلي الوسطاء المحليين ولاءهم للسلطة الجديدة، تبقى السلطة الجديدة بلا جذور ضاربة في المحليات سيما تلك التي كانت خاضعة لسيطرة الأسد، لعل ذلك كان الدافع وراء تقبل السلطة الجديدة لبعض أذرع نظام الأسد التنموية، كما حدث مع الأمانة السورية للتنمية، للاستفادة من خبراتها وكوادرها وشبكاتها المحلية بغرض تمكين السلطة الجديدة. 

الخاتمة

أرسى الأسد الأب نظاماً تسلطياً عائلياً، معززاً ذلك البعد بمروحة من الآليات وهياكل السلطة، مكنته من اختراق الدولة والمجتمع والتحكم بهما. لم يحافظ الأسد الابن على تركة والده، حيث قوضت سياساته المتبعة منذ ما قبل اندلاع الثورة دعائم النظام القديم تدريجياً، الأمر الذي جعله بلا غطاء داخلي وأكثر اعتمادية على حلفائه للبقاء. أظهرت عملية ردع العدوان هشاشة بنية النظام بمستوياتها، وبخلاف المتوقع، لم يفض سقوط النظام إلى انهيار مؤسسات الدولة السورية، كما لم يتداع النظام بكل مستوياته وهياكله تلقائياً. 

تتعامل السلطة الجديدة تجاه بقايا النظام بمقاربة تمزج بين الحزم والبراغماتية، فالحفاظ على مؤسسات الدولة كان بغرض اكتساب الشرعية داخلياً وخارجياً، والحزم تجاه فلول عائلة الأسد وهياكلها للسيطرة سيما الأمنية والعسكرية، دافعه التخوف من ثورة مضادة. أما التراخي تجاه شبكات النظام الاقتصادية وبعض رجالات أعماله، فذلك منبعه الحاجة إليها وانسجامها مع الرؤية الاقتصادية للسلطة الجديدة. للوهلة الأولى، تبدو مقاربة السلطة الجديدة تجاه بقايا نظام الأسد واقعية، لكن بالتدقيق يتضح بأنها تعاني ثغرات قد لا تشكل خطراً داهماً، لكن احتمالية ذلك الخطر تتعاظم تدريجياً. 

هنالك معضلة تواجه السلطة الجديدة، حيث ما تزال مؤسسات الدولة المتهالكة زاخرة بنخب بيروقراطية موالية للأسد، يمتلكون الخبرات والموارد وشبكة العلاقات تجعلهم قادرين على تعطيل إجراءات السلطة الجديدة. وبجانب آخر، لا يبدو بأن السلطة الجديدة تمتلك كوادر كافية مؤهلة لإدارة بيروقراطية الدولة، ولا تبدو عليها مؤشرات الانفتاح بعد تجاه الكوادر السورية المعارضة غير المنتمية إلى تيارها، الأمر الذي يجعل المؤسسات أقرب لحالة عطالة مولدة للأزمات. أيضاً، قد تجد إجراءات السلطة الجديدة بفصل آلاف من الموظفين، ما يبررها بتخفيف العبء على الموازنة العامة وترشيق مؤسسات الدولة، إلا أن التسرع بهذه العملية دونما توفير بدائل اقتصادية للمسرحين من الخدمة، يضيف أعداد من العاطلين عن العمل إلى أولئك الذين فقدوا وظائفهم بوقت سابق جراء انحلال المؤسستين العسكرية والأمنية، ومع تركز هؤلاء في منطقة الساحل السوري، تغدو الفرصة مواتية لتعبئتهم ضد السلطة الجديدة.     

يحمل الإبقاء على جزء من رجالات أعمال النظام وشبكاتهم الاقتصادية، مخاطر ترسيخ نهج إدارة الاقتصاد السوري بواسطة شبكات محسوبيات، تلك التي أفرزت تناقضات اجتماعية اقتصادية، كانت أحد مولدات عدم الاستقرار في سوريا.

 

المصادر

  1. For more read, Syria Under al-Assad Rule: A Case of Neopatrimonial Regime, Ortadoğu Etütleri (Volume 10, No 2, Dec 2018, pp.140-170), https://shorturl.at/NvYTv 
  2. For more read, Ayman Aldasssouky, The economic networks of the fourth division during the Syrian conflict. European University Institute, 24 Jan 2020. https://shorturl.at/YTCly 
  3. For more read, Karam Shaar and Steven Heydeman. Networked authoritarianism and economic resilience in Syria. BROOKINGS. Aug 2024, https://shorturl.at/ELGSw 
  4. هكذا هرب بشار الأسد، بودكاست بتوقيت دمشق مع حسين الشيخ، منصة مزيج، 04 كانون الثاني 2025. https://shorturl.at/CRGGQ 
  5. شارل ايوب يفجر مفاجأة مدوية ويكشف الرواية الكاملة: بشار الأسد اغتال آصف شوكت… وأقسم على هذه الحقيقة!، منصة Belmoubashar Plus على اليوتيوب، 23 كانون الأول 2024. https://shorturl.at/PcaeW 
  6. للمزيد مراجعة، خلاف الأسد – مخلوف: أسبابه، وتداعياته، واحتمالات تطوره، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، تقييم حالة، آيار 2020. https://shorturl.at/AdhlF
  7. Karam Shaar and Steven Heydeman.
  8. للمزيد مراجعة، خضر خضور، القوة في الضعف: قدرة الجيش السوري العرَضية على الصمود، مركز كارنيجي، 14 آذار 2016، https://shorturl.at/0MZSI 
  9. للمزيد مراجعة، أيمن الدسوقي، قراءة في حالة نظام الأسد.. انهيار أم إعادة تشكل، مركز عمران للدراسات، 25 كانون الأول 2023. https://shorturl.at/28G5L 
  10. للمزيد مراجعة، خضر خضور، الميليشيات المسبِّبة للمتاعب في سورية، مركز كارنيجي، 07 تشرين الثاني 2018. https://shorturl.at/7QfSn
  11. للمزيد مراجعة، جوزيف ضاهر، النيوليبرالية في سورية تعزيز للسلطويّة واللامساواة، ترجمة رباب عبيد، بدايات، العدد 31 2021، https://shorturl.at/vk28y 
  12. للمزيد مراجعة، خضر خضور، الحروب المحليّة وفرص السلام اللامركزي في سورية، مركز كارنيجي، 28 آذار 2017. https://shorturl.at/wcQMx 
  13. حزب البعث السوري يعلق أنشطته حتى “إشعار آخر”، الجزيرة، 12 كانون الأول 2024. https://shorturl.at/CURv0 
  14. فيديو.. الجولاني يبحث مع الجلالي “انتقال السلطة” في سوريا، سكاي نيوز عربية، 09 كانون الأول 2024. https://shorturl.at/MFLVz  
  15. لجنة تحضيرية لترتيب تفاصيل مؤتمر الحوار الوطني بسوريا، الجزيرة، 30 كانون الأول 2024. https://shorturl.at/2P68L 
  16. مطالب بحل حزب “البعث” في سوريا، الخابور، 31 كانون الأول 2024. https://shorturl.at/QKPYT 
  17. هل تتكرر أحداث سوريا في دول عربية أخرى؟ | أ. عمار فرهود مع بودكاست عربي بوست، 18 كانون الأول 2024. https://shorturl.at/JWqUw
  18. وزير الاقتصاد: سننتقل من الاقتصاد الاشتراكي إلى اقتصاد حر تنافسي، سيريانيوز، 18 كانون الأول 2024. https://shorturl.at/Yqnb3 
  19. جوزيف ضاهر، فهم التهديدات التي تواجه سوريا الديمقراطية والتقدمية اليوم، حكاية ما انحكت، 04 كانون الثاني 2025. https://shorturl.at/NvhZa