ملخص

بعدما يقارب العامين من اندلاع الحرب، استطاع الجيش السوداني تحقيق انتصارات مهمة بتحرير ولايتي سنار والجزيرة في وسط السودان، ومدينة بحري في العاصمة الخرطوم، بجانب فك الحصار عن القيادة العامة للجيش. وعلى الرغم من حالة التفاؤل وسط قطاعات واسعة من السودانيين الذين بدأ بعضهم رحلة العودة إلى ديارهم في المدن المحررة، إلا أن المعركة مع قوات الدعم السريع المتمردة على الجيش لم تنته بعد، إذ لا تزال تلك القوات تسيطر على أجزاء واسعة في ولايات كردفان الثلاث، وعلى أربع من ولايات دارفور أقصى غرب السودان وتحاصر مدينة الفاشر عاصمة الإقليم في ولاية شمال دارفور. ورغم هذه الخريطة العسكرية المعقدة، هناك تفاؤل عام بقدرة الجيش على استعادة هذه الرقعة الجغرافية، خاصة بعد الانتصار المهم الذي حققه الجيش في خواتيم يناير الماضي باستعادة مدينة أم روابة الاستراتيجية، التي تبعد نحو 145 كيلومترًا من الأبيض، عاصمة شمال كردفان المحاصرة.

مقدمة:

  ألف ومائة كيلومتر هي المسافة بين مدينة بورتسودان الساحلية على البحر الأحمر شرق السودان، وبين مدينة أم روابة في ولاية شمال كردفان، التي زارها الفريق عبد الفتاح البرهان، قائد الجيش السوداني، بعد ساعات قليلة من تحريرها، مما يعكس أهميتها الاستراتيجية. فبجانب موقعها المهم كمركز طرق يربط بين الوسط الغربي للسودان وولايات دارفور، تعد المدينة سوقًا مركزيًا للمحاصيل الزراعية ومصدرًا مهمًا للثروة الحيوانية. وتعتبر هذه أبعد نقطة يصلها مسؤول حكومي رفيع منذ اندلاع الحرب في أبريل من عام 2023، ومن هناك خاطب البرهان حشدا جماهيريا حيث أكد على إستمرار معركة الكرامة1، جاءت هذه التطورات بعدما تخلى الجيش عن تكتيك الدفاع، الذي انتهجه منذ اندلاع الحرب، وانتقل إلى الهجوم المكثف في سبتمبر الماضي. ومع استعادة الجيش لولايات الوسط وإحكامه الحصار على مناطق قوات الدعم السريع في العاصمة الخرطوم، يمكن القول إن المرحلة الأولى والمهمة للجيش قد قاربت على النهاية، حيث يتوقع أن يتفرغ بعدها لاستعادة ولايات دارفور وتطهير بعض الجيوب في ولايات كردفان. وفي أحدث ظهور له، اعترف قائد قوات الدعم السريع، محمد حمدان دقلو، بفقدان قواته لمناطق مهمة، حيث قال في فيديو مصور موجهًا حديثه لجنوده: “لا تفكروا في دخول الجيش للقيادة وسلاح الإشارة أو استلامهم لمدينة الجيلي وود مدني، بل فكروا في استلام مواقع جديدة” ‍‍2.

وعلى المستوى الخارجي، وبعدما كان الظن أن العالم قد نسي المأساة السودانية، طرح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مبادرة للحوار بين السودان والإمارات، وذلك على خلفية الاتهامات المتكررة من الجيش بدعم إماراتي لقوات الدعم السريع. وكانت آخر محاولة في هذا الشأن هي المكالمة التي تمت بين الرئيس البرهان ورئيس دولة الإمارات محمد بن زايد، بتنسيق من رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد في يوليو الماضي، ولكن لم تشهد العلاقة تحسنًا يذكر. جاءت المبادرة التركية في ديسمبر الماضي وسط تكهنات بإمكانية تحقيق اختراق ملموس، بالنظر إلى الثقل الذي تتمتع به تركيا وتأثيرها الحيوي في منطقة القرن الإفريقي، ونجاح مبادرتها في تهدئة التوتر بين الصومال وإثيوبيا.

ماهي الخطوة القادمة:

 بعد الانتصارات التي حققتها القوات المسلحة مؤخرًا، تثار أسئلة ملحة حول التصور المتوقع للفترة المقبلة، وحول ما إذا كانت هذه الانتصارات ستسهم في بدء استعادة الحياة المدنية وتبلور عملية سياسية بعدما ظلت الحرب وثقافتها هي السائدة طوال العامين الماضيين. من الواضح أن الجيش يحاول تركيز جهوده خلال المرحلة الحالية على استكمال تحرير المدن ومواصلة القتال حتى تحقيق السيطرة الكاملة. كما أعلن الجيش عن أنه أنهى المرحلتين الأولى والثانية بنجاح، وهما “امتصاص الصدمة وكسر العظم”، بينما تركز المرحلة الثالثة على التحرير الكامل3. ومن المؤكد أن اللحظة المهمة التي ينتظرها المواطن العادي هي العودة لدياره واستئناف حياته الطبيعية وتجاوز المآسي التي خلفت أكثر من 20 ألف قتيل ونحو 14 مليون نازح ولاجئ4، أما بالنسبة للحكومة فإن المرحلة المهمة في مسيرة الحرب وتأكيد أهمية إنتصارات الجيش تكمن في قدرتها على إعادة مؤسسات الدولة للعاصمة الخرطوم، ومن ثم تبدأ مرحلة إستعادة الدولة وعمل أجهزتها الخدمية والشرطية ، ولا يتوقع أن تكون هذه العملية سهلة بالنظر للتحديات الأمنية التي تسيطر على العاصمة، إذ على الرغم من سيطرة الجيش على مساحة واسعة من العاصمة إلا أن قوات الدعم السريع تبنت تكتيك إستهداف تجمعات المواطنين والبنية التحتية بالطائرات المسيرة وذلك لحرمان الجيش من تحقيق خطته القائمة على سرعة تطبيع الأوضاع في المدن المحررة، كما أن إنتشار السلاح والمجموعات الإجرامية التي كانت تقاتل مع الدعم السريع ستكون عوامل أخرى مقلقة في العاصمة الخرطوم5.

وفي حال تمكن الجيش من طرد قوات الدعم السريع من كامل العاصمة فإن التحدي الكبير الذي ينتظر الحكومة السودانية  قبل إستكمال تحرير بقية المدن في كردفان ودارفور هو البدء في تبني السياسات الناجعة لإعادة الإعمار وفق برنامج يربط بين إعادة الإعمار العمراني وبين إعادة الهياكل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للمجتمع ، أن منظومة إعاد الإعمار لا تتكامل إلا إذا تكاملت أبعادها الإقتصادية، الإجتماعية السياسية مع أبعادها العمرانية6، ولا يقتصر التحدي للحكومة على تدني كفاءة تلك الأجهزة  فقط ، ولكن يشكل العامل الاقتصادي تحديا من نوع آخر إذ يقدر اقتصاديون خسائر الإقتصاد السوداني ب 600  مليار دولار منذ إندلاع الحرب، وذلك في ظل تراجع قيمة العملة الوطنية وتوقف المصانع الكبيرة عن الإنتاج7، وهو ما يفرض على الحكومة وضع خطة إسعافية عاجلة تمكن القطاعات الإنتاجية للعودة للعمل بأسرع ما يمكن.

أثبتت الحرب الحالية أن القوي السياسية السودانية تعاني من إنعدام الرؤية السياسية، وعدم إمتلاك الحس التاريخي الذي يقدر الأحداث الكبار حق قدرها، ذلك أن هذه الأحزاب ظلت ومنذ تأسيسها غارقة في الخلافات الصغيرة والانقسام على أسس شخصية وأيدولوجية8 ، وبالنظر إلى الموقف من الحرب يمكن تقسيم الأحزاب إلى ثلاثة كتل علي النحو التالي :

أ/ تحالف تقدم: تم تكوين تحالف تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية في مايو من العام الماضي في العاصمة الأثيوبية أديس أبابا، وأعلن وقتها أنه أوسع تحالف لوقف الحرب واستعادة مسار التحول المدني الديمقراطي 9 ، واختار رئيس الوزراء السابق عبدالله حمدوك رئيسا له، وعلي الرغم من أن التحالف يكرر أنه يقف على الحياد ولكن مناصرو الجيش يرون أنه يتحالف مع الدعم السريع ويتبني روايتها، وما أكد هذه الرؤية هو توقيع التحالف على مذكرة تفاهم مع حميدتي مؤخراً، قبل أن ينقسم إلى مجموعتين على خلفية الخلاف حول تكوين حكومة موازية في مناطق سيطرة الدعم السريع 10.

ب/ قوي وثيقة الميثاق الوطني: وهي تحالف عريض من الكتل والأحزاب السياسية الداعمة للجيش في معركة الكرامة، ومن أبرز أعضائها الكتلة الديمقراطية التي يقودها السيد جعفر الميرغني وعددا من الكتل والأحزاب، وعلى الرغم من حجم التحالف الكبير إلا أنه يفتقد للفاعلية الجماهيرية، وظلت برامجه السياسية طوال فترة الحرب دون مستوى حجم التحدي الذي تمر به البلاد حالي ، ووقع التحالف على  وثيقة الميثاق الوطني في مايو الماضي بالعاصمة المصرية القاهرة، والتي  تهدف إلى تقديم رؤية سياسية موحدة للتعاطي مع الأزمة السودانية وتمهد لحوار سوداني _ سواداني شامل يقدم خارطة للحل السياسي الشامل في السودان 11.

ج/ الإسلاميون: يتميز هذا التيار بوجوده المؤثر على الأرض وفي ميدان المعركة، حيث لم يكتف بدعم القوات المسلحة كتيار وثيقة الميثاق الوطني ولكنه انخرط بصورة فاعلة في التعبئة والاستنفار وتحريك لجان المقاومة الشعبية التي لعبت دورًا بارزًا في مساندة الجيش بل وفي المشاركة الفعلية في العمليات العسكرية، ومع كل هذه المشاركة المؤثرة والوجود الميداني الملحوظ للإسلاميين في الشارع إلا أن هناك عوامل مهمة تؤثر في فعاليتهم السياسية، أهمها الدور الخارجي المتوجس من عودة محتملة للإسلاميين إلى مواقع السلطة 12، بجانب التعقيدات القانونية التي  تحيط بالحزب بعد قرار حله.

تسود في الشارع موجة تفاؤل خاصة وسط النازحين واللاجئين بقرب عودتهم إلى منازلهم وإستئناف حياتهم، وقد يبدو ذلك واردًا في مدى زمني قصير ولكن لا يبدو أن الأمور ستكون سهلة، ففي ظل الانقسام السياسي الحاد، وإستمرار إحتلال الدعم السريع لبعض ولايات دارفور، والإنهيار الفعلي للمؤسسات الإنتاجية والبنية التحتية يتوقع أن تستمر الأزمة السياسية في البلاد لفترة ليست قصيرة، كما أن  تعنت قوات الدعم السريع ورفضها تنفيذ إعلان جدة الذي يلزمها بالخروج من منازل المواطنين والأعيان المدنية سيجعل الخيار العسكري حاليًا هو المسيطر على المشهد، خاصة وأن الانتخابات الأميركية أثرت على فعالية  المبادرة الأمريكية السعودية خلال الفترة الماضية، فيما لا تتوفر معلومات كافية حول المبادرة التركية للحوار بين السودان ودولة الإمارات، ولكن ومن واقع التحركات المكوكية للدبلوماسية التركية بين السودان والإمارات يتوقع أن تسفر المبادرة عن تسوية ما تقود لحلول تفاوضية .

أما فيما يتعلق بسؤال من سيكسب الحرب في النهاية فهو ذلك الذي يلتزم بشروط صناعة النصر التي تحددها النظريات العسكرية 13، ولحين التبين من ذلك يظل السودانيون في حال الترقب والتساؤل متى تستقر بلادنا ؟

 

المراجع:

1/ البرهان يصل أم روابة ، thttps://suna-sd.net/posts/ryys-mgls-alsyad-ysl-am-roab

2/ حميدتي يعنرف بهزيمة قواته في محاور القتال بالعاصمة السودانية الخرطوم

Beemreport.com  31_01_2025

3/ المرحلة الثالثة من عمليات الجيش ، الجزيرة نت تكشف ملامح المسار المقبل للمعارك في السودان https://www.aljazeera.net/amp/politics/2025/1/31/%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B1%D8%AD%D9%84%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AB%D8%A7%D9%84%D8%AB%D8%A9-%D9%85%D9%86-%D8%B9%D9%85%D9%84%D9%8A%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D9%8A%D8%B4

4/ لمزيد من المعلومات أنظر https://www.aa.com.tr/ar/%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A%D8%A9/%D8%A7%D9%84%D9%87%D8%AC%D8%B1%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%84%D9%8A%D8%A9-%D9%86%D8%B2%D9%88%D8%AD-500-%D8%A3%D8%B3%D8%B1%D8%A9-%D8%A8%D8%B4%D9%85%D8%A7%D9%84-%D8%AF%D8%A7%D8%B1%D9%81%D9%88%D8%B1-%D8%A5%D8%AB%D8%B1-%D9%87%D8%AC%D9%85%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D8%B9%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%B1%D9%8A%D8%B9/3467301

5/ د صلاح الزين فيديو في منصة balad alkhair علي يوتيوب ، نشر بتاريخ 4  فبراير يوتيوب ، نشر بتاريخ 4  فبراير 2025

6/ بكر هاشم بيومي أحمد وعلي محمد السويداني ، مجلة جامعة الأزهري الهندسية ، vol 12 ، NO 44 july 2017،  1183    ، 1197

7/https://www.independentarabia.com/node/612252/%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9/%D8%AA%D9%82%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%B1/%D9%83%D9%8A%D9%81-%D8%BA%D9%8A%D8%B1%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B1%D8%A8-%D9%88%D8%A7%D9%82%D8%B9-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D8%AF%D8%A7%D9%86%D9%8A%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D9%82%D8%AA%D8%B5%D8%A7%D8%AF%D9%8A%D8%9F

8/ روبرت كولينز ، تاريخ السودان الحديث ، ترجمة مصطفي الجمال ، مطبعة دار العين ، الطبعة الأولي 2010 م ، ص 120

9/ https://aawsat.com/%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D9%84%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A/%D8%B4%D9%85%D8%A7%D9%84-%D8%A7%D9%81%D8%B1%D9%8A%D9%82%D9%8A%D8%A7/5024076-%D8%A8%D9%82%D9%8A%D8%A7%D8%AF%D8%A9-%D8%AD%D9%85%D8%AF%D9%88%D9%83-%D8%AA%D8%AD%D8%A7%D9%84%D9%81-%D8%AA%D9%82%D8%AF%D9%85-%D9%8A%D8%B9%D9%82%D8%AF-%D9%85%D8%A4%D8%AA%D9%85%D8%B1%D8%A7%D9%8B-%D9%84%D8%A3%D9%88%D8%B3%D8%B9-%D8%AC%D8%A8%D9%87%D8%A9-%D9%85%D8%AF%D9%86%D9%8A%D8%A9

10/ https://sudantribune.net/article296686/

11/ https://rosaelyoussef.com/1183447/%D8%B9%D8%A7%D8%AC%D9%84-%D8%A8%D9%88%D8%A7%D8%A8%D8%A9-%D8%B1%D9%88%D8%B2%D8%A7%D9%84%D9%8A%D9%88%D8%B3%D9%81-%D8%AA%D9%86%D8%B4%D8%B1-%D9%86%D8%B5-%D9%88%D8%AB%D9%8A%D9%82%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%83%D8%AA%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D8%AF%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A9-%D9%84%D8%AA%D9%88%D8%AD%D9%8A%D8%AF-%D8%B5%D9%81-%D8%A7%D9%84%D9%82%D9%88%D9%89-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D9%8A%D8%A9

12/ intervew with US envoy to sudan  National radio staion 16 Mar 2024

13/ https://www.aljazeera.net/opinions/2024/8/29/%d9%81%d9%86-%d8%a7%d9%84%d8%ad%d8%b1%d8%a8-%d9%87%d9%84-%d8%a7%d9%82%d8%aa%d8%b1%d8%a8%d8%aa-%d9%86%d9%87%d8%a7%d9%8a%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%b9%d8%b1%d9%83%d8%a9-%d9%85%d8%b9