في تطور دراماتيكي يعيد مشهد الحرب إلى واجهة الأحداث، قرر الائتلاف الحكومي بقيادة بنيامين نتنياهو، في 2 مارس/آذار 2025، إعادة فرض حصار مشدد على قطاع غزة، مترافقًا مع إغلاق شامل للمعابر ومنع إدخال المساعدات والمواد الغذائية، بذريعة رفض حركة حماس مقترح المبعوث الأمريكي للشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، الذي دعا إلى إطلاق مسار تفاوضي موازٍ لاتفاق الدوحة الموقّع في 17 يناير/كانون الثاني من العام ذاته بين حركة حماس وإسرائيل برعاية مصرية وقطرية وحضور أمريكي.

تبع ذلك بأيام، الضربة العسكرية في 18 مارس/آذار التي شكلت بداية تصعيد واسع، حين أطلقت إسرائيل عملية عسكرية مفاجئة تحت اسم(القوة والسيف)، استهدفت من خلالها عشرات المواقع في قطاع غزة، زاعمة أنها تعود لحركتي حماس والجهاد الإسلامي.

على الرغم من التحذيرات المسبقة من إمكانية انهيار التهدئة، إلا أن حجم وشدة الضربة شكّلا مفاجأة صادمة، عكست توجّهًا إسرائيليًا محسومًا نحو العودة إلى الخيار العسكري، وسط تهديدات متكررة من نتنياهو ووزراء حكومته باستخدام القوة، بذريعة (فشل استكمال الصفقة) و(المخاطر الأمنية المتزايدة).

ما وراء خرق إسرائيل للاتفاق

الرابط بين العملية العسكرية الإسرائيلية وبين ما جرى يستند بالأساس لعوامل إسرائيلية داخلية، أبرزها رغبة نتنياهو في إعادة رئيس حزب (عوتسما يهودت – عظمة يهودية) إيتمار بن غفير للحكومة بعدما استقال احتجاجاً على صفقة الأسرى.

كان نتنياهو يريد من بن غفير تمرير قانون الموازنة الذي لم يكن ليمر لولا وجوده في الائتلاف الحكومي، وهو ما كشفته صحيفة (يديعوت أحرنوت) قبل أيامٍ من استئناف الحرب، بأن نتنياهو عرض على بن غفير أموالًا للعودة إلى الحكومة قبل تصويت الكنيست على الموازنة.

وفق الصحيفة، اشترط مقابل عودته تلبية أحد الشروط الثلاثة: العودة إلى القتال المكثف في غزة؛ والوقف الكامل للمساعدات الإنسانية؛ وإقرار خطة تهجير سكان قطاع غزة على المستوى العملي، وقد نقلت (يديعوت) عن مصدر في حزبه قوله: (إنهم يعرضون المليارات ونحن نطلب الإيديولوجية.)

تزامنت معضلة (بن غفير)، مع تهديد رئيس حزب (يهدوت هتوراة)، غولدكنوبف، بالتصويت ضد الميزانية بسبب قانون تجنيد الحريديم، عدا عن أن وزير المالية المتطرف بتسئليل سموتريتش هو الآخر لوح بإسقاط الحكومة إذا اتجه نتنياهو نحو المرحلة الثانية من الاتفاق، وبالتالي كان إنقاذ الائتلاف الحكومي من الانهيار أحد مسببات التوجه نحو التصعيد في غزة.

بالإضافة إلى ذلك، فإن مسببات أخرى تدفع نتنياهو للذهاب نحو عودة الحرب، من أبرزها الواقع الداخلي السياسي المعقد لإسرائيل في ظل إقالة رئيس جهاز الأمن العام (الشاباك) رونين بار، وإجراءات عزل المستشارة القضائية للحكومة الإسرائيلية.

فضلاً عن ذلك، تلعب التعديلات التي قام بها نتنياهو على المستوى العسكري في جيشه دورًا في عودة الحرب، بعد استقالة رئيس هيئة الأركان هرتسي هاليفي، واستبداله بإيال زامير المحسوب على التيار المتطرف، والذي وصفه يتسحاق بريك، وهو اللواء احتياط في الجيش الإسرائيلي  والمفوّض السابق لشكاوى الجنود بأنه (أداة في يد سيده نتنياهو).

وسط ذلك كله، تلعب المحاكمة التي تدور مع نتنياهو دوراً بارزًا في سعيه لإبقاء حالة الحرب قائمة في مختلف الجبهات تحت وتيرة الأمن وتصدير ما يجري على أنها حرب وجودية، غير أن المعطيات الراهنة لا تعدو عن كون الحرب، وسيلة لنتنياهو للهروب للأمام من مأزقه السياسي الذي يعصف به منذ اليوم الأول لعملية السابع من أكتوبر.

على الجانب الآخر، فإن نتنياهو كان واضحاً منذ اليوم الأول للاتفاق أنه ذهب إليه مرغماً بفعل تهديدات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي كان يستعد لدخول قصره الرئاسي في البيت الأبيض، والذي توعد بفتح أبواب الجحيم على حماس في حال لم يتم الوصول إلى اتفاق.

في المقابل، فإن مرونة المقاومة الفلسطينية وحركة حماس وترحيل الكثير من القضايا العالقة من المرحلة الأولى دفعت الأطراف كلها نحو المضي قدماً في الاتفاق دون أن يكون هناك مبرر لتعطيله من قبل نتنياهو الذي سبق وأن عطل مقترحي مايو ويوليو.

وبالتالي فإن فشل استكمال اتفاق الدوحة يعود إلى أسباب غير مرتبطة بالأساس بالاتفاق بقدر رغبة نتنياهو الاستفادة من الواقع القائم حالياً نحو بدائل أخرى تدفع نحو استمرار مسمى (حالة الحرب) مع استعادة الأسرى جميعهم دون أي ثمن سياسي.

ومع انتهاء المرحلة الأولى للاتفاق بدا واضحاً حجم الهوة الواسع بين ما تطرحه حركة حماس من جهة وإسرائيل من جهة أخرى، إذ عرضت حماس  تسليم الأسرى الموجودين لديها رزمة واحدة شريطة التوصل لاتفاق ينهي الحرب تماماً ويفضي إلى انسحاب إسرائيلي كامل من غزة وتنفيذ صفقة أسرى تصفها بالمشرفة.

أما نتنياهو فاختار القفز بعيدًا عبر ما أسماه مقترح المبعوث الأمريكي ستيف ويتكوف الذي ينص على تحقيق صفقة تبادل فقط دون التطرق إلى أي بنود مرتبطة بالانسحاب أو إنهاء الحرب وهو ما ترى فيه المقاومة وحركة حماس انقلابًا على الاتفاق المبرم بوساطة مصرية وقطرية.

في المقابل فإن موقف الوسطاء لم يكن أفضل حالاً خلال مسارات تنفيذ المرحلة الأولى، على سبيل المثال، تظهر بيانات حكومية فلسطينية وأخرى صادرة عن حركة حماس توثيق ما يزيد عن 1000 خرق تنوعت بين عمليات قتل وتأجيل تنفيذ بعض البنود مثل عودة النازحين لمدة يومين بالإضافة لعدم إدخال البيوت المتنقلة والخيام وفقاً للعدد المتفق عليه، وبالتالي لم يكن تأثير الوسطاء واضحاً أو ضاغطاً لاستكمال الاتفاق، على العكس، اعتاد الطرف الإسرائيلي على مهاجمة الوسيط القطري مراراً وفي مرات أخرى هاجم الوسيط المصري.

حول مفاوضات المرحلة الثانية

لا يمكن القول إن ثمة نقاط عالقة حقيقية بين الطرفين مرتبطة بمفاوضات وقف إطلاق النار في غزة، إذ أن بنود الاتفاق المبرم اتفق عليها الجانبان خلال مرحلة التفاوض وكانت إسرائيل الطرف الذي يخرقه في كل مرة.

من ناحية أخرى، فإن الاتفاق نص على انطلاق مفاوضات المرحلة الثانية في اليوم 16 للاتفاق وهو أمر لم تنفذه إسرائيل، حيث ماطل نتنياهو لأسابيع بالرغم من إعلان المقاومة جاهزيتها عدة مرات للوصول إلى اتفاق بأي شكل بما في ذلك الاتفاق الموقع والمكون من 3 مراحل.

في المقابل، شكلت تهديدات الرئيس الأمريكي ترامب المتكررة لحركة حماس والمقاومة في غزة بفتح أبواب الجحيم بمثابة أكسير هواء متجدد في كل مرة كانت فيه الدائرة تضيق على نتنياهو عبر السعي للضغط على حماس  للإفراج عن الأسرى الإسرائيليين لديها.

وبالرغم من اللقاءات التي قام بها المبعوث الأمريكي لشؤون (الرهائن) الذي تم إبعاده عن الملف آدم بلور مع قيادات حركة حماس، فإن هذه اللقاءات لم تحقق اختراقاً ملموسًا في صفقة الأسرى أو استمرار الهدوء القائم.

وشكلت هذه اللقاءات غطاء لاستمرار المماطلة دون الوصول إلى نتيجة حقيقية، حيث وافقت حركة حماس على مقترح بولر الإفراج عن الأسير الأمريكي – الإسرائيلي عيدان ألكسندر و4 جثث أسرى مزدوجي الجنسية، في المقابل، تراجع الطرف الأمريكي عن هذا العرض، وعاد ليتماشى مع المقترحات الإسرائيلية مع رفض نتنياهو هذا الاقتراح.

ومع عودة الحرب إلى غزة، فإن البيت الأبيض وجميع التصريحات الأمريكية كانت داعمة للموقف الإسرائيلي في القتال، حتى أن ويتكوف اتهم حركة حماس بتعطيل الصفقة والتسبب في العودة للقتال، وطرح بنود مثل تسليم السلاح والخروج من غزة.

وبالتالي فإن الموقف الأمريكي داعم ومرتكز رئيسي في عودة الحرب على غزة وعدم تجدد الاتفاق، ما يجعل الطرف الأمريكي مساهماً أساسياً في الحرب على غزة وليس وسيطًا في الوصول إلى اتفاق بين حماس وإسرائيل.

أما فيما يتعلق بجدية الأطراف في الوصول إلى اتفاق، فإن الأطراف الأربعة مصر وقطر وأميركا وحماس تبدو معنية في الوصول إلى اتفاق، لكن المختلف هي تفاصيل الاتفاق فمن جهة تريد أميركا الحفاظ على المصالح الأمنية الإسرائيلية باعتبارها الشرطي الرئيس في المنطقة، أما مصر وقطر فتختلفان في الهدف، في حين تريد حماس وقف الحرب والعودة إلى مرحلة الهدوء بحيث تتمكن من وضع حد لشلال الدماء.

فالهدف المصري يبدو مرتبطًا بالخشية من مشاريع التهجير وإمكانية نقل الفلسطينيين في غزة إلى سيناء، إذ أن المخاوف المصرية تبدو مرتفعة من هذا الأمر في ظل (خطة ترامب) الرامية لتهجير الفلسطينيين.

تسعى قطر إلى تحقيق مجموعة من الأهداف، يأتي في مقدمتها تعزيز مكانتها كقوة محورية في الشرق الأوسط والعالم، خاصة في مجالات الوساطة ونزع فتيل النزاعات. فقد لعبت قطر أدوارًا بارزة في هذا السياق، كما في الأزمة الأوكرانية-الروسية من خلال التوسط لإطلاق سراح الرهائن، وكذلك في المفاوضات بين حركة طالبان والولايات المتحدة. واستنادًا إلى علاقتها مع حركة حماس، فإنها تسعى قطر إلى أداء دور مشابه في ملف تبادل الأسرى.

حول استراتيجيات الاحتلال والمقاومة

يبدو أن عودة إسرائيل إلى العدوان العسكري الواسع ضد قطاع غزة ليس مجرد رد فعل تكتيكي، بل تعكس بوضوح تحولًا استراتيجيًا في سلوك الحكومة الإسرائيلية، التي تسعى إلى فرض شروط استسلام كاملة على المقاومة الفلسطينية، من خلال إعادة تفعيل سياسة (الصدمة والترويع).

إن الهجمات المكثفة، والتي شملت اغتيالات واستهداف بنى تحتية مدنية، تأتي في سياق محاولة واضحة لتقويض قدرة المقاومة على التفاوض من موقع قوة، ودفعها إلى تقديم تنازلات سياسية تحت ضغط النار والحصار.

ومن ناحية أخرى، فإن التصعيد الإسرائيلي يبدو منضبطًا بعض الشيء عند مقارنته بالشكل السابق للعمليات العسكرية ومحكوماً بسقوف وضعتها الإدارة الأمريكية وهو ما عبر عنه أكثر من مسؤول أميركي بأن التنسيق مشترك ومتبادل.

وظهر هذا الأمر في يوم الثلاثاء 18 مارس 2025، حينما أكد البيت الأبيض اطلاعه المسبق على الخطط العملياتية التي نفذها الجيش الإسرائيلي في غزة خلال الغارات الجوية العنيفة التي شهدها القطاع.

في المقابل، أظهرت المقاومة الفلسطينية قدرًا عاليًا من الجاهزية والمرونة في التعامل مع خرق التهدئة. فعلى الرغم من المفاجأة التي أحدثها الهجوم الإسرائيلي، جاء الرد العسكري محسوبًا، يحمل رسائل مزدوجة: أولًا، القدرة على الرد والتصعيد إذا لزم الأمر؛ وثانيًا، عدم إغلاق الباب تمامًا أمام خيار العودة للمسار التفاوضي، بشرط توفر الضمانات الحقيقية.

ويبدو أن المقاومة، رغم استنزافها الميداني والإنساني، لا تزال ترى في التفاوض وسيلة لتحقيق مكاسب استراتيجية، لكنها ترفض الدخول فيه من موقع ضعف أو تحت القصف.

أما من حيث السيناريوهات المستقبلية، فإن التطورات تشير إلى احتمالين رئيسيين: أولهما، انهيار كامل للمفاوضات ودخول الطرفين في جولة جديدة من الحرب المفتوحة، خاصة إذا استمرت إسرائيل في التصعيد دون ضبط دولي حقيقي.

وثانيهما، محاولة العودة إلى المسار التفاوضي ولكن بشروط جديدة، قد تحاول فيها إسرائيل انتزاع تنازلات إضافية، في حين تسعى المقاومة إلى تثبيت مكتسباتها، وتوسيع مساحة المناورة السياسية، وتثبيت وقف إطلاق النار أطول مدة زمنية ممكنة.