يمكن فهم نهج الولايات المتحدة في السياسة الخارجية، سواء على المستوى الإقليمي أو العالمي، إلى حدٍّ كبير من خلال إطار ثنائي: فإما أن تُصنَّف الدول والكيانات على أنها جزء لا غنى عنه من المصالح الأمنية العالمية للولايات المتحدة، أو على أنها تمثل تهديدًا لتلك المصالح. وتتجلى هذه الثنائية بوضوح في الخطاب السياسي الأمريكي، لا سيما في الإشارات المتكررة إلى أمن إسرائيل وأوروبا ودول الخليج، حيث تُبرَّر هذه الهواجس باعتبارها امتدادًا للأمن القومي الأمريكي.
في المقابل تصنّف الكيانات التي تُشكّل تحديًا للأهداف الأمريكية على أنها “تهديدات”. وقد طُبِّق هذا التصنيف على إيران وروسيا وكوريا الشمالية، بالإضافة إلى مجموعة متنوعة من الكيانات الحكومية وغير الحكومية التي تختلف أهدافها المعلنة عن الأهداف الأمريكية. وقد اعتمدت السياسة الخارجية الأمريكية نهجًا توسعيًا وانتقائيًا في تعريف “الأمن”، ما دفعها تاريخيًا إلى إعطاء الأولوية لمواجهة هذه التهديدات والعمل على احتوائها، حتى وإن ترتّب على ذلك تكاليف جسيمة.
اتبعت إدارة بيل كلينتون (1993–2001) نظريًا على مبدأ “الاحتواء” في السياسة الخارجية، وهو مبدأ يُعزى بشكل كبير إلى إدارة ترومان. أما جورج بوش الابن (2001–2009)، فقد تبنّى مبدأ “الحرب الوقائية”، مستندًا إلى تركيز إدارة كارتر على منطقة الخليج العربي. ورغم تباين النهجين، إلا أن كلا الإدارتين عمدتا، من منظور جيوسياسي، إلى تصنيف الدول والكيانات بين حلفاء ينبغي ضمان أمنهم، وخصوم يجب احتواؤهم.
مثّل حلف شمال الأطلسي (الناتو)، الذي تأسّس بعد الحرب العالمية الثانية، حجر الزاوية في الأمن الأوروبي. في المقابل، ارتكز الأمن في الشرق الأوسط على ركيزتين أساسيتين: أمن إسرائيل، وأمن منطقة الخليج. فقد ارتبط أمن إسرائيل بشكل وثيق بالتوسع السياسي الأمريكي، إذ شكّلت تل أبيب موقعًا استراتيجيًا لواشنطن، لعبت فيه دور رأس الحربة في مواجهة النفوذ السوفييتي سابقًا، ثم ما عرّف “بالتطرف الإسلامي” لاحقًا. أما أمن الخليج، فقد ارتبط بشكل شبه كامل بمخزونه الضخم من الطاقة، وخصوصًا النفط الخام والغاز الطبيعي، اللذين يمثّلان شريانًا حيويًا للاقتصاد الأمريكي.
وبينما ظلّ ارتباط الخليج بالمصالح الأمريكية قائمًا على أبعاده الاقتصادية، تطوّرت نظرة إسرائيل تدريجيًا إلى موقعها ودورها. ففي عهد بنيامين نتنياهو، بدأت إسرائيل ترى نفسها كقوة مستقلة، ذات التزامات أقل تجاه المصالح الغربية في الشرق الأوسط، وعملت على تعزيز تحالفها مع الولايات المتحدة، لتتحوّل إلى شريك ندّي، بل ومهيمن في عهد إدارة بايدن (2021–2024).
تميزت السياسة الخارجية لإدارة بايدن بالدعم الثابت والمساعدة المالية الكبيرة لإسرائيل خلال حرب الإبادة ضد غزة، والتي بدأت في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023. ويُسجَّل أن بايدن، بوصفه رئيسًا للولايات المتحدة، انخرط بالكامل خلف الأجندة الإسرائيلية، متجاهلًا إلى حد كبير المصالح الجيوسياسية الأمريكية وأولويات “الأمن القومي”، مهما كان تعريفها.
رغم أنّ الإدارات الأمريكية السابقة كانت تستجيب غالبًا لنفوذ “اللوبي الإسرائيلي”، إلا أنها حافظت في الوقت نفسه على توازن معين يحمي بعض المصالح الأمريكية الإقليمية. فالرئيس السابق بيل كلينتون، مثلًا، دعم “التفوق العسكري” الإسرائيلي، لكنه سعى أيضًا إلى فرض تسويات سياسية – وإن كانت منحازة – بهدف استقرار المنطقة بما يخدم الأجندة الأمريكية. وكذلك أوباما، الذي وفّر لإسرائيل دعمًا ماليًا كبيرًا، لكنه اتّخذ مواقف مستقلة نسبيًا، مثل امتناعه عن التصويت في مجلس الأمن في 23 ديسمبر/كانون الأول 2016 على القرار الذي أدان الاستيطان الإسرائيلي.
أما بايدن، فقد سارع الى تزويد إسرائيل بكميات كبيرة من الأسلحة رغم استمرار حرب الإبادة الجماعية على غزة. وبينما دعا مرارًا إلى وقف إطلاق النار، فإنه لم يتخذ أي خطوات ملموسة من شأنها الضغط على إسرائيل، أو حتى الإيحاء بإمكانية تغيير الموقف الأمريكي.
هذا المستوى من الدعم الأمريكي غير المشروط لإسرائيل، فتح الباب أمام الكثير من التكهنات – وإن كانت حذرة – حول إمكانية حدوث تغيير في السياسة الأمريكية مع بدء الولاية الثانية لدونالد ترامب في البيت الأبيض.
فبعكس المواقف التقليدية للرؤساء الأمريكيين عند توليهم المنصب، تميزت سياسة ترامب في الشرق الأوسط، خصوصًا تجاه فلسطين، بالتقلّب. فعلى الرغم من انتقاده أحيانا لإسرائيل، فقد شهدت الولاية الأولى لترامب (2017-2021) انحرافات جوهرية عن السياسة الخارجية الأمريكية التقليدية، بما في ذلك الإعتراف بالمستوطنات الإسرائيلية غير القانونية، ونقل السفارة الأمريكية إلى القدس الشرقية المحتلة، والإعتراف بالسيادة الإسرائيلية على مرتفعات الجولان، رغم تعارض كل ذلك مع القانون الدولي.
مثلما كانت إدارته الأولى، شملت إدارة ترامب الثانية على تركيبة تجمع بين التشدد السياسي، والأصولية المسيحية، والنزعات الإنعزالية. وقد أثار هذا المزيج موجة من التفاؤل داخل اليمين الإسرائيلي بقيادة نتنياهو، الذي اعتبر عودة ترامب بمثابة تأييد واضح لسياساته اليمينية.
لم يخيب ترامب التوقعات، ففي الرابع من فبراير/شباط، أطلق سلسلة من التصريحات حول ضرورة “السيطرة على غزة”، مؤكدًا على نهجه القائم على إتمام الصفقات في السياسة الخارجية. وقد اعتبرت إسرائيل هذه التصريحات على أنها تأييد ضمني لأجندتها السياسية المتمحورة حول تهجير سكان غزة وترسيخ الهيمنة الإسرائيلية على الضفة الغربية.
ورغم شهرة ترامب بالتناقض في مواقفه السياسية، أفادت التقارير أن ترامب تمسّك بموقفه بشأن “مقترح” تهجير سكان غزة. ويُزعم أن إدارته بدأت بالفعل بصياغة استراتيجية جديدة للسياسة الخارجية الأمريكية بالتنسيق مع الأردن ومصر لتحقيق هذا الهدف، بينما ناقشت في الوقت نفسه ملف التطبيع بين إسرائيل والسعودية، وكأن هذه القضايا منفصلة عن بعضها البعض. ويبدو أن التزام ترامب المزعوم بتهجير الفلسطينيين شجّع نتنياهو على خرق اتفاق وقف إطلاق النار مع المقاومة الفلسطينية في 18 مارس/آذار، وتصعيد الهجمات في الضفة الغربية، وشن ضربات عسكرية على لبنان وسوريا.
ومع ذلك بلغ هذا التوافق السياسي بين ترامب ونتنياهو حدًا معينًا؛ إذ لم يكن موقف ترامب نابعًا من تحوّل جذري في مبادئه، بل من تمسّكه بمبدأ “أميركا أولًا”، الذي يقدّم المصالح الأمريكية على الدعم الثابت لإسرائيل. وفي الأشهر الأولى من تولّيه المنصب، واجه ترامب على الأرجح الحقائق التالية:
أولاً، أثبتت المقاومة الفلسطينية أنها عصيّة على الهزيمة الحاسمة، إذ فشل جيش نتنياهو في إخضاع مقاتلين أقل عددًا وتسليحًا في غزة.
ثانيًا، من غير المرجّح أن تقبل الدول العربية، لأسباب استراتيجية خاصة بها، بالتهجير القسري للفلسطينيين.
ثالثًا، إنّ مواجهة إيران وحلفائها ستتطلب عملية عسكرية أضخم وأكثر خطورة من غزو العراق عام 2003، مع نتائج استراتيجية يصعب التنبؤ بها.
رابعًا، تتطلب معالجة التحديات التي تفرضها الصين وغيرها من الكيانات الفاعلة العالمية شرقًا أوسط أكثر استقرارًا، وهذا الاستقرار، الضروري لتأمين طرق التجارة، يتعارض مع سعي نتنياهو إلى صراع دائم.
في 7 أبريل/نيسان، ورد أن ترامب دعا نتنياهو، أو استدعاه، إلى البيت الأبيض. وأعلن بحضوره، أن محادثات “مباشرة” ستبدأ بين الولايات المتحدة وإيران.وبالنظر إلى انسحاب ترامب من الاتفاق النووي الإيراني في عام 2018، فإن هذا الإعلان يمثّل تحوّلًا محتملًا كبيرًا في السياسة الخارجية الأمريكية.
وقد تكون لهذه الخطوة نتائج بالغة الأثر، إذ قد تمثّل أول حالة تنفصل فيها السياسات الأمريكية في الشرق الأوسط عن المصالح الإسرائيلية المباشرة. ومع ذلك، يبقى من غير المؤكد ما إذا كان ترامب يمتلك النفوذ السياسي الكافي لتنفيذ مثل هذا التحوّل الجذري، حتى لو كان صادقًا في رغبته بإعطاء الأولوية لمبدأ “أميركا أولًا”.
وعلى الرغم من التغير الذي حدث في العلاقات الأمريكية-الأوكرانية، إلا أن طبيعة العلاقة مع إسرائيل تختلف. إذ أن الاختراق العميق لجماعات الضغط المؤيدة لإسرائيل في النظام السياسي الأمريكي يضمن تجاوب قطاع واسع من الكونغرس الأمريكي للنفوذ الإسرائيلي.
ويبقى من غير الواضح ما إذا كانت الولايات المتحدة ستسعى فعلًا إلى إعادة تشكيل تحالفاتها في الشرق الأوسط، وتعزيز علاقاتها مع دول أخرى لا تتوافق مباشرة مع المصالح الإسرائيلية.
فالاتفاق المحتمل بين الولايات المتحدة وإيران قد يكون له تأثير بعيد المدى على المنطقة عمومًا، إذ إنّ العديد من الصراعات الإقليمية ناتجة عن التوترات بين إسرائيل وإيران، وكذلك بين إيران ودول الخليج.
وتبقى أسئلة عديدة دون إجابة، مما يستدعي وجود خطاب متماسك في السياسة الخارجية الأمريكية للتعامل معها. ولكن، بالنظر إلى التناقضات المتأصلة في مواقف ترامب، قد يكون تحقيق هذا الأمر صعبًا.
ومع ذلك فإن دراسة التحوّل المحتمل في الشرق الأوسط تظلّ ضرورية، خصوصًا إذا ما تخلّت الولايات المتحدة عن تطبيقها الانتقائي لمفهومي “الأمن” و”التهديد” كمحددات رئيسية لسياستها الخارجية. فالتداعيات قد تكون بالفعل وخيمة، وربما سلبية على كل من إسرائيل وحلفاء الولايات المتحدة التقليديين في المنطقة.