ملخص

في الساعات الأولى من فجر يوم الإثنين الموافق للخامس من يونيو/ حزيران 2017، قررت ثلاث دُوَلٍ خليجية هي المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة ومملكة البحرين بالإضافة إلى جمهورية مصر العربية -ومن طرفٍ واحد-، قطعَ علاقاتها الدبلوماسية والقنصلية مع دولة قطر، وغلقَ جميع منافذها البرية والبحرية ومجالاتها الجوية التي تربطها بالدوحة. ولم يمضِ على إعلان القطيعة هذا سويعات معدودة، إلَّا وانضم للدول المقاطعة للدوحة دولٌ أخرى، بينما قررت بعض العواصم الاكتفاء بتخفيض تمثيلها الدبلوماسي مع الدوحة ليكون على مستوى “القائم بالأعمال” بدلًا من “سفير” كما فعلت الأردن، كما استدعت دولٌ أخرى سفرائها من العاصمة القَطَرية للتشاور.

وجاء في البيانات الرسمية التي صدَرت عن الدولِ المقاطعة للدوحة، أنها اتخذت تلك الإجراءات “لحماية أمنها الوطني من مخاطر الإرهاب والتطرف”، متهمةً دولة قطر بمحاولة زعزعة أمنها وتدخلها في شؤونها الداخلية ودعمها لحركاتٍ وتنظيمات متطرفة بل ومصنفة إرهابية وفقًا لتصنيفات الدول المُقاطعة، وعلى رأس تلك التنظيمات “حركة الإخوان المسلمين”.

يسعى الباحث في هذه الورقة إلى تناول الأزمة الخليجية –القديمة الجديدة- بالعرضِ والرصدِ والتحليل، محاولًا الغوصَ في جذورها، والتنقيبَ في مسبباتها وربطها بسياقها الإقليمي والدولي؛ كما يجتهد الباحث انطلاقًا من نظريات العلاقات الدولية، وتلك التي تُعنى بإدارة الأزمات والوساطات في النزاعات بين الدول، في تقديم عددٍ من الرؤى للسينايوهات الممكن طرحها للخروج من هذه الأزمة التي أحدثت شرخًا عميقًا في بنية منظومة إقليمية كان يُعوّلُ عليها لوقتٍ قريب في أن تكون تجربةً ناجحةً لاتحادٍ يضم ستًا من الدول العربية الخليجية يجمعها دينٌ واحد ولسانٌ واحد وثقافةٌ واحدة.      

مقدمة

في خطوةٍ غير مسبوقة في تاريخ العلاقات البينية لدول مجلس التعاون الخليجي، أعلنت كل من المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة ومملكة البحرين فجر يومِ الإثنين الموافق 5 حزيران/ يونيو 2017 قطع علاقاتها الدبلوماسية والقنصلية وإغلاق جميع منافذها البرية والبحرية ومجالاتها الجوية مع “دولة قطر”، الدولة العضو في مجلس التعاون الخليجي الذي يضم بالإضافة إلى الدول الأربع المذكورة آنفًا كلًا من دولة الكويت وسلطنة عُمان.

وقد انضم –حتى تاريخ إعداد هذه الورقة- إلى الدول الثلاث التي قررت مقاطعة الدوحة كل من جمهورية مصر العربية والحكومة الشرعية في اليمن وحكومة شرق ليبيا وجمهورية المالديف وجمهورية موريشيوش وموريتانيا وجيبوتي والسنغال، كما قررت المملكة الأردنية الهاشمية تخفيض التمثيل الدبلوماسي مع دولة قطر وطلبت من السفير القطري مغادرة العاصمة عمَّان خلال الأيام القليلة القادمة، فيما علقت الخطوط الجوية الملكية المغربية رحلاتها إلى الدوحة.

 وللمقاربة، فإن تاريخ قطع العلاقات مع دولة قطر يُذكرنا بتاريخ النكسة قبل 50 عامًا، في 5 يونيو/ حزيران 1967.

وحسب البيانات الصادرة من الجهات الرسمية في كل من الرياض وأبو ظبي والمنامة وكذلك القاهرة، فإن سبب قطع العلاقات الدبلوماسية مع الدوحة جاء “لحماية أمنها الوطني من مخاطر الإرهاب والتطرف”، حيث جاء أيضًا في بيان صادر عن وكالة الأنباء السعودية الرسمية أن قطر “تتبنى مختلف الجماعات الإرهابية والطائفية التي تهدف إلى زعزعة الاستقرار في المنطقة بما في ذلك جماعة الإخوان المسلمين وداعش (تنظيم الدولة الإسلامية) والقاعدة”[i].

جذور الأزمة

بدأت الأزمة الراهنة مع الدوحة بعد منتصف ليل الـ 23 من شهر مايو/ أيار الماضي، بعد أن تم نشر تصريحات منسوبة لأمير دولة قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني على الموقع الرسمي لوكالة الأنباء القطرية (قنا)، مفادها أن قطر ترى أنَّ إيران “تُمثّل ثقلًا إقليميًا وأن ليس من الحكمة التصعيد معها”، كما جاء في هذه التصريحات أيضًا “لا يحق لأحد أن يتهمنا بالإرهاب لأنه صنّف الإخوان المسلمين جماعة إرهابية، أو رفض دور المقاومة عند حماس وحزب الله”[ii].

 لكن سرعان ما نفت الدوحة أن يكون أمير الدولة قد أدلى بأيٍ من تلكِ التصريحات، وأنه قد تم قرصنة الموقع الإلكتروني لوكالة الأنباء القطرية واختراق حسابات الوكالة على شبكات التواصل الاجتماعي، وأن السلطات قد شرعت بفتح تحقيق حول الموضوع يشارك فيه خبراء من مكتب التحقيق الفدرالي الأميركي FBI، وأنها ستعلن نتيجة التحقيقات خلال الأيام القليلة القادمة[iii].

على الفور، أطلقَ الإعلام المدعوم من عدد من دول المنطقة لا سيما من السعودية والإمارات ومصر هجومًا عنيفًا وغير مسبوق على دولة قطر وانهال كيل الاتهامات على الدوحة فيما يخص تمويلها للإرهاب ودعمها للتنظيمات المتطرفة والمحظورة في عددٍ من الدول وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين، وتدخلها في الشؤون الداخلية للدول والعمل على زعزعة أمنها واستقرارها، وعدم احترامها للمواثيق والعهود، لا سيما تلك التي قطعتها على نفسها بعد أزمة سحب سفراء الدول الخليجية الثلاث (السعودية والإمارات والبحرين) من الدوحة في 5 من شهر أذار/ مارس من العام 2014. ورغم نفي السلطات القطرية الرسمية لصحة تلك الاتهامات، إلَّا أن ذلك لم يفلح بإيقاف هذا السلوك الإعلامي من قبل وسائل الإعلام تلك تجاه الدوحة أو بتخفيف حدّته على أقل تقدير.

تجدر الإشارة هنا إلى أن الدوحة كانت قد تعرضت إلى موجة من الحملات الإعلامية السلبية ضدها في واشنطن خلال الأسابيع الثلاثة التي سبقت زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى الرياض خلال الفترة 20 -21 مايو/ أيار الماضي، والتي تمثلت في نشر قرابة 14 مقال صحفي وتقرير بحثي ينتقد دور قطر المزعوم في دعمها وتمويلها للإرهاب وللجماعات المتطرفة، وقد صدر عن الدوحة في حينه بيان صحفي من مكتب الاتصال الحكومي التابع لرئاسة مجلس الوزراء نفى صحة ما تناولته تلك التقارير والمقالات واعتبر أن ما حدث ما هو إلّا حملة إعلامية موجهة للنيل من دولة قطر وتشويه صورتها الذهنية في الخارج[iv].

خلفيات الأزمة ومسبباتها.. اختلاف الرؤى

لفهم الأسباب الحقيقية للأزمة التي انفجرت مؤخرًا بين دولة قطر من جهة وبين السعودية والإمارات والبحرين ومصر من جهةٍ أخرى، لا بدَّ من قرع باب التاريخ والعودة إلى العام 1995؛ حيث وصل الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني (والد الشيخ تميم أمير قطر الحالي) إلى الحكم في 27 يونيو 1995 بعد أن عزل والده الشيخ خليفة بن حمد آل ثاني والذي كان خارج الدولة في حينه، فيما يُعرف بـ”انقلاب قصرٍ أبيض”. هذه السابقة شكّلت منعطفًا في علاقات الدول الخليجية البينية، لا سيما تلك التي بين السعودية والإمارات مع دولة قطر. فقبل وصول الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني إلى سدة الحكم كانت الدوحة منضويةً كدول الخليج الصغيرة الأخرى تحت عباءة الشقيقة الكبرى “المملكة العربية السعودية”، ولكن بُعيد وصول الأمير الجديد إلى أعلى هرم السلطة في بلاده سعى إلى تغيير هذه المعادلة بالعمل -من خلال أدواتٍ عديدة- على استقلال قرار الدوحة والتأسيس لعهدٍ جديد متبنيًا سياسةً خارجيةً مستقلة ومنفتحة[v]، وهو ما اعتبرته السعودية وفق بعض المراقبين والمحللين بمثابة تمردٍ وانشقاقٍ عن وحدة الصف الخليجي الواحد.

  ومن خلال جملةِ روافع، فقد حصّنت قطر نفسها من احتمالات تقويض مساعيها في لعبِ دورٍ فاعل في المجتمع الدولي، فكان أن تم تأسيس قناة الجزيرة الفضائية في العام 1996 والتي عملت كذراعٍ إعلامي لدولة قطر، كما تم توقيع عدد من الاتفاقات الدفاعية والأمنية مع عددٍ من القوى العظمى كالولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وفرنسا، ونجحت الدوحة باجتذاب القاعدة الجوية الأميركية في عام 2003 بعد أن كانت في متمركزةً في قاعدة الأمير سلطان بن عبدالعزيز في المملكة العربية السعودية، ما أعطى للدوحة بحسب تقديرات بعض المتابعين للشأن الخليجي شعورًا بالحماية والأمان إلى حدٍ كبير[vi].

وقد استمرت العلاقات الخليجية-القطرية بين شدٍ وجذب خلال العقد الأول من الألفية الثالثة، وتعمّق الصدع مع اندلاع شرارة ما عُرف بثورات الربيع العربي في أواخر العام 2010 وبداية العام 2011 في عددٍ من الدول العربية، حيث كانت البداية في تونس ثم في ليبيا ومصر واليمن وسوريا، ولم تسلم بعض دول الخليج الآمنة والمستقرة من تطاير شرر تلك الاضرابات التي عمّت العالم العربي، فكان بعض الحراك والمظاهرات في كلٍ من سلطنة عُمان ومملكة البحرين ودولة الكويت والمنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية، ولكن سرعان ما تمّ استيعاب وامتصاص تلك التحركات من قبل حكومات الدول الخليجية، إمّا من خلال حُزمٍ إصلاحية أو من خلال حَزمٍ عسكري كما كان الحال في البحرين وذلك لضمان استباب الأمن في منطقة الخليج.

غير أن قطر لم تتعامل  مع ثورات الربيع العربي كما تعاملت معها دول الخليج الأخرى، فقد اختارت القيادة القطرية أن تدعمَ ما اعتبرته حق الشعوب العربية في تقرير مصيرها، وانتفاض تلك الشعوب في وجه الحكّام المستبدين من أجل حصولها على حريتها وصون كرامتها[vii]. فقدّمت الدوحة الدعم السياسي والمادي لتلك الثورات التي أوصلت جماعات تيار الإسلام السياسي -من خلال صناديق الاقتراع- لا سيما جماعة الإخوان المسلمين إلى سدّة الحكم في عددٍ من الدول كمصر وتونس. في حين أن دول الخليج الأخرى كالسعودية والإمارات صنفت تلك الجماعة بالإرهابية ووصفتها بالمتطرفة وحظرت جميع أنشطتها على أراضيها، نظرًا لقناعة تلك الدول بأنّ جماعات تيار الإسلام السياسي تمتلك أيدولوجية تسعى للإطاحة بالحكم في دولها، وقد تم الإعلان في دولة الإمارات العربية المتحدة عن إيقاف واعتقال عناصر عدد من خلايا تلك المجموعات[viii].

ولقد سبق أن توترت العلاقات الخليجية – القطرية في العام 2014، ما أدَّى إلى سحب سفراء كل من السعودية والإمارات والبحرين من الدوحة[ix]، وذلك على خلفية اتهام تلك الدول لقطر بتدخلها بشؤونها الداخلية من خلال احتضانها لجماعة الإخوان المسلمين التي تعمل على زعزعة الأمن في دول الجوار، وكذلك بتحريضها من خلال منصاتٍ إعلامية عديدة وعلى رأسها شبكة الجزيرة الإعلامية على زعزعة الاستقرار في جمهورية مصر العربية بعد الإطاحة بالرئيس المنتخب بعد ثورة يناير لعام 2011 ووصول المؤسسة العسكرية إلى الحكم في القاهرة في 3 يوليو/ تموز 2013. ولكن سرعان ما تمّ احتواء الأزمة الدبلوماسية بين الدوحة وعواصم الدول الخليجية الثلاث (الرياض وأبوظبي والمنامة) بوساطة كويتية قادها أمير دولة الكويت الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح، ما أدّى إلى عودة السفراء الخليجيين إلى الدوحة قبل انعقاد الدورة الخامسة والثلاثين للقمة الخليجية في قطر في 9 ديسمبر/ كانون الأول 2014.

ويبدو أن القادة الخليجيين استشعروا في ذلك الوقت خطر تمدد ما يُعرف بالدولة الإسلامية (داعش) في كلٍ من سوريا والعراق شمالًا، وكذلك التوتر الذي كان يشهده اليمن جنوبًا، والذي أدّى لاحقًا إلى سقوط العاصمة صنعاء بيد جماعة الحوثي والمواليين للرئيس المخلوع علي عبدالله صالح، وآثروا أن يرجحوا ما تقتضيه الحكمة ومصلحة دولهم، وبالتالي فقد قرروا أن يضعوا الخلافات جانبًا لا سيما بعد أن تعهدت الدوحة بتنفيذ التزاماتٍ كانت قد وقعّت عليها -فيما عُرف بوثيقة الرياض- في نوفمبر/ تشرين الثاني 2013 بحضور كل من العاهل السعودي الراحل الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود وأمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني وأمير الكويت الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح.

وتُتهم الدوحة بأنها لم توفِ بالتزاماتها التي تعهدت بتنفيذها بعد حل أزمة سحب السفراء في العام 2014، وأنها استمرت بدعم تيارات الإسلام السياسي لا سيما جماعة الإخوان المسلمين التي تصنفها كل من السعودية والإمارات والبحرين بأنها منظمة إرهابية، بينما لا تصنفها الدوحة كذلك، بل وترى قطر أن الإسلام السياسي هو طيف من فسيفساء مكونات خارطة العالم العربي والإسلامي لا يمكن تجاهله لأن له تمثيل وثقل في الشارع العربي.

كما أن علاقة قطر بإيران -بحسب الدول التي قطعت علاقاتها مع الدوحة- هي مثار ريبةٍ. ولا شك بأنّ رؤية الطرفين إلى تلك العلاقة مختلفة بشكلٍ جوهري؛ حيث تعتبر المملكة العربية السعودية إيران بمثابة عدوها اللدود بحكم أن طهران لا تألوا جهدًا بالتدخل في الشؤون الداخلية لدول المنطقة، وتعتبر الرياض أن الخلاف مع إيران هو خلافٌ قائمٌ على أسسٍ عقائدية[x]، بينما ترى الدوحة أن الخلاف معها هو خلافٌ سياسي يمكن مناقشته من خلال الحوار وطاولة المفاوضات؛ من هنا دعا أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني في خطابه الذي ألقاه من على منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة في اجتماعات دورتها الثامنة والستين في سبتمبر/ أيلول لعام 2014، دعا الأطراف العربية لبدء حوارٍ بنّاءٍ مع إيران، واقترح أن تستضيف بلاده هذه الحوار[xi]، لكن دعوته هذه لم تلقَ اهتمامًا من قبل عددٍ من دول الخليج ولا سيما من السعودية، حيث للرياض أسبابها في رفض الجلوس على طاولة حوار مع إيران، وأهم تلك الأسباب انعدام الثقة بين الطرفين، كما أن هناك تشكيكٌ بمصداقية الطرف الإيراني في تنفيذ بنود أي اتفاقية في حال إبرامها، نظرًا لتعقُّد الهرم السلطوي وتشابكاته في طهران من حيث الصلاحيات، بين ما هو سياسي وما هو تشريعي وما هو ديني.

وتجدرُ الإٌشارة هنا إلى أن الدوحة تتشارك مع طهران في أكبر حقلٍ للغاز في العالم (حقل الشمال)، وبالتالي فإنَّ لقطر مصالح اقتصادية فيما يخص علاقتها بإيران، يصعبُ التنازل عنها لا سيما عندما نعلم أن كلا البلدين يأتيان في المرتبة الثانية والثالثة بعد الاتحاد الروسي في احتياطات الغاز الطبيعي عالميًا.

ويمكن تلخيص نقاط الخلاف بين قطر وفرقائها في هذه الأزمة إذاً بما يلي:

  1. علاقة الدوحة بتيارات الإسلام السياسي وخاصةً بجماعة الإخوان المسلمين؛
  2. موقف الدوحة من ثورات الربيع العربي وتعاملها مع ملفات المنطقة؛
  3. علاقة قطر بإيران التي تعتبرها دول الجوار مثار جدل.

السياق الإقليمي والدولي للأزمة

لقد دخلت منظومة العلاقات الإقليمية عصرًا جديدًا منذ وصول الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود إلى الحكم في المملكة العربية السعودية في يناير/ كانون الثاني من العام 2015، وذلك لأسباب ومتغيرات عديدة، قد يكون من أهمها شخصيته الحازمة وإرادته القوية بأن تستعيد الرياض دفَّة القيادة مجددًا بعد أن ابتعدت عنها لوهلةٍ من الزمن، وذلك بسبب الفراغ الذي أحدثته المتغيرات التي عصفت بالمنطقة منذ سقوط بغداد في أبريل/ نيسان من العام 2003 بعد الغزو الأميركي للعراق، مرورًا بأحداث ما يُعرف بالربيع العربي التي اجتاحت عددًا من دول المنطقة، وغياب عددٍ من الدول العربية الكبرى مثل مصر وسوريا عن المشهد بسبب حالة عدم الاستقرار التي خلقتها تلك الأحداث ولا تزال، وصولًا إلى تأثر بعض دول الخليج بنفحات رياح الربيع العربي وكذلك بسبب تدخل إيران في الشؤون الداخلية لبعض دول المنطقة، لا سيما تلك المحاذية للمملكة العربية السعودية كالبحرين واليمن والعراق، ما أدّى إلى خلق حالة من الفوضى في بعض مناطق الإقليم الشرقي للسعودية.

لقد دفعت تلك الحالة من عدم الاستقرار في المنطقة وغياب –أو تغييب- عواصم القرار العربي عن المشهد إلى فراغٍ وجَب ملؤه ولو بشكلٍ مؤقت من قبل قوىً متوسطة وأحيانًا صغيرة إلى أن عاد الفاعل السعودي قويًا ومتصدرًا المشهد وفارضًا نفسه كقوة إقليمية لا غنى عنها لإحداث التوازن الضروري في المنطقة.

إنَّ أحد الأسباب الهامة الأخرى التي أحدثت هذا التغيير في تشكل منظومة علاقات إقليمية جديدة منذ وصول الملك سلمان إلى الحكم هو وصول الجيل الشاب، جيل أحفاد الملك المؤسس عبدالعزيز آل سعود إلى طليعة الصفوف الأولى في هرم السلطة السعودية، ونعني هنا وصول المحمدان: الأمير محمد بن نايف ولي العهد وزير الداخلية والأمير محمد بن سلمان ولي ولي العهد وزير الدفاع، وصعود نجم الأخير بعد أن أصبح عرَّاب الرؤية الوطنية للمملكة العربية السعودية 2030، التي تقوم على مبدأ تنوع مصادر الدخل وبناء اقتصاد المعرفة. من هنا يمكن فهم سرعة التحول الديناميكي الكبير في القضايا ذات الصلة باتخاذ القرار في المملكة العربية السعودية.

كما أن التغير في الإدارة الأميركية بعد وصول الرئيس دونالد ترامب إلى رأس السلطة في الولايات المتحدة الأميركية غيّرت قواعد اللعبة في المنطقة عمَّا كانت عليه في عهد سابقه باراك أوباما. الرئيس ترامب هو “رجل أعمال” قبل أن يكون رجل دولة، وبالتالي فإنَّ نظرته إلى العالم تختلف عن نظرة سلفه الرئيس أوباما “الحقوقي والسياسي”. المصالح الاقتصادية للإدارة الأميركية الجديدة لها الأولوية على المصالح السياسية، هذا من جهة؛ ومن جهةٍ أخرى، فإنَّ الآلية التي تتعامل معها الإدارة الأميركية الجديدة مع دول الخليج مختلفة كليًا عن تلك الآلية التي تعاملت معها إدارة الرئيس أوباما، حيث تعاملت إدارة الرئيس أوباما بالمجمل مع دول الخليج ككتلة واحدة، أمَّا الإدارة الأميركية الحالية  فيبدو أنها تتعامل مع كل دولة خليجية على حدةCase by case .

الأزمة: ما المخرج ؟

  قبل الحديث عن مآلات هذه الأزمة وسيناريوهات حلولها، لا بدّ من طرح التساؤلات المشروعة التالية: ما الذي تريده الأطراف التي قاطعت قطر من الدوحة ؟ وفي مصلحة من تصب هذه الفرقة في الصف العربي ؟ ومن هو الطرف المستفيد بالدرجة الأولى من عزل قطر عن محيطها؟ وما هي خيارات الدوحة للخروج من هذه الأزمة ؟

 لا تزال الأزمة في بدايتها، والأحداث متسارعة بشكلٍ كبير ساعةً بعد ساعة ويومًا بعد يوم، وبالتالي لا يزال الأفق محدودًا وكذلك الخيارات لإيجاد حلولٍ لهذه الأزمة. يبدو أن الدوحة في موقفٍ لا تُحسد عليه، فقد تم وضعها تحت الحصار والمقاطعة والعزل شبه التام، وأُجبرت على أن تكون الكرةُ في ملعبها وهي الآن مُجبرةً لا مُخيّرة لأن تكون صاحبة القرار والاختيار، فماذا تختار ؟

من الواضح للمراقب والمختص، أن الدول التي اتخذت خطوة قطع العلاقات الدبلوماسية مع قطر تريد الضغط على الدوحة لتنفيذ شروط معينة، واستقطاب الدوحة لتعود إلى حاضنة الدول الخليجية وفق رؤية تلك الدول، وانضواء قطر تحت مظلة اتجاهات سياسة خارجية خليجية مشتركة فيما يتعلق بملفات بعينها لا سيما فيما يتعلق بملفي الموقف من الإسلام السياسي وإيران، فهل ستقبل الدوحة بذلك؟ وفي حال عدم قبولها من باب رفضها لأن يكون وصاية لأحدٍ عليها كما أُعلن على لسان وزير خارجيتها الشيخ محمد بن عبدالرحمن آل ثاني[xii]، فما هي خياراتها الأخرى؟ وهل ستبقى قطر عضوًا في مجلس التعاون الخليجي أم ستنسحب أم سيُفرض عليها الانسحاب منه؟ ما هو موقف جامعة الدول العربية من هذه الأزمة ؟ وهل ستتخذ الجامعة العربية موقفًا منسجمًا مع موقف منظمة التعاون الإسلامي الذي أيّد بشكلٍ أو بآخر موقف الدول التي قطعت علاقاتها مع الدوحة؟ وأي موقفٍ سيتبناه المُجتمع الدولي؟ وهل سيتم تدويل الأزمة لتصل إلى أروقة الأمم المتحدة؟

 إنَّ قنوات الحوار بين الدوحة وأطراف الأزمة باتت مغلقة وغير متاحة، من هنا ينبغي تدخل طرف ثالث يكونُ وسيطًا وضامنًا لأي اتفاق محتمل بين الفرقاء، ولكن من يمكن أن يكون هذا الوسيط ؟

دولة الكويت وسلطنة عُمان كلاهما ليستا طرفًا في النزاع، وهما عضوان فاعلان في منظومة مجلس التعاون الخليجي، وبالتالي يمكن لهما أن يبادرا في مسعىً لوساطة بين قطر من جهة وبقية الأطراف التي قطعت علاقاتها مع الدوحة من جهةٍ أخرى. وبالفعل، فقد بدأ أمير الكويت الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح منذ اليوم الثاني لاندلاع الأزمة في البيت الخليجي جولةً قادته إلى الرياض التقى خلالها الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، تبعها بزيارةٍ خاطفة إلى دبي حيث التقى الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس دولة الإمارات وحاكم دبي وكذلك بالشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي، ووصل أخيرًا إلى الدوحة والتقى أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، قبل أن يعود مجددًا إلى الكويت. لم يرشح عن التحرك الكويتي حتى الآن أي نتائج ملموسة، ولكن لا زالت شعوب المنطقة تُعلق آمالها على تلك الوساطة.

تركيا، قوة إقليمية تتمتع بعلاقات مميزة مع دول الخليج كافة لا سيما مع قطر والسعودية، ويمكن أن تلعب دور الوسيط في حال قبول أطراف النزاع بذلك. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الدوحة تربطها بأنقرة اتفاقية دفاع مشترك ولتركيا قاعدة عسكرية في قطر، وتستعد لنشر قواتها في تلك القاعدة بعد أن تم موافقة البرلمان التركي في جلسةٍ عُقدت يوم الأربعاء الموافق 7 يونيو/ حزيران على مشروع قانون يسمح لها بذلك .

الولايات المتحدة الأميركية يمكن أن تلعب دور الوسيط أيضًا نظرًا لعلاقتها الاستراتيجية مع دول الخليج التي تربطها بها اتفاقيات دفاعية وأمنية من جهة، ولتحقيق مصلحتها من جهة أخرى. فمن مصلحة واشنطن ضمان أمن واستقرار منطقة الخليج التي تحتوي على أكثر من 60% من مخزون الطاقة في العالم.

دولٌ كبرى أخرى تربطها بدول الخليج علاقات استراتيجية هامة، كفرنسا وبريطانيا، يمكن بحكم تحقيق مصالحها في المنطقة أن تسعى لإيجاد مخرجٍ من هذه الأزمة.

لا شك بأن الأمر متوقفٌ أيضًا على ردة الفعل القطرية وطريقة تعاملها مع الأزمة واستجابتها لتحقيق طلبات الطرف الآخر من أجل إيجاد صيغة ترضي جميع الأطراف للخروج من هذه الأزمة.

خاتمة

أخيرًا لا آخرًا، فإنه رغم صعوبة الأزمة الراهنة واستحكامها وتعقّد ملفاتها والمسار الشائك الذي قد تنجرف إليه، إلَّا أن شعوب دول الخليج العربية تبقى شعبًا واحدًا، نسيجه واحد، يجمعه دينٌ واحد ولغةٌ واحدة، وتقاليد وعادات واحدة، وتراث ونسب ودم واحد، وسيكون مُلحًا في هذه المرحلة الحرجة ترجيحُ كفّةِ الحِكمة لدى قادة دول مجلس التعاون الخليجي، ووأد الفتنة في مهدها لقطع الطريق على من يريد تذكية الخلافات الخليجية البينية لتحقيق أجندةٍ خارجية. لا بدَّ أن هذه الأزمة بين الأشقاء الخليجيين ستنتهي وستكون ذكرياتُها المؤلمة من مخلّفات الماضي.

المراجع

[i] “النص الكامل لبيان المملكة العربية السعودية بشأن قطع العلاقات مع قطر”، موقع المرصد، (تاريخ الدخول: 8 يونيو/ حزيران، 2017): https://almarsad.co/2017/06/05/%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%B5-%D8%A7%D9%84%D9%83%D8%A7%D9%85%D9%84-%D9%84%D8%A8%D9%8A%D8%A7%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%B9%D9%88%D8%AF%D9%8A%D8%A9-%D8%A8%D8%B4%D8%A3%D9%86-%D9%82%D8%B7%D8%B9-%D8%A7%D9%84/

[ii] “موقع وكالة الأنباء القطرية “يتعرض للاختراق” والدوحة تنفي تصريحات نُسبت للأمير تميم”، BBC عربي، (تاريخ الدخول: 8 يونيو/ حزيران، 2017): http://www.bbc.com/arabic/middleeast-40026894    

[iii] “قطر تستعين بمحققين من “أف بي آي” للتحقيق بقرصنة وكالتها”، موقع عربي 21، (تاريخ الدخول: 8 يونيو/ حزيران، 2017): http://t.arabi21.com/story/1011264/%D9%82%D8%B7%D8%B1-%D8%AA%D8%B3%D8%AA%D8%B9%D9%8A%D9%86-%D8%A8%D9%85%D8%AD%D9%82%D9%82%D9%8A%D9%86-%D9%85%D9%86-%D8%A3%D9%81-%D8%A8%D9%8A-%D8%A2%D9%8A-%D9%84%D9%84%D8%AA%D8%AD%D9%82%D9%8A%D9%82-%D8%A8%D9%82%D8%B1%D8%B5%D9%86%D8%A9-%D9%88%D9%83%D8%A7%D9%84

[iv] “الدوحة: قطر ضحية حملة ممنهجة تتهمها بدعم الإرهاب”، RT Arabic، (تاريخ الدخول: 8 يونيو/ حزيران، 2017): https://arabic.rt.com/middle_east/879435-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%88%D8%AD%D8%A9-%D9%82%D8%B7%D8%B1-%D8%B6%D8%AD%D9%8A%D8%A9-%D8%AD%D9%85%D9%84%D8%A9-%D9%85%D9%85%D9%86%D9%87%D8%AC%D8%A9-%D8%AA%D8%AA%D9%87%D9%85%D9%87%D8%A7-%D8%A8%D8%AF%D8%B9%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B1%D9%87%D8%A7%D8%A8/

[v] جمال عبدالله، “السياسة الخارجية لدولة قطر (1995-2013): روافعها واستراتيجياتها”، الدار العربية للعلوم (ناشرون) –بيروت- ومركز الجزيرة للدراسات –الدوحة-، الطبعة الأولى، مايو/ أيار 2014.

[vi]المصدر السابق

[vii] “قطر تدعم الشعوب نحو تحقيق الحرية والعدالة والكرامة”، اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان، (تاريخ الدخول: 8 يونيو/ حزيران، 2017):  http://www.nhrc-qa.org/ar/%D9%82%D8%B7%D8%B1-%D8%AA%D8%AF%D8%B9%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%B9%D9%88%D8%A8-%D9%86%D8%AD%D9%88-%D8%AA%D8%AD%D9%82%D9%8A%D9%82-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B1%D9%8A%D8%A9-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%AF/

[viii] “الإمارات تعتقل خلية إخوانية”، Sky News عربي، (تاريخ الدخول: 8 يونيو/ حزيران، 2017): http://www.skynewsarabia.com/web/article/62475/%D8%A7%D9%84%D8%A7%D9%95%D9%85%D8%A7%D8%B1%D8%A7%D8%AA-%D8%AA%D8%B9%D8%AA%D9%82%D9%84-%D8%AE%D9%84%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%95%D8%AE%D9%88%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A9   

[ix]جمال عبدالله، “أزمة سحب السفراء من الدوحة: البواعث والتداعيات”، نُشر بتاريخ 24 مارس/ آذار 2014، مركز الجزيرة للدراسات، (تاريخ الدخول: 8 يونيو/ حزيران، 2017):  http://studies.aljazeera.net/ar/reports/2014/03/201432413826345572.html    

[x]لقاء خاص مع الأمير محمد بن سلمان، ولي ولي العهد ووزير الدفاع السعودي بتاريخ 2 مايو/ أيار 2017، (تاريخ الدخول: 8 يونيو/ حزيران، 2017):   https://www.youtube.com/watch?v=HIieY0erL_8  

[xi]خطاب أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 28 سبتمبر/ أيلول 2015،  (تاريخ الدخول: 8 يونيو/ حزيران، 2017):   https://www.youtube.com/watch?v=LRpgH1C8rPs

[xii]” وزير الخارجية القطري يرفض التدخلات في سياسة بلاده ويؤكد قدرتها على الصمود”، France 24، (تاريخ الدخول: 8 يونيو/ حزيران، 2017): http://www.france24.com/ar/20170608-%D9%82%D8%B7%D8%B1-%D9%85%D8%AD%D9%85%D8%AF-%D8%B9%D8%A8%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%AD%D9%85%D9%86-%D8%AB%D8%A7%D9%86%D9%8A-%D8%A3%D8%B2%D9%85%D8%A9-%D8%B5%D9%85%D9%88%D8%AF-%D8%AA%D8%B5%D8%B9%D9%8A%D8%AF-%D8%B9%D8%B3%D9%83%D8%B1%D9%8A