دبابات الجيش تجوب شوارع المدن، مقرات القنوات التلفزيونية الرسمية يتم السيطرة عليها، وحتى المنصات الإعلامية المعارضة تُقتحم وتجبر على الصمت التام، قوات من الجيش أحاطت بمكتب رئيس الجمهورية، تزامناً مع وقوف وزير الدفاع أمام التلفاز في محاولة لتبرير تلك التصرفات المشينة.

باعتباري مواطناً تركياً، تلك البلد الذي عانى في الماضي من أربعة انقلابات عسكرية، كانت هذه المشاهد معتادة للغاية، وما كان يحدث في مصر في يوليو/تموز 2013، كان واضحاً تمام: مصر تشهد انقلاباً عسكرياً.

سياسة عدم توصيف الانقلاب العسكري أنه انقلاب

بيد أن قادة الدول الديمقراطية لايصفون الأحداث في مصر بالانقلاب. فكم من الدماء التي تورطت الولايات المتحدة في إراقتها باسم الديمقراطية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فضلاً عن الأموال الكثيرة التي  أنفقتها من أجل ذات الغاية، لكنها في النهاية فشلت في تَهجّي كلمة “انقلاب” مع الظرف المصري.

كما استمر الرئيس باراك أوباما في بذل مزيداً من الجهد من أجل تحري الابتعاد عن توصيف الأحداث بالكلمات الصحيحة، وهي “انقلاب عسكري”. ولم يتوقف الأمر عند ذلك الحد، فقد بالغ إد رويس، رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب الأميركي، من أجل تحقيق ذلك المبتغى عندما ألقى باللوم على عاتق الرئيس المصري المعزول محمد مرسي، واعتباره المتسبب الأول في وقوع ذلك الانقلاب العسكري، بدون إبداء أي إشارة نحو التصرف المخزي الذي أقدم عليه الجيش.

وعلى نفس الوتيرة، امتنعت كاترين أشتون، الممثلة السامية السابقة للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية بالاتحاد الأوروبي، هي الأخرى عن تَهجّي كلمة “انقلاب عسكري” في بيانها الذي ألقته حول الإطاحة بمرسي. فضلاً عن أن بيانها لم يحمل أي إشارة إلى الأصداء المحتملة ضد إحكام الجيش قبضته على مقاليد الحكم وإبعاد المدنيين المنتخبين.

وعكست تصريحات ماريتشا شاكي، ممثلة حزب الديمقراطيين 66 الهولندي بالبرلمان الأوروبي، موقف الاتحاد الأوروبي خلال مقابلتها مع النسخة الإنكليزية من صحيفة الأهرام المصرية في الرابع من يوليو/تموز، والتي ابتعدت تماماً عن إدانة عزل الرئيس المنتخب ديمقراطياً، بل إنها اختارت تجاهل الانقلاب الذي حدث قبل تلك المقابلة بيوم واحد. وبدلاً من ذلك اعتبرت إنه من الضروري أن يعجّل الاتحاد الأوروبي بتوضيح الآراء الفنية للاتحاد حول مساعدة مصر، وكذلك كيفية إلغاء تجميد المساعدات المالية وخطط القروض التي يمنحها الاتحاد لمصر، والبالغ قيمتها الإجمالية 5 مليارات يورو، والتي كانت توقفت تقريباً في عهد مرسي.

ومثّل التصريحان انتهاكاً صارخاً لمعايير الاتحاد الأوروبي التي تتعلق بنشر الديمقراطية في البلدان المجاورة. فقد بدأ الاتحاد الأوروبي منذ التسعينات في وضع عدة أطر عمل متعلقة بنشر الديمقراطية بتلك البلدان، نذكر منها على سبيل المثال عملية برشلونة، وسياسة الجوار الأوروبية، والشراكة الأورومتوسطية؛ بهدف صياغة علاقات أفضل مع بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من أجل تشجيعهم على السير في سبيل التحول الديمقراطي والحوكمة الجيدة والحفاظ على الحريات المدنية.

إلا أن ردود الأفعال التي أظهرها الاتحاد الأوروبي تجاه الانقلاب العسكري الذي أنهى التجربة الديمقراطية الوليدة، بغض النظر عن الصورة غير المكتملة التي كانت عليها تلك التجربة، والذي حدث في البلد صاحبة أكبر تعداد سكاني في الوطن العربي، لم يتسبب في إضعاف ثقة سياساتها وأدبياتها الديمقراطية وحسب، بل إنه تسبب في ترسيخ انعدام الثقة بين الاتحاد الأوروبي والحركات ذات النزعة الإسلامية. وإن لم يتبنى الاتحاد الأروبي إعادة تقييم حقيقية لموقفه تجاه الانقلاب العسكري، فإن تلك العلاقات سوف تنهار بلا سبيل لإصلاحها مرة أخرى.

لم يقتصر رفض تسمية ما حدث في مصر بـ “الانقلاب العسكري” على الدوائر الرسمية فقط، فقد اتبع عدد كبير من المنصات الإعلامية العالمية، والنُقّاد، وأيضاً المحليين ذات النهج السائر على عدم وصف الأحداث بالانقلاب العسكري أو إدانتها.

فما السبب الذي حدا بالنقاد لأن يمتنعوا عن تسمية أول انقلاب متلفز خلال الألفية الجديدة، بمسماه الحقيقي؟

ألم نصفق للتحولات نحو الديمقراطية التي انتشرت في أنحاء العالم؟ ألم يكن الربيع العربي تطوراً يلقى ترحيباً يشبه الترحيب الذي تلقته التطورات المشابهة، والتي وقعت في وسط وشرق أوروبا بين عامي 1989 و1990؟ لذا، لماذا يُتّبع موقف استثنائي مع الظرف المصري؟

لماذا تظل الديمقراطيات صامتة بينما يسحق الجيش المصري التجربة الديمقراطية الوليدة؟

بَذل كثير من المحللين قصارى جهدهم لعرض وجهة نظر تحمل تبريراً للدعم الصريح أو الضمني الذي قدموه للانقلاب، أو تبريراً لامتناعهم عن الحديث ضده. وكان أحد تلك التبريرات يقول إن ذلك التدخل العسكري لاقى دعماً شعبيا ً كبيراً، وعليه لا يمكن اعتباره انقلاباً عسكريا ً.

غير أن الفحص السريع لتاريخ الانقلابات العسكرية سيظهر لنا أنه لم يكن ثمّة انقلاب عسكري عبر التاريخ بدون تأييد شعبي. وعن ذلك يصيب جاكسون ديل عين الحقيقة في مقالة الرأي التي نُشرت في صحيفة “واشنطن بوست”، إذ قال إنه خلال نصف القرن الماضي حصلت الانقلابات العسكرية التي وقعت في بلدان عديدة، مثل الأرجنتين وتايلند، أيضاً على دعم شعبي كبير.

وفي ظروف مشابهة للظرف المصري، وضع الجيش التركي دستوراً عقب الانقلاب العسكري الذي وقع عام 1980، ليلقى ذلك الدستور نسبة موافقة تجاوزت 90% من أصوات المشاركين في الاستفتاء. في غضون ذلك، لا يعني الدعم الشعبي لأن ينفذ الجيش انقلاباً عسكرياً، أو حتى القبول الجماهيري لتصرفاتهم، يضع إمكانية للابتعاد عن توصيف ما جرى بالمفردات الصحيحة، إنه “انقلاب عسكري”. وهذا يعني أن حجة وجود “الدعم الشعبي” ما هي إلا تفسير ضعيف يهدف إلى عدم توصيف ما حدث في مصر بالانقلاب العسكري.

يبدو أن التأكيد المفرط على هوية الرئيس وسمات الحزب الذي يتبعه، وهو الأمر الذي تبنته المنصات الإعلامية العالمية وكذلك تناولته آراء وحوارات المحليين، يشير إلى السبب الحقيقي وراء التغاضي عن الانقلاب.

فقد صار من المستحيل العثور على مقالة واحدة لا تحاول تبرير استيلاء الجيش على مقاليد الحكم من حكومة الرئيس مرسي من خلال الإشارة إلى إلى هويته وهوية حزبه الإسلامية، فضلاً عن إسالة كثير من الحبر من أجل الحديث التفصيلي عن الأخطاء التي ارتكبوها، والتي يفترض أن سياساتهم الإسلامية هي المتسبب الرئيسي في تلك الأخطاء.

وقد بدا الأمر للبعض أنه تأكيد على اعتقادهم المترسخ بعدم وجود اتفاق بين الإسلام والديمقراطية؛ لذا سارع هؤلاء بتنبني نظرية فشل الإسلام السياسي في ممارسة السياسة وفقاً لقواعد نظام سياسي ديمقراطي ومفتوح.

لكن مثل ذلك التفسير يمثل إشكالية ليس فقط لأنه يتبنى منهجاً جوهرياً تجاه الديمقراطية والدين معاً، بل وأيضاً لأنه يخلط بين الليبرالية والديمقراطية. فضلاً عن أن تلك النظرة تتغاضى عن القضايا الأساسية التي تواجه بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا: وهي حالة عدم التوافق والعجز التي يعاني منها العلمانيون في التعايش مع وجود نظام سياسي ديمقراطي مفتوح ويتسم بالحرية التنافسية.

لماذا لا تتوافق العلمانية مع الديمقراطية؟

في البداية يجدر الإشارة إلى أن الجدل البيزنطي حول عدم التوافق بين الإسلام والديمقراطية طالما أثبت أنه معيب؛ فذلك الجدل يتبنى نظرة جوهرية تجاه كل من الديمقراطية والدين. إذ إن تلك النظرة تبرهن على وجود ديمقراطية فعالة من خلال مفاهيم دينية وحضارية وثقافية محددة، وتغض النظر عن الحاجة إلى وجود المؤسسات القوية والمستقلة، والقواعد القانونية، وأيضاً الخبرة السياسية.

وتلك النظرة (المتمركزة حول التجربة الأوروبية) لا تتعارض مع المطالبات العالمية للديمقراطية وحسب، بل إنها فقدت مصداقيتها أمام التجارب السياسية للمجموعات المختلفة حول العالم.

فتلك النظرة افترضت في البداية أن الديمقراطية ضرورية وحصرية على أوروبا بسبب تفردها بوجود خليط من العوامل الثقافية والحضارية والدينية، وعليه فإنها لا يمكن أن تثبت جذورها في أي منطقة أخرى خارج العالم الغربي الأوروبي. كما افترضت تلك النظرة بأن المناطق والثقافات والديانات الأخرى لا تسمح بمرور التحول الديمقراطي بسبب ظروفها الاستثنائية ومبادئها الثقافية والدينية التي لا تتلائم مع مبادئ الديمقراطية.

وواجه ذلك الاعتقاد تحدياً متزايداً أمام تجارب ثقافات وبلدان مختلفة من خلال تطبيقهم للديمقراطية. إذ أثبتت بلدان مثل اليابان وتايوان أنه ليس ثمة استثاء أسيوي، كما أثبتت تركيا وإندونيسيا وماليزيا أنه ليس ثمة استثناء إسلامي. غير أن الحاجة لوجود استثناء عربي، في وجه تلك التحديات، صار محلاً للنقاش.

بيد أن الثورات التي جابت أرجاء العالم العربي قدمت برهاناً على أن ذلك الاستثناء باطل أيضاً. فتلك التجارب أظهرت أن الشعوب العربية والمسلمة والأسيوية لا تختلف في مطالبها لنيل الكرامة والحق في التمثيل الديمقراطي، عن نظرائهم الأوروبيين والأميركيين.

الأمر الثاني يكمن في أن النقاد الذين كانوا يتناولون قضية التوافق بين الإسلام والديمقراطية، كانوا يقصدون أمراً آخراً، وهو ما إذا كان الإسلام متوافقاً مع الليبرالية أم لا.

وفي وجود الواقع الذي يشير إلى أن الجماعات الإسلامية هم في الغالب أكثر المجموعات تنظيماً على المستوى المجتمعي في البلاد التي يعملون بها، كما أنهم يتعايشون مع القيم التي تؤثر على المناخ العام بدرجة كبيرة، فضلاً عن أنهم ليس لديهم تشكك تجاه نجاعة العملية الانتخابية الديمقراطية، وهو الموقف الذي أثبتوه من خلال استغلال كل فرصة متاحة للمشاركة في انتخابات حرة ونزيهة، صار من الواضح أن المقصود بقضية عدم الاتفاق التي يتناولونها، هو ما إذا كان الإسلاميين مستعدين لاستيعاب المطالب الليبرالية وأنماط الحياة (العلمانية) المختلفة، أم لا.

في غضون واقع الأغلبية العظمى من أنظمة الحكم العلمانية التي تحكم بلدان العالم العربي، لم تتاح لنا فرصة حقيقية لمراقبة إلى أي مدى ستتمكن الحركات الإسلامية من استيعاب المطالب المختلفة وأنماط الحياة المختلفة، وإلى أي مدى ستكون رغبتها في ذلك الأمر.

وتعد تجربة تركيا التي يحكمها حزب العدالة والتنمية ذو النزعة الإسلامية، هي التجربة الوحيدة الجادة التي يُمكن النظر إليها.

إذ توفر لنا تلك التجربة حالة من التفاؤل. فعلى الرغم من الطبيعة غير المكتملة لحكمها المستمر لأكثر من عقد من الزمان، وأيضاً الحاجة إلى زيادة فتح المجال العام والسياسي أمام الاتجاهات والهويات والآراء المختلفة، فإن المجال السياسي والعام في تركيا صار يتسم بالتعددية خلال تلك الفترة أكثر مما كان عليه تحت حكم المؤسسات ذات الاتجاهات العلمانية الكمالية (نسبة إلى مصطفى كمال أتاتورك).

على الرغم من ذلك الأمر، فإن ما قيل لا يعني أن الحركات الإسلامية لن تلعب دوراً في تشكيل ما هو مقبول في المجال العام، كما لا يعني أن المجال العام ينبغي أن يُعرَّف وفقاً للمبادئ الليبرالية وحسب. وفيما يتعلق بتلك القضية، فإن الإسلاميين والاشتراكيين وكذلك أي آيديولوجية أخرى، لديهم نفس الحق الذي يمتلكه الليبراليون في تشكيل المجال العام وفقاً لمبادئهم الشخصية.

الأمر الثالث أنه على عكس الفرضية شديدة الانتشار، فإن النخبة العلمانية ومؤسساتها هي التي تظهر عدم توافق مع الديمقراطية في بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. فتلك البلدان لم تشهد موقفاً سحق فيه الإسلاميون العملية الديمقراطية أو وقفوا لمنعها.

وفي الواقع، قد يجادل أحدهم أن الاستثناء الوحيد قد يكون الانتخابات الإيرانية في 2009 على نطاق محدود.

غير أن المنطقة شهدت أمثلة كثيرة سُحقت فيها العملية الديمقراطية على يد النخبة العلمانية ومؤسساتها، وهم: أربعة انقلابات عسكرية على يد مؤسسة الجيش في تركيا، سحق الجيش الجزائري للجبهة الإسلامية للإنقاذ في انتخابات 1992 من أجل منعهم من الوصول إلى السلطة من خلال انتخابات ديمقراطية، فضلاً عن التجربة المعاصرة في مصر، والتي سحق فيها الجيش المصري التجربة الديمقراطية الوليدة. وفي ذات الاتجاه في سوريا، إنه النظام البعثي العلماني مرة أخرى الذي وقف أمام مطالب الشعب للحصول على الحرية والديمقراطية تحسين الأوضاع الاقتصادية.

ويطرح ذلك الأمر تساؤلاً عن السبب وراء عدم قدرة العلمانيين في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا على التصالح مع العملية الديمقراطية؟

من الضروري الاطلاع على ملاحظات خوسيه كازانوفا، أستاذ سوسيولوجيا الدين، المتعلقة بتلك النظرة لفهم تلك المعضلة. يقول كازانوفا “يتساءل أحدهم ما إذا كانت الديمقراطية لا تتحول لتصير “لعبة” مستحيلة عندما لا يُسمح للأغلبية المرتقبة أن تفوز بالانتخابات، عندما يطلب الساسة المدنيون العلمانيون من الجيش أن يأتي من أجل إنقاذ الديمقراطية من خلال منع تلك الأغلبيات المرتقبة التي تهدد الهوية العلمانية وسلطاتها”.

ولا تقتصر أهمية تلك الملاحظة على كونها تتعرض بجدارة لصلب التحديات التي تواجه التحول الديمقراطي بالمنطقة، بل إنها أيضاً تشرح السبب الذي يعوق علمانيي الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من إثبات قدرتهم على التوافق مع الإجراءات والقواعد الديمقراطية. وعليه تصير عملية البحث عن إثبات إسلامي يؤكد القدرة على التماشي مع الديمقراطية، يجعل تحقيق الديمقراطية نفسها مهمة يستحيل تحقيقها.

يبدو أن هوية الرئيس الأسبق محمد مرسي وهوية حزبه الإسلامية هي السبب الرئيسي وراء تحفظ المجتمع الدولي والمنصات الإعلامية العالمية عن وصف  ماحدث بـ “الانقلاب العسكري”!

وبدرجة كبيرة يرتبط مستقبل الديمقراطية والحفاظ على الحقوق والحريات في بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بما إذا كان مسموحاً للإسلاميين بخوض انتخابات نزيهة، والوصول للحكم في حالة في فوزهم.

وإن أردنا ألا تتسبب كلمات عصام الحداد الذي قال “…وهي الرسالة التي سوف يتردد صداها في جميع أنحاء العالم المسلم بصوتٍ عالٍ وواضح: الديمقراطية ليست للمسلمين”، في تشكيل عقليات جيل جديد من الإسلاميين بالمنطقة، فمن الضروري أن نتخذ موقفاً مناهضاً ضد الانقلاب الذي يمتلك القدرة على إحباط أي تجارب ديمقراطية وليدة ببلدان الربيع العربي.