وسط  ركام محاولة الانقلاب الفاشلة وقرن من الزمان من بحث الدولة عن هويتها، يجب أن تستغل تركيا تلك اللحظة لإعادة تعريف نفسها مرة أخرى.

قبل الاجتماع السنوي لمجلس الشوري العسكري التركي الأسبوع الماضي، وقف رئيس الوزراء وكبار قادة الجيش –كما جرت العادة- أمام قبر مؤسس الجمهورية التركية مصطفى كمال أتاتورك.

وبصوت مرتفع، تحدث رئيس الوزراء بن علي يلدرم، كما لو كان يريد أن يسمعه الجميع، ليقول أن الشعب التركي انتصر في الحرب الثانية للاستقلال.

ربما لا يكون يلدرم أكثر قادة حزب العدالة والتنمية بلاغة وطلاقة في الحديث، فذلك الرجل الذي كان مهندساً بحرياً معروف باهتمامه بالجانب العملي، وباهتمامه بالبيانات والتصريحات التي يطلقها.

لذلك، من المحتمل أن يصبح ذلك الخط الذي رسمه بين هزيمة انقلاب 15 يوليو/تموز، وبين حرب البلاد للاستقلال –ليست أول إشارة لهذا الأمر في الأسابيع الأخيرة من جانب قادة الحزب- بمثابة السرد التأسيسي لميلاد جمهورية تركية جديدة.

اندلعت حرب الاستقلال التركية عام 1919 بقيادة مصطفى كمال أتاتورك وضباط عثمانيين آخرين، إذ خاضوا حرباً ضد محتلين أجانب في الأراضي المتبقية من السلطنة عقب توقيع هدنة مودروس المذلة، والتي كانت من بين أسباب احتلال القسطنطينية وتقسيم الإمبراطورية العثمانية، وتحديداً مع نهاية الحرب العالمية الأولى.

انتهت الحرب بالانتصار بعد ثلاث سنوات من بدايتها، ولكنها لم تقتصر فقط على هزيمة الاحتلال الأجنبي، بل تضمنت صراعاً داخلياً بين المجلس الوطني الكبير وقيادة المقاومة في أنقرة من جهة، وبين أولئك الموالين لحكومة إسطنبول التي كانت تحت هيمنة الاحتلال من جهة أخرى.

لذلك لم يكن من الغريب أن تتحول تلك الحرب إلى بوتقة لميلاد أمة تركية جديدة، أُنشِئت على أنقاض الإمبراطورية العثمانية والخلافة.

وعلى الرغم من أن الجمهورية التركية الجديدة اعتمدت على دعم أغلب المؤسسات العسكرية والمدنية للامبراطورية العثمانية نفسها، واعتُبِرت –من الناحية المؤسسية على الأقل- امتداداً لها، فإنها سرعان ما تركت بصمتها الخاصة. بحلول منتصف ثلاثينات القرن الماضي، اكتمل تكوين بناء رؤية تركيا الجديدة لنفسها وللعالم أجمع.

لذا، ما هو شكل الدولة التي أسسها أتاتورك، وما هو شكل المجتمع الذي سعى لتكوينه؟

دولة قوية

أولاً وقبل كل شئ، كانت الجمهورية دولة قومية تركية تتجاهل تماماً التعددية العرقية والثقافية للشعب التركي، وكان القصد أن ينصهر الأتراك، والكرد، والعرب، والشركس، وغيرها من المجموعات العرقية والثقافية الأخرى في بوتقة القومية إما بالقوة الناعمة، أو القوة القمعية للدولة، إذ كانت تلك العملية في بعض الأحيان تتسم بالتعصب والغلو في الوطنية.

وفي رد فعل واضح على الأزمات التي عانت منها الامبراطورية العثمانية في أيامها الأخيرة، نمت السلطة المركزية للجمهورية الجديدة تدريجياً لتصبح مؤسسة مهيمنة ومسيطرة لأقصى درجة. عاملت الدولة مواطنيها كالأطفال الذين لا يعرفون مصلحتهم، وليس بإمكانهم تمييز الخير من الشر.

كانت المرجعية الوحيدة لتحديد المصالح والقيم واختيار اتجاه التقدم والعدالة هي الدولة، والتي حكمتها أقلية سياسية في حزب واحد، على الرغم من أنه في سنواتها الأولى، اعتمدت الدولة على الهوية الإسلامية كأحد عناصر تعريف مواطنيها، إلا أنها سرعان ما شنت حرباً على دور الإسلام في الحياة العامة، وليس في السياسة والتشريعات والأعراف الاجتماعية فحسب، بل أيضاً على المستوى الرمزي.

لم تغلق الدولة المساجد أو تمنع الأتراك من ممارسة شعائرهم الفردية، ولكنها كبحت جماح المؤسسات الدينية بالكامل، فقامت بحل الطرق الصوفية وأغلقت زواياهم (مساجد صغيرة خاصة بهم)، كما فرضت القيود على الحج، وأعلنت تغيير الآذان للصلاة إلى اللغة التركية، وهو ما قلص عدد رجال الدين وقلص العلاقات التركية مع العالم الإسلامي.

الاتجاه نحو التعددية

مع نهاية ثلاثينات القرن الماضي، وقبل وفاة مصطفى كمال أتاتورك بوقت قليل، أدرك قادة الجمهورية التركية ضخامة فشل النظام الذي أسسوه، إذ تصوروا أن التعددية السياسية من شأنها أن تخفف أزمة الدولة وتمهد الطريق للنهضة التركية. ومع ذلك، أخرت الحرب العالمية الثانية انطلاق ذلك المشروع حتى الخمسينات، لتتحول الدولة من حكم الحزب الواحد إلى التعددية السياسية.

ومع انتصار الحزب الديمقراطي بقيادة عدنان مندريس عام 1950، شرعت تركيا في بحثها الملح عن هوية جديدة للدولة. في هذا المشور الطويل، شهدت تركيا فترات تقييد للديمقراطية والتعددية السياسية، نتيجة لأربعة انقلابات عسكرية مباشرة وغير مباشرة سبقت المحاولة الفاشلة هذا الصيف.

طوال هذا الطريق الشائك، أُعدِم رئيس وزراء شعبي، وسُجِن عشرات الآلاف من الأتراك، كما قُتِل عشرات الآلاف أيضاً في اشتباكات أو نتيجة للتعذيب أو في هجمات إرهابية، وجرى حل العديد من الاحزاب وإغلاق عشرات الصحف، ومنذ عام 1984، عاشت تركيا ما يشبه حرباً أهلية محدودة.

بداية من منتصف الثمانينات وحتى مطلع التسعينات، شرعت إدارة الرئيس تورغوت أوزال في عملية إصلاح جزئية للدولة والاقتصاد، وانفتاح تركيا على العالم. ومما لا شك فيه، أثرت جهود أوزال بقوة على المجتمع وأدت إلى توسع غير مسبوق للطبقة المتوسطة والكتلة المحافظة. اقترنت اصلاحات أوزال بالفشل المطلق للحكومة في نهاية التسعينات، وهو ما صعد بحزب العدالة والتنمية إلى سدة الحكم في 2002.

لا يمكن لأحد أن يقلل من الاصلاحات التي أجرتها حكومات حزب العدالة والتنمية، أو انجازاتهم الاقتصادية وتأثيرهم الاجتماعي العميق، كما لا يمكن لأحد التقليل من شأن التغييرات التي تبناها الحزب في الخطاب السياسي للدولة ونهجها في التعامل مع الأزمة الكردية، ولكن نتيجة للاستقطاب السياسي الشديد، والتراجع النسبي للوضع الاستراتيجي التركي، توقفت هذه الإصلاحات في السنوات الأخيرة، وخاصة منذ عام 2012.

عزز عهد العدالة والتنمية من قوة الشعب وشحذ عزمهم على مقاومة أي محاولة لتقويض النظام الديمقراطي وسيادة القانون، إلا أن محاولة الانقلاب الأخيرة أظهرت أن تلك الاصلاحات التي أجراها الحزب لم تكن كافية لمنع مراكز القوى داخل مؤسسات الدولة من محاولة دفع البلاد للوراء في الوقت المناسب.

فرص تحولية

اليوم، تُفتح نافذة تركية جديدة للشروع في إصلاحات شاملة وعميقة. هناك جهود قائمة لإعادة هيكلة القوات المسلحة ووزارة الداخلية والنظام القضائي بالإضافة لعدة مؤسسات أخرى. ومع ذلك، لا يقدم هذا الأمر إجابات شافية على الأسئلة المطروحة حول الدولة والحكم في تركيا.

تحتاج تركيا لإعادة تعريف هويتها، وتوسيع هامش الحريات، وأن تكفل المبادئ الأساسية لحقوق الإنسان وكرامته. تحتاج الدولة أن تضع حداً نهائياً لعلاقة الوصاية بين الدولة والشعب.

مثل ذلك المشروع سيستلزم إعادة النظر في النظام السياسي والتعليمي، وطبيعة القانون، وبنية القضاء، والثقافة العامة، ومهام الأجهزة الأمنية. سيتطلب الأمر أيضاً إعادة التوازن بين السياسات التنموية للدولة وبين مسئولياتها الاجتماعية، كما تحتاج الدولة بشكل ضروري لدستور جديد يخلو من بصمات النظام العسكري الذي حكم في الثمانينات والذي كُتِب الدستور الحالي في وجوده.

الأهم من ذلك كله، هو أن تُعيد تركيا الجديدة تعريف دورها في المنطقة وفي العالم بأسره.

ليس هناك حاجة للانفصال المطلق والكامل عن دولة أتاتورك، فالدول لا تقوم –على أي حال- من خلال التنصل من تاريخها. ما هو مهم اليوم هو إعادة جمع التراث التركي بالكامل على الأقل منذ السنوات الأخيرة للحكم العثماني، يجب أن يُعاد تشكيل هذا التراث والبدء في العمل على تأسيس جمهورية جديدة.