في 20 أغسطس/ آب نفذ انتحاري يتراوح عمره بين 12-14 عاماً، هجوماً دموياً في حفل زفاف بمدينة غازي عنتاب جنوبي تركيا.

أشارت أصابع الاتهام إلى تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (أو تنظيم داعش كما يعرفه البعض) على اعتبار أنه المشتبه الرئيسي بضلوعه في تنفيذ العملية، غير أنه لم يعلن مسؤوليته رسمياً عن تنفيذها. فضلاً عن أنه لم يعلن مسؤوليته عن أي من الهجمات التي نفذها داخل تركيا. وتسبب الحادث الأخير في مذبحة بشرية، مع وصول عدد الضحايا إلى 54 قتيلاً والمصابين إلى 94 مصاباً.

نوعان من الهجمات

في السنوات الأخيرة، ظلت تركيا أحد الأهداف الرئيسية لهجمات التنظيم، بيد أن تلك الهجمات يمكن تصنيفها إلى نوعين من الهجمات: النوع الأول منهما يمكن وصفه بأنه الهجمات التي تستهدف في الغالب المجموعات غير التركية، أو على الأقل لا تستهدف حصرياً الأهداف التركية.

إذ أن تفجيرات ساحة السلطان أحمد، وتفجيرات شارع الاستقلال، وأيضاً تفجيرات مطار أتاتورك تقع جميعها تحت التصنيف الأول؛ فالأهداف في تلك العمليات كانت سياحاً من جنسيات ألمانية، ومجموعة إسرائيلية كبيرة، وأهدافاً أخرى من جنسيات غير تركية، وبالضرورة يقع ضحايا من المواطنين الأتراك المتواجدين بتلك الأماكن وقت وقوع الحادث.

وتتنوع الأسباب المنطقية لتلك الهجمات بين السياسة الإجمالية لتركيا فيما يتعلق بالأحداث في سوريا، ودعمها لجماعات المعارضة السورية، وتعاونها مع الولايات المتحدة في إطار التحالف الدولي ضد تنظيم داعش، وكذلك التعاون المحتمل مع روسيا ضد المجموعة بعد ترميم العلاقات بين البلدين.

فضلاً عن ذلك، تبذل داعش، التي تتعرض لضغط كبير في سوريا والعراق، محاولات حثيثة لتأسيس تواجدٍ لها في مناطق أخرى خارج البلدين.

والمفارقة أنه كلما ازداد الضغط على التنظيم داخل سوريا والعراق، كلما ارتفع مستوى التهديدات التي تواجه تركيا؛ ويعود السبب في ذلك إلى أن كثيراً من المسلحين النازحين سوف يحاولون التواجد في أماكن أخرى، وفي المقابل سيحاول التنظيم إثبات أنه لا يزال قوة لا ينبغي الاستهانة بها، وذلك عبر تنفيذ المزيد من العمليات الإرهابية الدموية.

وينسجم ذلك النوع من الهجمات مع الإستراتيجية الحالية للتنظيم التي ينفذها من خلال ملاحقة أعدائه حول العالم بدلاً من تحصين نفسه في مناطق معينة في سوريا والعراق تتقلص في الوقت الحالي.

استهداف خطوط الصدع التركية

أما التصنيف الثاني لتلك الهجمات، فهو عبارة عن تلك الهجمات التي تركز أكثر على الأهداف التركية؛ لكي تسبب زلزالاً يضرب خطوط الصدع العرقية والطائفية بتركيا.

ويعد التسبب في إثارة التوتر العرقي أحد الأهداف الرئيسية التي يسعى تنظيم داعش لتحقيقها في تركيا، مثل تفجيرات سروج وديار بكر وقطار أنقرة. ويمكن وضع الهجمات الأخيرة التي وقعت في مدينة غازي عنتاب في إطار التصنيف الثاني للهجمات التي ينفذها التنظيم.

وفي إطار هذا النوع من الهجمات، استهدف التنظيم في كثير من الأحيان الأكراد المنضوين في فلك الحركة القومية الكردية. كما أن هذه الهجمات ترتبط مباشرة بقتال التنظيم ضد المجموعات الكردية داخل سوريا والعراق. إذ أن الحرب الأهلية في سوريا وكذلك القتال الدائر بين تنظيم داعش وحزب العمال الكردستاني وذراعها السوري المتمثل في وحدات حماية الشعب، كانا من العوامل الرئيسية لظهور عملية التحول إلى التطرف في تركيا.

كما أن الخروج عن مسار عملية السلام الكردية في يوليو/ تموز 2015 والحرب غير الموسعة التي تلتها، رفع من ديناميكية عملية التحول إلى التطرف.

يبدو أن ذلك الاتجاه المخيف في حاجة إلى مراجعة. وبالمقارنة مع التصنيف الأول من تلك الهجمات فإن التصينف الثاني يُظهر علامات تدل على استمراره، مما يتوقع أن يتسبب في عواقب طويلة الأجل.

وفي غضون تلك الهجمات وما يرتبط بها من تداعيات سياسية، يبدو أن تنظيم داعش يهدف إلى تغيير صفته من كونه تهديداً أجنبياً ليتحول إلى تهديد محلي ذي تداعيات مخيفة وبعيدة المدى.

الديناميكيات الكردية الداخلية  

انتقل تنظيم داعش بعملياته التي ينفذها في تركيا من نموذج العمليات العشوائية المتقطعة إلى نموذج أكثر تنظيماً ومنهجية.

في الوقت الذي يحاول فيه التنظيم تصفية حساباته مع حزب العمال الكردستاني في تركيا- الناتج عن الصراع في سوريا والعراق- يحاول أيضاً الاستفادة من مشاعر الاستياء ضد حزب العمال الكردستاني في مناطق كردية محددة.

إذ أن عدداً كبيراً من الانتحاريين الذين نفذوا هجمات انتحارية ضد التجمعات الكردية، كانوا أيضاً من أصول كردية.

ولا تعد الخصومات داخل الأطياف الكردية أمراً جديداً. ففي عام 1990، دخلت جماعة تسمى حزب الله الكردي، والتي يسود اعتقاد إنها مدعومة من عناصر داخل “الدولة التركية العميقة”، في صراع دموي مع حزب العمال الكردستاني.

بعد اعتقال عبدالله أوجلان، قائد حزب العمال الكردستاني، في عام 1999، وما تلاه من إعلان الحزب وقف إطلاق النار إلى أجل غير مسمى، نفذت تركيا حملة مداهمات شرسة ضد حزب الله الكردي وقتلت قائده عام 2000.

وشاركت بقايا تلك المجموعة في العملية السياسية المدنية فيما بعد، من خلال حزب الدعوة الحرة، المعارض الشديد لحزب العمال الكردستاني والمجموعات السياسية المنضوية تحت لوائه.

ولأن حزب الدعوة الحرة يدافع أيضاً عن الحقوق القومية الكردية، أخذ اختلافه مع حزب العمال الكردستاني بُعداً أيديولوجياً، وليس قومياً.

هيمنةُ حزب العمال الكردستاني على المشهد السياسي الكردي، أسلوبه الدكتاتوري الشديد، فضلاً عن مشروعة العلماني الموسع، كلها خلقت مزيداً من الشعور بالضيم بين أوساط مجموعات الإسلام السياسي الكردية.

ويشكل ذلك الإحساس المتنامي بالظلم تربة خصبة للأصولية، ويدرك تنظيم داعش هذا الاحتمال جيداً ويحاول بقوة أن يستغله.

ويعني ذلك الأمر أن داعش تحاول اتخاذ موقع في الخلافات الكردية الداخلية. لذا، فإن عملياته في تركيا صارت الآن أكثر منهجية وتركيزاً على مجموعات بعينها.

ليس ثمة حلول سريعة

لا يلوح في الأفق حل سريع للتعامل مع تهديدات داعش في تركيا، فالبلد ستظل عرضة لهجمات التنظيم مع اقتراب موقعها الجغرافي من موطن ولادته وقواعده الأساسية في سوريا والعراق.

هذا التهديد متجدد ويتطلب منهجاً متعدد الأوجه. ولهذا ينبغي أن تعطى الأولوية لاحتواء وتقليص مستوى التهديد الذي تستطيع الجماعة التسبب فيه، أملاً في أن يمهد ذلك الطريق أمام الحد من قدرته على إلحاق الضرر على المدى المتوسط والبعيد.

وفضلاً عن عمليات تنفيذ القانون ومبادرات مكافحة الأصولية، ينبغي على الأطياف السياسية والمجتمع بأكمله أن يظهروا وحدتهم ومرونتهم في التعامل مع هذه الأزمة.

ومع الأخذ في الاعتبار أن تلك الهجمات ترمي إلى خلق كتلة سياسية ومجتمعية معارضة للنظام، فينبغي على الحكومة والمعارضة أن يتكاتفا ويتماسكا سوياً مثلما فعلوا جميعاً أمام محاولة الانقلاب الفاشلة التي وقعت في 15 يوليو/ تموز. بيد أنه ينبغي على النظام أيضاً أن يضيف حزب الشعوب الديمقراطي الكردي إلى المشهد.

وبدلاً من أن تمثل تلك الهجمات مجرد عرض مأساوي في المشهد الحالي، ينبغي أن تكون مذكرة ناجعة لأهمية السعي وراء الوصول لتسوية سياسية للأزمة السورية والقضية الكردية في تركيا.