أدَّى نطاق الأزمة الخليجية ومداها وأسبابها إلى تحيُّر حتى المراقبين اللصيقين للمشهد السياسي بالمنطقة. إذ ينظم مهندسو الحصار على قطر حملة واسعة النطاق من الدبلوماسية الشعبية لبث رسائل مختلفة لجماهير مختلفة من أجل إضفاء الشرعية على خطواتهم وتأطير ما هو سخيف حقاً بإطار القبول.

بينما يهدف اتهام قطر بإقامتها صلاتٍ مزعومة مع حركاتٍ إسلاموية متطرفة إلى مغازلة الجماهير الغربية، يسعى اتهامها بإقامة صلاتٍ سرية ومعقدة مع إيران إلى  مغازلة الجماهير العربية السنية في ضوء كراهيتها المتزايدة لإيران؛ بفضل الدور الذي تلعبه في سوريا والعراق واليمن ولبنان. وبعد أن عرضت إيران وتركيا تقديم الدعم لقطر، يبدو هذه المرة أن ذات الجبهة سعت إلى إثارة المشاعر القومية العربية ضد قطر. فقد اتهم وزير دولة الإمارات للشؤون الخارجية، أنور بن محمد قرقاش، قطر بالسعي نحو الحصول على دعم دولتين غير عربيتين في المنطقة. وقد كان غرض بث الخوف بادياً بوضوحٍ تام في هذه الحملة الأخيرة.

لكن من أجل فهم ما يجري حقاً في الخليج الآن، يتعين علينا النظر أبعد من البيانات والمواقف والتهديدات الرسمية.

مخاوف وطموحات ملكية

بالتأكيد سعى الداعمان الأساسيان لهذه الخطوة، محمد بن زايد آل نهيان ومحمد بن سلمان آل سعود، إلى تحقيق مطامع ومنافع شخصية من هذه الأزمة. فقد حاول محمد بن سلمان التعويض عن حداثة سنه، وسلوكه العشوائي، ومزاجه السيء، وقلة خبرته باستخدام قناع العدو المرابط ضد إيران والإسلام السياسي. يهدف ابن سلمان بهذه الطريقة إلى تعزيز جاذبيته أمام المؤسسة السياسية الغربية، وتحديداً الأمريكية، وكسب الأفضلية في مواجهة ابن عمه ومنافسه الأكثر شبهاً برجال الدولة، ولي العهد محمد بن نايف آل سعود، في مسألة ولاية العرش السعودي.

في هذه العلاقة، يبدو أن محمد بن سلمان يمثل القوة، بينما يمثل محمد بن زايد العقل. فبالنسبة لابن زايد، تهدف هذه الخطوة إلى التخلص من الإسلام السياسي المعتدل كمشروعٍ سياسي بديل وقتل ظاهرة الربيع العربي بوعودها الأولى بتعزيز الديمقراطية والتقدم، التي هزت الأنظمة المستبدة القائمة بالمنطقة حتى أساساتها.

رغم أن الأزمة الأخيرة لها جذورها في حقبة الربيع العربي، فإنها لا تمثل سوى الإعادة الأخيرة لصراعٍ على مستوى المنطقة لتشكيل النظام الإقليمي بعد الربيع العربي. في الحقيقة، يعكس تكوين الجبهة المعادية لقطر واقع ما بعد الربيع العربي وإعادة تشكيل التحالفات السياسية في المنطقة. وتهدف هذه الخطوة، في جوهرها، إلى إعداد نظامٍ إقليمي جديد، يقف أغلبه بمحاذاة خطوط الوضع الاستبدادي القائم منذ نهاية الحرب الباردة تحت حماية المظلة الأمنية الأمريكية.

تكمن مشكلة هذا المعسكر في أن أعضاءه يفشلون في تعزيز تقدم رؤيةٍ   متماسكةٍ لنظامٍ إقليمي وشكلٍ أكثر اعتدالاً يتمتع بالشرعية والاستمرارية من العلاقات بين الدولة والمجتمع. وقد قوبل النظام الإقليمي الاستبدادي النخبوي الخاص بهذا المعسكر بالرفض من جانب قوى الربيع العربي والحالة النفسية السياسية التي أطلقتها هذه العملية. كما رفضت الانتفاضات العربية شخصنة السلطة والطريقة التي جرى بها التعامل مع تسليم الحكم في هذا النظام الإقليمي: سواء عبر نقل السلطة من مستبد مسن إلى ابنه أو عبر انقلابٍ عسكري.

مع تبني المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات لهذا المسار من السياسة الرجعية، تماديتا حتى بلغتا اتهام دولٍ أخرى بدعم الإرهاب. يتعلق الاتهام الرئيس لقطر بدعمها للإخوان المسلمين، وهو تنظيم إسلامي سياسي واسع الانتشار وغير مدرج على أيٍ من القوائم الغربية للتنظيمات الإرهابية. في الحقيقة، لم يكن حتى على قائمة التنظيمات الإرهابية بالإمارات أو السعودية حتى عام 2014، ولا يزال جزءً من المؤسسة السياسية القانونية في الكويت.

حقيقة أن لا السعودية ولا الإمارات أدركت أن التنظيم، الذي تأسس عام 1928، كان تنظيماً إرهابياً حتى أعقاب الانقلاب المصري تنضح بالدوافع الحقيقية وراء هذه الخطوة. لقد شنتا حرباً على الإخوان المسلمين لأن التنظيم أصبح فاعلاً سياسياً حقيقياً وبديلاً للأنظمة المستبدة والملكية المتداعية، رغم كل عيوب التنظيم وقصر نظره وأخطائه.

باختصار، بالنسبة لأشباه ابن سلمان وابن زايد، تمثل الروح الثورية للانتفاضات العربية والإسلام السياسي تهديداً وجودياً لما تمثلانه من تحدٍ لمشروعات السلطة الشخصية لهم.

التحالف الإماراتي السعودي هش

فوق كل ذلك، بمجرد عزل القاسم المشترك نحو مقاومة التغيير، تصبح مصالح السعودية والإمارات عصيّة على التوافق. بل في الواقع، لا يمثل التواطؤ الاستبدادي شكلاً قابلاً للاستمرار من هياكل التحالفات التي يمكنها إعادة تأسيس نظام إقليمي مختل.

على سبيل المثال، تعد مواقف المملكة والإمارات بشأن الأزمة اليمنية متعارضة تماماً. إذ تدعمان فصائل مختلفة وحلولاً مختلفة للأزمة. فبينما تدعم الإمارات بقوة الحاكم السابق لعدن، عيدروس الزبيدي، ومفوض شرطة عدن، شلال شائع، وتتبنى تصور تقسيم اليمن، ألقى النظام السعودي دعمه وراء حكومة الرئيس اليمني، عبد ربه هادي منصور، ويعارض فكرة تقسيم اليمن.

حتى الدور الإيراني الذي يكثر الحديث عنه لا يمثل عامل توحيدٍ كبير تود الراعيتان للحصار الأخير تصوره. بل هذا التركيز على الدور الإيراني مصمم بشكلٍ رئيس ليكون عاملاً معززاً لشرعية هذه الخطوة.

تعتقد الداعمتان للحصار أن ذلك سوف يلقى أيضاً قبول إدارة ترامب، التي تنتقل بالتدريج من استراتيجية “محاربة داعش أولاً” إلى استراتيجية “محاربة إيران أولاً” في المنطقة. إن كانت إيران هي السبب الحقيقي، فقد يتوقع المرء أن تقوم المملكة أولاً بخطوةٍ مشابهةٍ تجاه عمان، وهي دولة لها مثل هذه العلاقات العلنية العميقة الواسعة مع إيران. أو حتى قد يتوقع من السعودية أن تطلب من حليفتها الوثيقة، الإمارات، أن تصد المحاولات الإيرانية لتفادي العقوبات الغربية عبر استخدام دبي واحدةً من مراكزها الرئيسة للتجارة.

وفقاً لصحيفة فايننشال تريبيون، الصحيفة الاقتصادية الأهم باللغة الإنجليزية في إيران، كانت الإمارات ثاني أكبر وجهة تصدير إيرانية بعد الصين خلال العام المالي الأخير الذي انتهى في 20 مارس/آذار، بنسبة 17 بالمئة من الصادرات الإيرانية – بزيادةٍ كبيرة عن العام السابق.

يبقى أن نرى إلى متى سوف يتمكن التحالف الإماراتي السعودي من الصمود، لكن هناك أمر واحد مؤكد: لن يؤدي التصعيد والحصار الذي خططتا له إلى حل مشكلات الشرعية لديهما.

نُشر هذا المقال لأول مرةٍ على موقع الجزيرة بتاريخ 15 يونيو/حزيران 2017.