شروط نجاح الحكومة التونسية الجديدة

أخيراً  صادق مجلس نواب الشعب التونسي فجر الخميس 27 فبراير على الحكومة التي قدمها رئيس الوزراء المكلف المهندس إلياس الفخفاخ، وقد اختبر التونسيون فيما يقارب الخمسة أشهر طبيعة طبقتهم السياسية و قدرتها على اقتراح الحلول وتجنب الأزمات، و اختبروا الاحتمالات التي يتضمنها دستورهم، كما تابعوا بكثير من الانشغال- وفِي أكثر من مناسبة- احتمال انزلاق أزمتهم السياسية إلى أزمة دستورية، وقد شاركهم التخوف جمهور  المتابعين في المنطقة الذين يشفقون على تجربة تمثل في أعينهم قاطرة تغيير في منطقة متعطشة للجديد في إدارة الشأن السياسي، كما شاركهم الإشفاق كثير من المتعاملين الأجانب المتخوفين من توسع رقعة عدم الاستقرار إلى ساحة ظلت بمنأى عن التقلبات الكبرى في أبرز منطقة للتقلبات  في عالم اليوم .

مشاهد ملايين التونسيين وهم يتابعون مداولات مجلس النواب التي تنقل مباشرة حتى ساعات الفجر الأولى، والتفاعلات والتعليقات الآنية على مواقع التواصل الاجتماعي، وصورة التسليم و التسلم بين حكومة قادمة و أخرى مغادرة كافية وحدها للدلالة على عمق التحول في الحالة التونسية، بعد أن أصبحت السياسة تُتابع جماهيريا على نطاق واسع.

ثلاث قضايا كبرى في الأيام التي سبقت ليلة التصويت الطويلة طرحت في فضاء السجال العمومي تتعلق بمرور الحكومة ثم استقرارها ثم نجاحها .

نجحت التركيبة في اجتياز الحاجز الأول ومرت، وهكذا تمت الإجابة عن الفرع الأول، وكان المنتوج الذي أفضى إليه المخاض الطويل قريبا من المزاج الذي عبر عنه الناخبون في الخريف الماضي، حين  أعلن صراحة رغبته في التغيير و تركيزه على البعد الاجتماعي؛ فالحكومة المزكاة يمكن أن تعبر عن هذه الأبعاد من خلال شخصية رئيسها، و من خلال عناوين برنامجها، و مضمون الخطاب المصاحب لحفل التسليم، و من خلال مكوناتها، و من خلال أسماء عدد من الشخصيات التي تسلمت ملفات أساسية في تركيبتها؛ بما يعني أن الحكومة تتوفر لديها مقومات ذاتية للاستمرار و النجاح .

من جهة أخرى نرجح استمرار الحكومة بالنظر إلى استبعاد مجازفة تركيبة البرلمان الحالية بالدخول في مغامرات قد تفضي الى انتخابات سابقة لأوانها، ولا ننسى أن الخوف  من المجهول كان أحد دوافع التصويت للحكومة .

غير أن التونسيين لا يحتاجون  فقط إلى حكومة الحد الأدنى التي تقاتل من أجل ضمان استمرارها، وتجتهد لتجاوز حقول الألغام، واللعب على حبل التحالفات المتنقلة لتحقيق  هذا الهدف؛ حيث جربت هذه الوصفة طويلا ولم تجن البلاد  منها سوى تفاقم أزمة الثقة في السياسة والسياسيين .

ليس هذا هو ما يحتاجه التونسيون، و لا نظن أن هذا هو ما يرغب فيه السيد الفخفاخ الذي رفع شعار الوضوح واستعادة الثقة، وكثف فيه رؤيته لمفتاح المرحلة، و لا هذا هو ما يرغب فيه كثير من الساسة الشباب أعضاء  الفريق الحكومي الذين لهم  طموحاتهم السياسية والتي لن تتحقق دون نجاح واضح لهذه التجربة .

إن النجاح ممكن وهو في متناول اليد ولكنه يتطلب شروطا وتمشيات بعضها متعلق بالحكومة ورئيسها وبعضها متعلق بغيرهما من الفاعلين .

أولا : استعجالية  تنقية المناخات وتجاوز نتائج احتكاكات الأشهر الأربعة الماضية :

لقد كان السيد الفخفاخ شريكا في تجربة حكم ائتلافي وهو يدرك جيدا فرص وصعوبات هذا النوع من الحكم، فالحكومة الحالية تبدو قريبة في صورتها  من حكومات ما قبل 2015، بل تبدو أقرب إلى حكومات الترويكا، غير أن  الحروب الكلامية و مناخات عدم الثقة تفاقمت بين مكوناتها خلال أشهر التفاوض وخاصة بين حركة النهضة من جهة وبين التيار الديموقراطي  حركة الشعب من جهة أخرى، بل شهدت الساحة ما يشبه معركة ليّ الأذرع بين الرئيس المكلف حينها وبين حركة النهضة الحزب الأكثر تمثيلا في البرلمان  .

إن الأمر الأكثر استعجالا لضمان انطلاقة جيدة للعمل الحكومي يتمثل في مبادرة لتجميع الكتل الممثلة في جلسة مصالحة ومصارحة تطوي صفحة الحروب الماضية، وتبرم تعاقد للتكامل والتعاون، وتنسيق الجهود، وتذليل الصعوبات مع ضرورة الانتباه ألا يشعر الوزراء المستقلون أنهم مواطنون من درجة ثانية في حكومة الأحزاب، وسيجد السيد الفخفاخ في خبرة إدارة الحكم ما بعد الثورة بكامل مراحلها من التجارب ما يمكن الاستلهام منها.

كما أنه من المهم الاشتغال على التوقي من احتمال التنافر بين الأجندة الحكومية والأجندة البرلمانية التشريعية، فالخشية أن تؤثر الاختلافات حول بعض القوانين المهمة مثل القانون الانتخابي على التماسك الحكومي، وهذا يتطلب عقلا قادرًا على ترتيب الأولويات ورسم مجالات الالتقاء و مجالات وقواعد التنافس بما يضمن النجاح للفريق الحكومي

ثانيا :حسن التصرف في العهدة  بتقسيم المرحلة إلى فترة إجراءات عاجلة غايتها التدارك وإيقاف التدهور واستعادة الثقة في جدوى صندوق الاقتراع وفي جدوى العملية السياسية وتهيئة المناخات والأرضية  التشريعية للانطلاق في ورشة الإصلاحات متعددة المسارات والمؤجلة منذ سنوات، وقد أعلن السيد الفخفاخ عن أهمها في وثيقته و في خطابه وفِي تصريحاته .

إنه لمن الحيوي للتجربة التونسية أن تعطى إشارات قوية خلال الأشهر القليلة القادمة؛ فيجب أن يشعر الشباب و الجهات والفئات المهمشة والفاعلون الاقتصاديون أن قطار التغيير قد انطلق بإجراءات ملموسة و منهجية مغايرة في الإدارة و الخطاب، وأول ما يجب أن يشمله التغيير هو تكلفة العيش، وتعامل الإدارة وتسريح التشغيل، واتخاذ إجراءات ضد الفساد، و التونسيون عقلانيون ويدركون ألا أحد يمتلك عصا سحرية ولا ينتظرون أكثر من  خطوات ملموسة تؤكد وجود إرادة وسياسة تتجاوز الخطابات والوعود

الصورة المثلى هي أن تنهي هذه الحكومة كامل العهدة مع تعديلات وسط الطريق يقتضيها تقييم الأداء وتحسين المناخات وتوسيع قاعدة الدعم والإسناد، وهذه هي الصورة التي يفترض أن يعمل عليها رئيس الحكومة والكتل المنضوية في فريقه الحكومي، وإن لم يكن ذلك فلا أقل من سنتين وهو الحد الأدنى المطلوب لتحقيق إنجازات تطمئن جمهور الناخبين، ما دون ذلك لن يكون إلا استمرارا لحالة العبث والعلاج بالمسكنات في وضع يحتاج تدخلا جراحيا عميقا .

ثالثا : التعامل المتوازن مع المحيط المؤسساتي: لقد كانت خيارات طبيعة النظام السياسي في دستور 2014 نتيجة سياقات  اللحظة التاريخية، والخشية من الفشل في التوصل إلى دستور، وموازين القوى، ورهانات مختلف الفاعلين، إضافة إلى تقييم التخوف من السقوط مجددا في مهوى مركزة السلطة المفضي إلى الاستبداد  .

ولقد أبرزت التجربة إعاقات كثيرة في اشتغال هذا النظام بعضها متعلق  بارتباكات النص ذاته، و بعضها مرتبط بطبيعة المشهد الحزبي و بالخصائص الشخصية لكل من رئيس الجمهورية و رئيس البرلمان و رئيس الحكومة.

ولقد انتبه الجميع إلى وجود تعقيدات  كبرى خلال  العهدة السابقة بين رأسي السلطة التنفيذية وخاصة بعد شهر مايو 2018 ، بعضها ذو طبيعة نفسية و علائقية، أربكت إدارة بقية العهدة و أورثت هشاشة مؤسساتية وأثرت مباشرة في مزاج الناخبين في خريف 2019.

هذه التعقيدات مرشحة للتصاعد بالنظر إلى الشخصية غير النمطية للسيد قيس سعيد لقناعاته بخصوص الدستور و تصوره لطبيعة و منهجية البناء السياسي و لرفضه الاستناد إلى قاعدة حزبية، و بالنظر  إلى السياق الدستوري الاستثنائي الذي تم فيه تكليف السيد الفخفاخ بعد فشل الحزب الأول في الحصول على ثقة البرلمان لتشكيلته الحكومية المقدمة يوم العاشر من يناير .

كلّف الفخفاخ من طرف رئيس الجمهورية الذي اعتبره الشخصية الأقدر، و بالرغم من أن اختلاف جهة التكليف لا تغير شيئا من توزيع السلطات بين رأسي السلطة التنفيذية ولا في طبيعة النظام السياسي الذي يعتبر البرلمان هو السلطة الأصلية، فان المسألة لا تخضع في الواقع لمجرد الاعتبارات القانونية، فالتكليف يفرض  نوعا من الدين المعنوي للمكلف، إضافة إلى أن رئيس الحكومة قد  اختار الاستناد في هندسة فريقه إلى الانتخابية الواسعة لقيس سعيد، وتمسك بذلك بما صعد الأزمة السياسية حتى أوشكت البلاد على  السقوط  في أزمة دستورية لم يكن لها من مخرج مطمئن دون مخرج في غياب المحكمة الدستورية .

خلال ذلك بدا السيد الفخفاخ في صورة المنحاز لرئيس الجمهورية والمنتهك لنص وروح الدستور، وفِي موقع الوزير الأول وليس رئيس الحكومة كما يقتضيه الدستور .

لقد تم احتواء الأزمة تكتيكيا، ودون ذلك ما كان للحكومة أن تمر، ونتوقع أن يحرص الفاعلون على تجنب تكرار الأزمة ومن ذلك التوافق على سياقات و مناخات تعديل الدستور إن اتضحت ضرورة ذلك  .

إن الاشتغال السياسي لضمان التكامل بين المراكز الثلاثة للسلطة مسألة حيوية، و تقع مسؤوليتها  على عاتق رئيس الجمهورية ورئيس البرلمان، ولكن النصيب الأكبر من هذه المسؤولية إنما يقع على عاتق رئيس الحكومة، كما يعود للبلاد و له شخصيا العائد السياسي لسلاسة العلاقة الثلاثية، إذ هي شرط أساسي لنجاحه في مهمته، وهو يمتلك من الذكاء ومن الخصال الذاتية ما يعينه على تجاوز الالتباسات الممكنة، ونرجح أن يقوم رئيس الجمهورية ورئيس البرلمان بدور إيجابي بناء كلٌ في إطار صلاحياته وفِي إطار شبكة علاقاته .

رابعا :تحسين العلاقة مع المحيط :

ينطلق رئيس الحكومة بانطباعات إيجابية من الرأي العام، وباستعداد للتعاون من مختلف دوائر التأثير في البلاد وخارجها، وهذه معطيات مهمة يجب البناء عليها و تحويلها إلى مسارات، فقيادة المرحلة لا تتطلب فقط توافقا سياسيا واسعا بل تتطلب معه توافقا اجتماعيا على أسس تعاقدية واضحة، ولا يمكن تصور النجاح في برنامج وطني للإصلاح دون تفاهم المنظمات الكبرى، ودون مقاربة تشاركية، ودون الاقتناع أن التضحيات ستكون موزعة بعدالة، و أنها استثمار في المستقبل .

شعارا الوضوح و استعادة الثقة اللذان اختارهما السيد الفخفاخ يعبران بالفعل عن مدخل المرحلة، ومطلوب الارتقاء بهما من مجرد الشعار إلى استراتيجية بناء كتلة ورؤية وبرنامج .

كما لا يمكن تصور نجاح دون سياسة تواصلية ناجعة وشفافة، وتجاوز سوء التفاهم المستمر منذ الثورة بين الحكم و الإعلام، فيجب إزالة المخاوف، فقد ولى زمن إعلام التعليمات، ولا بد من التخلص من شبهة استمرار عقلية التوظيف التي خيمت على المشهد في السنوات الأخيرة، إن مسؤولية إعادة الثقة تقع بدرجة أساسية على السياسيين الذين يجب أن يكونوا قطعيّين في احترام سلطة الإعلام،  و في حق الشعب في المعلومة،  و في تجنب اللغة الخشبية.

خامسا :التعامل العقلاني مع المعارضة: لقد اختارت كل من  كتل قلب تونس (38نائبا ) وائتلاف الكرامة (19 نائبا ) والحزب الدستوري الحر (17) موقع المعارضة، و لكنها متباينة فيما بينها ولا يمكنها الالتقاء إلا تكتيكيا، كما أنها مختلفة من حيث خلفية المعارضة بين المعارضة السياسية لقلب تونس وائتلاف الكرامة على أرضية سياسية، بينما يقف الحزب الدستوري الحر على أرضية مناهضة لمجمل مسار البلاد منذ سنة 201، ومع احترام حق الأحزاب في اختيار تموقعها، ودون استعداء لأحد تحت سقف البرلمان، فقد تكمن المصلحة السياسية في البحث عن أرضية مرنة للتعامل مع المعارضة الديموقراطية .

سادسا : إزالة المخاوف من 2024: لعل إحدى نقاط قوة السيد الفخفاخ أنه سياسي شاب وطموح وذو برنامج، و لكن هذا بالضبط هو ما يثير مخاوف منافسيه منه من خارج الفريق الحكومي، بل ربما حتى من بعض شركائه في الفريق نفسه ومن أترابه .

إن وجود قيادات سياسية وازنة في الفريق يمكن أن يمثل عامل قوة خاصة في التواصل مع الجماهير و في القدرة على توقي الأزمات و حسن إدارتها عند حدوثها، ولكنه يمكن أن يؤدي إلى تنافسية صامتة تؤدي إلى ارتباك الأداء .

إن الطموح مشروع، والمطلوب هو البحث عن موازنة ممكنة بين خدمة المسارات الخاصة والتركيز على نجاح التكليف، بل قد يكون النجاح في التكليف هو أقصر طريق  لبناء المستقبل السياسي الخاص، ولعل القادة السياسيين في الحكومة يوقنون أن النجاح هو نجاح الفريق، وأن الناخبين يصعب أن يتذكروا نجاحات فردية إذا كان حكمهم  سلبيا على مجمل أداء الفريق .

سابعا: المراجعات الضرورية: الحصيلة المقبولة في النهاية لا يجب أن تخفي تعثرات الطريق .

هذه الحكومة وإن تضمنت مقومات كثيرة للنجاح إلا أنها أيضا حكومة تجنب الفراغ، و تجنب استمرار حالة تصريف الأعمال، وهذا ما جعل عدد من معارضيها الشرسين يعبرون عن استعدادهم التصويت  لها إن اتضح لهم عدم مرورها .

يجب أن يسأل الساسة أنفسهم تلك الأسئلة الموجعة لاستخلاص الدروس التي تمنع من تكرر الأخطاء، يبدو ألا شيء تغير و أن الانتخابات كانت قوسا أغلق و أن الجميع عاد إلى انتهاج نفس المنهجية التي ثار عليها الصندوق .

لقد تمت إدارة مرحلة البناء المؤسساتي ما بعد الانتخابات بنفس عقلية المناورات و الحسابات التكتيكية الصغيرة وبنفس منهج التذاكي و المخاتلة،كما خضعت التسميات إلى محاولات تدخل دوائر تأثير متعددة ولم تخرج الأحزاب عن عادتها في اعتماد الترضيات والتوازنات الداخلية غالبا على حساب الكفاءة .

الرسائل تترى منذ سنوات للمشهد الحزبي أن يضبط ساعته على عقارب الثورة والديموقراطية، ولا يبدو أنها وصلت، تونس أمام فرصة و الخشية أن تصبح الأحزاب عبئا عليها .