تمهيد : لعل أهمَّ ما تعلَّمه التونسيون خلال السنوات التسع الأخيرة هو أن إدارة السياسة خلال مسار انتقاليٍّ هي بالتحديد مسلسل إدارة أزمات متولِّد بعضها عن بعض، وراكموا خلال ذلك خبرةً في التعايش مع الأزمات وفنون إدارتها، والتي كان يفترض الانطلاق منها في التعامل مع جائحة كورونا. لكن اتضح أن تلك الخبرة لم تكن ذات جدوى كبيرةٍ في التعامل مع أزمة طبيعتها مختلفة جذريًّا عن كل ما تعوَّد العقل الإنساني التعاملَ معه منذ عقود. فقد وجدت البشرية نفسها في مواجهة شبحٍ، وأمام كارثة شاملة وعميقة وطويلة المدى تتحدَّى المنظومات الوطنية والإقليمية والوطنية، كما تضع على المحكِّ مجملَ الخيارات التي اهتدى إليها الجنس البشري لتنظيم عيشه المشترك، بل تعيد طرح الأسئلة الوجودية الكبرى المتعلِّقة بالمنزلة الإنسانية وعلاقة هذا “الكائن الفريد” بالزمن، والموت، والطبيعة، والغيب، والسعادة، واللذة، والمنفعة، والنجاعة، والجمال، والعدل وغيرها، بالإضافة إلى أسئلة الدولة والسلطة والتضامن  وأولويات العيش المشترك .

لكأن البشرية أُخذت على حين غرَّة في حربٍ لا أحد يدري متى تنتهي، فكانت “الدولة” هي قائد هذه المواجهة، ولم يختلف في ذلك دعاة الدولة القوية والتدخلية عن دعاة تقليص سلطة الدولة وتحييدها عن التدخل في الجانب الاقتصادي أو في الفضاء المجتمعي وجانب الحريات، وكانت الإجابات وطنيةً بالأساس، عبأت فيها كلُّ دولة مواردها وما يتوفَّر لديها من أرصدة روحية وثقافية وبشرية ومالية  .

يمكننا أن نحصي تجارب المواجهة بعدد دول العالم، وكانت كل التجمعات الدولية والإقليمية هي الغائب الأكبر حتى أشدها صلابةً وتماسكًا، واستحضر كثيرون مشهد “يوم يفرُّ المرءُ من أخيه وأُمِّه وأبيه وصاحبته وبَنِيه”، وما يزال الوقت مبكِّرًا لكتابة هذه التجارب المتنوِّعة والحكم عليها والمقارنة بينها .

 إن هذه الورقة ستحاول قراءة المقاربة التونسية، من حيث الرؤية والسياسات والإجراءات والانعكاسات الاقتصادية والاجتماعية، وكذلك رسم احتمالات تطوُّر الأوضاع، وهي تدرك أن الزمن هو زمن التواضع أمام ما هو مركَّب ومعقَّد ومجهول .