تمهيد

مر المجتمع الفلسطيني منذ اتفاقية أوسلو عام 1993، وما لحقه من تأسيس للسلطة الفلسطينية وحتى اليوم، بمحطات وتطورات سياسية واقتصادية واجتماعية كبيرة، أثرت وما زالت تؤثر بأشكال مختلفة على توجهات المجتمع وسلوكه العام، ونظرته للكثير من القضايا، وهو ما انعكس على توجهاته السياسية والوطنية. لذلك فإن الاستمرار في التعامل مع ما يُعتقد أنه مسلمات أو موروثات في سلوك أو موقف المجتمع الفلسطيني تجاه العديد من القضايا أمر يحتاج إلى توقف ومراجعة. فالاستمرار في التعبير عن توجهات المجتمع الفلسطيني ورغباته، استنادا إلى قناعات الأشخاص أو الأحزاب الذاتية دون التدقيق فيما طرأ على بنى المجتمع الفلسطيني وتوجهاته، لن يصب في مصلحة القضية الفلسطينية ولا الحركة الوطنية الفلسطينية، باعتبارها التعبير السياسي عن المجتمع الفلسطيني وتطلعاته الوطنية.

وللوقوف على أهم التحولات التي حدثت في المجتمع الفلسطيني في أماكن تواجده كافة، والتباين في هذه التحولات وانعكاسها على مسار التحرر الوطني والمشروع الوطني الفلسطيني وبنية الفصائل الفلسطينية، تم تشكيل مجموعة عمل من منتدى الشرق للدراسات الاستراتيجية ومركز رؤية للتنمية السياسية تهدف إلى دراسة التحولات في المجتمع الفلسطيني في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة والأراضي المحتلة عام 1948 والشتات، ليقف على حقيقة التحولات في بنية المجتمع الفلسطيني؛ ليضع بين يدي النخب الفلسطينية وصانعي القرار وكل مهتم بالشأن الفلسطيني حقيقة المشهد على المستوى المجتمعي.

في المنهجية

على المستوى العام لقي موضوع التحول الاجتماعي اهتماما لدى علماء الاجتماع، ابتداء من ابن خلدون في القرن الرابع عشر و  مروراً بكارل ماركس (Karl Marx: 1818-1883)، و لويس كوسر (Lewis A. Coser: 1913-2003) و غي روشي (Guy Rocher) وغيرهم. وناقش علماء الاجتماع نطاقاً واسعاً من التعريفات المتعلقة بالتحولات الاجتماعية. فبالنسبة للعديد من علماء الاجتماع، ينطوي التحول الاجتماعي على تغيير جوهري في المجتمع، بغض النظر عن الشكل الذي يأخذه. ويتطلب من الباحثين عن التحول الاجتماعي تحديد العناصر التي تظل ثابتة ومستقرة، باعتبارها المعيار الأساسي الذي تقاس على أساسه درجة التغير عن الماضي. بمعنى أن التحول الاجتماعي يكون ملحوظا زمنيا، ويؤثر بطريقة ما في بنية أو وظيفة التنظيم الاجتماعي لجماعة معينة، ويؤثر على مسار تاريخها.

نظريات التغيير الاجتماعي الكلاسيكية انقسمت إلى مجموعتين: الأولى، النظريات المتعلقة باتجاه التغيير الاجتماعي. وهناك مدرستان لهذه النظرية وهي النظرية التطورية والنظرية الدورية. النظرية الثانية المتعلقة بإحداث التغيير، ضمن مسارين. الأول يفسر التغيير من حيث العوامل الداخلية (داخل المجتمع أو الجماعة نفسها) والتفاعل بينها، المسار الثاني يهتم بالعوامل الخارجية؛ الاقتصادية أو الثقافية أو التاريخية. ورسم أطر نظرية تدمج بين العوامل الداخلية والخارجية. ويمكن الخروج عن الإطار الكلاسيكي في التحليل بنظريات متنوعة، تعطي الاهتمام لعمليات التغيير، سواء كانت قصيرة الأجل، أو تحولات طويلة الأجل.

 يمكن دمج عدة منهجيات في نموذج توضيحي واحد للتغيير الاجتماعي. فيرتبط التفسير الاجتماعي للتغيير بالبنية التي تتغير والعناصر التي تسبب هذا التغيير. يحاول تحليل التغيير الاجتماعي إظهار الظروف والعوامل التي تسبب انتقال المجتمع من حالة إلى أخرى وفق إطار زمني محدد.

التحول في تدفقات المعلومات من خلال الشبكات المحلية والدولية، والتفاعلات بينها في جميع مجالات الحياة؛ الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، أدى إلى خلق تحديات جديدة للعلوم الاجتماعية. والعديد من النظريات التي درست التحولات الاجتماعية اقترنت في افتراضاتها الأساسية بالنماذج الغربية وتحولاتها الاقتصادية والاجتماعية. ولا يزال هناك خصوصية للحالة الفلسطينية في أنماط التنظيم، والنظرية والمنهجية، وأسئلة البحث. يمكن فهم دراسات التحول الاجتماعي في السياق الفلسطيني على أنها تحليل تأثير أبرز مفاصل التحول السياسي في ظرف استعماري، وما نتج عن ذلك من تحولات على الشبكات الاجتماعية، والأفراد، والهياكل السياسية وغيرها. تشمل مناهج البحث الجديدة التركيز على العمليات المحلية؛ وتحليل الأبعاد المحلية وغير المحلية للتغيير، وفق المناهج العلمية العابرة للتخصصات.

اعتمد الاحتلال الإسرائيلي على ثلاث ممارسات لبناء مشروعه. وهي ممارسات العنف، والاستيلاء على الأراضي، والسيطرة على السكان الأصليين. وفي الهيمنة على الفلسطينيين اعتمد الاحتلال على الخطاب والممارسات العنيفة وأشكال المراقبة العنصرية. هذا يتطلب فحص النظريات المهيمنة في دراسة الاستعمار وخاصة المتعلقة بفلسطين، وإعطاء الأولوية لأدوات تحليل بديلة تنطلق من تصور الاحتلال الإسرائيلي كما يُرى من المُحتلين، بمعنى دراسة الديناميكيات المتبادلة في فعل الاحتلال من جهة والنضال والمقاومة والكفاح كممارسة مجتمعية وسياسية من جهة أخرى.

ومن جهة أخرى فإن  تأطير “القضية” الفلسطينية على أنها فريدة من نوعها لا يمنع من فهم الاختلاف والتشابه مع التجارب الاستعمارية والتحررية الأخرى ضمن دراسات المقارنة. وهذا يفتح مجموعة من الأسئلة المتعلقة بالتحولات المرتبطة في ديناميكيات الممارسات الاحتلالية وممارسات النضال والكفاح الفلسطيني من أجل الصمود والبقاء. وما هي التحولات المرتبطة بالعمليات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والمكانية المرتبطة بذلك.

أمثلة دارسات التحولات ومجالاتها

وحتى تكون الصورة أوضح، يمكن طرح بعض الأمثلة في بعض جوانب التحولات في المجتمع الفلسطيني، وأبرزها التحولات في الفاعلين في المجتمع الفلسطيني وأدوارهم. والفاعلون هم مجموعة من الجهات السياسية والاجتماعية والاقتصادية الفاعلة الذين يساهمون في التغيير الاجتماعي، بهدف تعزيز مشاركتهم في التأثير ورسم البرامج والسياسات من المستوى المحلي إلى المستوى الدولي. ومن المهم دراسة الفاعلين ودورهم في التحولات الاجتماعية في الحالة الفلسطينية. وتعتبر نظريات التحولات الاجتماعية، أن الأفعال تتمركز حول مختلف الفاعلين الاجتماعيين، وبالتالي فالتغير يكون نتيجة حدوث فاعلين يقومون في فترات معينة بمجموعة من الأنشطة الاقتصادية أو السياسية التي تساهم في إحداث التغيير الاجتماعي. تناقش نظريات التحولات الاجتماعية المستندة على الفاعلين كإطار تحليلي مستويين أساسيين من التغير الاجتماعي: الأول التغيير الذي يقع على مستوى (الماكرو) أي المجتمع العام الكلي، ومن ثم ينعكس على المستويات الأقل (مايكرو). والثاني يرى بأن التغير يحدث على مستوى (الميكرو) ومن ثم يصعد للمجتمع بتفاصيله العامة.

يتنوع شكل الفاعلين في الحالة الفلسطينية، كالأفراد، والجماعات والفصائل، العائلات، المجتمع المدني، الشباب، المرأة. يرتبط دراسة الفاعلين بتحليل الأدوار (المتغيرة)، والعلاقات بين أدوار الجهات الفاعلة كمؤشر للتغيرات في النظام السياسي والاجتماعي. يتضمن ذلك إنشاء أدوار جديدة، وتفكيك أو تغيير الأدوار القديمة. وتصنيف أنماط التفاعل بين الفاعلين وانعكاس ذلك على كيفية صنع القرارات والسياسات.

مثال آخر في التحولات هو التحول الهيكلي. فمنذ النكبة الفلسطينية عام 1948، يواجه نظامان اجتماعيان مختلفان أحدهما الآخر، وهما نظاما الاحتلال الإسرائيلي والمجتمع الفلسطيني. والنظامان ليسا على قدم المساواة. فقد أخضعت قوى الإكراه والاحتلال الفلسطينيين واستعمرتهم. ليس فقط من خلال القوة الحربية فقط. وإنما من خلال الهياكل والمؤسسات. وهذا ما يعتبره بعض الباحثين، الطريقة المتدرجة للإحلال والاستعمار. فالإدخال المنتظم لنظام اقتصادي وسياسي واجتماعي وثقافي يختلف عن تلك الخاصة بالمجتمع الفلسطيني، وسلخه عن محيطه يعني ضمناً أن الاحتلال يتقدم في تفكيك المجتمع وإدخال أجزاء من هياكله.

في الحالة الفلسطينية من المهم دراسة التغيير الهيكلي الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، وخاصة من خلال المفاصل الهامة في المجتمع الفلسطيني، وكيف أثرت هذه التغييرات على العلاقات الفلسطينية الداخلية والتوجهات والخيارات السياسية. ويمكن اعتبار التغير الهيكلي هو كل تحول يقع في بنائه أو في وظائفه خلال فترة زمنية معينة. وأيضا التحول في التركيب السكاني للمجتمع، أو في بنائه الطبقي، أو الاجتماعي، أو في أنماط العلاقات الاجتماعية التي تؤثر في سلوك الأفراد والجماعات، وما ينعكس على ذلك من التحولات في أدوارهم في أماكن تواجدهم.

ومن الأمثلة الهامة في التحولات في المجتمع الفلسطيني هو التحولات في الهوية، وكيف يرى الفلسطيني نفسه بعد عشرات السنين من الاحتلال. فقد ناقشت العديد من الأدبيات الدور الذي تلعبه الذاكرة الجماعية في ترسيخ الهوية الوطنية الفلسطينية. فالذاكرة الجماعية تشكل ركيزة أساسية للحفاظ على الهوية الوطنية الفلسطينية، ومولدا للنضال الفلسطيني عبر الأجيال. لكن من المهم الوقوف على التحولات في الهوية الجمعية والاجتماعية (Social and Collective Identity) لدى الفلسطينيين، وخاصة بعد 72 عاما من النكبة الفلسطينية، ونشوء مجتمعات فلسطينية خلال الأعوام الماضية في ظروف اقتصادية واجتماعية وسياسية مختلفة. وهذا يدفع لدراسة توجهات الأجيال الجديدة تجاه القضية الفلسطينية والحلول الإقليمية المطروحة. وكيف يؤثر الحيز المكاني والزماني الذي نشؤوا فيه على توجهاتهم وانتماءاتهم. وهذا يفتح نقاشا حول المساحات غير الفصائلية للتعبير عن الهوية الفلسطينية.

التحولات في النخب والبنية السياسية الفلسطينية وبالذات بعد أوسلو، وضمور دور منظمة التحرير، وصعود حركات سياسية خارج منظمة التحرير كحماس والجهاد يصعد سؤالا حول روافد الهوية الفلسطينية. والتطرق للهوية الفلسطينية يدفع الباحثين لدراسة علاقة التحولات في الهوية الجمعية والجماعية وانعكاس ذلك على المنتج الثقافي والفني والأدبي والإعلامي ومناهج التعليم.