تُعيد عودة دونالد ترامب إلى المكتب البيضاوي إحياء نهج “أميركا أولًا” الذي يناقض المقاربة الأكثر تعددية التي تبناها سلفه. خلال فترة ولايته، شدّد بايدن على التحالفات والحلول المتعددة الأطراف. أمّا ترامب، فيظر إلى النظام الدولي من خلال منظور الصفقات، حيث يُقيّم كل علاقة على أساس ما إذا كانت تفيد المصالح الاقتصادية والأمنية للولايات المتحدة. فيما يتعلّق بالشرق الأوسط، يبرز الاختلاف بين الرئيسين على صعيد الأسلوب أكثر من الجوهر. وبالتالي، فإن المنظور الذي يتعامل من خلاله ترامب في المنطقة يُعطي الأولوية للصفقات قصيرة الأجل على حساب الاستراتيجيات الشاملة، ويتجاهل الديناميكيات طويلة الأجل التي شكلت المنطقة تاريخيًا.
لقد حاولت واشنطن مرارًا وتكرارًا الابتعاد عن الشرق الأوسط، لكن حضور المنطقة فرض نفسه عليها. تعتمد السياسة الخارجية لترامب على الصفقات التجارية، حيث يعاير الحلفاء والخصوم وفقًا للتكلفة والإنفاق العسكري والعجز التجاري. ويعني ذلك بالنسبة للمنطقة عدد أقل من الالتزامات المفتوحة، وتركيز أكبر على المكاسب المباشرة، والعزم على استغلال الضمانات الأمنية الأميركية لتحقيق مكاسب مالية أو استراتيجية.
تتمحور حسابات ترامب حول مقياسين: الإنفاق العسكري والعجز التجاري. بنظره، يتعين على البلدان المعتمدة على المظلة الأمنية الأميركية أن تساهم بشكل أكبر في إنفاقها العسكري وأن تدفع أقساط التأمين، أو تخسر الدعم الأميركي. ويتأثر الخليج بشكل خاص بهذه الحسابات، حيث تظل الولايات المتحدة المصدر الأكبر لواردات الأسلحة والمساعدات الأمنية والتدريب العسكري والمناورات العسكرية. كما تنشر الولايات المتحدة قوات كبيرة لحماية الشركاء الغنيين بالنفط. وتبرز المملكة العربية السعودية، باحتياطاتها النفطية الضخمة، كمستهدف أساسي. وتشير تصريحات ترامب حول استخراج عائدات مالية “عادلة” – تصل أحيانًا إلى تريليون دولار – إلى أنه سيدفع الرياض إلى سداد حصتها والحد من أي تحرك يقوّي نفوذ الصين فيها. قد تمنح أجندة التنويع التي تنتهجها المملكة العربية السعودية خيارات لها. لكن يبدو أن ترامب مقتنعًا بأن الضمانات الأمنية الأميركية لا تزال تتمتع بتأثير حاسم على المملكة.
يُعتبر العجز التجاري أحد العوامل المؤثرة في عملية صنع القرار لدى ترامب، إذ يعتبره دليل على “خسارة” الولايات المتحدة على صعيد العلاقات الثنائية. ورغم أن هذا المقياس ينطبق على حلفاء الولايات المتحدة وشركائها في أوروبا وآسيا والأميركيتين بشكل خاص، إلاّ أنّه يساعد على فهم عقلية ترامب المتمحورة حول الصفقات تجاه دول الشرق الأوسط. ومع سعيه إلى زيادة إنتاج النفط المحلي (من خلال جملته الشهيرة “احفر، يا حبيبي، احفر”) فإن التوتر مع منتجي النفط في الخليج قد يشتد. وقد يلجأ ترامب إلى استخدام هذه الورقة “للضغط”، من خلال التهديد بفرض رسوم جمركية أو إعادة النظر في الضمانات الأمنية من أجل خفض أسعار النفط.
وعلى الصعيد الجيوسياسي، من المتوقع أن ترتكز سياسة ترامب الإقليمية على ممارسة أقصى قدر من الضغط على إيران وتطبيع العلاقات مع إسرائيل في العالم العربي. ويُنظر إلى العاملين كركيزتين للاستقرار في المنطقة وسبيل للحد من التدخل الأميركي على نطاق أوسع.
تمثّل اتفاقيات إبراهيم، التي اعتبرها ترامب طريقًا مختصرًا لحل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، مخططه لتوسيع نطاق علاقات إسرائيل في الشرق الأوسط. ورغم أن بايدن أيّد هذه الرؤية، إلا أن جهوده تعطلت بسبب الحرب على غزة. سيسعى ترامب إلى تحقيق نتائج ملموسة، خاصة في ظل وقف إطلاق النار الأخير بين حماس وإسرائيل، والذي تم التوصل إليه قبل توليه منصبه مباشرة. يخدم كل ما سبق ما يسعى ترامب إلى تكريسه، أي إبرازه كـ “صانع الصفقات“. سيحاول ترامب تكريس وقف إطلاق النار وإعادة إعمار غزة. لكن لا يبدو أن تحقيق سلام مستدام سيحصل في المنطقة، كون فريق ترامب لا يقدّم مسارًا شاملًا لحل الدولتين وإعادة إعمار غزة. كما قد تؤدّي طروحاته لنقل الفلسطينيين إلى أماكن أخرى إلى المزيد من عدم الاستقرار لأنها تتجاهل الروابط العميقة بين الناس وأرضهم، بالإضافة إلى رفض الدول المجاورة استقبال الفلسطينيين. يبدو أن الهدف الرئيسي لإدارة ترامب هو تعزيز اندماج إسرائيل في المنطقة، وليس بالضرورة التوصل إلى حل شامل للصراع.
في ظل رئاسة ترامب، سوف تكون السياسة الأميركية تجاه إيران مدفوعة بعوامل الدفع والجذب. على الصعيد الرسمي، ستحاول الإدارة الأمريكية الضغط على طهران من خلال الإشارة إلى قدراتها النووية المحتملة والتهديدات الإقليمية التي قد تنتج عنها. وتدعم إسرائيل هذه الأجندة بقوّة. ويزيد الأمور تعقيدًا العداء الشخصي الذي يكنّه ترامب حيال إيران، والتي يزعم أنّها حاولت اغتياله. ونظرًا للنهج الشخصاني الذي يتبناه ترامب، قد تصبح هذه المسألة قضية شخصية. في المقابل، قد تقلّل التطورات الإقليمية الأخيرة الحاجة إلى التدخلات الأميركية. وتُشير التقارير إلى تقليص القدرة العملياتية لحزب الله نتيجة الحملة الإسرائيلية عليه. كذلك، أدى سقوط الأسد إلى تقويض طموحات إيران الإقليمية. أخيرًا، ثمة تقديرات بأن الضربات الإسرائيلية قد أضعفت الدفاعات الجوية الإيرانية. قد تحد هذه الانتكاسات من النفوذ الإيراني بما يكفي لطمأنة شركاء الولايات المتحدة، مثل المملكة العربية السعودية وإسرائيل. لكنّها لن تغير من جهوزية ترامب في تكثيف الضغط على نظام يرى أنه يشكّل تهديدًا مباشرًا للمصالح الأميركية، وربّما لشخصه أيضًا.
وتحتل تركيا، الواقعة على البحر الأسود وفي الشرق الأوسط، مكانة كبيرة في تفكير ترامب، الذي يُقدر العلاقات الشخصية. وقد تؤدي علاقة تراب الشخصية بالرئيس رجب طيب أردوغان إلى التعاون بين الطرفين في شمال سوريا. ويتماشى انسحاب القوات الأميركية من هناك مع رغبة ترامب في الحد من التدخلات الأجنبية. كشرط لهذا الانسحاب، ستقدم تركيا ضمانات للولايات المتحدة حيال احتوائها لبقايا داعش والحد من نفوذ إيران. وقد يسعى ترامب أيضًا إلى الحصول على دعم أردوغان لوقف إطلاق النار المحتمل في أوكرانيا، نظرًا للدور المحوري الذي تلعبه أنقرة على هذا الصعيد. لا تعاني الولايات المتحدة من عجز تجاري مع تركيا، التي زادت ميزانيتها الدفاعية بشكل كبير. وقد تؤدي هذه العوامل إلى تخفيف الضغوط على صعيد العلاقات الثنائية بين البلدين.
لقد تفاجأ صانعو السياسات في الولايات المتحدة من سقوط نظام الأسد، ما أدى إلى حالة من عدم اليقين على صعيد استراتيجية واشنطن تجاه سوريا. لكن روسيا والصين تأثّرتا بشكل أكبر. وكشف انهيار النظام عن حدود نفوذ موسكو الإقليمي. كما سلّط الضوء على قراءة بكين الخاطئة لديناميكيات الشرق الأوسط. تجدر الإشارة إلى أنّ شي جين بينغ استضاف الأسد في بكين لأول مرة قبل عام واحد فقط من سقوط نظامه. ورغم الغموض الذي يلفّ السياسة الأميركية تجاه سوريا، ألمح وزير الخارجية ماركو روبيو إلى الدور الذي تلعبه الولايات المتحدة أثناء المرحلة الانتقالية في سوريا، معترفًا بأن تحقيق الاستقرار في الأراضي السورية أمر أساسي للحد من نفوذ طهران الإقليمي ومنع روسيا من لعب دور فيها.
يعتمد ترامب نهجًا يميل إلى تحقيق مكاسب قصيرة الأجل من الصفقات الثنائية بدلاً من إقامة تحالفات دائمة. في حال عبّر الشركاء عن عدم رغبتهم في تحمل تكاليف تواجد القوات الأميركية أو التوافق مع أهداف الإدارة الأمريكية، فقد ينخفض عدد القوات في تلك الدول بموازاة زيادة الضغوط التجارية والعقوبات عليها. وسيؤدي ذلك إلى ترك القضايا البنيوية الأعمق دون حل. ولن يختلف نهج ترامب تجاه الشرق الأوسط بشكل كبير عن مقاربة بايدن.
في النهاية، تتطلب التحديات الأمنية والاقتصادية والمجتمعية المتشابكة في الشرق الأوسط أكثر من مجرد سجل حسابات للتكاليف والفوائد. وسيتحدد إرث ترامب في ولايته الثانية بناءً على نتائج هذا المنظور القائم على الصفقات الذي قد يؤدي إلى استقرار حقيقي أو إلى إعادة ترتيب الصراعات القديمة، في ظل مخاطر عالية وهامشًا ضئيلًا للخطأ.