المقدمة
حتى كتابة هذه السطور هناك 15 ضحية جرّاء الأحداث الجارية في مخيم جنين؛ من بينهم ستة من عناصر الأمن من مختلف مرتبات أجهزة أمن السلطة الفلسطينية، وثلاثة أطفال وصحفية “شذا الصباغ” وعنصر من كتيبة جنين مطلوب لقوات الاحتلال “يزيد جعايصة”.
هذه الأحداث كانت قد شهدت تصاعدا ملحوظا أدّى إلى الوصول إلى مرحلة خطرة جدا، منذ 14 كانون أول-ديسمبر 2024 بإعلان المتحدث باسم قوى الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية العميد أنور رجب عن بدء المرحلة ما قبل الأخيرة من عملية “حماية وطن” والتي قال أنها تستهدف فرض النظام والقانون واستعادة مخيم جنين من سطوة “الخارجين عن القانون”.
ومنذ ذلك الحين ظل التعامل الرسمي للسلطة الفلسطينية مع الملف أمنيًا عسكريًا، باستثناء تصريح أدلى به وزير الداخلية في السلطة الفلسطينية “زياد هب الريح” حول ضرورة الالتزام ببرنامج منظمة التحرير في هذه المرحلة، وهذا ما أثار غضب متحدثين باسم “كتيبة جنين” بأن هناك ازدواجية في الطرح والتبرير الذي تقدمه السلطة لحملتها الأمنية في مخيم جنين، من كونه حقيقة سياسيًا، وليس ملاحقة للخارجين عن القانون، كما جاء على لسان أحد عناصر الكتيبة على مواقع التواصل.
ولا يُعرف في تاريخ العلاقات الفلسطينية الداخلية أزمة كهذه من حيث تنوع المنخرطين فيها وطول أمدها نسبيًا، والظرف السياسي والإقليمي الذي يرافقها.
وسنحاول هنا تسليط الضوء على أهم العوامل والمحاور التي لعبت وتلعب دورًا في هذه الأزمة الخطيرة التي صار يُخشى من تمددها ومن تداعياتها الخطيرة على الشعب الفلسطيني، خاصة في الضفة الغربية، مع وجود تأكيد أن إسرائيل وحدها هي المستفيد من هذه الأزمة وهذا الاقتتال، وهي عبر إعلامها وتصريحات بعض مسؤوليها، تبث الفتن وتدق الأسافين كما لا يخفى على أحد.
مخيم جنين حاضنة للمقاومة وعلاقات مركبة
يحظى مخيم جنين برمزية كبيرة في وجدان الشعب الفلسطيني عموما، وفي وجدان كثير من جماهير العرب والمسلمين؛ وهذا تجلّى في صمود ومقاومة المخيم لاجتياح أبريل/ نيسان 2002 حيث قامت قوات الاحتلال الإسرائيلي بأمر من رئيس وزراء إسرائيل وقتها شارون بعملية “السور الواقي” والتي تمثلت أولا بمحاصرة الرئيس عرفات في مقره في رام الله وتدمير معظم مباني المقر، واجتياح شامل لكل مناطق الضفة الغربية المصنفة (أ) لأول مرة منذ تطبيق اتفاق أوسلو.فكان أن تصدى المقاومون في مخيم جنين للاجتياح وقاتلوا حوالي أسبوعين ولم تتمكن قوات الاحتلال من إخضاع المخيم إلا باستخدام الجرافات، التي هدمت مئات المنازل، والطيران المروحي والاستعانة بعدد كبير من قواتها من ضمنهم قوات النخبة، وهو ما أدى إلى مقتل وجرح عشرات الجنود الإسرائيليين واستشهاد عشرات المواطنين، وهو ما لم يحصل آنذاك في أي منطقة اجتاحتها القوات الإسرائيلية، وهذا جعل مخيم جنين أيقونة للصمود والمقاومة في وجدان الفلسطينيين ومنهم بالتأكيد أهالي المخيم ومحيطه، وللتنويه فإن مخيم جنين مساحته كيلو متر مربع ملتصقا بغرب مدينة جنين، ولكن له امتداد اجتماعي كبير لا يوجد في أي منطقة في الضفة الغربية، حيث أن من تتحسن أحوالهم المادية نسبيا يشترون أو يبنون بيوتا في أحيائه المحيطة أو في أحياء بعيدة أو في قرى مجاورة، وتظل لهم ارتباطات كبيرة مع المخيم.وجميع الفصائل والمكونات تتفاخر بدورها في معركة مخيم جنين؛ فالأجهزة الأمنية الفلسطينية تفخر بمشاركة عنصرها وضباطها في تلك المعركة خاصة الشهيد (يوسف ريحان-أبو جندل) وكذلك حركة الجهاد الإسلامي التي برز منها الشهيد “محمود طوالبة” وحركة حماس التي برز منها الشهيد “محمود أبو حلوة” ضمن كوكبة شهداء اختلط فيها دم عنصر الأمن بدم ابن حماس والجهاد بدم المواطن العادي.
هذا جعل مخيم جنين إضافة لكونه أيقونة نضالية يشكل حالة وحدة ميدانية ربما غير مسبوقة في الضفة الغربية؛ ورغم أحداث الانقسام الفلسطيني في قطاع غزة في 2007 وما تلاها، حافظ مخيم جنين على علاقات داخلية فيها ولو الحد الأدنى من الوحدة والتعاون، وكان هناك معالجات سريعة لأية خلافات أو توتر لأي سبب كان. وقد شهد المخيم حالة هدوء نسبي بضع سنوات، ولكن بيئة المخيم وتركيبته الاجتماعية ظلت تفخر بالمقاومة، وخاصة أن جيلا كبر وترعرع على سيرة الشهداء والأسرى وذكريات الاجتياح التي نقلها إليه أهله وأصدقاؤه. في صيف 2021 أعلنت مجموعة من الشبان أبرزهم الشهيد (جميل العموري) عن تشكيل جسم مقاوم مسلح حمل اسم (كتيبة جنين) للتصدي لقوات الاحتلال عند اقتحامها للمدينة والمخيم ولمهاجمة مواقع الجيش والمستوطنين.
والكتيبة حملت فكرة تجاوز الانتماء الفصائلي بحيث تضم الأذرع المسلحة لمختلف الفصائل (سرايا القدس وكتائب القسام وكتائب (شهداء الأقصى). وكان ذلك بالتوازي مع تأسيس تشكيل “عرين الأسود” في مدينة نابلس، والذي لم يستمر بسبب اختلاف البنية الاجتماعية والسياسية في نابلس عن نظيرتها في جنين. وصار مخيم جنين ملاذًا آمنًا نسبيًا لمقاومين من مناطق مجاورة وحتى من محافظات أخرى مثل نابلس والخليل وفتح أهالي المخيم بيوتهم للمقاومين من المخيم ومن خارجه وتقاسموا معهم الطعام والسكن بلا تردد، مثلما فعلوا في 2002. وبالتأكيد هذا يتعارض مع خط السلطة الفلسطينية الرسمي، الذي يرفض صراحة انتهاج المقاومة المسلحة، ويرى أنها غير ممكنة في ظل اختلال كبير في موازين القوى، وأيضا يتناقض مع فكرة السلطة الفلسطينية التي ترى أن السلاح الشرعي الوحيد هو سلاح قواها الأمنية، والهاجس الذي يراود السلطة من تكرار تجربة الاقتتال في غزة وأحداث الانقسام. ومع ذلك كان الاحتكاك بين السلطة وكتيبة جنين منضبطًا ومحدودًا زمنيًا وميدانيًا، وقد أعلنت كتيبة جنين مرارًا أن بنادقها موجهة فقط نحو الاحتلال الإسرائيلي.
ومنذ تأسيس الكتيبة وقعت عدة مناوشات واشتباكات بينها وبين قوى السلطة الأمنية، بسبب اعتقال السلطة لنشطاء أو محاولة السلطة منع مسيرات فيها شبان مسلحون من السير في شوارع المدينة، ولكن الأمور لم تتفاقم إلى الحد الذي وصلت إليه اليوم؛ ذلك لتدخل وسطاء من بينهم قادة مؤثرين في حركة فتح (اعتقلتهم سلطات الاحتلال) وبسبب الاجتياحات والاقتحامات التي نفذتها قوات الاحتلال لمدينة ومخيم جنين والتي كانت تسفر عن ارتقاء العديد من الشهداء دومًا.
ارتقاء الشهداء ولّد حالة من الرغبة في الثأر وأعاد للمخيم ذكريات شهداء آخرين، حيث أن عدة شهداء شبان حملوا أسماء شهداء أقارب لهم من الدرجة الثانية(عم-ابن أخ…إلخ). وهذا أعاد المخيم إلى مربع تصدّر حالة المقاومة في الضفة الغربية خاصة مع تراجع أو تفكك عرين الأسود، وتولّد شعور بإمكانية نقل النموذج ولو بالإيحاء أو المحاكاة إلى مناطق أخرى، وهو ما لم يحصل حتى الآن.
السابع من أكتوبر مرحلة جديدة
في صيف 2023 شنت قوات الاحتلال حملة على مدينة ومخيم جنين أطلقت عليها اسم “البيت والحديقة” أسفرت عن استشهاد عشرة مواطنين ما بين مقاومين ومواطنين عاديين، واستمرت العملية يومين ونتج عنها كذلك تدمير وتخريب وهدم عشرات المنازل في المخيم، وعلى إثر ذلك زار الرئيس عباس جنين والمخيم وألقى كلمة قصيرة وأعلن عن إعادة إعمار ما دمرته قوات الاحتلال، وأعلنت جهات أخرى مثل الإمارات والجزائر عن نيتها تقديم دعم مالي لذات الهدف.
واستمرت قوات الاحتلال في الاقتحام، مستعينة غالبا بقوات المستعربين التي تدخل متنكرة بزي مدني أو بزي عسكري باستخدام سيارات مدنية للقتل أو الاعتقال ثم تتبعها قوات مؤللة من الجيبات العسكرية والجرافات. ومع عملية “طوفان الأقصى” في السابع من تشرين أول-أكتوبر 2023 دخلت الضفة الغربية عموما وجنين خصوصا مرحلة جديدة حيث وسعت قوات الاحتلال من عمليات الاقتحام والقصف من الجو باستخدام المسيرات أو الطيران الحربي مما أسفر عن ارتقاء العديد من المقاومين والمواطنين العاديين.
أما على صعيد العلاقات مع السلطة الفلسطينية فقد ازداد التوتر بينها وبين كتيبة جنين ووقعت عدة أحداث واشتباكات كان أعنفها-قبل ما يجري حاليا- ليلة مجزرة المستشفى المعمداني في غزة في 17 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 حيث قتل مواطن وطفلة جرّاء الاشتباكات ولكن تم احتواء الأمر بعدما فضلت عشيرة الضحيتين التسامح خاصة في ظل وضع القائم في غزة.
ولكن النار ظلت تحت الرماد وقد وصلت ذروة التوتر الذي قاد إلى ما يجري حاليًا بعد قيام الأجهزة الأمنية باعتقال شابين من مخيم جنين (عماد أبو الهيجا شقيق شهيد وابن أسير محكوم مؤبدات وإبراهيم الطوباسي شقيق شهيدين وأسيرين أحدهما محكوم بالمؤبدات أيضا) بدعوى تلقيهم أموالا لدعم المقاومة أوائل ديسمبر/كانون أول الماضي 2024.
الكتيبة قالت أن الأموال لدعم أسر الشهداء والعائلات المتضررة، وطالبت بالإفراج عن المعتقلين واستعادة الأموال وهو ما رفضته السلطة قطعيًا، فقام عناصر من الكتيبة باحتجاز سيارتين “تندر” تتبعان للسلطة وسيروا مسيرة مسلحة في المخيم باستخدام السيارتين في ساحة المخيم، وهو ما استفز منصات الإعلام العبري التي طالبت بقصف المسلحين، واستنفرت السلطة وأحضرت لقواتها تعزيزات من رام الله وغيرها.
استخدمت السلطة لغة جديدة-قديمة وهي أنها تريد تفادي وقوع ما جرى من حرب إسرائيلية مدمرة على غزة في الضفة الغربية وبالذات جنين، وهذا يتطلب تسليم المطلوبين أنفسهم وسحب سلاحهم وتفكيك العبوات الناسفة المزروعة في المخيم ومحيطه والتي يتم عادة تفجيرها في آليات الاحتلال عند وقوع اقتحام. والكتيبة رفضت ذلك ولكن المتحدثين باسمها قالوا أن لديهم استعدادًا للتوصل إلى حل وسط ولكن أصرت السلطة على موقفها.
عملية بأبعاد مختلفة
حتى الآن لم يتم إجراء تحقيق جدي في أية حادثة أدت إلى مقتل أي شخص، ولكن المتحدث باسم قوى الأمن أعلن مسؤولية تلك القوات عن مقتل الفتى ربحي الشلبي بعد نشر فيديو يوثق مقتله بلا سبب ودون تشكيل خطر. وترافقت الحملة الأمنية مع حملة إعلامية متنوعة تهاجم الكتيبة وتصر على استخدام لفظ “الخارجين عن القانون” وتحملهم المسؤولية عن أي حدث يجري(حرق منازل أو مقتل مواطنين أو تخريب محولات كهرباء).
ومن تجليات الحرب الإعلامية أغلقت السلطة الفلسطينية مكتب قناة الجزيرة ومنعتها من العمل في الضفة الغربية بعد حملة تحريض واسعة شنتها مع قيادات في حركة فتح ضد تغطية القناة للأحداث في جنين. وقد تحولت الاحتفالات بانطلاقة حركة فتح في كل مناطق الضفة الغربية إلى مناسبة لتأييد العملية العسكرية في مخيم جنين في سابقة قد تكون الأولى في تاريخ مهرجانات انطلاقة الحركة منذ انطلاقتها قبل خمسين عامًا.
وجرى اتهام الكتيبة في مخيم جنين بتهم متناقضة فتارة يقال دواعش وتارة مرتزقة إيران وقد لوحظ التركيز على الاتهام بتبعية إيران بطريقة مكثفة أكثر من أي وقت مضى، ولعل هذا مرده ما يتردد عن نوايا عدوانية من رئيس الولايات المتحدة ترمب تجاه إيران.
وقد نفى متحدثون باسم الكتيبة أن يكون لديهم أي نوع من التشيع أو وجود أي أعلام لإيران أو مظاهر مما يقال عنهم، وأنهم إذا تلقوا دعمًا من إيران أو غيرها فهو لمقاومة الاحتلال لا تماشيًا مع أجندات وغير ذلك. الكتيبة ومؤيدوها عبر وسائل الإعلام وعبر تطبيقات واتساب وتلغرام يؤكدون أنهم يرفضون الاستسلام وأنهم حتى الآن لم يستخدموا كل ما بحوزتهم من قوة، وأنهم في محاور اشتباكات كثيرة كان يمكنهم إيقاع قتلى في صفوف قوات السلطة ولكنهم يتجنبون ذلك حفاظًا على الدم الفلسطيني، وقد بثوا مقاطع فيديو لتفجيرات بجانب عربات السلطة وأنه كان يمكنهم تفجيرها ولكنهم تجنبوا ذلك، وأعلنت الكتيبة عبر مواقع التواصل عدم مسئوليتها عن مقتل أي من العساكر الستة في الأحداث.
ونقلت بعض وسائل الإعلام أن العملية العسكرية تحظى بتأييد عدة دول عربية من بينها مصر والأردن والسعودية والإمارات والبحرين، ولم يصدر عن هذه الدول تأكيد أو نفي. ونقل موقع “ميدل إيست آي” في 6 يناير/ كانون الثاني2025 عن مصادر أمريكية ومسؤول في السلطة عن طلب تقدمت به السلطة مع بدء عمليتها في جنين للإدارة الأمريكية بدعم قيمته 680 مليون دولار يشمل تدريب أفرادها وتزويدها بالذخيرة والمعدات واشتكت من عدم استجابة طلبها. وحتى الآن لم يصدر عن أية دولة عربية أو غربية تصريح أو موقف تجاه العملية في مخيم جنين ولكن إسرائيل تضخ كثيرًا من التصريحات والأخبار من بينها أن هناك مهلة لم تحددها وتتركها للإشاعات للسلطة لإنجاز الأهداف المعلنة من العملية وتفكيك بنية المقاومة، وتارة تقول أنها راضية عن الإنجازات التي تحققها العملية، وتارة تقول العكس، كما أنها أعربت عن مخاوفها بعد عرض كتيبة جنين لقاذف آر بي جي قالت أنها استولت عليه من عناصر أجهزة أمن السلطة التي نفت امتلاكها لهذا النوع من السلاح وأن ما عرض هو مجسم كرتوني.
إسرائيل تراقب عن كثب ما يجري وطائراتها المسيرة لا تكاد تفارق أجواء جنين والمخيم ومنذ بدء العملية تتجنب التوغل في المدينة أو المخيم، وبالتأكيد فإن انتقال مئات من عناصر الأجهزة الأمنية بعربات مصفحة من رام الله ونابلس وأريحا وغيرها إلى جنين وبأسلحة وعتاد تم بعد تنسيق مسبق.
الجانب الميداني والعملياتي
منذ الإعلان عن المرحلة الحالية من العملية، حاصرت قوات الأمن التابعة للسلطة معظم مداخل مخيم جنين، وحولت بعض المباني حول المخيم إلى ثكنات عسكرية يتمركز فيها قناصة، ونشرت حواجز في مناطق قريبة منه ونفذت عمليات اعتقال في بعض القرى والبلدات المجاورة مثل سيلة الحارثية واليامون ومدينة جنين، وحاولت التوغل داخل المخيم ولكنها ووجهت بمقاومة عنيفة فعادت إلى مواقعها، وهي غالبا بيوت وبنايات على أطراف المخيم.
ويتكرر هذا الأمر تقريبًا يوميًا حيث تحاول هذه القوات التوغل خاصة من محور (شارع مهيوب) جنوب المخيم ومحور الغبس القريب ومحور قريب من مستشفى جنين الذي صار أشبه بثكنة عسكرية. وتشتد الاشتباكات وتخبو بين الفينة والأخرى يوميًا، ولا يعرف عدد المصابين من هذه القوات حيث لا يوجد إعلان والأمر متروك لتخمينات وإشاعات.
وتقوم هذه القوات باعتقال بعض الجرحى من المستشفيات والعيادات وتضع حراسة على آخرين، وقد اعتقل أحد المصابين أثناء تلقيه العلاج “نور هصيص من جنين” في مخيم بلاطة قرب نابلس. بعض الحواجز تقوم بالتفتيش في جوالات الشبان وأحيانًا بعض النساء بحثًا عن أية مواد أو صور تتعلق بما يجري في المخيم. واعتقل كثير من الشبان إلى جانب فتاة منذ بدء العملية، ولم يفرج عنهم حتى هذه الآن، ومن بينهم مسؤول التمريض في قسم طوارئ المستشفى الحكومي وعاملون في الإسعاف وصحفيون. ولكن المطلوبين الحقيقيين الذين شنت العملية أساسًا من أجلهم يتمترسون داخل المخيم ويبثون مقاطع فيديو تتضمن رسائل تحدي واستعراضات وأحيانًا فكاهات كعلامة على عدم الاكتراث، عبر منصات الإنترنت، وحتى الآن كل محاولات التوغل لتصفيتهم أو اعتقالهم باءت بالفشل.
وقد كان يبدو أن هدف الحصار والاشتباكات هو استنزاف ذخيرة عناصر الكتيبة، تمهيدًا لاقتحام القوات، ولكنهم أكدوا أن الكتيبة لديها ذخيرة تكفيها زمنًا طويلًا، ويبدو أن بحوزة قوات السلطة كمية كبيرة من الذخائر المتنوعة وقذائف الأنيرجا كما يظهر من كثافة الاشتباكات واستمرارها. هذه الحالة أدت لاحتراق كثير من بيوت أهالي المخيم، مما اضطرار عدد كبير منهم لمغادرة بيوتهم واستئجار بيوت في مناطق بعيدة عن المخيم، نظرًا للخطر المحيط بهم، ولأن خدمات المياه والكهرباء مقطوعة عن معظم منازل أحياء المخيم، وقد علقت الأونروا خدماتها في المخيم وهو ما يعني عدم فتح العيادة الصحية التي تلقت عددا لا يكاد يحصى من الرصاص والتي يرتادها المصابون بأمراض مزمنة أو من لا يملك تكلفة العلاج على حسابه الشخصي وهم كثيرون، وتعطلت الدراسة في مدارس الأونروا ومدارس حكومية قريبة منذ بدء الأحداث، وعدم إزالة أكوام النفايات التي لولا أن الفصل شتاء لتسببت بانتشار الأوبئة. مقاتلو الكتيبة منذ مدة طويلة نسبيًا يواجهون اقتحامات الجيش الإسرائيلي وصارت لديهم خبرة كبيرة في المناورة والتخفي وبالطبع قدرات وإمكانيات القتال لدى قوات أمن السلطة أقل بكثير مما لدى الجيش الإسرائيلي.
توقيت العملية الحرج وتفسيره
هذه العملية في مخيم جنين جاءت في وقت حرج وحساس جدًا؛ فمن جهة تستمر الإبادة الجماعية التي تشنها إسرائيل في قطاع غزة منذ حوالي 15 شهرًا والتي أسفرت عن عدد غير مسبوق من الشهداء والجرحى والمشردين وتدمير كافة مرافق الحياة هناك. وتأتي كذلك في ظل وجود حكومة يمينية إسرائيلية لا تظهر أي إيجابية في التعامل مع السلطة سياسيًا، بل تسير في إجراءات تستهدف ضم أجزاء واسعة من الضفة الغربية، وفي ظل فلتان قطعان المستوطنين في مختلف مناطق الضفة الغربية الذين يحرقون البيوت والمزروعات ويعتدون بإطلاق النار والضرب المبرح على المواطنين؛ وهذه مسألة كانت حاضرة بكثافة في إبداء الغضب والاشمئزاز في مخيم جنين، الذي يقول أهله سواء من هو مع الكتيبة أو له تحفظات تجاهها أن العساكر الذين يشنون حملة على المخيم جاءوا من مناطق تتعرض لعدوان من المستوطنين وكان الأولى بهم مواجهة تلك الاعتداءات بدل المجيء إلى مخيم جنين. وكل هذا بالتوازي مع اقتحامات يومية لمعظم التجمعات السكانية في الضفة وما يتخللها من قتل وتدمير واعتقالات حتى على بعد بضعة كيلومترات من مسرح العملية في المخيم، ما جعل المشهد مأساويًا تمامًا. حيث تعاني السلطة من أزمة مالية خانقة جرّاء مماطلة الحكومة الإسرائيلية بتسليم أموال الضرائب (المقاصة) وتراجع الدعم العربي والدولي للسلطة إلى الحد الأدنى مما جعلها غير قادرة على دفع رواتب موظفيها إلا جزئيًا وبعد انتظار طويل.
وجاءت العملية بعد بضعة أيام من سقوط نظام الأسد في سوريا وهو ما كان يفترض أن يكون دافعًا للبعد عن انتهاج الحلول الأمنية والعسكرية التي كانت السبب الأهم في سقوط النظام. فما الذي دفع السلطة إلى القيام بهذه العملية العسكرية في ظل هذه الأوضاع والظروف؟
هناك صوت يتردد كثيرًا يقول بأن السلطة تريد أن تعيد بسط هيمنتها على قطاع غزة، وأنها أرادت إثبات قدرتها على ذلك عبر هذه العملية الواسعة في مخيم جنين، ولكن مع وجود قناعة واسعة بهذا التفسير حتى لدى أوساط في كتيبة جنين، يبدو هذا غير واقعي، فحتى لو تمكنت السلطة من هزيمة كتيبة جنين، فإن غزة حالة مختلفة نظرًا لانتشار الأسلحة الثقيلة والمتوسطة والخفيفة فيها حتى بعدما لحق بها من دمار واستشهاد عدد كبير من مقاوميها، ولأن إسرائيل أعلنت صراحة أنها غير معنية بسيناريو يعيد حكم السلطة إلى غزة، ولا يوجد معارضة أمريكية لهذه المقاربة الإسرائيلية.
هناك أمر آخر بدأت بعض وسائل الإعلام تسربه؛ وهو أن الإمارات تطالب بما تسميه (إصلاحات) في نظام السلطة الحالي يحتوي تغييرًا جذريًا في بنيتها وهيكلها، وذلك في ظل وجود توجه عند ترمب يتماهى مع ذلك أو ربما هو من أوحى بهذا إلى الإمارات نظرًا لكونها أحد محاور اتفاقيات أبراهام التي رعاها وأشرف على توقيعها، وعليه تريد السلطة التي غضبت من الطرح الإماراتي، أن تثبت لترمب أنها قادرة على السيطرة وإخماد بؤر المقاومة وبدأت بالمنطقة الأكثر تعقيدًا أي مخيم جنين لأن ما بعدها سيكون سهلًا. وهناك من يرى أن الأمر متعلق بصراعات بين الأقطاب ومراكز القوى داخل السلطة وحركة فتح، وهناك رأي يجمع بين كل ما سبق إضافة إلى تهديدات إسرائيلية واضحة للسلطة تحت الطاولة بأنها ستقوم بهجوم لن يستثني السلطة ومقراتها وعساكرها كما حدث في 2002 في حال لم تقم السلطة بوأد الظاهرة الموجودة في شمال الضفة عمومًا وجنين خصوصًا، أيا يكن التفسير فإن التوقيت سيء جدًا، ولن تجني السلطة أي ثمن سياسي، أو حتى مالي من هذه العملية.
مواقف الأطراف المختلفة
إسرائيل:
هي المستفيد الأكبر من هذه العملية بالدرجة الأولى فهي ترى أن الفلسطيني الجيد هو الفلسطيني الميت، وعليه فليقتل الفلسطينيون بعضهم بعضًا ولتشرب هي نخب هذه الفتنة. وهي بتصريحاتها ومواقفها المتناقضة عن العملية وضعت السلطة في موقف حرج للغاية وجعلتها تفقد رصيدًا شعبيًا ضعيفًا أصلًا، وقد استطاعت أن تفصل هذه المرة تمامًا بين مقاربة السلطة وفق اتفاقيات أوسلو التي تقوم على جعل الإجراء الأمني رديفًا للتقدم في ملف السياسة والمفاوضات، وهذا غير قائم منذ توقف المفاوضات بعد رحيل أولمرت عن رئاسة الوزراء في إسرائيل، ولكنه الآن واضح بصورة أكثر فجاجة. وطائرات الجيش الإسرائيلي المسيرة لا تفارق أجواء المدينة والمخيم مما يتيح لها جمع ما تحتاجه من معلومات عندما تقرر هي القيام بعملية عسكرية تستهدف المقاومة.
الولايات المتحدة وأوروبا والدول العربية:
لم يصدر موقف علني عن واشنطن تجاه العملية في جنين، ولكن الولايات المتحدة ليست غائبة عن المشهد بحكم العلاقات مع السلطة وإسرائيل، وحضور الجانب الأمريكي القوي في جانب التنسيق الأمني بين إسرائيل والسلطة، ولم يصدر أي موقف من الدول الأوروبية المختلفة، أما الدول العربية فإنها عمومًا لا تريد للمقاومة أن تتصاعد فهي محرجة مما يجري في غزة وظهر عجزها أو تواطؤها فهي بالتأكيد معنية بنجاح العملية حتى ولو لم يصدر عنها حتى الآن موقف داعم لها علنا.
حركة فتح والسلطة:
أصدرت حركة فتح بيانًا هاجمت فيه حركة حماس وبأنها لن تسمح لها بإعادة مغامراتها في الضفة، وكررت تهمة تبعية حماس لإيران. وقد لوحظ هذه المرة أن حركة فتح تماهت تمامًا مع موقف السلطة وظهرت كجزء منها، صحيح أن هذا معروف ولكن كان هناك هامش لحركة فتح تستخدم فيه لغة مختلفة عن لغة السلطة للحفاظ على تأييد شعبي ولو قليلًا، ومنذ عملية طوفان الأقصى فإن معظم الأصوات في حركة فتح ومنصاتها الإعلامية تحمّل حركة حماس المسؤولية عما لحق بغزة من مجازر ودمار، بحجة أن عمليتها أعطت إسرائيل الذريعة، ولكن كان هناك استثناءات ولو قليلة، ولكن في ما يخص العملية العسكرية في مخيم جنين كل الأصوات والمنصات الإعلامية التابعة لفتح والسلطة ومن يتحدثون للإعلام منهما يتبنون ذات الخطاب الذي يرى أن العملية ضد خارجين عن القانون، ومن حملة أجندات مشبوهة وتبعية لإيران، وضرورة لمنع تكرار سيناريو غزة وغير ذلك من ذات الأفكار التي ترى في المقاومة المسلحة شرّا لا بد من الخلاص منه. والسلطة وفتح تنظران إلى العملية كمعركة صفرية لا أزمة يمكن الوصول لحلول وسط لتجاوزها، وهذا يفسر فشل كل المبادرات التي طرحت لحلها والتي رعتها تجمعات عشائرية أو فعاليات شعبية، فالسلطة ترى أن تراجعها عن تحقيق هدف العملية نزع سلاح المقاومين وتسليم أنفسهم لها يعني فقدانها السيطرة على مناطق أخرى تباعًا، وتحجج إسرائيل بذلك للمضي في إجراءات أحادية، وظهورها ضعيفة أمام إدارة ترمب التي لم تكن ودودة مع السلطة سابقًا، وأنها في حال نجحت في تحقيق هدفها سيكون سهلًا الانتقال لتنفيذ عمليات أقل كلفة في مناطق أخرى. ويبدو حتى الآن أن الحل العسكري صعب التحقيق والكتيبة تقول أنها تقبل أي حل شريطة عدم نزع سلاحها مما يجعل الأمور عالقة في نفس الحلقة.
الفصائل الفلسطينية:
باستثناء حركة فتح أعلنت الفصائل الفلسطينية الوطنية واليسارية والإسلامية عن رفضها للعملية وطالبت بحقن الدم الفلسطيني ووحدة الصف، وعدم اللجوء للحلول الأمنية في الخلافات الداخلية. حركتا حماس والجهاد الإسلامي أدانتا بشدة العملية وطالبتا السلطة برفع الحصار عن مخيم جنين، ووجهتا نداء إلى الجماهير الفلسطينية إلى حراك شعبي لكسر الحصار عن المخيم وهي دعوات لم تلق استجابة حتى الآن.
وتولي حركة حماس أهمية كبيرة لتصعيد المقاومة وتمددها في الضفة وقد جاء هذا واضحًا في تصريحاتها وبياناتها وحديث قادتها خاصة الشهيد صالح العاروري الذي كان مسؤولًا عن الضفة في الحركة.
والجهاد الإسلامي لا يختلف مع حركة حماس في هذه الجزئية، فهو كما حماس يرى أن المقاومة بمختلف أشكالها وعلى رأسها المسلحة هي السبيل الأمثل لردع الاحتلال والدفاع عن الأرض والمقدسات، وبالتالي فإنهما لن تسمحا بتفكك المقاومة في جنين أو مناطق أخرى.
النقابات والمؤسسات الحقوقية:
قبل حرب غزة حينما كان يعتقل أي صحفي أو ناشط أو تقع تجاوزات من الأمن في غزة تستنفر كل النقابات والمؤسسات الحقوقية وتكثف المطالبات بالإفراج عن المعتقل بغض النظر عن التهمة التي اعتقل بسببها وتصدر بيانات إدانة شديدة؛ ولكن في ظل العملية العسكرية على مخيم جنين ورغم اعتقال عاملين في القطاع الصحي وصحافيين وما يتعرض له المدنيون في المخيم من ضرر وأخطار وحرمان من الخدمات الأساسية تغيب هذه النقابات والمؤسسات أو أنها تتحدث بخجل ولا يكاد يسمع لها صوت وهذا يدل على ازدواجية واضحة تثير غضب قطاعات شعبية مختلفة خاصة في جنين.
سيناريوهات ومآلات العملية
الحسم العسكري يبدو مستبعدًا لأنه مضى وقت طويل ولم تتمكن قوات السلطة من التوغل داخل أحياء المخيم وكلما تقدمت في محور تتعرض لإطلاق نار وتفجير عبوات تجبرها على التراجع، ومن جهة أخرى فإن مقاتلي الكتيبة لا يسعون لشن هجوم مضاد حتى اللحظة ويتبنون استراتيجية دفاعية فقط. فما المتوقع في ظل هذه الظروف المعقدة؟
السيناريو الأول
بما أنه قد تم إبرام اتفاق لوقف الحرب على غزة يتضمن صفقة تبادل أسرى وسيتم الإفراج عن أسرى لهم تأثير وقيمة اعتبارية كبيرة وبعضهم سيعود إلى الضفة ولن يبعدوا فهذا سيفرض واقعًا جديدًا ينهي الأزمة بطريقة أو بأخرى نظرًا لرمزية وأهمية قضية الأسرى ومكانتهم الاجتماعية ويستبعد إلى حد ما إبقاء السلطة لحصارها للمخيم ووجودها المكثف في المدينة في ذروة استقبال أسرى محررين وما سيرافقه من مهرجانات شعبية حاشدة.
السيناريو الثاني
بعد ما الفشل في اقتحام المخيم وبالتزامن مع إعلان الاتفاق على وقف الحرب في غزة وما لهذا من تداعيات سياسية ونفسية على الشعب الفلسطيني؛ تقوم السلطة بوقف حملتها متكئة على مبادرة من التي أطلقتها العشائر والشخصيات الاعتبارية أو توعز بإطلاق مبادرة تستنسخها دفعًا للحرج علمًا بأن الكتيبة وافقت على جميع المبادرات والسلطة كانت تصر على الحسم الأمني وهو ما لم يتحقق لأنها لم تتقدم بضع أمتار داخل المخيم فقبول مبادرة شعبية ينزل السلطة عن الشجرة التي صعدت إليها.
أخيرا فإن المرحلة في غاية الصعوبة والتعقيد ولا يوجد لها سابقة في التاريخ الفلسطيني زمانيا أو مكانيا أو في ما يتعلق بالظرف السياسي والميداني، وهو ما يستدعي تغليب لغة الحوار والمصالحة والوحدة على قاعدة مجابهة ومواجهة المشروع الاستيطاني الصهيوني وعدم التعويل على أي وعود أو آمال من خارج الدائرة الفلسطينية.