يحاول هذا المقال الإجابة عن سؤال كيف تأثر غرب شبه جزيرة البلقان بالأزمة التي تجتاح أوروبا؟ ويبحث في نشأة ممرٍ للاجئين عبر هذه المنطقة، وردود فعل الدول المُتأثرة به، وفشل سياسة الاتحاد الأوروبي التي تحاول مُعالجة الأزمة في الوقت الراهن.

لا تُعد أزمة الهجرة بالشيء الجديد على شبه جزيرة البلقان، مثلها مثل بقاعٍ أوروبية أخرى عديدة، فلقد شهدت هذه المنطقة العديد من الهجرات الكثيفة في ماضيها القريب والبعيد، ولا تزال ذكريات التهجير الإجباري الأليمة إبان حرب يوغوسلافيا في التسعينات تعيش حتى هذه اللحظة، لكن للمأساة حلقاتٍ أخرى في صفحات تاريخ البلقان: بدايةً بعشرات الآلاف من الألبانيين الذين اجتاحوا إيطاليا واليونان عقب انهيار الشيوعية، وانتهاءً بنزوح 300 ألف من أتراك بلغاريا في صيف 1989 الحار، مع وجوب ذكر هجرة العمالة التقليدية إلى غرب أوروبا، التي ما زالت تعيش حتى هذه اللحظة منذ وصول أول عمالة أجنبية إلى ألمانيا، والنمسا، وسويسرا في الستينات.

لكن الوضع مختلفٌ هذه المرة، فالأمر لا يقتصر على تصدير البلقانيين لمهاجرين ونازحين، بل هم “يوردونهم” إلى أوروبا، أو بمعنى آخر يسمحون بانتقالهم إليها، ولا يُعتبر ذلك التحوّل مفاجئاً، فموضع المنطقة المتوسط بين الشرق الأوسط المُثقل بالحروب وأعمال العنف، وغرب أوروبا كفيلٌ بتفسير ظهور ما يُسمى بـ”طريق البلقان”، لكن المُثير للانتباه في ذلك التحول هو سرعة حدوثه، وفقاً لوكالة
الاتحاد الأوروبي لإدارة الحدود الخارجية (فرونتكس / FRONTEX) فقد وصل إلى أوروبا عام 2015 ما يقارب 764 ألف نازحٍ وطالب لجوء سياسي من سوريا وأفغانستان والعراق عبر صربيا ومقدونيا، وذلك خلال رحلتهم من جزر بحر أيجة إلى ألمانيا والدول الغنية الأخرى في غرب أوروبا، ذلك في مقابل 43,360 نازحاً في 2014، و19950 في 2013، و6390 فقط في 2012. لقد أصبحت البلقان مدخلاً للاجئين إلى أوروبا.

refugee-crisis-figure1

وعلى الرغم من أن دول غرب البلقان -التي تتشكل من الدول التي كانت سابقاً متحدة في يوغوسلافيا
بالإضافة إلى ألبانيا- لا تتبع الاتحاد الأوروبي رسمياً، فإنها كانت محور المحادثات في بروكسل؛ حيث يقع أحد مقرات الاتحاد الأوروبي، وعواصم الدول الأعضاء، وذلك لبحث كيفية مجابهة الأزمة في ظل زيادة أعداد الوافدين من طالبي اللجوء. وكانت وسائل الإعلام العالمية قد كشفت عن العديد من الأماكن المستترة للاجئين، مثل قرية إيدوميني الحدودية في اليونان، التي تحتضن مخيّماً مؤقتاً يُعتبر نقطة انطلاق لأفواج اللاجئين إلى محطة حافلات بلغراد المزدحمة، لقد تمكن اللاجئون إذاً من ربط الشرق الأوسط بغرب البلقان والاتحاد الأوروبي.

ما هو طريق البلقان؟

دائماً ما كان طريق البلقان موجوداً على مدار العقد ونصف العقد الماضيين، ويمتد ذلك الطريق بين الاتحاد الأوروبي والشرق الأوسط عبر تركيا وجنوب شرق أوروبا، ولليونان أهميةٌ كبيرةٌ لذلك الطريق، وذلك لأنها الدولة البلقانية الوحيدة التي تمتلك عضوية في الاتحاد الأوروبي وتُعد جزءاً من منطقة الشينغن التي تسمح بحريّة الحركة بين دولها الأعضاء دون الحاجة لجواز سفر. كان أول مَن سَلَك طريق البلقان طالبو اللجوء من أماكن بعيدةٍ كباكستان وبنغلاديش، وذلك في أول التسعينات، بعضهم واصل رحلته إلى دول غرب أوروبا -مثلما فعل مَن وصلوا إليها عام 2015- وفضّل آخرون البقاء لعثورهم بها على بيئةٍ مناسبةٍ لهم في قطاع الاقتصاد الخفي الكبير الموجود فيها. لكنها (اليونان) أصبحت أقل جذباً للمهاجرين بعد الأزمة الاقتصادية الكارثية التي تعصف بها منذ عام 2010.

تُعد الهجرة أحد العناصر التي تتضمنها قائمة الخلافات غير المحلولة أو تم حلها بشكل جزئي، في العلاقات التركية – اليونانية. فاتفاقية إعادة القبول التي توصل إليها الاتحاد الأوروبي مع تركيا عام 2013 لم تكن قد فُعّلت حتى وقتٍ قريب، في الوقت نفسه الذي يتم فيه تطبيق البروتوكول الثنائي بين أنقرة وأثينا الموقّع عام 2002 بشكلٍ غير منتظم. وبالتالي، لم تكن اليونان قادرةً على إعادة اللاجئين من أي دولة أخرى إلى تركيا، والتي بدورها تطبق في كل الحالات استثناءً جغرافياً وفقاً لاتفاقية الأمم المتحدة عام 1951، ولا تقبل سوى اللاجئين الوافدين من أوروبا فقط.

تسببت قضية اللجوء إلى اليونان في العديد من العواقب، أولاها أنها أصبحت أحد أهم العوامل الرئيسية في سطوع نجم حزب الفجر الذهبي في السنين الأخيرة، وهو الحزب اليميني المتطرف، وأيضاً ترتب عليها أن أثينا أصبحت أحد أبرز الدعاة إلى سياسة مشتركة للاتحاد الأوروبي تقوم بتوزيع عبء اللاجئين بشكلٍ عادل على جميع الدول أعضاء الاتحاد، بل إن غياب الجهود الموحدة أدى إلى دفع اليونان عدة مرات إلى التصرف بشكلٍ منفرد، ففي ديسمبر/كانون الأول 2012، انتهت السلطات من تشييد حاجزٍ من الأسلاك الشائكة بطول 12.5 كم على طول الحدود اليونانية – التركية، لتعزل أرضاً تركية تقع غرب نهر ماريتسا الذي يفصل بين الدولتين. الحاجز الذي يُعد سابقةً وبداية لحواجز أخرى تفصل بين وسط أوروبا ومنطقة البلقان.

يُعد طريق البلقان -الذي عُرف بشكله الحالي في صيف وخريف عام 2015- امتداداً لمعبر اليونان؛ لذلك يتحدث عنه بعض الخبراء باسم “طريق أيجة – البلقان”، في الفترة بين مارس/آذار 2015 ومارس 2016، قام مئات الآلاف من بؤساء سوريا وأفغانستان والعراق بالقيام بالرحلة القصيرة التي قد تنهي حياتهم بين ساحل الأناضول وجزر اليونان المجاورة، مثل ليسبوس وكوس وخيوس وساموس وليروس، ومن
هنالك سيواصلون الرحلة إلى البر اليوناني عن طريق الـGPS الموجود بهواتفهم الذكية، ثم يواصلون المسيرة إلى الحدود اليونانية – المقدونية على بعد 800 كم تجاه الغرب، ومن هنالك سيتوجهون إلى فيينا أو ميونيخ عبر صربيا ثم المجر، أو عبر صربيا ثم كرواتيا ثم سلوفينيا، كل هذه البلدان التي تقع في غرب منطقة البلقان أصبحت طريقاً سريعاً للاجئين إلى أوروبا.

وجاء ذلك الطريق الجديد الذي يمر عبر ما عُرف بيوغوسلافيا سابقاً ليحل محل المعبر السابق بين شمال أفريقيا والبحر المتوسط، وذلك بعد زيادة الرقابة على الحدود البحرية، ونقص المراكب التي يستخدمها المهربون الليبيون، ففي عام 2015، تناقصت أرقام المهاجرين إلى مالطا وإيطاليا (وأغلبهم من دول أفريقيا التي تقع جنوب الصحراء) إلى العُشر، أما السبب الآخر الرئيسي لزيادة الإقبال على طريق البلقان فهو تصاعد أعمال العنف في سوريا والعراق وتدهور الأوضاع بهما، ما أدى إلى فرار معظم المواطنين إلى تركيا، ثم إلى اليونان عبر بحر أيجة.

وأتى الغلق الجزئي للطريق البلقانيّ الآخر عبر الحدود التركية – البلغارية ليزيد من الضغط على المعبر الذي يمر بيوغوسلافيا (سابقًا)، ففي صيف 2014، بنت الحكومة البلغارية حاجزاً بطول 30 كم وخصصت مزيداً من قوات الشرطة على هذه الحدود.
بلغاريا، التي أصبحت عضواً في الاتحاد الأوروبي منذ 2007، لاحظت طفرة في عدد طالبي اللجوء عام 2013 إلى حد أنها قد وصلت إلى 10 آلاف طلب، ورغم القيود التي فرضتها السلطات، فأعداد طالبي اللجوء ما زالت في ازدياد، إلا أن هامش الزيادة بقي طفيفاً: 11,081 عام 2014، ثم 11,742 عام 2015، مع ملاحظة أن 75% من هذه الطلبات تعود لأكرادٍ سوريين. بشكلٍ مُجمل، هذه الأعداد تظل متواضعة إذا ما قُورنت بالمعبر الذي يمر عبر يوغوسلافيا (سابقاً) بالبلقان، المعبر الذي يظل هو الطريق المفضل نحو الغرب، وذلك على الرغم من أن النجاح في الحصول على لجوءٍ في بلغاريا يفتح الباب أمام الحاصل عليه للتنقل إلى دول الاتحاد الأوروبي الأخرى، فضلاً عن ارتفاع معدل قبول الطلبات، ويسهُل تفسير ذلك بالنظر إلى أن معبر غرب البلقان بقي مفتوحاً حتى مارس من عام 2013، في الوقت الذي أدى فيه تزايد القيود المفروضة على الحدود إلى جعل رحلة العبور إلى الأراضي البلغارية أكثر صعوبة على طالبي اللجوء.

ردود الفعل المحلية على الأزمة:

لقد زادت أعداد النازحين وطالبي اللجوء السياسي عبر طريق البلقان بشكلٍ دراماتيكي في ربيع عام 2015 إلى أن بلغ ذروته في سبتمبر/أيلول وأكتوبر/تشرين الأول، حينما استطاعت أعداد تتراوح بين 150 ألفاً و216 ألفاً الدخول للاتحاد الأوروبي وفقاً لإحصائيات فرونتكس، والسبب وراء هذه الزيادة يعود إلى قرار المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، في بداية سبتمبر عام 2015 بالترحيب باللاجئين في ألمانيا، وكانت قد اتخذت هذا القرار بنية أن تكون قدوةً لبقية دول الاتحاد كي تدفعهم إلى أن يفعلوا مثلها، ومن ثم يتم توزيع العبء بشكل عادل على أعضاء الاتحاد، إلا أن تداعيات هذا القرار على منطقة البلقان كانت دراماتيكية بعد أن أدى إلى ارتفاع أعداد اللاجئين بصورةٍ صارخةٍ.

لم تجد دول غرب البلقان لديها العديد من الحوافز التي تدفعها لأن تلعب دور حارس بوابات الاتحاد الأوروبي الذي لا تمتلك عضويةً فيه، بل إنها قد وجدت نفسها تُعاني من أزمةٍ حلّت عليها بفعل عوامل خارجية؛ مثل الحروب الجارية في سوريا والعراق، وسياسات ميركل المزعومة، فكان القرار الأولي لحكومات البلقان بأن تترك الحدود مفتوحةً أمام اللاجئين كي تمرر العبء إلى دولٍ أخرى تمتلك عضوية الاتحاد الأوروبي كالمجر والنمسا وألمانيا. في نفس الوقت الذي دعا فيه سياسيون من المنطقة إلى إيجاد حلٍ أوروبي مشترك يساعد حكومات البلقان على التعامل بشكلٍ أفضل مع الظروف الإنسانية الاستثنائية التي بين يديها، وقد أبدى كل من صربيا ومقدونيا تخوفاتهما من أن يؤدي غلق الحدود الأوروبية إلى تحولهما إلى مناطق عازلة يُحاصر فيها عشرات الآلاف من اللاجئين الذين يستهلكون مواردهما الشحيحة، وفي لقائه مع ميركل في سبتمبر الماضي، انتقد رئيس وزراء صربيا، أليكساندر فوتيتش، أنانية الدول أعضاء الاتحاد الأوروبي الرافضين لنظام الكوتة المقترح من قِبل المفوضية الأوروبية.

كشفت هذه الأزمة عن عدم جاهزية دول البلقان وضعف استعدادها، فحكومات هذه الدول ذات الموارد المحدودة لم تقم باستثمارات كافية على صعيد المجهود أو المال في هذه الأزمة، ولم تترك أية دوافع إلى الوافدين عليها كي يبقوا في هذه المنطقة، واضطرت المنظمات العالمية والمنظمات غير الحكومية إلى التدخل لملء هذه الفجوة. على سبيل المثال، فمخيم اللاجئين ببريشيفو (المدينة الحدودية التي تقع في جنوب صربيا ويسكنها الألبان) يُدار بواسطة المفوض الأعلى للأمم المتحدة للاجئين بأموالٍ تم تجميعها عن طريق نشطاء ومنظمات غير حكومية في الغرب. بالإضافة إلى حشد المجتمع المدني بدول المنطقة وتحديداً صربيا؛ حيث قامت شبكة مساعدة اللاجئين في صربيا بإطلاق عملية إغاثة ناجحة، لكن يُذكر لقادة هذه الدول أنهم لم يوجهوا أية خطابات كراهية ضد طالبي اللجوء، بل إن رئيس وزراء صربيا، فوتيتش، وهو سياسي ينتمي إلى القومية الصربية المتشددة في حقبة التسعينات، استخدم الكياسة في خطابه وتجنب ربط المهاجرين بالإرهاب على غرار ما فعل بعضٌ من سياسيي وسط أوروبا، وأعلن في المنتدى الاقتصادي الدولي بدافوس أن صربيا كانت على استعداد بأن تستضيف ما لا يزيد على خمسة آلاف لاجئ، لكنها لم تستطع أن تتحمل أي زيادةٍ في أعدادهم. على الجانب الآخر، دعا رئيس وزراء مقدونيا، نيكولا جروفيسكي، دول الاتحاد الأوروبي بأن تمده بالأفراد والعتاد الكافي لحماية حدوده مع اليونان، ومساعدته للفصل بين المهاجرين لأسبابٍ اقتصادية وبين طالبي اللجوء السياسي الحقيقيين.

refugee-crisis-figure2

وأخيراً، بدأت بعض دول الاتحاد الأوروبي المُناداة بغلق طريق البلقان، ورفضاً منهما لسياسات ميركل المُرحبة، قررت المجر والنمسا بأن تسيطرا بأيديهما على مُجريات الأمور. في سبتمبر 2015، كانت المجر قد انتهت من بناء حائطٍ على طول حدودها الجنوبية، وأعلنت في السادس عشر من أكتوبر إغلاق المعبر بين حدودها وحدود صربيا، وكان لقرارات المجر تأثير الدومينو على بقية دول البلقان، ففي نوفمبر/تشرين الثاني 2015، شيدت مقدونيا حاجزاً بطول 30 كم مثلما فعلت المجر، وقد زار نيكولا جروفيسكي العاصمة بودابست في ذلك الشهر، بينما زار فيكتور أوربان، رئيس وزراء المجر، مدينة صوفيا ليبيّن أنه ينال دعم الدول المجاورة لليونان. لم تستطِع تحركات المجر الدبلوماسية إنهاء تدفق اللاجئين، إلا أنها أعادت تحويل مجراه نحو كرواتيا وسلوفينيا، ومن هنالك إلى النمسا.

عند هذه النقطة، كانت النمسا قد أصبحت أكثر نشاطاً فيما يتعلق باستخدام نفوذها السياسي في جنوب شرق أوروبا. ففي الثامن عشر من فبراير/شباط عام 2016، نسقت فيينا اجتماعاً بين رؤساء شرطة من كرواتيا وصربيا وسلوفينيا ومقدونيا، وخرجوا بقرار أن يتم وضع حد أقصى لعدد الأشخاص الذين يُسمح لهم بدخول كل من هذه الدول، يصل إلى 580 شخصاً.
قامت النمسا أيضاً بوضع حد على عدد طلبات اللجوء يصل إلى 80 طلباً في اليوم، ذلك القرار الذي انتقدته المفوضية الأوروبية، لكن فيينا قد واصلت جهودها بعقد قمة بين وزراء داخلية دول غرب البلقان وبلغاريا في الرابع والعشرين من فبراير، مما أثار سخط اليونان إحساساً منها بالجهود المبذولة لعزلها عن بقية أوروبا، فقامت أثينا بسحب سفيرها من فيينا؛ لأنها رأت في هذه الجهود المنظمة بين حكومات البلقان والنمسا إشارةً إلى اتهامها بأنها المسؤولة عن هذه الأزمة، وبإجبارهم إياها على دفع الثمن عن طريق إغلاق حدودها الشمالية، ورداً على هذه الاستفزازات، صرّح أليكسيس تسيبراس، رئيس وزراء اليونان، قائلاً: “لن نتساهل مع الجهود المبذولة لتحويلنا إلى مستودع أرواح”.

كان لمفاوضات النمسا بُعد استراتيجي آخر بوضع ضغطٍ على أنجيلا ميركل والمفوضية الأوروبية في مفاوضاتهم مع تركيا لعقد اتفاقية متعلقة بالهجرة، ولكي يكون لديهم بوليصة تأمين في حالة فشل مسعى ميركل والمفوضية، واتخذوا قراراتٍ أخرى قبل عقد اجتماع مجلس الاتحاد الأوروبي الذي عُقد في السابع من مارس، والذي حضره رئيس الوزراء التركي السابق أحمد داود أوغلو، بالإضافة إلى قمة الاتحاد الأوروبي وتركيا التي عُقدت بعد ذلك بتسعة أيام، وبينما كان قادة الاتحاد الأوروبي يفاوضون تركيا على البنود النهائية للاتفاق، وضعتهم جماعة البلقان على المحك بإعلان مقدونيا إغلاق حدودها في التاسع من مارس.

“لم يعد هنالك وجود لطريق البلقان للهجرة غير الشرعية”، أعلنها رئيس وزراء سلوفينيا ميرو سيرار، فالسلطات النمساوية، متمثلة في وزيرة الداخلية يوهانا ميكل لايتنر، قد أيدت قرار دول البلقان بقوة، وتم إرسال فريق مكون من دولٍ أعضاء في الاتحاد الأوروبي وصربيا لمساعدة الشرطة المقدونية لغلق حدودها مع اليونان.

احتمالات مستقبلية:

يتوقف استمرار إغلاق طريق البلقان بعد مارس 2016 على مدى تعاون تركيا مع الاتحاد الأوروبي في قضية المهاجرين، إلا أن هذه الأزمة قد أكدت الدور المحوري الذي تلعبه دول غرب البلقان في التحكم بالحدود الأوروبية. وفي المقابل، أصبحت هذه الدول تنال عدة ترضياتٍ من دول الاتحاد الأوروبي، مثل قرار ألمانيا عام 2015 بإضافة ألبانيا وكوسوفو والجبل الأسود إلى قائمة “دول المنشأ الآمنة” التي ستؤثر على طلبات اللجوء السياسي المُقدمة من مواطنيها، لكن هذا القرار يُعد بالكاد مطلباً لهذه الدول. بشكلٍ عام، ستقوم حكومات البلقان بحماية بوابات الاتحاد الأوروبي بكل سعادة طالما أعطاها الاتحاد في المقابل ما تريده من مكافآت، أو على أقل تقدير طالما حماها من النقد، وهو الأمر الذي يمكن رؤيته بوضوح فيما يتعلق بمقدونيا.
فعندما تم احتلال الشوارع من قِبل المتظاهرين في منتصف أبريل/نيسان احتجاجاً على العفو الرئاسي الممنوح لعدة سياسيين متورطين في قضايا فساد، وقف ضدها المعلقون الغربيون واصفين إياها بـ”الثورة الملونة” التي قد تقوّض حليفاً أساسياً في التعامل مع أزمة اللاجئين. تمكّن أيضاً قادة البلقان من كسب نفوذٍ في بروكسل بالوقوف في صف أعضاء الاتحاد الأوروبي: المجر والنمسا وسلوفينيا وكرواتيا وبلغاريا، وتشير تقارير من بروكسل إلى نية الحكومة المقدونية استغلال أزمة اللاجئين للحصول على عضوية الاتحاد الأوروبي على عكس ما فعلته تركيا.

كما أبرزت الأزمة الرابط القوي بين البلقان وتركيا، فلقد كان الاتفاق الذي تم توقيعه بين تركيا والاتحاد الأوروبي في الثامن عشر من مارس هو الذي خفف الضغط من على كاهل دول المنطقة، ولو انهارت هذه الاتفاقية، فستدفع اليونان ودول غرب البلقان الثمن؛ لأن تزايد أعداد اللاجئين مرةً أخرى سيؤدي إلى العديد من المشاحنات، فالعلاقات بين سكوبيه وأثينا ما زالت متوترة حتى هذه اللحظة بسبب انتقادات الحكومة المقدونية لليونان واتهامها بأنها لم تقم بدورها في التحكم في الهجرة إلى الاتحاد الأوروبي. في بداية شهر أبريل، تصدت الشرطة المقدونية لمحاولات عبور المهاجرين العالقين على حدودها إلى داخل مقدونيا، وذلك باستخدام الغازات المُسيلة للدموع والرصاص المطاطي، فاستغلها أليكسيس تسيبراس ليرد على مقدونيا ويتهمها بأنها “تجلب العار لأوروبا”. في الواقع، لقد تصرفت الشرطة المقدونية في حدود ما يسمح به الاتحاد الأوروبي، لكن علاقات الجوار ستتدهور في حالة إذا ما تمت إعادة فتح طريق البلقان، فلن تتردد الدول الأخرى في الدخول في صراعات مع جاراتها بشأن التحكم في الحدود والهجرة، مثل ما قد يحدث بين صربيا وكرواتيا اللتين أصبحتا تحت قيادةٍ قومية بعد انتخابات نوفمبر 2015 الماضية.

وعلى كل حال، فالمشكلة الرئيسية تكمن في الاتحاد الأوروبي، وليس في دول غرب البلقان، فالانقسامات الداخلية تقف في طريق تعاون المؤسسة مع الدول طالبة العضوية في أقصى الجنوب. في سبتمبر عام 2015، اختارت ألمانيا حلاً فردياً فاتحةً الباب أمام اللاجئين، في الوقت الذي طالب فيه قادة وسط أوروبا -وخاصة أوربان- بإغلاق الحدود بالكامل، وواصلت إيطاليا واليونان المساعي التقليدية للبحث عن حلٍ مشترك يتم إلحاقه في قوانين الاتحاد الأوروبي، ليقوم بتوزيع العبء على دول الاتحاد. كان على دول غرب البلقان أن تتأقلم مع موجات المد والجذر: بدايةً مع قرار المستشارة أنجيلا ميركل بفتح الأبواب أمام اللاجئين، ثم بعد ذلك مع قرار دول وسط أوروبا بالوقوف أمام هذا القرار؛ لذا، فصناعة نهجٍ مشترك بين دول الاتحاد الأوروبي ضرورة حيوية، ولذلك فاتفاق الاتحاد مع تركيا -على كل مساوئه- إلا أنَّه خطوة على الطريق الصحيح.
لكن مع وصول أول موجةٍ جديدة تحمل مئات الآلاف من طالبي اللجوء للاتحاد الأوروبي، ستجد دول البلقان نفسها وحيدةً في مواجهة المأزق من جديد.

في ضوء هذا التحليل، هنالك عدة سياسات يمكن طرحها، أولاها ألا يتم تحويل دول غرب البلقان إلى مناطق انتظار، أو مناطق عازلة يتكدس فيها طالبو اللجوء العالقون. فهذه الدول تفتقد الإمكانيات اللازمة لاستيعاب تدفقٍ ضخمٍ من المهاجرين. ثاني توصيةٍ يمكن طرحها هي الاتفاق على نهجٍ مشترك بين دول الاتحاد الأوروبي بشأن الهجرة وطلب اللجوء، فتشريع القوانين اللازمة للسماح لطالبي اللجوء بالانتقال بين دول الاتحاد سيخفف الضغط الواقع على دولٍ مثل مقدونيا وصربيا، اللتين كانتا في وجه الأزمة. ثالث التوصيات هي أن يستثمر الاتحاد الأوروبي في إمكانيات هذه المنطقة، مثل منشآت الاستقبال والإمدادات الإدارية، وأخيراً وليس آخراً، يجب أن يتم إدخال دول غرب البلقان في عمليات التنسيق الجارية بين الاتحاد الأوروبي وتركيا، فمن غير المنطقي على الإطلاق معاملتهم على أنهم بإمكانهم المشاركة بكامل قواهم في الهيئات الفنية للهجرة، في نفس الوقت الذي يتم النظر إليهم على أنهم غير قادرين على المشاركة في المفاوضات السياسية.