خلَّف الفوز، الذي حققه دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأميركية، وراءه خليطا من الركام السياسي. يأتي على قمة قائمة الخسائر التي خلّفها هذا الفوز أسطورة الاستثناء الأميركي المُحبَّبة. قد يبدو هذا للوهلة الأولى شيئاً جيداً. ودائماً أردنا نحن الأوروبيون أن نجعل أميركا تتصرف مثلنا أكثر. إلا أن النكتة الآن انقلبت علينا.

لطالما حاولنا أن نُشكِّل شريكتنا أميركا على نفس هيئتنا. بدا الأمر لفترة كما لو أن أميركا تخطو برويّة نحو اتخاذ “الطابع الأوروبي”. وهؤلاء الذين هللوا للرئيس أوباما في برلين في يوليو/ تموز 2008، تابعوا ما يحدث باستحسان في ظل توقيع الولايات المتحدة على اتفاق باريس للمناخ، وتمرير الكونغرس الأميركي لقانون الرعاية الصحية الأميركي أوباما كير، وقرار المحكمة العليا بتقنين زواج المثليين. لكن أميركا الآن بدأت تستقي دروسها من جوانب في حياتنا العامة لا نفضِّل تصديرها. وبدلاً من محاكاة نموذج أوروبا المتنورة الكوزموبوليتانية متعددة الجنسيات، تحولت أميركا إلى نموذج أوروبا ذات السياج الحدودي، والقومية المتمردة، والحنين المغلوط إلى زمن كان الجميع فيه يعرفون أماكنهم.

هل هو شعبوي ديماغوجي يُسخِّر مخاوف الناس، ويغذّي مناهضة النخبوية، ويتخذ الأجانب والمهاجرين والأقليات كبش فداء من أجل الاستيلاء على السلطة؟ هل هو ملياردير يرى نفسه فارساً يلبس درعاً لامعاً ويتعهد بالتخلص من نظام فاسد؟ الحق يقال، تبدو كل هذه الأوصاف مألوفة للغاية لدى بعض الشخصيات: بدءاً من من رئيس صربيا الراحل سلوبودان ميلوشيفيتش، مروراً برئيس وزراء إيطاليا السابق سيلفيو بيرسلكوني، وأيضاً طاقم المملكة المتحدة المتنافر المؤيد لبريكسيت، وحتى السياسية الفرنسية مارين لوبان، كانت الشخصيات التي تشبه ترامب عنصراً رئيسياً في السياسات الأوروبية لعقود من الزمن.

وحتى مع محاولة تسويق ترامب نفسه على أنه مبُشِّرٌ بسياسة ريغانية جديدة (على نهج الرئيس السابق دونالد ريغان)، تسببت تَذْكَرة فوزه في حالة من الاستياء والتشاؤم الاجتماعي، وكلاهما الآن جزء لا يتجزأ من مكونات السياسة الأوروبية. إذ إن الحركة الارتجاعية المناهضة للّيبرالية لا تأتي فقط في صالح رُوَّاد سياسيين فرعيين مثل البريطاني نايغل فاريج، أحد حلفاء ترامب الذين سعدوا بفوزه، بل إنها تتجذر داخل حكومات القارة العجوز.

فيما تكمن السخرية بكل تأكيد في أن نهاية الاستثناء الأميركي تسطر أخباراً سيئة لأوروبا. إذ أن اتباع الطريق الذي رسمه عدد من الأنظمة السياسية الأوروبية، يزيد من احتمالية أن تتخذ الولايات المتحدة خيارات تضر بمصالح القارة. وتتراوح تلك الخيارات بين انعطاف وشيك الحدوث نحو الاحتماء الاقتصادي والتهديد بتفريغ حلف شمال الأطلسي (الناتو)، والتي معها سيكون حلفاء أميركا وشركاؤها هم أكبر من يستشعر التأثيرات الحادة للحظة الشعبوية الأميركية.

يُحتمل أن تتسم المحادثات بين ترامب والقادة الأوروبيين بالجفاء. كما أن أوروبا تتشظى تحت وطأة الثورات التي تلوح في الأفق، والتي يقودها أشخاص بغيضون مثل فيكتور أوربان، رئيس الوزراء المجري، والفرنسية مارين لوبان، وتلك الفوضى لا تجعل منا شريكاً مريحاً. فقد ولّت أيام “أوروبا الجديدة” ذات الدول المتشابهة في الميول والأفكار.

وإن كان لدى أوروبا أي دروس تُلقِّنُها لأميركا، فهي أن الديماغوجيين سيجيئون ويذهبون، وأن دائماً ثمة غد. سيخلُف شخصاً مثل بيرلسكوني أشخاصٌ مثل ماريو مونتي أو ماتيو رينزي. وسوف يُستبدل أشخاص مثل دونالد توسك بأشخاص مثل ياروسلاف كاتشينسكي. فالديمقراطيات الناضجة تمتلك مرونة داخلية كافية لترويض الشعبوية. كما أن المؤسسات تفوز على الأنا، لتخفف من طموح الزعماء المحتملين وتنعطف عنه.

تكبّل الصرامة والالتزامات التي تفرضها مؤسسات الاتحاد الأوروبي أيادي القادة ذوي الكاريزما أو الثوريين المحتملين، ولنتذكر السياسي اليساري اليوناني أليكسيس تسيبراس في عام 2015، الذي تعهد بمواجهة بروكسل وبرلين، لكنه أُجبر على التوقف عندما اتضح له أنه على الجانب الخاسر.

يعتمد كثيرون في الولايات المتحدة أيضاً على مرونة المؤسسات الديمقراطية للبلاد. فقد أُبلغنا أن آلة الحزب الجمهوري وعشرات المطَّلعين ببواطن الأمور الذين سيشغلون مناصب في الإدارة القادمة سوف يكبحون جماع الرئيس غير المتوقع الذي يسهل استثارته. ومثلما تولى فريق الحملة انتزاع السيطرة على حساب ترامب على موقع تويتر خلال السباق الرئاسي، أعدُّوا أنفسكم لولاية مايك بينس، وبعبارة أخرى لولاية مؤسسة الحزب الجمهوري.

بيد أن مثل هذا التنبؤات قد لا تتعدى كونها مجرد تفكير توّاق. إذ يذكرنا دراسو الماضي الأوروبي بأنه في أماكن مثل جمهورية فايمار في ألمانيا، لم ينته زواج المصلحة بين المحافظين والقادة السلطويين نهاية سعيدة. ستلقي “القارة المظلمة” بظلالها في كل أنحاء المعمورة. وكل ما يمكننا فعله هو أن نتمنى ألا تكرر أميركا أخطاء أوروبا في هذا الصدد.