[box type=”shadow” align=”” class=”” width=””]ملخص: كان المفاوضون الأوروبيون يأملون أنَّ الاتفاق النووي الإيراني، أو ما يُعرَف بخطة العمل الشاملة المشتركة، سيُمهِّد الطريق أمام مزيدٍ من الدبلوماسية لجعل الدور الإيراني في المنطقة أكثر سلميةً وأقلَّ غرابةً. لكنَّ عددًا من القوى الإقليمية الرئيسة اعتقدت أنَّه سيؤدِّي إلى نتيجةٍ معاكسة. إذ اعتقدت المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة وإسرائيل أنَّه سيسمح لإيران بترسيخ نفوذها على وكلائها من الميليشيات في أنحاء العالم العربي، ولم تبذل إيران أيَّ جهودٍ لمعالجة تلك المخاوف. لكن بدلًا من أن يتسبَّب تقويض الاتفاق النووي أو انهياره المحتمل في تغيير هذا الوضع، فإنَّه هدَّد بتفاقم التوترات الإقليمية أكثر فأكثر. لقد رحَّبت السعودية والإمارات وإسرائيل بانسحاب ترمب وبالبيانات الأميركية الأوسع بشأن نيتها التصدِّي للنفوذ الإيراني عبر المنطقة. لكن ليس واضحًا ما هي خيارات السياسة التي ربما تستخدمها الولايات المتحدة لتنفيذ تلك الاستراتيجية المُعلَنة، أو حتى إن كانت ستنفذها فعلًا. قد تُقدِّم الولايات المتحدة مزيدًا من الدعم لمقاربات السعودية المختلفة تمامًا للتصدِّي لحلفاء إيران في اليمن (عبر الاستخدام الكثيف للقوة) وفي العراق (عبر المشاركة والدبلوماسية الاقتصادية)، لكن رغم هذا الخطاب، فمن المستبعد أن تُقدِم واشنطن على تلك الاستثمارات السياسية أو العسكرية التي من شأنها تغيير توازن القوى بين إيران ومنافسيها الإقليميين. وبدلًا من ذلك، سيكون تطور التوتُّرات حول دور إيران في المنطقة مرهونًا بالأساس بموقف القوى الإقليمية.[/box]
كانت خطة العمل الشاملة المشتركة، أو الاتفاق النووي الإيراني، ممكنةً فقط لأنَّها ركَّزت على عدم الانتشار النووي، وليس على المجموعة الأوسع من القضايا التي فرَّقت بين إيران وجيرانها. لكنَّ تلك القضايا الآن تُهدِّد بتفكيك الاتفاق. وبالطبع فإن السبب المباشر الذي يُهدِّد الاتفاق هو تغيُّر الإدارة الأميركية، ففوز هيلاري كلينتون بالرئاسة ما كان سيؤدِّي للانسحاب من الاتفاق. لكنَّ الاستهجان الدولي العام لتصرفات ترمب لا يجب أن يطغى على حقيقة أنَّ كلَّ المرشحين الجمهوريين تقريبًا كانوا ناقدين للاتفاق، وكانت وجهات نظرهم متأثرةً بقوة بقرار معارضة الاتفاق الذي اتخذه حلفاء واشنطن الرئيسون في المنطقة، في إسرائيل والسعودية والإمارات.
انتقدت هذه القوى الإقليمية الاتفاقَ بالأساس بسبب القضايا التي لم يتضمَّنها. فهو لم يعالج دعم إيران للمجموعات المسلَّحة من غير الدول في الشرق الأوسط، ولم يعالج برنامج الصواريخ الباليستية الإيراني [1]. وعلاوةً على ذلك، تبنَّوا وجهة النظر – لم يشاركهم إيَّاها المُفاوضون – التي ترى أنَّ تَرْكَ تلك القضايا خارج الاتفاق سيسمح لإيران بالاعتقاد أنَّها ليست في حاجةٍ لتغيير أيٍّ من سلوكياتها باستثناء البرنامج النووي. لقد ضغطت القوى الإقليمية على الولايات المتحدة بقوة بخصوص تلك القضايا في أثناء المفاوضات، لكنَّها شعرت أنَّ شكواها كانت تلقى آذانًا صمَّاء في عهد أوباما. ونتيجةً لذلك، تحتفي تلك القوى الآن بقرار ترمب بالانسحاب من الاتفاق. لكنَّها لا تُمثِّل وجهةَ نظرٍ مُجْمَعًا عليها في المنطقة؛ فجديرٌ بالذكر أنَّ تركيا، التي حاولت قبل عقدٍ من الزمن التوسُّط في اتفاقٍ سابق خاص ببرنامج إيران النووي، وصفت قرار ترمب بأنَّه خطوةٌ مؤسفة، في حين أنَّ مصر شعرت بالقلق من مخاطر نشوب صراعٍ إقليميٍّ أوسع نطاقًا، في وقتٍ تُركِّز فيه بالأساس على محاربة خصومها الإسلاميين.
إن الانسحاب الأميركي لن يمنح المُنتقدين الإقليميين بالضرورة النتيجة التي كانوا يرغبونها. وسيكون من قبيل المغالطة المنطقية الاعتقاد بأنَّ هدم الاتفاق بسبب تجاهله تلك القضايا سيضمن أنَّ تلك القضايا ستُعالَج الآن. بدلًا من ذلك، ستتطلَّب معالجة تلك القضايا استراتيجيةً جديدةً من شأنها التعامل مع صلات إيران بحركة حماس وحزب الله، والدور الإيراني في العراق، والصلات الإيرانية بالحوثيين في اليمن، إلى جانب قضايا أخرى. وليس واضحًا ما إن كانت لدى الولايات المتحدة استراتيجيةٌ كهذه. لقد بدأ وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو صياغة بعض أهداف بلاده، لكن ما تزال هناك تساؤلاتٌ جديَّة حول الكيفية التي يعتزم بها تحقيق تلك الأهداف.
والخطوات التالية غامضةٌ للغاية؛ فتكهُّنات ما بعد الاتفاق تطرَّقت إلى كل احتمال، بدايةً من نشوب حربٍ إقليمية ووصولًا إلى اتفاقٍ جديد أكثر شمولًا. وعلى الأرجح لن تتمكَّن الولايات المتحدة من إنجاز اتفاقٍ أكبر، لكنَّها سترغب أيضًا في تجنُّب حربٍ شاملة. لكنَّ حروب الوكالة ستصبح أكثر ضراوةً، وهناك خطرٌ متنامٍ بنشوب مواجهاتٍ مباشرة بين القوى الإقليمية، مثلما شهدنا في تبادل النيران الوجيز بين إيران وإسرائيل في مايو/أيار الماضي.
الخلفية: لماذا لم تتقبَّل القوى الإقليمية الرئيسة الاتفاقَ النووي
قرَّبت المعارضة المشتركة لإيران بين العدوَّين السابقين إسرائيل والسعودية أكثر، فضلًا عن الإمارات. مع ذلك، هناك بعض الاختلافات في معارضة هذه القوى المختلفة للاتفاق النووي. إذ انتقد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الاتفاقَ بقوة لعدم احتوائه على ضماناتٍ كافية لمنع إيران من حيازة سلاحٍ نووي. لكنَّ أصواتًا أخرى في الجيش والمؤسسة الأمنية الإسرائيلية كان لديها تصورٌ أكثر إيجابيةً تجاه مساهمة الاتفاق في عدم الانتشار النووي [2]. أمَّا بالنسبة إلى السعودية والإمارات، فكان ارتباط المشكلة بالتهديد النووي المحتمل أقلَّ من ارتباطها بسياسة إيران الخارجية. إذ شكَّتا في أنَّ الاتفاق النووي يعكس تغيُّرًا استراتيجيًّا أوسع في التعامل الغربي مع إيران، وهذا لا يمكن أن يكون إلا على حسابهما. ويُعَدُّ أحد الموضوعات المتكرِّرة في المباحثات مع السعوديين بشأن الاتفاق النووي هو شعورهم بأنَّ البلدان الغربية تُغيِّر انحيازاتها وتتخلَّى عن حلفائها التقليديين. وكانت تلك مبالغةً. فبالفعل كان هناك شعورٌ متنامٍ في العواصم الغربية بأنَّ إيران لا يتوجَّب أن تكون العدوَّ الذي تخيلت الولايات المتحدة وجوده منذ عام 1979. لكنَّ هذا لم يعنِ تغيير الانحيازات، بل يعني أنَّ البلدان الغربية كانت تأمل في إمكانية أن يساهم تقليل الاحتكاك مع إيران في جعل المنطقة أكثر سلمًا. لكنَّ الاتصالات بين الغرب وبلدان الخليج بشأن الاتفاق النووي كانت مشحونةً بعدم الثقة والتصورات الخاطئة.
لقد كان الهدف من الاتفاق النووي دومًا أن يكون اتفاقًا لعدم الانتشار النووي، لا أن يكون “صفقة كبرى” أوسع لتطبيع الدور الإيراني العالمي. وكان لدى الدول صاحبة حقِّ النقض (الفيتو) في مجلس الأمن الدولي رؤًى مختلفةٌ للغاية حيال سياسات إيران الداخلية وسياستها الخارجية. لكن حتى الدول الأكثر قربًا من إيران، وهي روسيا والصين، اتفقت على الحاجة لنظام عدم انتشار نووي أقوى وأكثر موثوقيةً يتجاوز بنود معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، بسبب سجل إيران السابق في التطوير النووي، وبالنظر إلى مخاطر نشوب سباق تسلحٍ نووي أوسع نطاقًا في الشرق الأوسط. كان التوصُّل إلى هذا التوافق في حدِّ ذاته إنجازًا في وقتٍ كان فيه مجلس الأمن مُنقسِمًا في أغلب الأحيان حول معظم قضايا الشرق الأوسط، وعلى رأسها سوريا.
وما كان لاتفاق عدم انتشارٍ قطُّ أن يحلَّ أيَّ توتراتٍ حول دور إيران في المنطقة، أو يُحسِّن سجل إيران في حقوق الإنسان. لكن لأنَّ المجتمع الدولي قضى عقودًا يُخفِق في حلِّ تلك القضايا، كان هناك سعيٌ لاغتنام الفرصة، على الأقل لإحراز تقدُّم في القضية النووية. ففي نهاية المطاف، إن حصلت إيران على قدرات أسلحة نووية، فستكون هناك فرصة أقلُّ لإحراز أيِّ تقدُّم بشأن القضايا الأخرى المثيرة للقلق. ولذا اتفق المفاوضون على أن تكون مفاوضات الاتفاق النووي منفصلةً عن المسائل المتعلِّقة بدور إيران في المنطقة، أو سجل إيران الداخلي في حقوق الإنسان. لكنَّ المفاوضين الأوروبيين الذين عملوا على الاتفاق النووي جادلوا بأنَّ الاتفاق قد يُمثِّل مُنطلقًا لحلِّ مشكلاتهم الأوسع مع إيران، وجادلوا كذلك بأنَّ إيران إن لم تشعر بشعورٍ دائم بالتهديد الوجودي، فإنَّها قد تصبح فاعلًا إقليميًّا بنَّاءً وأكثر مسؤوليةً.
في المقابل، تقول الأصوات الأعلى في المنطقة (بالأساس إسرائيل والسعودية والإمارات) عكس ذلك. إذ كانت تعتقد أنَّ الاتفاق النووي بعث بإشارةٍ إلى إيران مفادها أنَّ المجتمع الدولي مستعدٌّ للاعتراف بها كفاعل دوليٍّ شرعيٍّ وتطبيع دورها في المنطقة. بالنسبة إليهم، كان الاتفاق إشارةً على نهاية الاحتواء الأميركي لإيران. وبدلًا من النظر إلى الاتفاق النووي كوسيلة لتمهيد الطريق أمام مزيدٍ من المشاركة البنَّاءة لتغيير إيران، نظروا إليه باعتباره نهايةَ أيِّ تنازلاتٍ إيرانية. وتبعًا لوجهة النظر هذه، كان المجتمع الدولي بتخفيفه للكثير من العقوبات يزيل الضغط الذي أتى بإيران إلى طاولة المفاوضات، ولن تتبقَّى لهم أوراقُ ضغطٍ تُذكَر للضغط على إيران كي تُغيِّر سلوكها في العالم العربي. وكان الوضع بالنسبة إلى إسرائيل مختلفًا بصورةٍ ما عن السعودية. فنتنياهو كانت لديه وجهاتُ نظرٍ قوية بأنَّ الضمانات في الاتفاق النووي غير كافية، إلى الحدِّ الذي يجعل الاتفاق أسوأ من عدم وجود اتفاقٍ على الإطلاق. لكن لم يُشاركه تلك الرؤى الجميعُ داخل الجيش والمؤسسة الدفاعية، فهناك تنوعٌ هيكلي في الرؤى في إسرائيل أكبر بكثير مما هو في السعودية أو الإمارات، حيث لا يكون من المسموح أو المناسب الاختلاف علنًا مع السياسات الأساسية للقائد.
وكان يتعيَّن استغلال الفترة التي أعقبت توقيع الاتفاق النووي كفرصة لاختبار الفرضية الأوروبية بأنَّ الاتفاق يمكن أن يكون مُنطلَقًا للتعامل مع دور إيران الإقليمي الأوسع. لكنَّ هذا لم يحدث. إذ دعا الأوروبيون إيران والسعودية لإجراء حوارهما المباشر الخاص. بيد أنَّ هذا لم يتحقَّق، ويرجع ذلك إلى حدٍّ كبير للاعتراضات السعودية. وفي ظلِّ غياب عمليةٍ ثنائية بين إيران والسعودية أو إيران ومجلس التعاون الخليجي، لم تكن هناك أيُّ جهودٍ منهجية للتعامل مع دور إيران في المنطقة. في الواقع، لم يبدأ الانخراط الأوروبي الجاد مع إيران بشأن اليمن إلا متأخرًا، في عام 2018، بعدما أدركت كلٌّ من أوروبا وإيران أنَّ الولايات المتحدة قد تنسحب من الاتفاق النووي فعلًا. في وقت عقد الاتفاق، كانت التهديداتُ الإرهابية الأساسية للقوى الدولية هي الجهاديين السُّنَّة، وليست الميليشيات الإيرانية، وكانت إيران متعاونةً في محاربة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) في العراق. وفي هذا السياق، تفاقمت التوتُّرات الإقليمية بسبب الاتفاق، الذي نُظِر إليه في المنطقة باعتباره بدايةَ النهاية لـ”الاحتواء” الأميركي لإيران، دون أن تكون هناك أيُّ سياسة واضحة تحل محلَّه.
فشل نهج “الصفقة الكبرى”
طُرِحَ في الماضي نهجٌ مختلف. ففي مطلع العقد الأول من الألفية الجديدة، قبيل حرب العراق، تواصلت الولايات المتحدة وإيران بطريقةٍ غير مباشرة بشأن فكرة عقد “صفقة كبرى” لتطبيع العلاقات ومعالجة أسباب صراعهما البارد. كان ذلك في سياق وجود حكومةٍ تنتمي أكثر إلى التيار الإصلاحي في إيران، وتغييراتٍ في الطريقة التي تنظر بها الولايات المتحدة إلى مصالحها. إذ حلَّ تنظيم القاعدة محلَّ إيران باعتباره التهديد الأساسي في الشرق الأوسط بنظر الأميركيين، وكانت الولايات المتحدة تقاتل أحد أعداء إيران، وهي حركة طالبان، فيما تستعدُّ للإطاحة بعدوٍّ آخر، وهو صدام حسين.
بوجهٍ عام، كانت الفكرة تتمثَّل في أنَّ إيران ترغب في إنهاء العقوبات وأي محاولة لتغيير النظام، في حين كانت الولايات المتحدة تريد من إيران أن تُظهِر بشفافية أنَّها لم تكن تُطوِّر أسلحة دمار شامل، وتتحرَّك بحسمٍ ضد الإرهاب، بما في ذلك أعضاء القاعدة الموجودون على الأراضي أو في السجون الإيرانية، وإنهاء دعمها للمسلَّحين الفلسطينيين، وأن تترك حزب الله ليصبح مجرَّد حزبٍ سياسي. وفي العراق، أرادت الولايات المتحدة من إيران دعم إرساء الاستقرار، في حين أرادت إيران من الولايات المتحدة ملاحقة حركة مجاهدي خلق الإيرانية، ودعم مطالبة إيران بتعويضاتٍ عن حربها مع العراق. ولتحقيق تلك الأهداف، أنشأت الولايات المتحدة وإيران ثلاثَ مجموعات عملٍ متوازية تتعامل مع نزع السلاح، والإرهاب والأمن الإقليمي، والتعاون الاقتصادي.
لكنَّ فكرة الصفقة الكبرى فشلت. إذ لم تقبلها الحكومة الأميركية آنذاك، وكان معسكر المحافظين الجدد المهيمن حينئذ يدعو لعملٍ عسكري ضد إيران، يبدأ بعد انتصاراتهم الحاسمة في العراق وأفغانستان، وهو بالطبع ما لم يتحقَّق. وعلى مدار العقد التالي، عاش العالم في تكهناتٍ شبه مستمرَّة بأنَّ شنَّ هجومٍ أميركي أو إسرائيلي على إيران ربما يكون وشيكًا، وسيناريوهات تُنفَّذ في المناورات العسكرية لمحاكاة التداعيات الإقليمية، إلى أن قرَّرت إدارة أوباما إعادة الانخراط عبر إطار عملٍ كان أكثر تركيزًا في موضوعاته ومتعدِّد الأطراف بدرجةٍ أكبر.
دفعت هذه الفترة لإجراء تحليلات شاملة لحساب التكلفة والعائد لأيِّ حربٍ أميركية أو إسرائيلية محتملة مع إيران. وعادةً ما كانت تشير سيناريوهات الحرب مع إيران إلى تكاليف كبيرة لكلا الطرفين، ليس فقط في أيِّ صراعٍ مباشر، بل وكذلك مع مجموعة الوكلاء الإقليميين التي يمكن لإيران الاعتماد عليها. بالتالي، بحثت السيناريوهات عادةً في مخاطر نشوب حربٍ بين حزب الله وإسرائيل، وشن هجمات على القواعد الأميركية في مجلس التعاون الخليجي، وعلى البنية التحتية الخاصَّة بالطاقة والمياه للدول التي تستضيف تلك القواعد، وشن هجمات على القوات الأميركية في العراق وأفغانستان، وسيناريوهات تفصيلية كثيرة أخرى قد تحاول فيها إيران إغلاق مضيق هرمز (ولو أنَّ معظم التحليلات تشير إلى إمكانية الولايات المتحدة قلب مسار الأحداث بسرعة، وأنَّ من شأن هذا أيضًا الإضرار بالصين أكثر مما سيضر بالولايات المتحدة). ويجري الآن نفض التراب عن هذه السيناريوهات وتحديثها.
تتمنَّى معظم دول العالم تجنُّب مثل هذه الحرب. وعلى الرغم من خطاب الساسة الإسرائيليين المولع بالحرب غالبًا، فإنَّ شخصيات رئيسة بالمؤسسة الدفاعية والأمنية الإسرائيلية نصحت مرارًا بعدم خوض حربٍ مباشرة أو تقليدية مع إيران، وفي الوقت نفسه توجيه مزيدٍ من التركيز إلى العمليات السرية والسيبرانية لتعطيل برنامجها النووي. وبالنسبة إلى البلدان الخليجية أيضًا، فإن من شأن نشوب حربٍ مع إيران أن يزيد مخاطر تحركاتٍ إيرانية مباشرة ضدها. لكن من المثير للدهشة أنَّ المخاوف المستمرَّة منذ أمدٍ بعيد بشأن إمكانية نشوب حربٍ لم تمنع الاقتصادات الخليجية من النمو بسرعة؛ بل على العكس من ذلك، فمنذ عام 2003 وحتى عام 2014، ازدهرت الاقتصادات الخليجية، إلى حدٍّ كبير بسبب أسعار النفط المرتفعة، التي ارتفعت جزئيًّا بسبب المخاطر الجيوسياسية المُتصوَّرة على عرض النفط. وهذه الزيادة في أسعار النفط تتكرَّر مجددًا الآن، وتُخفِّف الأثر السلبي عمومًا للمخاطرة السياسية المُتصوَّرة على مناخ الاستثمار في الخليج.
ماذا بعد؟
قالت الولايات المتحدة إنَّ لديها استراتيجيةً جديدةً لمواجهة إيران بـ”أقصى قدر من الضغط”، عن طريق زيادة العقوبات وملاحقة الوكلاء الإيرانيين في مختلف أنحاء العالم [3]. وهي ترغب في التصدِّي للنفوذ الإيراني وتغيير السلوك الإيراني في الشرق الأوسط. وتريد على وجه التحديد من إيران إنهاء دعمها لحماس وحزب الله، ومشاركة جيشها في سوريا، وعلاقاتها بالجماعات المسلَّحة غير الحكومية في العراق، وعلاقاتها مع الحوثيين في اليمن، ووقف إمدادات الأسلحة والتدريبات التي يُقدِّمها الحرس الثوري للمسلَّحين في الخليج [4].
واتسعت قائمة المطالب منذ فكرة “الصفقة الكبرى” في عام 2003، بسبب نمو شبكة إيران من الحلفاء الإقليميين المسلَّحين من غير الدول. وفي الوقت نفسه، يمكن القول إنَّ ما لدى الولايات المتحدة لتقديمه الآن أقلُّ مقارنةً بتلك الفترة؛ لأنَّ مطالب إيران الرئيسة كانت تشمل إنهاء العقوبات والتهديدات بتغيير النظام، وكلاهما خفَّت حدتهما بعد الاتفاق النووي. في هذا السياق، يحاول ترمب إعادة بناء النفوذ الأميركي واستخدامه للضغط على إيران للحصول على مجموعةٍ أوسع من التنازلات، في سياستها الخارجية وكذلك في مسألة عدم الانتشار النووي. وتقول إحدى النظريات إنَّ كلَّ هذا قد يقود إلى اتفاقٍ جديد، إلى “صفقة كبرى” ترمبية. وبالفعل، أظهرت إيران مرونةً في التفاوض على عناصر اتفاقٍ جانبي مع الأوروبيين في مطلع عام 2018، لزيادة رقابة الاتفاق على برنامجها النووي. لكنَّ هذه العملية انتهت فجأةً حين أعلن ترمب في مايو/أيار أنَّه سينسحب من الاتفاق. وهذا التغيير في قواعد اللعبة يجعل التوصُّل إلى اتفاقٍ ثانٍ أمرًا أكثر صعوبة بكثير.
الانقسامات بين ضفتي الأطلسي تعني أنَّ إيران لن تُعزَل ولن تُدمَج
سيكون نفوذ الولايات المتحدة في مواجهة تلك القضايا المعقَّدة محدودًا، بسبب الافتقار للدعم الدولي لانسحابها من الاتفاق النووي، وهو الانسحاب الذي يُنظَر إليه من جانب الدول الأخرى المُوقِّعة على الاتفاق باعتباره محاولةً أحادية لتخريب اتفاقٍ لم تنتهكه إيران. وتريد القوى الخمس المتبقية الحفاظ على الاتفاق حيًّا حتى لو تطلَّب الأمر دخوله غرفة الإنعاش. ويأملون أن يتمكَّن هذا الاتفاق متعدِّد الأطراف من تحمُّل انسحاب الولايات المتحدة وتجاوزه، كما حدث مع اتفاق باريس للمناخ واتفاق الشراكة عبر المحيط الهادي. وتشتدُّ الاختلافات السياسية بين ضفتي المحيط الأطلسي بشكل خاصٍّ بسبب السياسات الشخصية: ينظر الكثير من القادة الأوروبيين إلى ترمب بمزيجٍ من الازدراء والحذر[5].
إن الانقسامات بين ضفتي الأطلسي ستجعل مهمَّة إيجاد استراتيجيات فعَّالة تجاه الصراعات المختلفة التي تنخرط فيها إيران وحلفاؤها في المنطقة أكثر صعوبة. وستحتاج الولايات المتحدة، سواءٌ فيما يتعلَّق بمسألة فرض العقوبات أو أي إجراءاتٍ عسكرية، للعمل عن كثب مع السعودية والإمارات وإسرائيل، وبدعمٍ بسيط إما من حلفائها الأوروبيين أو من بعض القوى الإقليمية الرئيسة الأخرى مثل تركيا أو مصر.
في المستقبل القريب، لن تُعزَل إيران ولن تُدمَج؛ بل ستكون عضوًا غير كامل في النظام الدولي. إن الولايات المتحدة تعود الآن إلى سياسة التعامل مع إيران كدولة مارقة وعزلها واستخدام مزيجٍ من العقوبات والتهديدات الصريحة بالحرب، في محاولةٍ لإجبارها على تغيير سلوكها. وفي الوقت نفسه، ستتبع أوروبا وروسيا والصين سياسةً للانخراط مع إيران، على أمل أن يجدوا طريقة بنَّاءةً أكثر لدمجها في المنطقة والعالم.
وإن أُضعِفَت الدبلوماسية والعقوبات، ستبقى هناك تساؤلاتٌ حول السيناريوهات العسكرية. من المستبعد أن يرغب ترمب في شنِّ حرب شاملة؛ إذ لن تحظى على الأرجح بشعبيةٍ لدى قاعدته الجماهيرية. وفي الواقع، حتى وهو يتحدَّث عن زيادة الضغط على إيران إلى أقصاه، فإن رغباته الغريزية المبدئية كانت هي سحب القوات الأميركية من سوريا، التي كانت ساحةَ قتالٍ مركزية لصراع الوكالة الخليجي-الإيراني، وهذا كان له ثمنٌ باهظ دفعه السوريون. الأمر الأكثر ترجيحًا هو أنَّ ترمب سيرغب في زيادة الدعم للحلفاء الإقليميين، الذين يُنظَر إليهم باعتبارهم الأطرافَ التي يجب أن تكون في طليعة مواجهة إيران، وهنا قد يكون ثمة عدم تطابق في التوقعات مع بعض النخب الخليجية، التي ربما تأمل في اضطلاع الولايات المتحدة بدورٍ أكبر بكثير مما هي مستعدَّة للقيام به.
الرد الإيراني
ستمنح الردود الدولية المتباينة إيران مجالًا أكبر للمناورة في ردِّها على قرار ترمب. وفي الواقع، يُعَدُّ الرد الإيراني على التحوُّل في السياسة الأميركية من أوجه الغموض الرئيسة هنا. ففي نهاية المطاف، كان أحد الخلافات الدولية الرئيسة حول الاتفاق النووي الإيراني هو الرؤى المتباينة حيال الكيفية التي تستجيب بها إيران للضغط، في مقابل الكيفية التي تستجيب بها لدعوات المشاركة. وتستند هذه الرؤى إلى قراءاتٍ مختلفة للغاية عن طبيعة عملية صنع القرار وتصورات التهديد داخل النظام السياسي الإيراني. وكما هو حال كثيرٍ من البلدان القمعية، فإن إيران لديها القدرة على أن تقرأ بعمق النقاشات السياسية الأكثر شفافية في الديمقراطيات الغربية بدرجةٍ أكبر مما يمكن للغربيين قراءة دينامياتها الداخلية.
في الوقت نفسه، فإنَّ بعض الاختلافات السياسية بين المعسكرات الإيرانية المختلفة ومؤسسات الدولة واضحةٌ. فالرئيس روحاني وتحالفه البراغماتي المحافظ يبدوان أكثر انفتاحًا على التنازل في بعض عناصر السياسة الخارجية الإيرانية في حال كانت هناك مكاسبُ أخرى يمكن تحقيقها، مقارنةً بقاسم سليماني والحرس الثوري الإيراني، الذي يتولَّى زمام العلاقات الإيرانية مع الفاعلين غير الحكوميين، ويرى أنَّ سياسة إيران الخارجية حيويةٌ وناجحةٌ. وهناك أيضًا تساؤلات حول توازن القوى على المدى الطويل داخل إيران وطبيعة قيادتها المستقبلية بمجرَّد رحيل المرشد الأعلى الحالي.
بالنسبة إلى البلدان الأكثر تعاطفًا مع إيران، فإنَّ دور الأخيرة في المنطقة يتعلَّق أساسًا بـ”الدفاع المتقدم”، أي ضمان أن يكون لديها سياساتُ تأمينٍ في وجه أيِّ هجماتٍ مستقبلية محتملة؛ ولذلك فإنَّ إيران في سيناريوهات الحرب تلك، التي تحدثنا عنها سلفًا واستُخدِمَت المناورات العسكرية لمحاكاتها، تمتلك أوراقًا واضحة يمكنها استخدامها لردع مَن يمكن أن يُهاجِمها. أمَّا بالنسبة إلى أولئك الأكثر انتقادًا لإيران، بما في ذلك السعودية وإسرائيل، فإنَّ ما يُحرِّك إيران هو النزعة التوسعية، والأيديولوجيا، والرغبة في الهيمنة.
وهناك عناصر تنطوي على كلا العاملين. فعلى سبيل المثال، فيما يتعلَّق بدعم حماس وحزب الله، هدَّدت إيران إسرائيل قبل أن تهدِّد إسرائيل إيران؛ لأنَّ النظام الثوري الإيراني نصَّب نفسه مدافعًا عن قضية إسلامية أكبر متمثلةً في القضية الفلسطينية، وذلك لأسبابٍ أيديولوجية ولشرعنة نفسه أيضًا. لكن الآن بات دعم إيران لحزب الله مترسخًا لسببين آخرين. الأول أنَّه يمثِّل وسيلة لتمكين الأقلية الشيعية في عالمٍ إسلاميٍّ أصبح يتسم بالطائفية أكثر مما كان في السنوات الأولى للجمهورية الإسلامية. ومن وجهة نظر إيران، فإنَّه يخدم أيضًا غرضًا جيوسياسيًّا باعتباره وسيلةً للردع، من خلالها يمكن لإيران أيضًا الرد على إسرائيل إن هاجمتها الأخيرة.
ومثالٌ آخر على ذلك نجده في سوريا. إذ كانت سوريا دائمًا منخرطةً في تحالفٍ مع إيران على أساس المعارضة المشتركة للمصالح الأميركية والإسرائيلية [6]، لكنَّها اكتسبت أهميةً جيوسياسيةً أيضًا باعتبارها ممرًّا للأسلحة من إيران إلى حزب الله. ومنذ عام 2011، أصبحت متورطةً في نوعٍ جديد من سياسات الهُوية؛ إذ نظرت إيران لها باعتبارها ساحةَ قتالٍ لمنع المنافسين الخليجيين، فضلًا عن الولايات المتحدة، من زيادة نفوذهم، وكذلك باعتبارها مكانًا ضروريًّا لمواجهة داعش ومنعه من الوصول إلى إيران بحسب ما صوَّرها مسؤولون إيرانيون. وعمومًا، يبدو أنَّ انخراط إيران في صراعات الوكالة يُمثِّل محاولة لقتال منافسيها في أراضي الآخرين؛ لأنَّها ترى هذا بديلًا عن معارك قد تجري بصورةٍ مباشرة أكثر على أراضيها هي.
إن إحدى المشكلات الرئيسة هي أنَّه بالرغم من أنَّ إيران في بعض الحالات ربما مدَّت مجال نفوذها إلى الدول العربية لأنَّها شعرت بأنَّها واقعةٌ تحت ضغطٍ وجودي، فإنَّها لن تتراجع بالضرورة عن تلك المواقف حين يختفي ذلك الضغط. ففي عامي 2015 و2016، كانت مبررات طهران للشعور بأنَّها مُهدَّدة من جانب الولايات المتحدة أقلَّ من أيِّ وقتٍ مضى، لكنَّها لم تفعل أيَّ شيءٍ لبناء الثقة مع جيرانها الإقليميين. وبدلًا من ذلك، اعتقدت أنَّ بإمكانها بناء الثقة مع الغرب عن طريق التعاون في الحملة ضد داعش، واستخدمت التركيز على داعش لشيطنة جيرانها بتحميلها السعودية مسؤولية ظهور أيديولوجيا داعش.
إجمالًا، يبدو أنَّ لدى إيران مصلحةً في الحفاظ على الاتفاق النووي، ومواصلة بعض المشاركة على الأقل مع العالم الخارجي، بما في ذلك روسيا والصين والهند. وعلاوةً على ذلك، سيكون صعبًا على الولايات المتحدة بناء تحالفاتٍ دولية حقيقية أو الحصول على دعمٍ من الأمم المتحدة للخيارات العسكرية ضد إيران في ظلِّ بقاء الاتفاق النووي في موضعه، في حين أنَّ انسحاب إيران من الاتفاق النووي قد يُصوَّر باعتباره تغييرًا من جانب إيران لموقفها تجاه أسلحة الدمار الشامل.
لقد قوَّض الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي الإيراني بصورةٍ حاسمة الفوائدَ الاقتصادية التي يمكن أن يمنحها الاتفاق لإيران. وكانت تلك الفوائد الاقتصادية المحتملة محدودةً بالفعل لأنَّ المستثمرين كانوا مدركين للمخاطر السياسية التي ينطوي عليها الاتفاق (وأيضًا بسبب مشكلات بيئة الأعمال في إيران نفسها)، لكن مع ذلك تُلغى الآن استثماراتٌ رئيسة واتفاقاتٌ تجارية مع الشركات، بدءًا من شركة Total وحتى Boeing.
ويُوجِّه هذا أيضًا ضربةً سياسية خطيرة وربما قاتلة لشركاء واشنطن في المفاوضات، الذين راهنوا بسمعتهم على قضية الاتفاق النووي الإيراني [7]. ومن الآن فصاعدًا، سيكون من الأصعب على الساسة الإيرانيين المستقبليين الترويج لفوائد الدبلوماسية مع واشنطن، ومن المُرجَّح أن تشهد السياسات الداخلية الإيرانية تحولًا باتجاه القوى الأكثر تشددًا [8].
وفي هذا السياق، يعتبر المتشددون الإيرانيون انسحاب ترمب من الاتفاق تطورًا مُرحَّبًا به بصورةٍ ما. فدومًا ما قالوا إنَّ الولايات المتحدة لا تُؤتمَن. والآن يرون فرصةً سانحة كي يتفق معهم بقية العالم. ولأول مرة يكونون جزءًا من اتفاقٍ متعدِّد الأطراف يحظى بترحيبٍ دوليٍّ انسحبت منه الولايات المتحدة بصورة أحادية، وكما هو حال روسيا والصين، يستمتعون الآن بأفضليتهم الأخلاقية، على الرغم من أنَّ التهديدات الحالية للاتفاق هي في جزءٍ منها نتيجةٌ لفشل إيران في حلِّ مشاكلها مع جيرانها.
الخطوات التالية للسعودية والإمارات وإسرائيل
رحَّبت السعودية والإمارات وإسرائيل علنًا بقرار ترمب بشأن الاتفاق النووي الإيراني. ورحَّبت تلك الدول كذلك بـ”استراتيجية” إيران الأوسع التي أعلنتها الإدارة، أولًا في أكتوبر/تشرين الأول الماضي من جانب البيت الأبيض [9]، ثُمَّ بتفصيلٍ أكثر من جانب بومبيو في مايو/أيار؛ لأنَّها تعكس وجهات نظر تلك الدول تجاه إيران كقوة تُقوِّض الدول القائمة وتُزعزع استقرار المنطقة. لكن ليس أكيدًا ما الذي ستقوم به الولايات المتحدة حقًّا (أو إن كانت ستقوم بالكثير من الأساس) لتنفيذ “الاستراتيجية”، التي تنطوي على الكثير مما يتعلَّق بما تريده الولايات المتحدة، مقابل القليل مما يتعلَّق بكيفية تحقيقها أهدافها، باستثناء إعادة فرض العقوبات. ودول الخليج على وجه الخصوص ربما تبالغ في تقدير رغبة الولايات المتحدة وقدرتها على التصدِّي لإيران وحلفائها في ساحات المعارك الإقليمية المختلفة، في حين أنَّ إدارة ترمب ربما، وعلى نحوٍ مماثل، تبالغ في تقدير قدرة حلفائها الإقليميين على القيام بهذا بأنفسهم. والتقارير التي تفيد بأنَّ الولايات المتحدة أرادت تشكيل قوة عربية لتولِّي الدور الأميركي في قتال داعش بسوريا، تدعم تلك الفكرة [10].
وردًّا على هذا التحرك، ستمنح كلٌّ من دول الخليج وإسرائيل الأولوية لمناطق جوارها. فبينما ترى إسرائيل دور إيران في سوريا وكذلك لبنان، لا يبدو أنَّها تجرأت كثيرًا بفعل قرار ترمب حيال الاتفاق النووي الإيراني، وذلك لشعورها بالقلق من نمو الطموحات الإيرانية على حدودها. ففي غياب استراتيجية أميركية واضحة تجاه سوريا، يتمثَّل مبعث قلق إسرائيل الرئيس في أنَّ إيران قد تراكم وجودًا عسكريًّا طويل الأجل في سوريا. وقال رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود باراك في أبريل/نيسان الماضي إنَّ فرص نشوب حربٍ بين إسرائيل وإيران زادت من 1% إلى 10%. وتبادلت إسرائيل وإيران في مايو/أيار التالي إطلاق الصواريخ مباشرةً للمرة الأولى، وبعدما أطلقت إيران صواريخ على إسرائيل، شنَّت إسرائيل هجماتٍ قالت إنَّها دمرت معظم البنية التحتية العسكرية الإيرانية في سوريا.
وجادلت بعض الأصوات الإسرائيلية بأنَّ رغبة الولايات المتحدة في إنهاء وجودها في سوريا تدريجيًّا يشير إلى عدم وجود التزامٍ جديٍّ بحماية إسرائيل من واحدٍ من أهم التهديدات التي تواجهها. فمعظم سياسات ترمب الداعمة لإسرائيل، بدءًا من نقل السفارة إلى القدس وحتى الانسحاب من الاتفاق النووي، هي إجراءات يمكن بالأساس اتخاذها عبر الإعلانات، بعيدًا عن الانخراط في تعقيداتٍ استراتيجية سياسية وعسكرية طويلة الأجل. وفي ظلِّ غياب استراتيجية أميركية واضحة تجاه سوريا، فقد تضطلع روسيا بدورٍ في كبح الأطراف الفاعلة من الدخول في صراعٍ بين الدول، حتى برغم مساهمتها في الصراع السوري الداخلي. وقد سَعَت روسيا باستمرار للتنسيق مع إسرائيل واستيعاب مخاوفها الأمنية بشأن سوريا.
وفي المقابل، فإنَّ التركيز الآني لدول الخليج مُوجَّهٌ لليمن. إذ توغلت القوات التي تقودها السعودية في الأسابيع الأخيرة أكثر باتجاه ميناء الحُديدة الذي يسيطر عليه الحوثيون، ما منحهم ثقةً جديدةً في حملتهم العسكرية، حتى لو كانوا ما يزالون بعيدين عن السيطرة على العاصمة. وبينما تقوم القوات بذلك، ستسعى الرياض وأبو ظبي لمزيدٍ من الدعم من الولايات المتحدة. وقد يتضمَّن هذا مشاركةً أكبر من جانب القوات الأميركية الخاصَّة في قتال الحوثيين، وربما في هجومٍ أخير باتجاه صنعاء (بعد ظهور تقارير العام الماضي تفيد بأنَّ عددًا صغيرًا من القوات الأميركية ساعدت السعودية في تحديد موقع صواريخ للحوثيين وتدميرها) [11]. وسيُضعِف الدعم السياسي والعسكري الأميركي أيضًا تأثير الضغط الأوروبي المتزايد من أجل التوصُّل لوقفٍ لإطلاق النار.
يُمثِّل العراق الأولوية الأخرى؛ إذ ترى السعودية فرصةً سانحةً هناك. وتتناقض السياسات السعودية الرامية لمواجهة نفوذ إيران في العراق تناقضًا صارخًا مع سياساتها تجاه اليمن. فحزب الدعوة العراقي أقرب بكثير إلى إيران مقارنةً بالحوثيين. مع ذلك، بدأت السعودية، بعد عقدٍ من تجنُّب وجود علاقات (دون جدوى) في الانخراط مع الحزب وبعض كبار الإسلاميين الشيعة مثل مقتدى الصدر، وذلك باستخدام دبلوماسية التواصل ووعود التعاون الاقتصادي. ويستند هذا إلى إدراك أنَّ شيعة العراق لديهم مصالح محلية وقومية تتباين أحيانًا مع إيران، وأنَّ كثيرًا من ساستهم محبطون من هيمنة إيران على نظامهم السياسي. ويُقلِّص هذا الانخراط مخاطر تطور التوترات السعودية-الإيرانية إلى توتراتٍ طائفية سُنّية-شيعية محتدمة في كل مكان، ولاقى ترحيبًا من شخصياتٍ شيعية رئيسة من دول الخليج العربية، ولو أنَّ المنتقدين يجادلون بأنَّ هناك مخاطرةً بأن تحلَّ الشوفينية الإثنية (عرب-فرس) محلَّ الشوفينية الطائفية.
بالتأكيد يمكن للسعودية مساعدة القادة العراقيين على تأمين رهاناتهم وموازنة نفوذ إيران، لكن ليس واضحًا ما إن كان بمقدورها تحقيق الأهداف الأكبر المتمثلة في إدخال العراق بإحكامٍ أكبر في فلكها. وفق أحد السيناريوهات، يمكن للولايات المتحدة والسعودية موازنة النفوذ الإيراني بعض الشيء؛ ووفق سيناريو آخر، قد يؤدِّي التنافس السعودي-الإيراني على النفوذ إلى تعميق الانقسامات بصورةٍ جسيمة. وبالرغم من خطاب الولايات المتحدة، فمن المستبعد أن تواجه إيران وحلفاءها في العراق؛ فالانتصار الإقليمي على داعش أضعف الشعور بوجود عدوٍّ مشترك بين الولايات المتحدة وإيران، لكنَّ داعش لم يُهزَم بعدُ في العراق، ويتعيَّن على القوات الأميركية والإيرانية التعايش معًا في الوقت الراهن.
ويبرز تطور جديد من النجاح النسبي الذي حقَّقه الصدريون في انتخابات مايو/أيار الماضي، ولو أنَّ نسبة الإقبال على التصويت كانت منخفضةً للغاية. ويُعَدُّ الصدر قياديًّا إسلاميًّا شيعيًّا كان مُقرَّبًا في السابق من إيران، لكنَّه وضع نفسه منذ سنوات في موضع القوميِّ المناوئ لإيران. تواصلت السعودية معه، وأشاد بعد الانتخابات وزير الدولة السعودي لشؤون الخليج العربي ثامر السبهان بـ”حكمته ووطنيته وتضامنه”. لكنَّ الصدر كان أيضًا مناهضًا راسخًا لأميركا. وعلى الأرجح ستحاول إيران مغازلته من جديد، مثلما فعلوا دومًا في العراق لتأمين رهاناتهم، ما يعكس اهتمامًا بتأمين نفوذهم هناك أكثر من اهتمامهم بتثبيت أيِّ حزب أو شخصية معينة. فضلًا عن أنَّ هناك تساؤلاتٍ حول مدى عمق ومصداقية تحوُّل الصدر من شخص طائفيٍّ إلى قوميٍّ.
وتُعَدُّ السعودية والإمارات وإسرائيل أعلى الأصوات ضد إيران في المنطقة، لكنَّ هناك طيفًا أوسع من وجهات النظر. فداخل الخليج، رحَّبت أطرافٌ أخرى بالاتفاق النووي، بما في ذلك دبي. والتهديد المُعرَّضة له عُمان يجعلها منزعجةً بصورةٍ كبيرة. أمَّا تركيا، التي طرحت مقترحها الخاص مع البرازيل لحلِّ المسألة النووية في عام 2010، فقالت إنَّ قرار ترمب مؤسف. وقد تكون وجهات نظر مصر مختلطةً؛ لأنَّها ترغب في منح الأولوية لمواجهة الإسلامويين السُّنَّة، ولهذا تتمتَّع بعلاقاتٍ جيدة نسبيًّا مع الحكومتين السورية والروسية. واتصالًا بهذا، حين صعَّدت السعودية التوترات مع إيران بسبب لبنان العام الماضي، قال الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إنَّ المنطقة لا تحتاج إلى تصعيدٍ آخر. وبالنسبة إلى لبنان والعراق واليمن، فإنَّ هذه البلدان منقسمةٌ للغاية حيال دور إيران؛ فبعض الفصائل ربما ترحِّب بالمواجهة، في حين ستخشى أخرى، خصوصًا في العراق، أن يُذكي ذلك ببساطة مشكلاتها الداخلية.
الخاتمة
تميل السعودية وإسرائيل والولايات المتحدة إلى تصوير السلوك الإيراني بمعزلٍ عن السياق الأوسع للصراع. إذ يُصوَّر باعتباره “رعايةً للإرهاب”، و”تدخُّلًا”، و”نشاطًا مُزعزِعًا للاستقرار” تتعيَّن مواجهته وضبطه. في الوقت نفسه، هناك الخطر المتمثِّل في أن تتمكَّن إيران بصورةٍ ملائمة من نشر روايةٍ لتبرير تصرفاتها تكون فيها هي ضحية أهواء رئيسٍ أميركي مُتقلِّب، ولا تُراجِع بجدية أثر سياساتها الإقليمية في الصراع، وضعف الدول، والطائفية في المنطقة. ويتعيَّن على دول الشرق الأوسط التي لديها بالفعل حوار مع إيران متابعته بطريقةٍ مختلفة، بألا يكون التواصل فقط مع وزارة الخارجية، بل وكذلك مع مجلس الأمن القومي والمؤسسات الأخرى في الحكومة الإيرانية.
وفي النهاية، يتطلَّب كبح الدعم الإيراني للفاعلين المُسلَّحين غير الحكوميين استراتيجيةً لتغيير سياق الصراع الذي تعمل إيران في ظلِّه، ومعالجة الطلب على الرعاية الإيرانية، والعرض أيضًا. ويجب معالجة الصراع حول دور إيران عن طريق حلِّ الصراعات المختلفة التي تضطلع فيها الميليشيات المدعومة من إيران بدورٍ دون أن تكون هي أطراف الصراع الوحيدة، وبناء نظامٍ أمني إقليمي فعَّال وأفضل. وستكون الجهود الأوروبية للمساهمة في بناء السلام والتنمية في العراق وسوريا واليمن بالغةَ الأهمية في هذا الإطار.
الهوامش
1- لا يوجد إجماعٌ في قضية انتشار الصواريخ مثل الإجماع الدولي القانوني المعياري القوي بشأن عدم انتشار الأسلحة النووية.
2- انظر على سبيل المثال:
Amos Harel and Yaniv Kubovich, ‘Despite Faults, Iran Nuclear Deal Works, Israeli Military Chief Tells Haaretz’, Haaretz, March 30, 2018
وانظر أيضاً:
Dan Arbell, ‘The domestic considerations behind Israel’s support of Iran deal de-certification’, Brookings Institute, 13 October 2017
وانظر أيضاً:
Bernard Avishai, Why Israeli Nuclear Experts Disagree With Netanyahu About The Iran Deal, The New Yorker, October 24 2017. https://www.newyorker.com/news/daily-comment/why-israeli-nuclear-experts-disagree-with-netanyahu-about-the-iran-deal
3- US Department of State, ‘After the Deal: A New Iran Strategy – Remarks by Mike Pompeo, Secretary of State’, Washington, DC, May 21, 2018
https://www.state.gov/secretary/remarks/2018/05/282301.htm
4- انضمَّت الكويت مؤخراً إلى البحرين والمملكة العربية السعودية في إدانة خليةٍ قالت إنها تضم مُسلَّحين درَّبتهم إيران، وبينما تعتقد الحكومات الغربية عادةً أن البحرين والمملكة العربية السعودية تميلان بدرجةٍ مُبالغٌ فيها إلى اتهام إيران بالتسبُّب في مشكلاتهما الداخلية، أكَّدت المملكة المتحدة والولايات المتحدة في السنوات التي أعقبت عام 2011 بعض التقارير المتعلقة بعمليات نقل أسلحة إيرانية إلى مسلحين بحرينيين.
5- ربما أُقنِعَ رئيسٌ جمهوري آخر بمزايا “الاتفاق الجانبي” الذي وضعه الدبلوماسيون الأوروبيون لمعالجة المخاوف الأميركية في الأشهر القليلة الأولى من العام الجاري 2018، أو ربما قدَّم لأوروبا حجةً أشد إقناعاً كي تنسحب من الاتفاق. وفي الوقت الراهن، يُعَد موقف الولايات المتحدة في مواجهة إيران أضعف ممَّا كان عليه قبل الاتفاق.
6- Jubin Goodarzi, Syria and Iran: Diplomatic Alliance and Power Politics in the Middle East, IB Tauris (London: 2009)
7- Azadeh Zamirirad, ‘To Save the Iran Deal, the EU Must Quit Playing Defence’, European Leadership Network, 25 September 2017.
8- Sanam Vakil, ‘By Pulling Out of Nuclear Deal, Trump Hands Gift to Iranian Hardliners’, Chatham House Expert Comment, 9 May 2018
9- The White House, Fact Sheet: President Donald J. Trump’s New Strategy for Iran, October 13 2017. https://www.whitehouse.gov/briefings-statements/president-donald-j-trumps-new-strategy-iran/
10- Michael R. Gordon, U.S. Seeks Arab Force and Funding for Syria, Wall Street Journal, April 16 2018. https://www.wsj.com/articles/u-s-seeks-arab-force-and-funding-for-syria-1523927888
11- Helene Cooper, Thomas Gibbons-Neff and Eric Schmitt, ‘Army Special Forces Secretly Help Saudis Combat Threat From Yemen Rebels’, New York Times, May 3, 2018
https://www.nytimes.com/2018/05/03/us/politics/green-berets-saudi-yemen-border-houthi.html