هذا المقال ترجم من اللغة الانجليزية إلى العربية

خلاصة: [i]

ظلت سوريا خارج نطاق الصورة الإقليمية ولم يتم ذكرها في نطاق أزمة غزة إلا مرة واحدة. ولم يكن هذا الوضع مفاجئًا، إذ شهدت البلاد فترة هدوء نسبي منذ أوائل عام 2020، تبلورت في عدم تغير حدود مناطق النفوذ منذ ذلك الحين. وقد أحكمت أطراف الصراع السوري المختلفة، بدءًا من هيئة تحرير الشام إلى حزب الاتحاد الديمقراطي، قبضتها على مناطق نفوذها على مدى السنوات الماضية. رغم كل هذه الظروف، ومع استمرار أزمة غزة، من المرجح أن تظهر سوريا على الساحة مجددًا بسبب عوامل متعددة يمكن تلخيصها على النحو التالي:

  • هجمات الميليشيات المدعومة من إيران على القوات الأمريكية في سوريا.
  • تهريب المخدرات من جنوب سوريا إلى الأردن.
  • تصعيد قصف النظام على إدلب.
  • القرار الصادر عن برنامج الغذاء العالمي بالتوقف عن تقديم المساعدات لسوريا، والاقتصاد السوري المتدهور.
  • التطورات في شمال شرق سوريا ورد فعل تركيا.

مقدمة

لقد مرت أكثر من ثلاثة أشهر على العملية العسكرية التي تشنها إسرائيل ضد قطاع غزة، وحتى الآن لم تحقق تل أبيب  أهدافها المعلنة المتمثلة بالقضاء على حماس وإطلاق سراح جميع الأسرى في غزة. تسببت الهجمات الإسرائيلية المتعمدة والمفرطة والشرسة ضد المدنيين في غزة، والتي لم تميز بين المدنيين والمقاتلين، كارثة إنسانية في القطاع. وحتى تاريخ 11 يناير/كانون الثاني، قُتل ما لا يقل عن [ii]23,469 شخصًا، من بينهم [iii]8,000 طفل بوحشية، وأصيب 59,604 في الهجمات الإسرائيلية المذكورة. كما لا يزال آلاف الغزيّين تحت الأنقاض، مما يعني أن عدد القتلى سيرتفع بشكل كبير بمجرد أن ينجلي غبار الحرب على  القطاع.

وبسبب هذا الواقع المرير وحقيقة أن قطاع غزة يمر بكارثة بكل معنى الكلمة، فمن الطبيعي أن تستحوذ هذه القضية على أجندة وسائل الإعلام الدولية لفترة طويلة. ومع ذلك، وكما حدث في العديد من المآسي الإنسانية الأخرى المماثلة، ومع استمرار الحرب في قطاع غزة، فمن المرجح أن تواجه هـذه المأساة الإنسانية خطرالنسيان أو التجاهل في وسائل الإعلام من خلال عدم تصدرها عناوين الأخبار يوميًا، على عكس الأيام الساخنة الأولى للحرب. وعلى سبيل المثال فقد كان الغزو الروسي لأوكرانيا حدثًا عالميًا كبيرًا لا يقل أهميةً عن هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001، ولكنّه – مع ذلك – لم يعد على أجندة وسائل الإعلام الدولية منذ فترة (منذ ما قبل الحرب على غزة). وهو بمثابة تذكير صارخ بهذا الوضع.

سوريا تحت الضوء: احتمالية نشوب حرب إقليمية

عند السؤال عما إذا كانت الحرب على غزة ستؤدي إلى حرب إقليمية في الشرق الأوسط، ستكون  سوريا من أوائل الدول التي تتبادر إلى الأذهان. إن تحالف سوريا طويل الأمد مع إيران، والوجود المكثف للميليشيات المدعومة من إيران في سوريا، والهجمات المحتملة من سوريا على مرتفعات الجولان التي تحتلها إسرائيل، كلها عوامل وجّهت الأنظار نحو سوريا. ولكن، على الرغم من جميع التوقعات، ما زالت سوريا تحاول حتى الآن أن تنأى بنفسها عن تداعيات الحرب على غزة قدر الإمكان. منذ أن نفذت تركيا عملية درع الربيع ضد النظام السوري وحلفائه غير الدوليين في أوائل عام 2020، شهدت سوريا، المقسمة فعليًّا إلى أربع مناطق نفوذ بين جهات فاعلة مختلفة، فترة هدوء نسبي. لقد كانت هذه الصورة واضحة تمامًا، حيث لم تتغير حدود مناطق النفوذ في البلاد منذ ذلك الحين. كما قامت أطراف مختلفة من الصراع السوري، بدءًا من هيئة تحرير الشام إلى حزب الاتحاد الديمقراطي السوري التابع لحزب العمال الكردستاني، بتعزيز سلطتها في مناطق نفوذها خلال هذه السنوات في وقت تراجع فيه العنف في البلاد إلى حد كبير. لكن رغم هذا الهدوء الجزئي، تتزايد احتمالات دخول سوريا – التي لم تكن تحت دائرة الضوء منذ فترة طويلة – على الرادار الإقليمي في الفترة المقبلة.

المؤشرات التي تسبب هذه الحالة هي كما يلي:

هجمات الميليشيات المدعومة من إيران على أهداف أمريكية وإسرائيلية

وعلى الرغم من أن إيران لا تشارك بشكل مباشر في الحرب الدائرة في غزة، إلا أنها انخرطت في الحرب من خلال قواتها الوكيلة في المنطقة. فمن العراق إلى لبنان، ومن اليمن إلى سوريا، ينخرط وكلاء إيران غير الدوليين في قتال “تحت السيطرة” ضد إسرائيل في الوقت الحالي. وفي هذا الصدد، شنت الميليشيات المدعومة من إيران العديد من الهجمات[iv] على القوات الأمريكية المتمركزة في سوريا منذ اندلاع الحرب على  غزة. وبسبب الدعم غير المشروط الذي قدمته الولايات المتحدة بشكل خاص والغرب بشكل عام لإسرائيل في حربها على غزة، لجأت الميليشيات المدعومة من إيران إلى هذا الأسلوب من أجل الضغط على واشنطن لوقف إطلاق النار في غزة. حتى الآن، قدمت الولايات المتحدة لإسرائيل شيكًا على بياض ولم تمارس ضغوطًا كبيرة على تل أبيب لوقف إطلاق النار.

بالإضافة إلى ذلك، تم تنفيذ بعض الهجمات من سوريا على كل من هضبة الجولان[v] ومدينة إيلات الإسرائيلية. [vi] ورغم أن هذه الهجمات دفعت  إسرائيل لرد على الميليشيات المدعومة من إيران في مناطق مختلفة، إلا أنها لم تتمكن من إجبار تل أبيب على وقف إطلاق النار. وردّت إسرائيل على هذه الهجمات بقصف مطاري دمشق[vii] وحلب[viii]  في سوريا. وحدث تطور أكثر أهمية في الأيام الأخيرة من شهر ديسمبر، حيث قُتل[ix] العميد رضا موسوي، عضو الحرس الثوري الإيراني، في هجوم شنته إسرائيل في دمشق. وتكمن أهمية هذا الاغتيال لمكانة موسوي بإعتباره القائد الأعلى للقوات الإيرانية في سوريا، وسارعت إيران إلى التعهد بالانتقام[x] من إسرائيل لمقتل موسوي. وعلى صعيد آخر، قُتل[xi] نائب رئيس حركة حماس صالح العاروري في هجوم شنته إسرائيل في بيروت. كان لهذا الهجوم أهمية كبيرة لأنه كان أول هجوم إسرائيلي على بيروت منذ عام 2006. وقد أعقبته غارة أمريكية أدت إلى مقتل قائد في الحشد الشعبي[xii] في العراق. ونظرًا لهذه الطبيعة المترابطة للميليشيات، يبدو أن الهجمات على القوات المدعومة من طهران ستزداد.

مكافحة الأردن مهرّبي المخدرات من سوريا

المؤشر الثاني الذي قد يؤدي إلى تصاعد التوتر في سوريا هو حرب الأردن ضد مهربي المخدرات السوريين. وكان الأردن، الجار الجنوبي لسوريا، من أكثر الدول تضررًا من الأزمة السورية التي بدأت مع اندلاع الربيع العربي. وتستضيف البلاد، على سبيل المثال، مئات الآلاف[xiii] من اللاجئين السوريين. طبّعت عمّان علاقاتها مع نظام دمشق في السنوات الأخيرة، رغم كونها إحدى أول العواصم التي قطعت علاقاتها مع النظام السوري بعد عام 2011. وبتعبير أدق، لم يقم الأردن بتطبيع علاقاته مع سوريا فحسب، بل شجع أيضًا[xiv] الدول الأخرى على التطبيع مع النظام من خلال مناورات دبلوماسية مختلفة.

هناك عدة أسباب وراء رغبة حكومة عَمّان في تطبيع علاقاتها مع دمشق. ولكن هناك عاملان حاسمان هما إعادة اللاجئين السوريين إلى بلدانهم وتحسين الاقتصاد الأردني المتعثر[xv]. إلى جانب ذلك، كان وقف تدفق المخدرات من سوريا إلى الأردن هدفًا أساسيًا. لكن الأردن لم تتمكن من تحقيق نجاح جدي في أي من هذه الأهداف. والأدهى من ذلك أن تجربة الأردن في الوقاية من المخدرات لم تكن سوى مأساة وخيبة أمل محضة. حيث يقوم مهربو المخدرات التابعون لحزب الله اللبناني المتمركزون في سوريا، إلى جانب نظام الأسد، بتجديد أساليبهم باستمرار لتهريب الكبتاجون (نوع من المخدرات التي ينتجونها) إلى الأردن، فقد حاولوا تهريب المخدرات إلى الأردن عبر طائرات بدون طيار[xvi] محملة بالمخدرات. وبسبب هذا الوضع، كانت تحدث بين الحين والآخر اشتباكات بين الجيش الأردني والمهربي، قُتل خلالها بعض تجار المخدرات[xvii] على يد الجيش الأردني خلال الاشتباكات. و خلال  الأسبوع الثاني من شهر ديسمبر/كانون الأول 2023، اندلعت اشتباكات عنيفة استمرت لساعات بين الجيش الأردني وتجار كانوا يحاولون تهريب الأسلحة والمخدرات من سوريا إلى الأردن. ووصل الوضع إلى ذروته عندما نفذ الأردن غارات جوية على المهربين المذكورين في جنوب سوريا. ولم يكن هذا القصف الأول من نوعه، حيث نفذ الجيش الأردني في مايو/أيار 2023 غارات جوية على المهربين في جنوب سوريا.

وفي أعقاب الأحداث الأخيرة، قُتل بعض المهربين على يد الجيش الأردني، وتم القبض على تسعة آخرين. كما أصيب بعض أفراد الجيش الأردني[xviii] في الاشتباكات المذكورة. وبحسب السلطات الأردنية، تم ضبط أكثر من 5 ملايين[xix] من حبوب الكبتاجون نتيجة لهذه الحوادث. وبالإضافة إلى المخدرات، ضبطت السلطات الأردنية أسلحة آلية وصواريخ مضادة للدبابات. وهناك نقطة أخرى جديرة بالملاحظة وهي كما يلي: ألقت الإدارة الأردنية اللوم على إيران في تهريب المخدرات، لكن حكومة عمان لا تزال تحاول في تصريحاتها استخدام لغة حذرة ضد نظام الأسد، رغم أن المسؤولية تقع على عاتق دمشق وحلفائها.

هجمات على إدلب وصراع هيئة تحرير الشام مع الجيش الوطني السوري

معضلة إدلب هي الديناميكية الثالثة التي ستدفع سوريا إلى ساحة التركيز الإقليمي في عام 2024. وبتشجيع من الانفتاح الدبلوماسي، المتمثل بعودة سوريا إلى جامعة الدول العربية، ومشاركة الأسد في القمم الدبلوماسية مثل قمة منظمة المؤتمر الإسلامي في الرياض بعد اندلاع الحرب على  غزة، نرى تطلع نظام الأسد إلى محافظة إدلب، حيث يشن النظام السوري وحلفاؤه سلسلة من الهجمات على محافظة إدلب، التي تستضيف أكثر من 4 ملايين مدني وتخضع لسيطرة هيئة تحرير الشام، وهي النسخة المتطورة من جبهة النصرة، الفرع السابق لتنظيم القاعدة في سوريا.

وعلى الرغم من استهداف إدلب منذ فترة طويلة بشكل متقطع من قبل النظام، إلا أن حدة الهجمات التي نفذها جيش النظام والطائرات الحربية الروسية والميليشيات المدعومة من إيران على المحافظة قد زادت، خاصة منذ بدء الحرب على  غزة. أدت هذه الهجمات إلى إصابة مئات الأشخاص وفقدان عشرات[xx] من المدنيين أرواحهم. وفي يناير/كانون الثاني، وفي أعقاب هجمات النظام على المدنيين في إدلب، شوهدت طائرات تركية من طراز F-16 [xxi] تحلق فوق إدلب، على الرغم من سيطرة روسيا على المجال الجوي. ورغم أن طائرات F-16 لم تقصف أي منطقة، إلا أنها كانت تهدف إلى إرسال رسالة سياسية إلى نظام الأسد، كما استهدفت تركيا في نفس اليوم بعض مواقع النظام عبر مدفعيتها[xxii]. وتؤيد أنقرة بقاء الوضع الراهن في إدلب، لأن الهجوم الشرس على إدلب من قبل النظام وحلفائه قد يؤدي إلى تدفق جديد للاجئين نحو حدود تركيا.

بالإضافة إلى ذلك، تحاول هيئة تحرير الشام ذات الوزن الثقيل توسيع المناطق التي تسيطر عليها منذ فترة طويلة. ولهذا الغرض، فإنها تواجه أحيانًا منافسها: الجيش الوطني السوري المدعوم من تركيا. على سبيل المثال، في أواخر أيلول/سبتمبر، انخرطت هيئة تحرير الشام في صراع على السلطة[xxiii] مع الجيش الوطني السوري من خلال حلفائها في منطقة درع الفرات وسيطرت على بعض المناطق لفترة قصيرة. ورغم أن التوتر هدأ لاحقًا عبر التدخل التركي، إلا أن تكرار الخلافات بين الطرفين في الفترة المقبلة أمر محتمل ولا يحتاج إلا إلى شرارة صغيرة.

يبدو أن الأزمة الأخيرة داخل هيئة تحرير الشام أدت إلى تفاقم الوضع الأمني في شمال غرب سوريا. كما تمت إقالة العراقي أبو ماريا القحطاني، أحد مؤسسي جبهة النصرة والمعروف بأنه الرجل الثاني في هيئة تحرير الشام بعد زعيمها أبو محمد الجولاني، من قبل الجماعة قبل بضعة أشهر، وما زال الغموض يكتنف مصيره منذ إقالته. كما تسربت في الآونة الأخيرة شائعات عن وفاته عبر وسائل الإعلام، ولا يزال من غير الواضح حاليًا ما إذا كان قد توفي بالفعل، وما هي الظروف المحيطة بوفاته (إذا كانت الإشاعة صحيحة)، أو ما إذا كان التنظيم نفسه هو من قام بقتله.

بالإضافة إلى ذلك، حدثت أزمة ثانية داخل التنظيم هي “أزمة أحمد زكور”، إذ أعلن زكور، وهو شخصية رفيعة المستوى في هيئة تحرير الشام مثل القحطاني، تركه[xxiv] للهيئة وتبرُّئه من تصرفاتها. وفرَّ زكور وبعض أتباعه لاحقًا إلى مسقط رأسه مدينة أعزاز في ريف حلب، للاحتماء بقبيلته البقارة. ظهرت بعد ذلك مقاطع فيديو على وسائل التواصل الاجتماعي تظهر اشتباكات عنيفة في أعزاز بين أنصار زعيم هيئة تحرير الشام الجولاني والموالين لزكور. [xxv] وبحسب ما ورد أصيب بعض المدنيين في الاشتباكات. ولا يزال الغموض يحيط بمصير زكور حتى الآن، تمامًا كما حدث مع القحطاني. ومع ذلك، فمن الواضح أن الأجواء في شمال غرب سوريا ستظل متوترة في الفترة المقبلة. ليس هناك شك أن هيئة تحرير الشام ستواصل تحدي الجيش الوطني السوري بمجرد أن ترى فرصة سانحة لإخضاع المناطق التي تسيطر عليها إلى سلطة حكومة الإنقاذ المدعومة من هيئة تحرير الشام.

قرار برنامج الأغذية العالمي بإنهاء الدعم لسوريا والاقتصاد السوري المتعثر

كان للدعم الذي قدمه برنامج الأغذية العالمي دورًا حاسمًا في إنقاذ أرواح ملايين المحتاجين في سوريا. إذ تواجه البلاد تحديات كبيرة، ويعيش أكثر من 90% من السكان تحت خط الفقر، ويحتاج 70% على الأقل إلى مساعدات إنسانية. ومع ذلك، أعلن برنامج الأغذية العالمي أنه سينهي برنامج المساعدة الرئيسي الخاص به في جميع أنحاء سوريا في بداية عام 2024[xxvi] بسبب تقلص الميزانيات. استفاد في الآونة الأخيرة 2.5 مليون شخص من دعم برنامج الأغذية العالمي، التي سبق أن خفضت المساعدات التي تقدمها لسوريا تدريجيًا. وهنا نذكر أن إرهاق المانحين بسبب إطالة أمد الحرب السورية (التي استمرت أكثر من مجموع الحربين العالميتين الأولى والثانية)، والحاجة إلى دعم ملايين اللاجئين الأوكرانيين بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، والحقيقة أن مئات الآلاف من سكان غزة سيحتاجون إلى مساعدة إنسانية بسبب استمرار الحرب على  غزة، كلها عوامل ساهمت معًا في قرار البرنامج العالمي للأغذية بوقف دعم سوريا.

من المرجح أن تؤدي الصورة القاتمة التي تظهر حرمان ملايين الأشخاص من المساعدات الإنسانية إلى أزمة إنسانية حادة في سوريا. كما أدى الاقتصاد السوري المتعثّر[xxvii] إلى جانب التضخم ومعدلات البطالة المرتفعة جدًا[xxviii] إلى محاولة الكثير من السوريين مغادرة سوريا بشكل غير قانوني والوصول إلى الدول الأوروبية منذ فترة طويلة. وليس من المستبعد أن يؤدي قرار برنامج الأغذية العالمي الأخير إلى تسريع نحو هذا الاتجاه حيث سيتم دفع المزيد من المدنيين السوريين إلى وضع أكثر يأسًا وفقرًا. علاوة على ذلك، فمن الواضح أنه، حتى لو بقي هؤلاء الأشخاص، الذين ليس لديهم ما يخسرونه، في سوريا، فمن المرجح أن تؤدي المشاكل الاقتصادية إلى مشاكل مجتمعية أو “تحلّل مجتمعي” على وجه التحديد. وهذه هي الديناميكية الرابعة التي ستعيد سوريا إلى بؤرة التركيز الإقليمي في عام 2024.

التطورات في شمال شرق سوريا

العامل/الديناميكية الخامسة التي من المرجح أن تضع سوريا في مركز المناقشات الإقليمية هي بعض التطورات الحاسمة في شمال شرق سوريا. حيث تم اتخاذ خطوات سياسية مختلفة مؤخرًا في المناطق التي يسيطر عليها حزب الاتحاد الديمقراطي وقوات سوريا الديمقراطية في شمال شرق سوريا، والتي يُنظر إليها على أنها في وضع أفضل من بقية البلاد، وذلك بفضل الموارد الطبيعية التي تسيطر عليها والمناطق الزراعية الخصبة والدعم المال يوالسياسي الذي تتلقاه من الولايات المتحدة. ونتيجة لسلسلة من الاجتماعات التي عقدت في الرَّقَة، تم مؤخرًا اعتماد “عقد اجتماعي” جديد[xxix]، والذي يمكن اعتباره “دستور” شمال شرق سوريا، في المناطق الخاضعة لسيطرة حزب الاتحاد الديمقراطي/قوات سوريا الديمقراطية. بالإضافة إلى ذلك، غيّر الكيان الإداري الخاضع لسيطرة حزب الاتحاد الديمقراطي اسمه مرة أخرى، وأصبح “الإدارة الذاتية الديمقراطية لشمال وشرق سوريا”.[xxx] ومع أحدث التطورات، تم أيضًا إعادة تشكيل هيكل الإدارة الذاتية الديمقراطية لشمال وشرق سوريا. وعلى الرغم من أن مسألة تجديد العقد الاجتماعي نوقشت منذ فترة طويلة، إلا أنه من الجدير بالذكر أن العملية انتهت بعد وقت قصير من الاشتباكات التي دارت بين قوات سوريا الديمقراطية والعشائر العربية[xxxi] في دير الزور، وأسفرت الاشتباكات عن مقتل الكثيرين، بينهم مدنيون.

بالإضافة إلى هذه التغييرات، انتخب مجلس سوريا الديمقراطية، المعروف باسم الجناح السياسي لقوات سوريا الديمقراطية، أيضًا اسمين جديدين كرئيسين مشاركيّن له. في حين أن هناك مزاعم بأن محمود المسلط، أحد الرؤساء المشاركين المنتخبين حديثًا، له علاقات وثيقة مع المعارضة السورية المدعومة من تركيا[xxxii]، كما سبق له أن عقد اجتماعات[xxxiii] مع الرئيس أردوغان، وأبدى استعداده[xxxiv] للدخول في حوار مع تركيا بعد توليه المنصب الجديد، فمن المرجح أن تنظر أنقرة إلى التطورات المذكورة أعلاه على أنها “تسريع وتعميق وترسيخ مشروع بناء دولة لحزب العمال الكردستاني” في سوريا. في واقع الأمر، تعتبر تركيا سوريا والعراق ملفًا واحدًا فيما يتعلق بعملياتها عبر الحدود. ومن المرجح جدًا أن يستمر هذا الاتجاه في عام 2024، كما يتضح من الغارات الجوية التي شنتها أنقرة والتي استهدفت المناطق التي يسيطر عليها حزب الاتحاد الديمقراطي في شمال شرق سوريا[xxxv] نتيجة مقتل 21 جنديًا تركيا[xxxvi] في الاشتباكات[xxxvii] مع حزب العمال الكردستاني في العراق نهاية ديسمبر/كانون الأول، ومنتصف يناير/كانون الثاني 2024. واللافت أيضًا أن حزب العمال الكردستاني بدأ هجماته في الشتاء، على عكس السنوات السابقة. ونظرًا لتطور صناعة الطائرات بدون طيار في تركيا، لم يتمكن حزب العمال الكردستاني من شن هجمات ضد المواقع التركية.

ومع ذلك، يبدو أن انخفاض نشاط الطائرات بدون طيار التركية في إقليم كردستان العراق الناتج عن الظروف الجوية القاسية في المنطقة قد حفَّز حزب العمال الكردستاني على استئناف هجماته. تنفذ تركيا منذ فترة طويلة عمليات من خلال جهاز المخابرات الوطني ضد عناصر حزب العمال الكردستاني في المناطق التي ترى أنها تشكل تهديدًا، بما في ذلك مناطق مثل السليمانية ودير الزور[xxxviii]، والتي تبعد مئات الكيلومترات عن حدود تركيا في كل من سوريا والعراق. علاوة على ذلك، زادت تركيا من هجماتها على المناطق التي يسيطر عليها حزب الاتحاد الديمقراطي في شمال شرق سوريا، وخاصة على البنية التحتية الحيوية وحقول النفط التي توفر مصدر دخل لحزب الاتحاد الديمقراطي والقوات الديمقراطية السورية. وبما أن شمال شرق سوريا يعتبر معقلًا للإرهاب من قبل تركيا، فمن غير المتوقع أي تغيير في نهج أنقرة تجاه المنطقة على المدى القريب. في مثل هذه الفترة، تبدو الولايات المتحدة غير مهتمة تمامًا بالتطورات السياسية في شمال شرق سوريا. وهذا الوضع ملاحظ في تصريحات قائد قوات سوريا الديمقراطية مظلوم عبدي. حيث صرح عبدي مؤخرًا أن الولايات المتحدة لم تعلق على “العقد الاجتماعي” وإعادة الهيكلة الإدارية التي تم قبولها حديثًا للإدارة الذاتية الديمقراطية لشمال وشرق سوريا. [xxxix] علاوة على ذلك، يشكو عبدي، من وقت لآخر، من أن الولايات المتحدة لا تتخذ أي خطوات في سبيل مواجهة الضربات الجوية التركية في شمال شرق سوريا. في الواقع، لا يعد هذا الوضع مفاجئًا، حيث أوضح المسؤولون الأمريكيون باستمرار وبشكل متكرر أن وجودهم في سوريا سببه القتال ضد داعش.

الخلاصة:

لقد أدى الهجوم الذي شنته حماس في 7 أكتوبر/تشرين الأول وما أعقبه من رد فعل إسرائيلي شرس إلى تحوّل كبير في التركيز الإقليمي. وتفاقمت الأوضاع أبعد من ذلك، حيث تحولت الحرب على غزة إلى حدث عالمي، مثل الغزو الروسي لأوكرانيا، وذلك بسبب تداعياته التي تجاوزت منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. ومع ذلك، من المرجح أن تعود سوريا، التي ولَّدت العديد من التعقيدات للدول المجاورة، إلى دائرة  التركيز الإقليمية بسبب ديناميكيات مختلفة في عام 2024. حيث إن سوريا بعيدة كل البعد عن أن تكون مستقرة، وستظل كذلك لسنوات قادمة. على الرغم من أن النظام ازداد جرأة بعد عودة سوريا إلى الحاضنة العربية، إلا أن عام 2023 والسنوات السابقة أظهر الوضع المزري لنظام الأسد، كما يتضح من الاحتجاجات واسعة النطاق التي استمرت لأشهر[xl]  ضد الحكومة السورية في محافظة السويداء ذات الأغلبية الدرزية في جنوب سوريا، كما وينفذ تنظيم داعش هجمات[xli] متواصلة ضد قوات النظام في البادية، ما أدى  إلى سقوط العديد من الضحايا في صفوف الموالين للأسد. باختصار، يجب على الدول المجاورة لسوريا والقوى العالمية الكبرى سواسية أن تراقب عن كثب التطورات الحاصلة  في البلاد، حيث تظل سوريا بمثابة قنبلة موقوتة. ومن المرجح أن يكون لإغفال النظر عن مجريات الأمور فيها  تكلفة باهظة بالنسبة للدول المشاركة في الصراع السوري.

المراجع

[i] تم نشر نسخة باللغة التركية أقصر من هذا الموجز بواسطة Perspektif Online في 10 يناير 2024. يمكن الوصول إلى النسخة التركية القصيرة هنا: https://www.perspektif.online/bolgesel-radarda-suriye-nerede-duruyor/

[ii] Gaza daily deaths exceed all other major conflicts in 21st century: Oxfam, Al Jazeera, 11 January 2024, https://www.aljazeera.com/news/2024/1/11/gaza-daily-deaths-exceed-all-other-major-conflicts-in-21st-century-oxfam

[iii] In pictures: Netherlands event honours 8,000 Gaza children killed by Israel, TRT World, 21 December 2023, https://www.trtworld.com/middle-east/in-pictures-netherlands-event-honours-8000-gaza-children-killed-by-israel-16327128

[iv] Meghann Myers, US troops in Iraq and Syria have faced over 100 attacks since October, Military Times, 22 December 2023, https://www.militarytimes.com/news/your-military/2023/12/21/us-troops-in-iraq-and-syria-have-faced-over-100-attacks-since-october/

[v] Laura Lamberti, Rockets from Syria target Israeli positions in Golan Heights, Rudaw, 11 October 2023, https://www.rudaw.net/english/middleeast/11102023

[vi] Emanuel Fabian and TOI Staff, Eilat school was hit by drone fired from Syria, IDF says as it strikes back, Times of Israel, 10 November 2023, https://www.timesofisrael.com/idf-strikes-syria-in-response-to-drone-attack-on-eilat-school/

[vii] Syria says Israel strike puts Damascus airport out of service, Reuters, 26 November 2023, https://www.reuters.com/world/middle-east/flights-diverted-latakia-aleppo-damascus-airport-al-watan-2023-11-26/

[viii] Ahmad Gouda, Syria’s Aleppo international Airport comes under 2nd Israeli missile attack, Anadolu Agency, 15 October 2023, https://www.aa.com.tr/en/middle-east/syrias-aleppo-international-airport-comes-under-2nd-israeli-missile-attack/3020599

[ix] Israeli air strike in Syria kills senior Iranian Revolutionary Guards member, Arab News, 26 December 2023, https://www.arabnews.com/node/2431976/middle-east

[x] Adil Al-Salmi, Tehran Declares ‘Countdown’ to Retaliation for Killing of Mousavi, Asharq Al-Awsat, 27 December 2023, https://english.aawsat.com/world/4753256-tehran-declares-%E2%80%98countdown%E2%80%99-retaliation-killing-mousavi

[xi] Awad Al Rajoub, PROFILE – Saleh al-Arouri, Hamas deputy leader assassinated by Israel in Lebanon, Anadolu Agency, 2 January 2024, https://www.aa.com.tr/en/middle-east/profile-saleh-al-arouri-hamas-deputy-leader-assassinated-by-israel-in-lebanon/3098622

[xii] Julian Bechocha, Two dead in suspected US airstrike on PMF base in Baghdad, Rudaw, 4 January 2024, https://www.rudaw.net/english/middleeast/iraq/040120241

[xiii] Total Registered Syrian Refugees, United Nations High Commissioner for Refugees, 31 December 2023, https://data2.unhcr.org/en/situations/syria/location/36

[xiv] Ibrahim Hamidi, Secret Jordanian Document Proposes ‘Change in Behavior’ of Syrian Regime, Asharq Al-Awsat, 2 October 2021, https://english.aawsat.com/home/article/3221771/secret-jordanian-document-proposes-%E2%80%98change-behavior%E2%80%99-syrian-regime

[xv] Osama Al Sharif, Why Jordan is pushing to normalize ties with the Syrian regime, The New Arab, 5 August 2021, https://www.newarab.com/analysis/why-jordan-pushing-normalise-ties-syrias-assad

[xvi] Jordan shoots down drug-laden drone from Syria in ninth incident this year, Al Jazeera, 5 September 2023, https://www.aljazeera.com/news/2023/9/5/jordan-shoots-down-drug-laden-drone-from-syria-in-ninth-incident-this-year

[xvii] Yolande Knell, Captagon: Jordan’s undeclared war against Syria drug traffickers, BBC, 18 April 2022, https://www.bbc.com/news/world-middle-east-61040359

[xviii] Jordanian Soldiers Wounded While Thwarting Smuggling of Weapons and Drugs from Syria, The Syrian Observer, 19 December 2023, https://syrianobserver.com/news/86770/jordanian-soldiers-wounded-while-thwarting-smuggling-of-weapons-and-drugs-from-syria.html

[xix] An airstrike likely carried out by Jordan’s air force targets drug dealers in Syria, reports say, Associated Press, 19 December 2023, https://apnews.com/article/jordan-syria-smugglers-captagon-airstrike-sweida-ad04317e67d53e439ce2b05f8b2fcb1c

[xx] Eşref Musa and Mehmet Burak Karacaoğlu, More than 60 civilians killed, 43 public facilities targeted in October attacks in Syria’s Idlib, Anadolu Agency, 1 November 2023, https://www.aa.com.tr/en/middle-east/more-than-60-civilians-killed-43-public-facilities-targeted-in-october-attacks-in-syria-s-idlib/3040571

[xxi] Türk F-16’larının İdlib’e giriş sebebi belli oldu, SavunmaSanayiST 11 January 2024, https://www.savunmasanayist.com/turk-f-16larinin-idlibe-giris-sebebi-belli-oldu/

[xxii] Saeed Abdulrazek, Türkiye Brings in New Reinforcements to Syria’s Idlib, Asharq Al-Awsat, 9 January 2024, https://english.aawsat.com/arab-world/4777966-t%C3%BCrkiye-brings-new-reinforcements-syria%E2%80%99s-idlib

[xxiii] Syria Military Brief: North-West Syria – September 2023, Etana Syria, September 2023, https://etanasyria.org/syria-military-brief-north-west-syria-september/

[xxiv] Abu Ahmad Zakour leaves Tahrir al-Sham, disavows its actions, Enab Baladi, 15 December 2023, https://english.enabbaladi.net/archives/2023/12/abu-ahmad-zakour-leaves-tahrir-al-sham-disavows-its-actions/

[xxv] أنظر هنا: https://twitter.com/syr_television/status/1737180113463136357

[xxvi] Kareem Chehayeb, The World Food Program will end its main assistance program in Syria in January, affecting millions, Associated Press, 4 December 2023, https://apnews.com/article/syria-world-food-program-food-aid-5daed470afbb1761dffe19e1fc4a8520

[xxvii] Danny Makki, Syria’s economic freefall continues despite Arab League return, Middle East Institute, 16 August 2023, https://www.mei.edu/publications/syrias-economic-freefall-continues-despite-arab-league-return#:~:text=A%20number%20of%20factors%20have,sanctions%2C%20the%20fallout%20from%20the

[xxviii] Graduates in Northern Syria Struggle with Unemployment and Market-Irrelevant Education, The Syrian Observer, 8 January 2024, https://syrianobserver.com/features/86959/graduates-in-northern-syria-struggle-with-unemployment-and-market-irrelevant-education.html

[xxix] SDF Towards Secession from Syria: New Political and Social Contract for the Kurdish Administration, The Syrian Observer, 15 December 2023, https://syrianobserver.com/news/86704/sdf-towards-secession-from-syria-new-political-and-social-contract-for-the-kurdish-administration.html

[xxx] Wladimir van Wilgenburg, New administration name adopted for local administration in northeast Syria, Kurdistan 24, 13 December 2023, https://www.kurdistan24.net/en/story/33441-New-administration-name-adopted-for-local-administration-in-northeast-Syria

[xxxi] Mohammed Hassan, Deir ez-Zor torn between Arab tribes’ struggle for independence and the SDF’s efforts to subdue them, Middle East Institute, 9 September 2023, https://www.mei.edu/publications/deir-ez-zor-torn-between-arab-tribes-struggle-independence-and-sdfs-efforts-subdue

[xxxii] Wladimir van Wilgenburg, New SDC co-chairs elected in northeast Syria, Kurdistan 24, 20 December 2023, https://www.kurdistan24.net/en/story/33512-New-SDC-co-chairs-elected-in-northeast-Syria

[xxxiii] أنظر هنا: https://twitter.com/MeslatMahmoud/status/1662855354105880578

[xxxiv] Hevserokê nû yê MSDyê: Em ji bo guftûgoyên bi Tirkiyeyê re amade ne, Rudaw, 13 January 2024, https://www.rudaw.net/kurmanci/kurdistan/130120246

[xxxv] Turkey says it ‘neutralises’ 45 Kurdish militants in northern Iraq, Syria, Reuters, 13 January 2024, https://www.reuters.com/world/middle-east/turkey-says-it-neutralises-20-pkk-members-northern-iraq-2024-01-13/

[xxxvi] Turkey hits 71 targets in Iraq, Syria in retaliation for soldiers’ deaths, Al Jazeera, 27 December 2023, https://www.aljazeera.com/news/2023/12/27/turkey-hits-71-targets-in-iraq-syria-in-retaliation-for-soldiers-deaths

[xxxvii] Nine Turkish soldiers killed in attack on Iraq base, Hürriyet Daily News, 13 January 2024, https://www.hurriyetdailynews.com/nine-turkish-soldiers-killed-in-attack-on-iraq-base-189646

[xxxviii]أنظر هنا: https://twitter.com/leventkemaI/status/1736389123995209955

[xxxix] أنظر هنا: https://twitter.com/abdullahawez/status/1740730931453800931/photo/1

[xl] Five months of protests against the regime in As-Suwayda, Enab Baladi, 22 December 2023, https://english.enabbaladi.net/archives/2023/12/five-months-of-protests-against-the-regime-in-as-suwayda/

[xli] ISIS Attack Kills 14 Syrian Regime Forces in Badia Desert, Asharq Al-Awsat, 10 January 2024, https://english.aawsat.com/arab-world/4780371-isis-attack-kills-14-syrian-regime-forces-badia-desert