ملخص: تسعى هذه الورقة لبيان كيف تحكمت القوى السياسية في القواعد الدستورية والقانونية في الأزمة الليبية، واستطاعت أن تتحكم في المشهد الليبي من خلالها. كما تناقش الورقة كيف أن الفاعل المحلي والدولي، وكذلك مقاربة الأمم المتحدة التي بدأت منذ بداية الثورة الليبية مع نشأة الإعلان الدستوري الحاكم للمشهد الليبي لم تنجح في إيجاد طرف ثالث ومرجعية قانونية، بل ظل السياسي يزيح القانوني، من خلال التعديلات الدستورية أحياناً، أو الاتفاقات السياسية كاتفاق الصخيرات واتفاق جنيف أحياناً أخرى، والمعركة الأخيرة بين مجلس النواب والمحكمة العليا في ليبيا تؤكد هذا السياق.  هذه المراوحة تتطلب الانتقال من سياسة التمثيل التي عادة ما تنطلق منها الأمم المتحدة في جمع أطراف النزاع لتسويته، إلى مقاربة الطرف الثالث وهو البحث عن قوة قانونية يمكنها أن تضع قواعد للعبة السياسي ومرجعية حاكمة ومحكِّمة بين أطراف النزاع. هذا يقتضي عدة سياسات يمكنها أن تسهم في إيجاد ميزة استراتيجية لمن يتبنى هذه المقاربة حتى يمكنه تحويل المشهد المعقد الليبي إلى بناء متدرج يعمل كوسيط ومحكم ودافع للأطراف نحو التعاون والبناء بدل التنازع والصراع.

مقدمة

منذ اندلاع ما عرف بثورة السابع عشر من فبراير تكونت جدلية بينما هو قانوني وسياسي في ليبيا استمرت ليومنا هذا. هذه الجدلية يمكننا أن نصفها بأنها جدل بين الثابت القانوني والمتغير السياسي، أو بين المرجعية القانونية والظرفية السياسية، أو بين المعيار القانوني والزمنية السياسية؛ هذا التفريق بين المسارين قد يجعلنا ندرك أن سبب استمرار الأزمة في ليبيا هو تغليب منطق السياسة على لغة القانون. هذه الغلبة لها أسباب متعددة منها طبيعة الأزمات في الدول الهشة حيث يخشى كل طرف من نهاية المراحل الانتقالية لحالة دائمة لا تضمن مصالحه، ومنها المقاربة الليبرالية-كما تسمى في أدبيات النزاعات الدولية-والتي تميل لمنطق التعاقد والاتفاق السياسي على حساب لغة القانون والمقاربة الدستورية، ومنها التدخلات الخارجية ودعم الأطراف المتصارعة في ليبيا حيث يصعب التوجه نحو مرجعية في وجود حالة من عدم التوازن الإقليمي والدولي، ومنها استمرار شبكات المصالح في ليبيا في تأجيج الصراع حتى يتسنى لها الحصول على مزيد من المكاسب. هذا السياق بدأ منذ الإعلان الدستوري الذي أصدره المجلس الانتقالي عام 2011، واستمر حتى بعد انتخاب لجنة لصياغة الدستور من قبل المؤتمر الوطني العام في 16 يوليو 2013، إلى أن جاء اتفاق الصخيرات بعد حرب دامية في طرابلس في نهاية عام 2015 والذي أسس لمفهوم السياسة على حساب القانون، ولمّا غاب البعد القانوني فشلت مؤتمرات واتفاقات دولية في إيجاد طرف ثالث قادر على إخراج ليبيا من دوامة الصراع والاتفاقات التي لم تلتزم بها الأطراف المتصارعة. هذا السياق يجعل من استمرار التعامل بمقاربة سياسية تتجاوز ما هو قانوني قد يكون سبباً في استمرار النزاع في ليبيا ومزيداً من الفشل للدولة الليبية ومؤسساتها.

نحاول في هذه الورقة متابعة هذه الجدلية في مراحلها المختلفة، وإبراز أهمية الطرف الثالث في الخروج من هذه الدوامة التي دخلت فيها ليبيا لأكثر من عقد من الزمن، وأنَّ تبني سياسة الطرف الثالث وفق شروط محددة قد يسهم في تقليل حالة الغموض بشأن المرحلة القادمة في ليبيا ويسهم في تصور مستقبل مغاير للواقع الذي يعيشه الليبيون، ويستبدل التغير المستمر في السياسة بالثبات النسبي للقانون، والمماحكات السياسية للفاعلين السياسيين، والبراغماتية التي تغلب على الفاعل السياسي الليبي بمعايرة قانونية تتسم بالعقلانية والمسؤولية.

السياق الزمني

  • في خضم الأحداث التي شهدتها ليبيا عام 2011، تجول عدد من قيادات الثورة الليبية في عواصم العالم، وكان الحديث عن نظام جديد في ليبيا يتوافق مع القيم الليبرالية العالمية، كما هو ظاهر من الإعلان الدستوري 3/8/2011 الذي تضمن الحقوق والحريات وفق الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، واقتصاد السوق، والنظام البرلماني والدورية الانتخابية؛ هذه المبادئ جاءت بناءً على اتفاقات ضمنية بين الأطراف السياسية التي برزت بعد الثورة. لكن المادة الأبرز في الإعلان الدستوري كانت هي المادة 30، والتي من خلالها وضعت خارطة الانتقال نحو المرحلة الدائمة في دولة ليبيا التي بشر بها الثوارُ العالمَ. هذه المادة تضمنت الحديث عن لجنة لصياغة الدستور؛ هذه اللجنة اختلف المشرعون في طريقة اختيارها، فبينما كانت النسخة الأولى للإعلان تتحدث عن تعيين للجنة صياغة الدستور من قبل المؤتمر الوطني العام وهو السلطة التشريعية التي نص الإعلان الدستوري على ضرورة انتخابها، نجد أن التعديل الأولى حول هذه النسخة 13/3/2012 كان باستبدال “تعيِّين تلك اللجنة المعنية بصياغة الدستور بانتخابها انتخاباً مباشراً من قبل الشعب الليبي.[1]

الذي فرض هذا التغيير هي الظروف السياسية وليست الحكمة والرؤية القانونية، فقد حاولت بعض التيارات الفيدرالية التأثير على المجلس الوطني الانتقالي لكتابة هذه الصيغة وهي الانتخاب للجنة الدستور. هذا التأثير السياسي سيكون له عواقب وخيمة على لجنة صياغة الدستور والمرحلة الانتقالية. عندما بدأ المؤتمر الوطني أعماله في 8 أغسطس عام 2012، كان واضحاً غياب السلطة التأويلية ونعني بذلك من يملك الحق في تفسير الإعلان الدستوري، خاصة وأن المهام التي كلف بها المؤتمر الوطني وفقاً للإعلان الدستوري كانت غاية في الأهمية فهي التي ستضع أسس الدولة الجديدة: الدستور والانتخابات والشرعية التي تحكم مؤسسات الدولة. لم يكن الإعلان الدستوري واضحاً أو مفصلاً لطبيعة النظام السياسي الجديد، وحدث جدل كبير حول إمكانية الفصل بين المهام التي كلف بها المؤتمر الوطني العام، وبين السلطة التشريعية التي يملكها في التعامل مع حياة الناس ومؤسسات الدولة الليبية، وبما أن السلطة القضائية لم تصمم في الأساس لتكون دستورية بعد إلغاء العمل بالدستور الملكي عقب انقلاب القذافي عام 1969، كان من الواضح أن النظام السياسي يعاني من عيوب في التكوين لم تكن ظاهرة في الإعلان الدستوري.

نتائج هذه العيوب هو تأخر المدد الزمنية المنصوص عليها في الإعلان الدستوري، فرغم أن الإعلان الدستوري نص على “انتخاب هيئة تأسيسية بطريقة الاقتراع الحر المباشر” خلال 30 يوماً من أول اجتماع للمؤتمر الوطني العام إلا أن ذلك لم يحدث إلا في 20 يوليو عام 2013 أي بعد 10 أشهر. كان واضحاً أن عمل المؤتمر الوطني العام لم يكن سهلاً، وأن الصراعات السياسية بين الأحزاب والمستقلين لم تدرك خطورة المرحلة، وغابت السلطة القضائية التي تنظم عمل هذه السلطات خاصة في تفسير الإعلان الدستوري، وهذا ما حدث عندما بدأ الحديث عن مدة زمنية محددة لعمل المؤتمر الوطني العام لا ترتبط بمهامه. بمعنى آخر أن الأمر يتعلق بمدة محددة وليس بتأديته لمهامه، عُرف ذلك بحراك ” لا للتمديد”.

“لا للتمديد”[2] هو حراك سياسي انتشر في 15 مدينة ليبية يطالب فيها بإسقاط المؤتمر الوطني العام، وجاء ذلك بناء على قراءة للإعلان الدستوري تفترض أن المهام التي أوكلت للمؤتمر الوطني العام حددت بأزمان معينة في الإعلان الدستوري، وأن استمرار المؤتمر الوطني يخالف الإعلان الدستوري، فعليه أن يغادر حتى وإن لم ينجز مهامه، ورغم أن أنه لا يوجد أي نص واضح يؤكد أن المؤتمر الوطني العام له زمن محدد، إلا أن الأخير قام بتشكيل لجنة سميت لجنة فبراير للقيام بتعديل الإعلان الدستوري، والذهاب لقانون انتخابات برلمانية جديدة. هذا الضغط السياسي جاء كنتيجة لفقدان السلطة القضائية دورها في الفصل في الخلاف في تفسير القوانين، فلم يكن للمؤتمر ولا للقوى السياسية الحق في تفسير الإعلان الدستوري وفقاً للتجاذبات السياسية، كما تبين بعد ذلك بأن هناك شبهات كثيرة تدور حول ذلك الحراك الذي انتهى ولم نسمع عنه بعد ذلك.

  • بعد انتخابات مجلس النواب الليبي في 25 يوليو عام 2014، قدم بعض أعضاء المؤتمر الوطني العام شكوى للمحكمة العليا للطعن في انتخابات مجلس النواب، وبالفعل أصدرت الدائرة الدستورية في المحكمة العليا القرار ببطلان قرارات لجنة فبراير، وجاء في حيثيات الحكم والوقائع

(إن المؤتمر الوطني العام شكل لجنة لتقديم مشروع تعديل دستوري يتضمن انتخابات رئاسية وبرلمانية، وأقدمت اللجنة مشروعها في (57) مادة، وصيغ على أساس أن انتخاب رئيس الدولة يكون مباشرة من الشعب، وهو ما واجه معارضة داخل المؤتمر الوطني العام، مما أجل التصويت عليه وأدى إلى ترك ذلك لمجلس النواب القادم، وبذلك أصدر المؤتمر التعديل الدستوري السابع بالصيغة الآتية: ” يعمل بمقترح فبراير على أن يقوم مجلس النواب المنتخب بحسم مسألة انتخاب الرئيس المؤقت بنظام انتخاب مباشر، أو غير مباشر خلال مدة لا تزيد على خمسة واربعين يوما من عقد أول جلسة له”، وكانت هذه الفقرة قد عرضت للتصويت بجلسة 11 مارس 2014 ضمن بنود أخرى، وتم التصويت عليها مجتمعة بأغلبية (124) صوتا، وبهذا التصويت اعتمد مقترح لجنة فبراير المتضمن (57) مادة، وأصبح جزءا من الإعلان الدستوري دون قراءة مادة واحدة منه، وذلك ما يتضح من المحضر بوضوح وخلص إلى طلب الحكم بعدم دستورية، وبطلان الفقرة (11) من التعديل الدستوري السابع، وبطلان كافة الآثار المترتبة عليه).[3]

هذا الحكم القضائي الذي يؤكد عدم شرعية انتخابات مجلس النواب -لأن قرار المؤتمر الوطني العام بتعديل الإعلان الدستوري وفقاً للجنة فبراير لم يكن صحيحا- واجهه مجلس النواب برفض شديد واعتبر أن الحكم صدر تحت طائلة التهديد والعنف في العاصمة طرابلس، وهكذا بدأ الانقسام، وبدأ ما وصف في الأدبيات الدولية بالحرب الأهلية في ليبيا بعد إعلان خليفة حفتر الانقلاب على الدستور، ثم خضوعه لسلطة مجلس النواب الذي قام بتكليفه كقائد عام للجيش، بدأت الحرب بعد ذلك في بنغازي وبعد سنة من الاحتراب الداخلي جاء اتفاق الصخيرات.

  • في اتفاق الصخيرات جاءت الحديث عن المحكمة العليا في الأحكام الإضافية في المادة 13 والتي جاء فيها

(يحال أي نزاع قانوني حول تفسير أو تطبيق الاتفاق السياسي الليبي وملاحقه الى لجنة برئاسة مستشار من المحكمة العليا ترشحه الجمعية العمومية للمحكمة ويوافق عليه الطرفين وعضوية عضوين من كل من مجلس النواب ومجلس الدولة تختارهم جهاتهم وتتخذ اللجنة قراراتها بأغلبية أعضائها، خلال مدة لا تتجاوز أربعة عشر يوماً من تاريخ عرض الطلب عليها، وتكون قرارات تلك اللجنة نهائية و ُملِزمة ومعلنَة. وللجنة أن تطلب رأيا استشارياً فنياً من بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا متى ارتأت الحاجة لذلك)[4].

والسبب في لجوئه للجنة برئاسة مستشار من المحكمة العليا بدلاً من الحديث عن الدائرة الدستورية هو ألّا يكون هناك تعارض بين تجاوز حكم الدائرة الدستورية الذي ألغى مقررات لجنة فبراير، ومن ثم انتخابات مجلس النواب، وبين اتفاق الصخيرات الذي لم يشر لهذا الحكم الصادر من المحكمة رغم إقراره بالفصل بين السلطات واحترام القانون. الملاحظ هنا أن سيادة القانون لم تذكر في اتفاق الصخيرات ذلك أنه يعتبر الاتفاق سياسي ضرورة لا تخضع للقانون، وأعني به حكم الدائرة الدستورية الذي تجاوزه الاتفاق ولم يعره اهتماماً.

  • أشار اتفاق الصخيرات إلى أن شرعية الأجسام القائمة ناشئة من الاتفاق السياسي بعد تضمينه للإعلان الدستوري (المادة 12، الأحكام الإضافية)، لذا قام مجلس النواب في البداية بتضمين الاتفاق في الإعلان الدستوري في 26 يناير 2016، ثم عدل عن ذلك في 7/03/2017 وهكذا صار تضمين الاتفاق جزءاً من اللعبة السياسية، ولم يكن هناك أي تطبيق لمواد مهمة في الاتفاق السياسي كالترتيبات الأمنية، وكعودة البرلمان عن بعض القرارات التي اتخذها أثناء الحرب ومراجعة كافة القرارات التي اتخذها أثناء الحرب- ومن بينها قرارات باعتبار بعض الأطراف السياسية قوى إرهابية، وكالاستعانة ببعض القوى الخارجية…-  كما جاء في المادة 16 من أحكام مجلس النواب. هذا الرفض لتضمين الاتفاق في الإعلان الدستوري لم يعط للاتفاق أي بعد قانوني يخص السلطة القضائية، بل ظل اتفاقاً سياسياً وتعرض لكثير من التحريف والتلاعب بين الأطراف السياسية.
  • رغم أن اتفاق الصخيرات حاول أن يضع إطاراً يمنع من التحكم في مؤسسات الدولة من طرف واحد من الأطراف، إلا أن مجلس النواب استمر في الاستفراد بالقرارات دون مشاورة مجلس الدولة، خاصة في قضايا جوهرية تمس دينامية النزاع في ليبيا، ففي عام 2018 قرر مجلس النواب إنشاء هيئة الاستثمارات العسكرية، وجعلها تابعة لخليفة حفتر الذي عينه مجلس النواب قائداً عاماً للجيش واستحدث هذا المنصب ليكون جزءًا من مؤسسات الدولة والجيش الليبي. هذه الشرعية الواهية والتي تتنافي مع اتفاق الصخيرات، كانت تمهيدًا للحرب على طرابلس حين أعرض مجلس النواب والأطراف السياسية التابعة لخليفة حفتر عن كل تعهداتهم في اتفاق الصخيرات وذلك بالحرب على طرابلس في 4/4/2019.[5]
  • بعد فشل خليفة حفتر في الدخول لطرابلس، جاء التدخل التركي الذي قلب موازين المعركة في طرابلس، أعادت البعثة الأممية نفس محاولاتها السابقة، فقد مضت في البحث عن أطراف تمثل النزاع في ليبيا، التمثيل هنا يعني مجموعة تتفاوض بالنيابة عن طرف من الأطراف وتمثل وجهة نظره في النزاع، وكانت لجنة ال 75 التي اختارتها بعثة الأمم المتحدة في ليبيا. هذه اللجنة كسابقتها لم يكن لها أي صفة قانونية، وشاب جلسات تلك اللجنة الكثير من اللغط حول محاولات لاستمالة أعضاء اللجنة لهذا الطرف أو ذاك. نشأ عن هذه الجلسات اتفاق آخر سمي اتفاق جنيف.
  • استند اتفاق جنيف إلى قرار مجلس الأمن 2510 (2020) بالمصادقة على نتائج مؤتمر برلين المنعقد في يناير 2020 والذي دعا إلى “إنشاء مجلس رئاسي وتشكيل حكومة وحدة وطنية واحدة وفعالة بما يمهد الطريق لإنهاء الفترة الانتقالية عبر انتخابات برلمانية ورئاسية حرة ونزيهة وذات مصداقية، واعتبر الاتفاق في مادته الأولى أن الهدف الأسمى للمرحلة التمهيدية هو تعزيز الشرعية السياسية عبر انتخابات رئاسية وبرلمانية على أساس دستوري”.[6] هذا القرار جاء بناءً على الحوارات التي جرت بين الأطراف الذين اختارتهم الأمم المتحدة، وأنهم يمثلون أطراف النزع في ليبيا، ورغم أن هذه اللجنة المكونة من 75 عضواً لم يكن لها أي سند قانوني ليبي إلا أنها اتفقت اتفاقا سياسياً مفاده ضرورة عبور المرحلة الانتقالية عبر انتخابات تجرى في ديسمبر عام 2021.
  • بعد قرب موعد الانتخابات بدأ كل طرف يحاول أن يكيف مخرجات جنيف لصالحه، خاصة مجلس النواب والذي قام بعدة خطوات في هذا الاتجاه:
  1. أصدر قانون الانتخابات وهو القانون رقم 2 للعام 2021، خلق هذا القانون حالة من الانقسام حول الانتخابات، خاصة في بعض المواد المتعلقة بالسماح لمزدوجي الجنسية والعسكريين بالترشح للانتخابات. وظاهر في هذا السياق أن هذا القانون ذو بعد سياسي يقصد به تغليب طرف على طرف آخر، وبداية محاولة لتصميم نظام يصب في صالح مجلس النواب من خلال السلطة التشريعية التي وهبها اتفاق سياسي لم يخضع لصيغة قانونية ملزمة من السلطة القضائية.
  2. أصد البرلمان التعديل الدستوري رقم 12 والذي حاول من خلاله كتابة الدستوري الليبي من خلال تعديل بنود الدستور الذي وضعته لجنة صياغة الدستور المنتخبة، ما خلق توتراً مع اللجنة والتي اعتبرت أن مجلس النواب يريد الاستحواذ على المشهد وتأسيس نظام يصب في صالح طرف على حساب طرف آخر. التعديل كذلك تضمن قرارات غارقة في السياسة كتأجيل الانتخابات، وتغيير حكومة الوحدة الوطنية، الأمر الذي رفضته الأخيرة معتبرة أنه يتجاوز اتفاق جنيف.
  3. في نهاية عام 2021 قام عقيلة صالح رئيس مجلس النواب باتخاذ قرارات تمثل اختراقاً للمؤسسة القضائية، والتي أعادت تفعيل الدائرة الدستورية في نفس الفترة التي قرر فيها صالح (مايو 2022) أن يغير رئيس المحكمة العليا ونائبه، كما قام بتعيين 45 مستشاراً جديداً بالمحكمة العليا، و قدم مشروعاً لإنشاء محكمةٍ دستورية من 13 عضواً يعينهم مجلس النواب، ويكون مقرها بنغازي، وتنقل لها صلاحيات الدائرة الدستورية. هذه القرارات اُعتبرت من الأطراف المناوئة لمجلس النواب أنه محاولة للسيطرة على السلطة القضائية وأنه لا يحق لمجلس النواب أن يتحكم في السلطة القضائية من خلال هذه التعيينات.

هذا السياق يبين التداخل بين الدستوري والقانوني والسياسي، كما يشير إلى غياب تام لطرف ثالث أو مرجعية دستورية يمكن من خلالها الحكم بين أطراف النزاع. وهذا يؤكد خلل السياسة التي اتبعتها البعثة وتفاعل معها المجتمع الدولي وأطراف النزاع الليبية.

أين الخلل؟

من الواضح أن هناك تكرار لمجموعة من الأخطاء يمكن إدراكها من خلال متابعة هذا المنظور للأزمة الليبية، فهناك إصرار على لقاء الأطراف المتنازعة، والوصول معهم لخارطة طريق، دون وجود أي مرجعية حاكمة أو طرف ثالث للحكم بين الأطراف في حال نشوب نزاع بينهم، ما خلق المجال واسعاً للتدخلات السياسية، وجعل المرحلة الانتقالية وسيلة للاستغلال السياسي. يمكننا هنا أن نذكر بثلاث قضايا معرفية تتشابه فيها الحالة الليبية مع دراسات التحول الديمقراطي:

  • سيطرة الأعراف والعوائد غير المكتوبة بين الأطراف السياسية الليبية. وقد شكلت تلك العوائد المنطلق الذي ينطلق منه كل طرف ضارباً عرض الحائط بالاتفاقات السياسية الكثيرة التي اتفق عليها المتنازعون في ليبيا. هذا جعل كل الاتفاقات رهن للتفسيرات المسبقة ولسلطة الأمر الواقع، وأربك الوضع القانوني في البلد وخلق حالة من التفلُّت من الاتفاقات والوعود مهما كانت ملزمة من مجلس الأمن أو القوى الدولية. بلغة أخرى ليبيا ظلت رهن للأعراف والعوائد ولم تنشأ فيها سلطة حقيقية.[7]
  • أن الصراع الحالي هو بين نخبة سياسية متمثلة في السلطات التشريعية القائمة، وبين نخبة اقتصادية تريد السيطرة على مؤسسات الدولة. السلطات التشريعية تقوم بما يعرف بتصميم النظام وفقاً لمصالحها كما سبق، بينما تسعى النخب الاقتصادية لاستمالة الرأي العام من أجل الضغط على السلطات التشريعية والتأثير في القوى الدولية.[8]
  • أنه لا يوجد طرف ثالث يمكن أن يحكم بين الأطراف المتنازعة في ليبيا. مفهوم الطرف الثالث[9] هو الذي أكده ويليام أوري في كتاب تحت هذا العنوان، وقد خبر أوي النزاعات في الشرق الأوسط والبلقان وصراعات أخرى. ما يمكننا الاستفادة منه هنا هو أن فكرة وجود أطراف متنازعة يخلق معادلة صفرية حين يشعر كل طرف بأنه إما رابح أو خاسر في هذا النزاع، لذا لا بد من وجود طرف ثالث خارج إطار النزاع ويريد المساعدة، قد يكون هذا الطرف جهة محايدة، أو دولة جارة أو مجلس حكماء، ما يساهم في منع اندلاع النزاع قبل أن ينشب. هذا الطرف يقوم بثلاث وظائف:
  1. منع النزاع – فهو يبني الجسور، ويدعم الأطراف، ويرشدهم لمنع العودة للنزاع والصراع.
  2. الحلول الوسط – فهو وسيط، ومحكم، ويحفظ ماء وجه الأطراف بحلول وسط تضمن مصالح الأطراف المتنازعة. (ويجب التفريق هنا بين المصالح والتموضع، فهناك مصالح لايمكن إغفالها لكافة الأطراف الداخلية والخارجية، لكن التموضع كالمناصب ونحوه لا يمكن ضمان استمرارها أو الابتزاز من خلالها).
  3. الاحتواء والتحكيم (مرجعية، تحكيم أو مصلح وداعم لعملية السلام).

لذا فإن ما يحدث في ليبيا يحتاج لسياسة تسعى للوصول لهذه الأهداف من خلال طرف ثالث يمكنه أن يأخذ صبغة قانونية تلزم الأطراف باتفاقاتها وتضع عواقب للنكوص عن تعهداتها، كما أنها تمنع التدخلات الخارجية السلبية التي تسعى لحالة من السيولة يمكن التحكم في المشهد الليبي من خلالها. هذه السياسة (سياسة الطرف الثالث) قد تخلق فرصة للسلام في ليبيا، فلجان الحوار التي قامت بإنشائها الأمم المتحدة ارتبطت بمفهوم التمثيل أي أنهم يبحثون عن ممثلين لأطراف النزاع، وربما كان هذا ضرورة نظراً لوجود حرب قائمة. كما غلب على المتدخلين في ليبيا مفهوم إنهاء الحرب وإراقة الدماء (تسوية النزاع). لكن الوضع الآن مختلف فالتوازن العسكري الذي أحدثه التدخل التركي يمكن أن ُيبنى عليه لتغيير المقاربة المتبعة، وهذا معنى القوة بمفهومها الإيجابي الذي يدفع الأطراف للاحتكام لطرف ثالث يمكنه أن يحقق هذه الأهداف:

  1. أن يقدم للأطراف ما يحقق مصالحها والحد الأدنى من الأمان للأطراف التي يمثلونها.
  2. تقديم المشورة والنصيحة بعيداً عن لغة النزاع والحرب.
  3. بناء الجسور بين الأطراف كإجراءات بناء الثقة.
  4. التوسط بين الأطراف في حالات النزاع وتحقيق الحد الأدنى من المصالح لكافة الأطراف.
  5. التحكيم في حالة وجود نزاع.
  6. استخدام القوة لإحداث توازن سياسي بين الأطراف الفاعلة دون أن يتحول الوسيط إلى طرف من أطراف النزاع كما فعلت مصر في الأزمة الليبية.
  7. تغيير التصورات المسبقة للأطراف حول بعضها البعض، وتغيير المنظور للنزاع (تحول النزاع).
  8. الشهادة على الاتفاقات التي يتفق عليها المتنازعون لتأخذ صبغة قانونية يفرضها الطرف الثالث.
  9. إيجاد الحد الأدنى من القواعد الحاكمة للعبة السياسية في ليبيا.

في ليبيا يمكن استخدام هذه السياسات من أجل قيادة المشهد بعيداً عن مقاربة التمثيل وسياسة تسوية النزاع، واستبدالها بسياسة الطرف الثالث وتحويل النزاع، أي إيجاد مرحلة دائمة فيها أفق ورؤية لمستقبل مغاير للأوضاع القائمة، أن يكون هناك رغبة في النجاح وليس مجرد خوف من الفشل. في ليبيا يمكن تصور وجود طرف ثالث من خلال:

  • لجنة حوار جديدة تأخذ شرعيتها من القانون الليبي وبدعم دولي يعطيها حقها في ممارسة دورها كطرف ثالث، وهذا يقتضي تغيير مقاربة البعثة السابقة باختيار شخصيات تتوفر فيها الشروط التي تجعلها طرفاً ثالثاً يحقق الأهداف السابقة.
  • العودة لدستور الاستقلال باعتباره وثيقة قانونية يمكن للجميع أن يتفق عليها، خاصة وأن إلغائها لم يأت باستفتاء شعبي إنما بانقلاب عسكري. لذا فإن حالة شغور الملك هي أحد القضايا التي طرحها دستور الاستقلال ويمكن أن تطبق في هذا السياق، ويستدلون بسوابق تاريخية في أفغانستان وعودة الملكية فيها لاستئناف الحياة الدستورية وكذلك الملكية في إسبانيا. رغم أن هذا الطرح لا يلق رواجاً إلا أن تيار قائم ويحاول أن يتواصل مع القوى الدولية وينطلق من فكرة الطرف الثالث. [10]
  • أن يكون هناك طرف ثالث خارجي من شخصيات عربية وإسلامية ودولية للتوسط بين أطراف النزاع في ليبيا، وهذا قريب من الثقافة الليبية خاصة التي ترضى بالوساطة العرفية في ظل سيطرة العوائد والأعراف على سلوك الفاعل السياسي الليبي، ورغم محاولات كثيرة لتغيير مقاربة البعثة لفهم السياق الليبي إلا أنها وفقاً لحوارات طويلة معها تصر على مقاربة واحدة هي مقاربة التمثيل لأطراف النزاع.

هذه المقاربة تقتضي أن يكون هناك تصور مغاير للأزمة الليبية، وفواعل جديدة يمكن فتح الأبواب للتعامل معها، خاصة القوى المدنية والنقابات، والعمل على إثارة هذا التناقض بين القانوني والسياسي، وإيجاد بيئة مناسبة لبناء سردية جديدة لإعادة سيادة القانون كمدخل أساسي لبناء الدولة الليبية. قد لا يكون هناك دستور لكن هناك إلزام متفق عليه ويحظى بدعم قانوني، بحيث يبتعد مجلس النواب عن محاولاته في السيطرة على المشهد وتصميم النظام وفقاً لمصالح آنية وليس بناء على رؤية مستقبلية. قد يغرق الفرقاء في الحاضر لأنهم متخاصمون متنازعون، لكن لا ينبغي للمراقبين أن يغفلوا عن المستقبل، وهذا لن يحدث إلا بمرجعية حاكمة وطرف ثالث قادر على فرض إرادة عاقلة في خضم النزاع والخصام الذي يسود ليبيا وأهلها.

خاتمة

ربما تكون سياسة الطرف الثالث أقصر الطرق لمنع استمرار تدهور المؤسسات الليبية، لكن كما تبين معنا من هذا السياق الجدلي بين القانوني والسياسي هو أن هذه السياسة تهدف لقطع هذا المسار الدائري للأزمة الليبي، والذي يعني استراتيجياً استمرار لليبيا كبؤرة توتر قادرة على إحداث تصدعات إقليمية ودولية. هذه السياسة تقتضي أن يكون هناك مرجعية قانونية ملزمة، سلطة تأويلية تفصل في الخلاف حول تفسير النصوص المتفق عليها، اتفاق إقليمي حول الحد الأدنى للقضايا التي يمكن أن تنقل للمشهد – ولو بشكل تدريجي- نحو مرحلة مستقرة. هذه المرحلة لا يمكن أن تستمر بدون استمرار هذه السياسة عبر دبلوماسية متعددة الأطراف، ودعم للقانونيين للقيام بواجبهم بنشر سردية القانون كحاكم لقضايا التحول. سيادة القانون هي الأساس ليس فقط بمعنى قانوني أخلاقي إنما هي قيمة استراتيجية قد تخترق رغبة الأطراف المختلفة من استمرار أمد النزاع.

[1] الإعلان الدستوري الليبي 2011. http://www.log.gov.ly/downloads/add01.pdf

[2] للمزيد انظرhttp://arabic.china.org.cn/txt/2014-07/08/content_32893232.htm

[3] قرار المحكمة الدستورية بالخصوص انظر https://s3-eu-west-1.amazonaws.com/public.ldil.dcaf/lois/555-Decision%20No.%20(17)%20of%202014_ORG.pdf

[4]  اتفاق الصخيرات الليبي https://unsmil.unmissions.org/sites/default/files/Libyan%20Political%20Agreement%20-%20AR%20-%20w%20Signatures.pdf

 [5] للاطلاع على قوانين المجلس انظر https://parliament.ly/%D9%82%D9%88%D8%A7%D9%86%D9%8A%D9%86-%D9%85%D8%AC%D9%84%D8%B3-%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%88%D8%A7%D8%A8-%D9%84%D8%B3%D9%86%D8%A9-2018-%D9%85/

[6]   اتفاق جنيف وقرار مجلس الأمن https://ar.wikisource.org/wiki/%D9%82%D8%B1%D8%A7%D8%B1_%D9%85%D8%AC%D9%84%D8%B3_%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%85%D9%86_%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%84%D9%8A_%D8%B1%D9%82%D9%85_2510

[7] Acemoglu Daron, Robinson James, The narrow Corridor: State Societies, And the Fate of Liberty, Penguin Press,2019.

[8] Alberto Marcus, Victor Menaldo, The authoritarianism, and the Origin of Elite democracy, Cambiedge;2016.

[9] William Ury, The Third Side, Penguin Book, NY;2000.

[10] حوارات أجراها الكاتب مع بعض العناصر الفاعلة في حراك العودة للدستور الاستقلال.