تنزيل الـ PDF

بعد موسم انتخابي طويل..تونس بين دفعة جديدة للثورة أو الدخول في مرحلة اللايقين

خلاصة: عاشت تونس موسمًا انتخابيًّا طويلًا انطلق أواخر شهر أغسطس لينتهي أواسط أكتوبر 2019، ولم تفرز هذه الانتخابات تجديدًا لمؤسسات الدولة فقط، وإنما كانت زلزالًا يضع البلاد أمام مرحلة مختلفة كليًّا، وترمي هذه الورقة إلى تلمُّس آفاق تجربة التحول الديمقراطي في تونس، من خلال مناقشة عدَّة عناصر أهمها: الخارطة البرلمانية الجديدة، وأهم رسائل المسار الانتخابي، وتحدّيات المرحلة القادمة، والسيناريوهات المحتملة. وتخلص الورقة إلى أنَّ تونس الآن في تلك المنطقة التي تتوازن فيها حظوظ النجاح مع احتمالات الفشل، مع تغليب احتمالات النجاح رغم الصعوبات.

الخارطة البرلمانية: المكونات والرهانات المحتملة

الصورة العامة

غابت عن البرلمان الحالي قوى كانت مؤثرةً في البرلمان السابق، وخاصةً نداء تونس والجبهة الشعبية، ويمكن المجازفة بالقول إن الكتل الانتخابية الكبرى (المحافظة في مقابل العصرانية) حافظت على أوزانها والتوازن بينها، فحصيلة المقاعد الحالية لحزب النهضة وائتلاف الكرامة وحزب الرحمة وبعض المستقلين هي نفسها تقريبا مقاعد حركة النهضة في عام 2011، كما أن حصيلة مقاعد أحزاب قلب تونس والدستوري الحر وتحيا تونس والمشروع والبديل والنداء، هي تقريبا مقاعد نداء تونس في عام 2014.

ومن الأرجح أن تؤشر نتيجة الجبهة الشعبية وحزب المسار إلى نهاية نمطٍ من اليسار لم يقدر على التأقلم مع التطورات الكبرى في البلاد. وكانت النتيجة ستكون أقسى مع قانون انتخابيٍّ يتضمَّن عتبةً، وهو ما تتجه إليه البلاد. وقد يكون الناخب لليسار التقليدي قد هاجر باتجاه التيار الديمقراطي وحركة الشعب.

من زاوية النظر هذه، يكون هذا الذي حصل نوعا من إعادة الانتشار داخل كل عائلة بما يدلُّ على حراك فرعيٍّ ضمن حراكٍ أوسع وأشمل يحتاج إلى تحليلٍ مستقلٍّ.

لكن الأهم أنه لم تعد توجد منطقةُ أمان انتخابيٍّ تكون حكرًا على هذا الحزب أو ذاك، فقد انتهت سردية الممثل الشرعي والوحيد للفئة المحافظة أو للفئة العصرانية؛ بل توشك أن تنتهي سردية الأخ الأكبر داخل كل عائلة. وقد يكون من الضروريِّ طرح السؤال الجذري: هل لا يزال مفهوم العائلة يملك القدرة التفسيرية لما يحدث على الأرض؟

أما من ناحية العدد والتأثير، فيمكن أن نعتبر البرلمان فسيفساء مكونةً من سبع قوى (النهضة، وقلب تونس، والتيار الديمقراطي، وائتلاف الكرامة، والدستوري الحر، وحركة الشعب، وحركة تحيا تونس) والآخرين.

تفاصيل المشهد:

  1. حركة النهضة (52مقعدًا من أصل 217 مقعدًا يتألَّف منها البرلمان …منها23 مقعدًا تمَّ الحصول عليهم بأكبر البقايا)

هو الحزب الوحيد المتبقي من منظومة ما قبل 2011 بحكَّامها ومقاوميها، وهو الحزب الأقل خسائر من أحزاب ما بعد الثورة؛ بفضل موارد قوته الرئيسة حيث أنه تعبير سياسيٌّ عن حقيقة اجتماعية، دعمتها التجارب النضالية المشتركة، والأرضيَّة الفكرية، والقدرة التنظيمية، والثقافة الحركية الأقرب لثقافة الجماعات منها لتعاقدات الأحزاب، إضافة إلى قدرته على التأقلم والتكيف.
إلا أن هذه الخصائص تتعرض حاليًا لامتحان الحكم، فالنهضة أمام امتحان الهوية بين أن تكون حزبًا سياسيًّا ذا بصمة خاصَّة أو أن تكون حزبًا سياسيًّا نمطيّا.وعلاوة على ذلك، فإن القاعدة الانتخابية للنهضة تتعرض منذ ثماني سنواتٍ إلى تقلُّص مستمر.

وليس عجبًا في الوضع الديمقراطي أن تتقلَّص القاعدة الانتخابية للأحزاب. فالجمهور الناخب متطلِّب بطبعه وتوَّاق للتغيير، والمعيار لديه هو تحقيق الوعود والمحافظة على صورة معيَّنة. والانطباع في السياسة هو الحقيقة. ولذلك تتعرّض القاعدة الانتخابية في الديمقراطيات لما تتعرض له آلة الأكورديون من انبساط وانقباض، ولكن الامتحان الذي تعرضت له النهضة في السنوات الأخيرة يتجاوز الحكم على الأداء وتحقيق النتائج. إذ إنه يطال صورة الحركة أو هويتها. وأكبر معضلة اعترضت النهضة منذ الثورة هي تلك التي اعترضت كل الحركات المناضلة في انتقالها من فضاء المقاومة والاحتجاج إلى فضاء البناء. فكيف توائم بين سياسة الاندماج وواجب التغيير، وكيف توائم بين الدولة والثورة، وكيف تكيّف ثوريتها في الدولة والحكم، وكيف تحافظ على سمتها ومبادئها ووفائها لقاعدتها الانتخابية مع كل الإكراهات في بلادٍ لا تملك الكثير من هوامش التحرك، وفي سياقٍ إقليميٍّ متأزمٍ وسياقٍ دوليٍّ متوجس فاقَمه الانتماء إلى المرجعية الإسلامية؟

وما هو أخطر من تقلُّص القاعدة الانتخابية هو أن تدلَّ نتائج الانتخابات على حكمٍ من الجسم الناخب الذي “أرسل” النهضة إلى الدولة لتغييرها أو التغيير بها، فإذا بها تستقرُّ فيها، بل ربما خضعت لتأثيرها وفَقَدت توهجها التغييري وعلاقتها بجمهورها، دون الحديث عن احتمال انتقال الأزمة داخل الحركة نفسها مع وجود فجوةٍ بين النهضة الشعبية والنهضة القيادية.

إن نتيجة الانتخابات تعتبر في هذا السياق هديةً ملغومةً، ولكنها فرصةٌ أخرى للنهضة كي تتدارك أمرها، وتصلح حالها، وتوضِّح تموقعاتها، وتحسن أداءها دون أن تكون بين يديها هوامش كثيرة للتصرف. فهي فرصة للانتباه لمضار الرتابة، وسوء أحوال البلاد والنَّاس، واستئناف التفكير بطريقة مغايرة.

  1. قلب تونس(38مقعدًا من ضمنها 20 مقعدًا بأكبر البقايا)

هو عَرْض سياسيٌّ جديد من تلك العروض التي حفلت بها تونس خاصةً بعد انتخابات 2014.لكن هذا الحزب يفتقد إلى الحدِّ الأدنى من مقومات التعايش الداخلي، ولا تتوفَّر فيه مقومات الاستقرار والاستمرار، إلا باستمرار الحضور المادي لصاحبه.

لذلك، ستتعرض كتلته – بعد هزيمة نبيل القروي في الانتخابات الرئاسية، واحتمال خضوعه إلى ملاحقاتٍ قضائية بلا نهاية -إلى نزيف، وسيبحث أغلب أعضائه عن مواطن جديدة بين تحيا تونس والحزب الدستوري والاستقلالية. وستكون تحيا تونس هي الوجهة المفضَّلة، خاصةً مع سعي يوسف الشاهد إلى تقوية موقعه في مفاوضات تشكيل الحكومة الجديدة.

  1. التيار الديمقراطي(22مقعدًا من ضمنها 20مقعدًا بأكبر البقايا)

هو كيان يستثمر منذ سنواتٍ في صورة الحزب الشبابي المبدئي، وقد استفاد من أخطاء الرئيس المنصف المرزوقي، ومن تردُّد النهضة، ومن جمود الجبهة الشعبية، وحقَّق نتائج معقولة خلال الانتخابات المحلية في مايو 2018 .إلا أنه غامر بموقفه من مشروع قانون المساواة في الميراث، فخسر جزءًا من القاعدة المحافظة، وبالمقابل كسب جزءًا من قاعدة انتخابية تحبذ المبدئية وترفض التنازلات لأسبابٍ انتخابية .وقد استفاد أيضًا من القانون الانتخابي .
ومع ذلك، فإنه تشقّه تبايناتٌ بين فريقٍ يدفع إلى المشاركة في الحكومة، وآخر يسعى إلى مزيدٍ من التمايز عن النهضة باعتبارها جزءًا من “السيستام”، استعدادًا لانتخاباتٍ محتملة سابقة لأوانها .وتقدِّم قياداته مقترحات متنوِّعة مثل اختيار المعارضة أو اشتراط وزارات الداخلية والعدل والإصلاح الإداري، وقد تندرج في سياق استراتيجية تفاوضية تطلب الحدَّ الأقصى لنيل ما هو أقل منه، وقد تندرج في إطار التعجيز لتحميل النهضة مسؤولية عدم الانضمام للحكومة، أو في إطار توفير ضمانات النجاح في ملف مقاومة الفساد الذي يعتبره الحزب أصله التجاري ونقطة تميزه وعنوان وجوده .
لذلك، فإن موقف التيار سيكون محكومًا بمآلات هذا الصراع الداخلي وطريقة النهضة في التعامل معه، كما سيكون محكومًا بأطراف التحالف وانتماء وشخصية رئيس الحكومة وأسماء التركيبة الحكومية.

  1. ائتلاف الكرامة(21 مقعدًا من ضمنها 20مقعدًا بأكبر البقايا)

هو ائتلاف حديث تشكَّل قبيل الانتخابات ولم يصلب عوده بعدُ، وتشقه تباينات التأسيس بخصوص طريقة إدارة هذا التجمُّع ومأسسته. علاوة على ذلك، فإن عددًا من عناصر الائتلاف قد تمثِّل حرجًا للتحالف الحكومي بسبب مواقف سابقة من الإعلام واتحاد الشغل وأطراف دولية مؤثرة.  

  1. الحزب الدستوري الحر(17مقعدًا من ضمنها 14 مقعدًا بأكبر البقايا)

هو تجمُّع يضمُّ بقايا المتشدِّدين من الحزب الدستوري الحاكم قبل الثورة، وقد بنى وجوده وانتشاره على أساس معارضة حركة النهضة، كما استفاد في الحملة الانتخابية من تحوُّل بعض الناخبين بعدما برزت شُبُهات متعلِّقة بحزب قلب تونس ورئيسه. ويرفض هذا الحزب أن يكون له وجودٌ في حكومة تقودها أو تشارك فيها حركة النهضة، كما أن رفض الشراكة مع الحزب الدستوري الحر لا يأتي من النهضة فقط، بل من كل أطراف التحالف المحتمل.

  1. حركة الشعب(16 مقعدًا من ضمنها 15مقعدًابأكبر البقايا)

هي تجمُّع عروبيٌّ يغلب عليه التوجُّه الناصري، استفاد جيدًا من النظام الانتخابي، موقفه ضبابي بخصوص التحالف مع حركة النهضة نظرًا للخلافات التاريخية بين الإسلاميين والعروبيين، وكأثرٍ لجريمة اغتيال أحد قادة التيار ومؤسسيه في أثناء حكم الترويكا (محمد البراهمي)، وبالتالي فإن إمكانية التحالف مع حركة النهضة ستتأثر بتعامل الحركة مع هذا الملف، وكذلك بانتماء وشخصية رئيس الحكومة وبالحقائب المسندة.

  1. تحيا تونس (14مقعدًاكلها بأكبر البقايا)

هو حزب رئيس الحكومة يوسف الشاهد الذي تشكَّل في مارس الماضي، وكانت نتائجه في الانتخابات الرئاسية صادمةً لقياداته التي عملت على الاستفادة من موارد الدولة وعلى كسب الإعلام لصالحها، أمّا نتائجه في الانتخابات التشريعية فكانت  متوقعةً بعد الهزيمة في الانتخابات الرئاسية .
وسَيُعَوّل الحزب على استقطاب جزءٍ من كتلة قلب تونس، وقد يتفرغ إلى بناء ذاته على أسسٍ جديدة استعدادًا لانتخاباتٍ سابقة لأوانها أو للاستحقاقات العادية .ومن الأرجح كذلك أن يسعى للتخلُّص من الوجوه الضالعة في الفساد من المنظومة القديمة، وأن يسعى إلى استقطاب وجوه الوسط الديمقراطي الليبرالي (مهدي جمعة،آفاق تونس) والوسط الاجتماعي (الجمهوري، التكتل).

  1. بقية المشهد البرلماني(37مقعدًا كلها بأكبر البقايا)

أ- القائمات الحزبية (26 مقعدًا):بعضها له موقف حديٌّ من حركة النهضة والتحالف معها، وبعضها يمكن أن يتقارب في الموقف وربما حتى يتآلف مع تحيا تونس، وبعضها يمكن أن يساند حكومة ترأسها حركة النهضة.
ب-القائمات المستقلة (11مقعدًا):متنوِّعة في استقرار الموقف والشخصية ونوعية الارتباطات، ومن الأرجح مساندة عددٍ منها لحكومة ترأسها حركة النهضة.

دروس ورسائل المسار الانتخابي

المنعرج

من الواضح أن انتخابات خريف 2019 هي من تلك المنعرجات التي تُتخذ مرجعًا للتأريخ بما قبلها وما بعدها؛ إذ هي انتفاضة فئاتٍ وجهات، واسترجاع للمبادرة، وتأكيد أن الثورة التونسية لم تكن كذبةً أو قوسًا أُغلق؛ فالبوصلة التونسية لم تتغيَّر منذ خريف 2010 نحو القيم والأهداف نفسها في الحرية والكرامة والعدالة والحوكمة الرشيدة. وما كانت كل الانتخابات التي حصلت إلا بحثًا عن الروافع السياسية لهذه الآمال والمطالب. وفِي كل مناسبة كان الجسم الناخب يوجِّه رسائل التنبيه والتحذير للنخبة الحاكمة برمّتها بأحزابها ومنظماتها وإعلامها، وحكَّامها ومعارضيها، كان يفعل ذلك من خلال الاحتجاج في الشارع، ومن خلال مقاطعة العملية الانتخابية، أو من خلال البحث عن بدائل من خارج أحزاب الحكم والمعارضة مثلما حدث في الانتخابات المحلية في 6مايو 2018.

لقد استنفدت المنظومة الحاكمة لدولة الاستبداد أغراضها، في ديسمبر 2010، واستعصت على كل محاولات الإصلاح الهادئ عبر الاحتجاج الاجتماعي والمقاومة السياسية. فكان الحلُّ في ثورة الشوارع. أما بعد الثورة، فلم ينقطع الشارع -وخاصةً الشباب والفئات المحرومة – عن توجيه التحذير تلو الآخر لمنظومة الحكم عبر الاحتجاج الميداني وعبر مقاطعة العملية السياسية والانتخابية؛ ولكن المنظومة الجديدة لم تملك الذكاء ولا النباهة ولا الإرادة للاستماع والتعديل، فكان خريف 2019 حين عوضت صناديق الاقتراع شوارع ديسمبر 2010 في انتظار الاستجابة، لعلها آخر فرصة للصندوق ليثبت جدارته ومصداقيّته.

الملفت للانتباه هو تغيُّر مدلول “السيستام” أو “المنظومة” في السياق التونسي؛ فقبل انتخابات مايو 2018، كانت المنظومة تعني القوى وشبكة المصالح المالية والإدارية والسياسية المرتبطة بأوضاع ما قبل يناير 2011.ويبدو أنها تعني الآن النخبة الحاكمة برمتها بتعبيراتها الحزبية والمدنية والإعلامية والأكاديمية والثقافية، سواء ما كان موجودًا في الحكومة أوما كان موجودًا في المعارضة، السابق على الثورة أو المؤثر بعدها، وهكذا أصبحت لدينا منظومة قديمة (سيستام) مركبة وذات طوابق.

تفكك أم إعادة توزيع

ولكن هل تعني نتائج الانتخابات أن هذه  المنظومة -بسابقها ولاحقها – قد انهارت أو ترنحت؟
يجدر بنا الحذر من إصدار الأحكام القاطعة، لقد كانت بوصلة الناخبين  واضحةً في كل الأشواط الثلاثة لهذه الانتخابات الرئاسية والتشريعية، ويمكن أن نجد لها معقوليةً ما، من خلال استرجاع التوقعات التي لم يتم الانتباه إليها، ولم يعمل بمقتضاها أحد؛ فلا يجد المراقبون صعوبةً كبيرةً في تفكيك صورة قيس سعيد، فهي ترمز إلى التمرُّد واللَّانمطية والثورة على كل أشكال التدجين المالي والإعلامي، كما ترمز إلى الثورة على المسالك الهرمية المعتادة في البناء السياسي.فالسياسة هنا – عند قيس سعيّد – تُبنى من أسفل وبطريقة أفقية تشاركية. إنها ثورة على “الحُڤْرة” الرمزية، كما ترمز الصورة إلى فلسطين وقضايا التحرُّر بما يعيد البوصلة القيمية إلى السياسة. فالثورة في شوطها الأول في شتاء 2011 كانت ثورةً ضد ” الحُڤْرة “الاجتماعية، وهي هنا ثورة ضد ” الحُڤْرة “المعنوية والرمزية.

في مقابل ذلك، تبدو صورة نبيل القروي أكثر استعصاءً على التفكيك، فالتفسير السطحي يربط بينها وبين معالجة الجوع والتسول، وهو يفاضل – بوعي أو بدون وعي – بين الناخبين والجهات بشكل مهين. إذ لا أحد يتصور وجود مليون ناخب (أكثر من ربع الناخبين) ينتخبون سارقًا أو مافيوزيًّا، فالصورة أكثر تعقيدًا مما يبدو. فقد ملأ نبيل القروي – في مخيال الناس – ذلك الفراغ الذي تركته الدولة، وأشار – في مخيالهم مجددًا – إلى الاستحقاق الاجتماعي الغائب في خطاب واهتمامات السياسيين المستغرقين في معارك بعيدة عن القضايا العاجلة للمواطنين.

إلا أن بين المُرشَّحَيْن قاسمًا مشتركًا. فكلاهما – في مخيال الناس – قادم من خارج منظومة السلطة، ويرمز لبُعْدٍ ما من أبعاد الكينونة الاجتماعية ومن أبعاد الثورة، ومن هذه الزاوية يعتبر مرور القروي وسعيد للدور الثاني من الرئاسيات هزيمةً للمنظومة، كما يعتبر فوز سعيد في الدور الثاني – بذلك الفارق الكبير بعد أن حشد أكثر من مليون ناخب إضافي لم يشاركوا في الانتخابات التشريعية- مبايعةً وهزيمةً نكراءَ للمنظومة. ولكن المنظومة أعمق من سطحها السياسي، ولا تخضع لعملية إعادة التوزيع الانتخابي، ويأخذ تغيير مسارها وقتًا طويلًا. وهي ستنظم مقاومتها كعادتها، وستبحث عن عملية إعادة انتشار سياسيٍّ جديدة.

إن المزاج العام اليوم شبيه بمزاج مارس 2011، وهو يعيد طرح سؤال التأسيس؛ ولكن برئيس جمهورية دون رافعة حزبية أو ومؤسسية ودون كثيرٍ من الصلاحيات، وبحزبٍ أول دون أغلبية برلمانية واضحة، جاء به المزاج الناخب بحثًا عن الاستقرار، وتعديلًا لراديكالية رسالة الدور الأول من الانتخابات الرئاسية حين كانت تونس بين مواصلة موجة الانتفاض في وجه منظومة الحكم، فتفرز الانتخابات التشريعية برلمانًا شديد الانقسام ودون عمود فقري، وبين تعديل فورة العقاب لإفراز برلمانٍ يتوفر على قدر من الاستقرار بما يجعل البلاد قابلةً للحكم .ما حصل في الانتخابات التشريعية هو ترجيح الاحتمال الثاني، حيث استمر منهج العقاب، فاضمحلت أحزاب وتكتلات (النداء والجبهة الشعبية)، وتراجعت أخرى تراجعًا دراماتيكيًّا (البديل وآفاق)؛ولكن مع خارطة يمكن أن تفرز – نظريًّا – حكومة مستقرة. و كان التفويض الأكبر لحركة النهضة، وكأنها تمثِّل علامة الأمان الممكنة.

حركة النهضة ومعادلة الاندماج والتغيير

إن مفارقة حركة النهضة هي أنها كانت الحزب المناضل الأكبر الذي تقدَّم بعد الثورة لملء فراغ القيادة، ليتحوَّل إلى حزب حكمٍ بعد أن كان حركة مقاومة. وفي رحلتها من مواجهة الحكم إلى المساهمة في قيادة البلاد من مواقع مختلفة، كان على حركة النهضة أن تجري مجموعة مراجعاتٍ عميقة في الثقافة الحركية والمضامين ونوعية العلاقة مع الدولة والمجتمع دون أن تخسر صورتها النضالية، وكان عليها أيضًا أن تجري عملية تطبيع كبيرة دون أن تتخلَّى عن ميزتها التغييرية التي تقتضيها رسالتها التاريخية وطبيعة المرحلة ما بعد الثورية.
في هذه الانتخابات، حكم الشعب بأن النهضة لم تعد – في مخيال الناخبين – حركة تغيير، وأن مؤسسات الدولة قد احتوتها وكيفتها، وأنها غلَّبت عند الممارسة دواعي الاندراج على واجب التغيير. ولهذا الحكم ما يبرِّره.

فقد حصلت نقاشات واسعة في صلب النهضة في السنوات الأربع الأخيرة بخصوص إدارة العلاقات السياسية مع شريك الحكم ورئاسة الجمهورية، وبخصوص التموقع الاجتماعي والتموقع الثقافي وما ينجر عنهما من مبادراتٍ تشريعية ومواطن اهتمامٍ في العمل البرلماني والحكومي والمحلي، وكذلك بخصوص العلاقات الداخلية وطريقة إدارة مجموعة من الملفات مثل الانفتاح والانتشار المجتمعي والشباب وغيرها. غير أن الخطَّ المتغلِّب رسَّخ صورة حزب المنظومة، والحركة التي كانت تعتبر رافعتها الشبابية إحدى قواطر تقدُّمها كرست لدى جزء من شبابها ثقافةً هجينةً، فثقافة وتربية النضالية والتجرُّد والعمل كانت تنازعها ثقافةٌ جديدة هي ثقافة “رجال الدولة” والتلهف وراء التموقع، حتى دفع الأثمان الأخلاقية من أجل ذلك. وفِي حين كان الشباب الجامعي والعاطل يراكم ثقافة الكفاح، كانت تتنازع داخل النهضة ثقافة القرب من اهتمامات هذه الفئة مع ثقافة الانتهاز والاستظلال بمراكز التأثير. وبدأت الحركة تفقد سمتها تحت عناوين صحيحة في ذاتها، مضللة في مضمونها، خاطئة في تنزيلها، وخاضعة في الأغلب لاعتبارات التصارع التنظيمي (التخصُّص والتونسة والتطبيع مع الدولة).

لقد كان الشباب داخل النهضة يعانون من مشكلة النموذج والقدوة. فقد تحول النموذج من نموذج “المناضل” إلى نموذج براجماتي، وهو نموذج “رجل الدولة” بمظهريته وتعاليه. وبقدر ما كان الشباب يغرقون في صراعات الداخل التنظيمي وتخلبهم أضواء المصعد الحركي (والمصعد هنا مقصود للدلالة على الاستعجال عِوَض السلم الطبيعي) بقدر ما كانوا ينفصلون ماديًّا وشعوريًّا عن الشباب في الجامعات والشوارع. إنهم شباب يشبهون حركة النهضة، ولكن لا يشبهون فئتهم. وللأسف، فإن الأحزاب كثيرًا ما تكرِّر تجارب بعضها، وقد كان للشباب قصَّة خلال الستينيات والسبعينيات مع حزب كان كبيرًا آنذاك. وحينما انحصرت السياسة في الدولة هدفًا والحزب مصعدًا وسط تلبيس وفوضى مفاهيمية رهيبة، انقلبت حركة النهضة من حركة مراهنة على المجتمع الذي هو أصل والدولة هي التعبير القانوني والمؤسسي عليه، إلى المراهنة الكلية على الدولة كما النموذج اليعقوبي الفرنسي الذي كان في مرمى سهام النقد والمواجهة النظرية والميدانية في نسخته البورقيبية. وكثيرًا ما يكرِّر الثوار تجارب من ثاروا عليهم. وحال الشباب في الأحزاب الأخرى وفِي المنظمات الكبرى ليس بأفضل من حالهم في النهضة.إن الشباب القادم من الهوامش هو الذي صنع الفارق. ويخطئ من يظن أن الانتفاضة هي انتفاضة جيلية أو جيلية فقط. فالوجه المبدئي للانتفاضة ليس شابًّا، أي قيس سعيّد. وإنما الانتفاضة ضدّ نمطٍ من الأخلاق والعلاقات، تخترقه الأجيال والمدارس.

من حسن حظِّ النهضة أن الشعب منحها فرصةً أخرى للتدارك، لقد قال الشعب إنه منفتح، ولكنه وفِيٌّ لجذوره وتاريخه، وأن الدولة /الإله والنخبة/الإله قد انتهت، وقال إن التلهف وراء الاعتراف والمقبولية مضرٌّ؛ إذ إن القيم الأسمى في الوضع الديمقراطي ليست التنميط أو الاستعلاء، بل هي قيم التسامح والتعايش والحوار والبناء من الأسفل، لقد انتهت دكتاتورية الأقليات المتسترة داخل المؤسسات أو المشتغلة على هامشها، كما أعاد الشعب ترتيب الأولويات الوطنية باتجاه الاجتماعي والقيمي، فهل تقدر النهضة على خوض معركة الإصلاح العميق داخلها واتخاذ الإجراءات المناسبة؟ وهل تقدر الأحزاب المنتصرة على استثمار الفرصة؟ وهل تقدر الأحزاب المنهزمة على التدارك؟

لن يكون أمام الجميع الكثير من الوقت ومجال واسع للمناورة.

فقاعة عارضة أم موجة جديدة؟

في بداية الثورة، كان الشارع العفوي هو الذي يرفع السقف ويُحرج النُّخب الحزبية والمدنية المُشربة بالعقلية التكتيكية حتى دخلت الثورة المؤسسات بعد مارس 2011 ثم بعد انتخابات أكتوبر من نفس العام، وتمَّ قتل الشارع العفوي واستدعاء الشارع الوظيفي الذي أصبح امتدادًا للمعارك التي لا تقدر موازين القوى الحزبية على فضِّها داخل المؤسسات. وكان الرئيس المرزوقي الأقرب بحكم مزاجه ورؤيته لعفوية الشارع، ولكنه كان مقيدًا بموازين القوى داخل الترويكا التي بوأته الرئاسة، فلم يستطع منها فكاكًا. أما بطل ما بعد انتخابات 2014 كان الرئيس المرحوم الباجي قايد السبسي، فقد أُشرب عقلية الممارسة السياسية المناوِرة التي لا تعترف بالشارع بل ربما تحتقره، وفي مقابل هذا العقل التكتيكي المناور انساق الشريك الثاني للمربع نفسه في عملية حقَّقت مكاسب كثيرة للبلاد، ولكنها أفقدت العملية السياسية حيويتها وتنافسيتها وقتلت الشارع.

في مرحلة ما بعد انتخابات 2019، لن يقدر الساسة على إعادة الشارع المشاكس إلى الصفِّ مع قولة “شكر الله سعيكم”، فهذه المرة للشارع ظهير في رئاسة الجمهورية يستمدُّ قوته مما يراه خصومه نقطةَ ضعفٍ فيه، وهي افتقاده لكتلة مساندة في البرلمان. إلا أن الرئيس سيضع البرلمان والأحزاب تحت الضغط الحالي، وبالتالي ليس من مصلحته ولا من رؤيته في فعل السياسة أن يهدأ الشارع. ولن ينتظر الشارع كثيرًا، وسيكون شاهدًا على الأحزاب ويدفعها إلى مغادرة المناورات القديمة. من هذه الزاوية، يمكن أن يكون الرئيس عاملًا محفزًا للإسراع بتشكيل الحكومة، وقد يبتكر مبادراتٍ للتنظيم تلجم الطامحين في انتخاباتٍ سابقة لأوانها عن مطامحهم، كما أنها ستدفع المنظومة الحزبية إلى التجدُّد وخاصةً الأحزاب الكلاسيكية إن أرادت لنفسها الاستمرار. فلا بديل عن التجديد الجوهري ومجاراة الموجة سوى الاضمحلال.

تطلعات الناخبين وتحديات المرحلة القادمة

إن ما حدث في تونس من صنف التحولات الكبرى التي يعقبها انفلاتٌ في التطلعات ليصبح التغيير الجذري مطلوبًا ودون إبطاء. وكأن خزان الصبر قد نفد. و”الشعب يريد” الذي كان شعار الثورة في بداياتها، وهو أيضًا شعار الرئيس المنتخب الأستاذ قيس سعيّد.

إذن،فإن الشعب يريد تغييرًا عميقًا وسريعًا.فهو يريد تشغيلًا، وقضاءً على الفساد، ومشاركةً أكبر في إدارة الشأن العام، وردمًا للفجوات بين الجهات وبين الفئات.إن الشعب يريد هذا لأنه دَيْنُ الثورة الذي لم يُسدَّد، ولأنه “برنامج القطيعة الراديكالي” للمرشح قيس سعيد، ولأن حركة النهضة نفسها رفعت سقف وعودها بعد تعثرها في الدورة الأولى للرئاسيات؛ لكن أمام تحقيق هذه التطلعات عوائق كثيرة بعضها مؤسسي، وبعضها مرتبط بحجم الإكراهات الاقتصادية والاجتماعية، وبعضها مرتبط بالمناخ السياسي المتوقع …

أ. الصعوبات المؤسسية:

فرئيس الجمهورية دون صلاحياتٍ كبيرة، ودون سند برلمانيٍّ وازن، وقد لا يسعى إليه. فرؤيته السياسية ترتكز على الشارع وعلى البناء من الأسفل. وسيتعامل مع برلمان محكوم بعقلية سياسية محافظة باللجوء إلى التحشيد الجماهيري، وهذه الآلية لها حدودها الواقعة بين الضغط البنَّاء والدفع للفوضى. والمطلوب هو الالتقاء في منطقة وسط بين عقليتين إذا كانت هناك إرادة لتجنُّب أزمة مؤسسية مفتوحة.

والبرلمان يشكو من التشتُّت العددي، ومن النزعة العدوانية، ومن التنافي بين بعض مكوناته المؤثرة، والحزب المتقدِّم لا يملك أغلبيةً تسمح له بتشكيل حكومة، ولا تتوفَّر أمامه خيارات كثيرة لترتيب تحالفٍ مستقرٍّ يقود حكومةً قويةً. فأطراف التحالف المحتمل ستكون متعدِّدةً بما يعسِّر الاتفاق على البرنامج وتوزيع المناصب ثم لاحقًا ضمان الاستقرار، ومجالس الحكم المحلي تعاني صعوبات كثيرة وقد تزيد بعض مبادرات الرئيس من معاناتها.

ب. التحديات الاقتصادية:

لن تكون رحيمةً بالحكومة القادمة بسبب تدهور قيمة العُملة، وتفاقم مستوى العجز التجاري، وارتفاع مستوى الدَّيْن الداخلي والخارجي ومؤشر التضخُّم في بلدٍ يعيش فوق إمكانياته بسبب كتلة أجور تُقدَّر بـ 19.03مليار دينار من ميزانية تُقدَّر بـ 47.227 مليار دينار، إضافة إلى خدمة الدين العمومي التي تُقدَّر بـ 11.678مليار دينار. وهذه الميزانية لن تخصِّص للتنمية إلا مبلغ 6.9 مليار دينار. أما المديونية فالمتوقع أن يصل الدين العام إلى الذروة في عام 2020بحوالي 89%من الناتج المحلي الإجمالي قبل البدء في الانخفاض شريطة المسارعة في البدء بالإصلاحات، ولن تكون المفاوضات مع صندوق النقد الدولي في الربيع المقبل سهلةً دون استقرار سياسيٍّ ومؤشراتٍ على الانطلاق في الإصلاحات.

المفارقة الكبرى أن الميزانية تمَّ إعدادها من حكومة مغادرة، وهي مشروع توازن محاسبي دون أي نَفَس إصلاحي، أي أنها ميزانية صيغت بعقلية ما قبل الانتخابات، وسيضطر البرلمان الجديد للمصادقة عليها التزامًا بالآجال الدستورية، وإلى البحث عن خياراتٍ بديلة كفلها الدستور في انتظار إعداد ميزانية تتناسب مع برامج أحزاب الائتلاف الحاكم الجديد.

جـ. التحديات الاجتماعية:

من الصعب التحكُّم في المؤشرات الاجتماعية التي تشعل الأضواء الحمراء، فقد بلغت نسبة البطالة العامَّة (15.3%) (أي 635 ألف عاطل)، ونسبة البطالة في صفوف الشباب (34%)، ونسبة البطالة في صفوف أصحاب الشهادات (28%)، وتتفاوت نسبة البطالة بين الجهات وبين الذكور والإناث بشكلٍ لافت.

في ضوء ذلك، كيف يمكن التحكُّم في اختلال مؤشرات المالية العمومية وإيجاد قدر من التوازن داخلها؟

إن الشروع في الإصلاحات في المنظومات الكبرى (الجباية والدعم والصناديق الاجتماعية والقطاع العمومي) يبدأ بهدنة اجتماعية، والهدنة متعلِّقة بقوة الحكومة وبالأطراف المشكلة أو الداعمة لها، وبالعلاقة مع الاتحاد العام التونسي للشغل.

ومن الأرجح استمرار دعم القوى الدولية للتجربة التونسية مع توجُّسها من رئيس الجمهورية وعدم ارتياحها لبعض الكتل البرلمانية من حيث مضمون وحدة خطابها، وهو ما قد يعطي موقعًا متميزًا لحركة النهضة باعتبارها قوة تهدئة وتعديل.

ولن تكون الأوضاع الإقليمية ضاغطةً على التجربة إلا إذا تعثَّرت الإصلاحات وتأخَّر الحدُّ الأدنى من الإنجاز، فيتصاعد الاحتقان الاجتماعي ويتمُّ توظيفه من دوائر إقليمية معلومة.

ومن المتوقَّع أن تستقرَّ حالة الجوار في وضع قريب مما هي عليه الآن من حيث الآثار على البلاد. إنها لن تزداد سوءًا، ولكنها لن توفر فرصًا جديدة نتيجة استمرار انغلاق الأسواق الليبية، وعدم انفتاح الأسواق الجزائرية بسبب الضبابية السياسية.

والخلاصة، إن سقف التوقعات المرتفع يتطلَّب وضوحًا وإرادةً ومصارحة، وقبل ذلك مناخًا ملائمًا وقوة مؤسسية، غير أن الوضع المؤسسي المتَّسم بهشاشة البرلمان وضعف الحكومة ولانمطية الرئيس قد لا يتيح حلولًا للاستجابة السريعة لارتفاع التطلعات.

السيناريوهات المحتملة

المعضلة المطلوب حلها هي الاستجابة لمطالب الناس في التنمية ومقاومة الفساد، في ظل المعطيات الآتية:

– سقف توقعات وسقف وعود مرتفعان، بما يستوجب الشروع في العمل وإعطاء إشاراتٍ سريعة وبارزة أن الأمور تتغيَّر.

– حزب أول تحت الضغط، فلم يحصل إلا على أقل من ربع البرلمان في حين يطالب بالحكم من ناخبيه ومن غيرهم. فيتهمه أبناؤه بالتردُّد، ويتهمه أنصاره بتعوُّد التفصي من المسؤولية والاختباء خلف الغير، وينافسه حلفاؤه الطبيعيون على القاعدة نفسها، ويخطِّطون لحشره في الزاوية لخلافته عليها.

– رئيس قوي الشخصية وصاحب رؤية غير تقليدية، يعول على تعبئة الشارع، ويملك القدرة على ذلك إلى أمد، ويرفض أن يرهن نفسه للبرلمان وتوازناته، رغم أن عددًا من الكتل البرلمانية يمكن أن تكون على ذمته نكايةً في حركة النهضة.

– أعباء كبرى على المالية العمومية، وإصلاحات كبرى تتطلَّب سندًا سياسيًّا وتهدئةً اجتماعيةً مع منظمة نقابية لها رؤية خاصّة للإصلاحات.

في ظلِّ هذه المعطيات، ما هي السيناريوهات الممكنة وطنيًّا؟

تصنيف السيناريوهات سيخضع إلى اعتبارين:

  • قدرة مؤسسات الدولة وخاصةً الرئاسات الثلاث على الاشتغال المتناغم والناجع بما يجنِّب البلاد أزمةً مؤسسية غير مستحيلة الوقوع. وبعد أن اتضح اسم رئيس الجمهورية، فإن هذا المطلب يبقى مرتبطًا إلى حدٍّ كبير بشخصيتي رئيس الحكومة ورئيس مجلس النواب.

– قدرة الحكومة على الإنجاز وإعادة الثقة والأمل. ولن يكون ذلك إلا من خلال حكومة قوية قادرة على إرساء علاقة تعاونٍ مع المنظمات الكبرى.

أ. السيناريو الإيجابي:

نجاح النهضة في تشكيل الحكومة في الشهر الأول من التكليف الرئاسي بأوسع إسنادٍ ممكنٍ من البرلمان في صيغة مشاركة أو مجرَّد دعمٍ من الخارج، وببرنامج حكمٍ قابلٍ للقياس ومستجيبٍ لمطالب الشعب، واختيار رئيس حكومة ورئيس برلمان من الشخصيات القوية والمرنة القادرة على ملء موقعها والتفاعل مع الرئاستين الأُخريين.

شروط نجاح هذا الخيار:

  • تفاعل مرن ومسؤول من التيار الديمقراطي وحركة الشعب وتحيا تونس وعدد من نواب قلب تونس والكتل الصغيرة والنواب المستقلين.
  • دور مشجِّع ومجمِّع لرئيس الجمهورية، وتفهُّم من اتحاد الشغل خاصةً ومنظمة الأعراف، ومرونة تفاوضية من حركة النهضة تجمع بين الالتزام برسالة الناخبين من أجل الحكم والنظرة المتكاملة لمنظومة الحكم.

صيغ هذا الخيار:

  • النهضة في رئاسة البرلمان، وتكليف شخصية مستقلة برئاسة الحكومة.
  • النهضة في رئاسة الحكومة، والاتفاق على رئاسة للبرلمان من غيرها.
  • تخلِّي النهضة عن الرئاستين هو تشويه لإرادة الناخبين ولن يكون مقبولًا من داخلها ولن ينجح المسار، كما أن جمع النهضة بين الرئاستين لن يكون ممكنًا.

ب. سيناريو مقبول:

اعتذار النهضة عن تشكيل الحكومة بعد عجزها عن ذلك لعدم توفُّر الحد الأدنى المقبول من مؤسساتها، ونجاح الشخصية التي يكلِّفها رئيس الجمهورية وفقًا للصلاحية الدستورية في ذلك مع مشاركة النهضة أو اختيارها موقع المعارضة.

وشروط نجاح هذا الخيار:

  • اسم الشخصية المقترحة ونوعيتها.
  • التفاعل المرن لحركة النهضة من خلال المشاركة أو عدم الاعتراض.

جـ. سيناريو سلبي:

فشل النهضة في تشكيل الحكومة، وفشل الشخصية المكلَّفة بعدها في هذه المهمَّة أيضًا، واتجاه البلاد إلى انتخاباتٍ سابقة لأوانها مع قدرة حكومة الشاهد على مواصلة عملها في تسيير شؤون البلاد وقبول الشعب، رغم التبرم والاحتجاج.

وسيكون الذهاب مجددًا لصناديق الاقتراع بعد إمضاء رئيس الجمهورية تعديل القانون الانتخابي الذي أقره مجلس نواب الشعب في شهر يوليو الماضي ورفض الرئيس السابق المرحوم الباجي قايد السبسي إمضاءه؛ إذ إن الذهاب للانتخابات بالقانون الحالي نفسه لن يعطي نتائجَ مختلفةً نوعيًّا. ولن تكون هذه الانتخابات -إن حصلت – قبل بداية الصائفة القادمة.

د. سيناريو شديد السلبية:

هو الاحتمال السابق مع اشتداد الاحتجاج الاجتماعي ورفض المضيِّ إلى الصندوق، وحينها يدخل المسار التونسي منطقة اللايقين.

لذلك، فإن المرجَّح هو السيناريو الأول أو الثاني؛ لأن الجميع لن يتحمَّل تكلفة قيادة البلاد للمجهول، كما أن الجميع يدرك أن المجازفة بانتخاباتٍ سابقة لأوانها لن تكون مضمونة النتائج.