لأول مرة في التاريخ السياسي الجزائري المعاصر، ينتظر الجزائريون ساكن قصر المرادية المقبل من بين المترشحين الخمسة لسباق الرئاسيات المقبل الموافق يوم الخميس 12 ديسمبر، وهم غير مدركين من هو الرئيس المقبل ومن سيكون وما هي هويته؟ لقد حطَّم الحراك السياسي الجزائري جميعَ المصفوفات السياسية التي تعوَّد عليها الجزائريون، نخبة وسلطة ومعارضة، كما حطَّم الكثير من المسلَّمات التي كانت تميِّز المناخ السياسي في كل موعد انتخابيٍّ.

بفضل هذا الخروج، تأكَّد للجميع أن هذا الحراك ليس يتيمًا ولا عبثيًّا، وإنما يختزل موقف شعبٍ بكامله، وهو لحظة تقاطع بين كل الفئات المهنيَّة بكوادرها ونخبها، وما على السلطات إلا الإنصات بحكمةٍ لهذا الحراك العاقل الذي اختار أن يكون تعبيريًّا وتوجيهيًّا ومحذرًا عوض أن يكون تدميريًّا تخريبيًّا. فبعد خروج الفئات المهنيَّة لم يعد ممكنًا الحديث عن شبابٍ طائشٍ ومنحرفٍ وبطَّال وبائسٍ وشرذمةٍ من المواطنين، بل هو حراكُ أمَّة بكل نخبها وفئاتها؛ لأن التعبير بالهويَّة المهنيَّة يصبح مهمًّا أمام نظامٍ يمارس الأبويَّة والوصاية على المحتجين. فعندما يظهر جليًّا أن القضاة والمحامين والأطباء والأساتذة في مختلف المستويات التعليمية والأئمَّة والطلبة والمثقفين والفنانين والمهندسين متواجدون في الحراك، هنا يصبح للحراك شرعيةٌ نخبويةٌ تضاف للشرعية الشعبية؛ فإن انخراط كل هذه الفئات المهنيَّة دون شروطٍ مسبقة، ودون المطالبة بحقِّ القيادة والوصاية على المحتجين، إقرارٌ بعقلانية المطالب وشرعيتها، واجتماعٌ على التشخيص السلبي للنظام وعدم صلاحيته وعجزه على تسيير البلد، بعدما أدخلنا في جملةٍ من الأزمات قد تهدِّد وحدة الوطن ومستقبله، أو على الأقل ترهن استقلاليته السيادية، وبعدما عجز عن ضمان الاستقلالية الغذائية والسياسية والثقافية، وأصبحنا ننتظر ما تجود به الأرض لمواصلة الحياة في حدِّها الأدنى[1].

فمع الدور البارز للجيش ووسط غيابٍ واضحٍ للتشكيلات السياسية التي يقبع أغلب رؤسائها في السجن يقضون أحكامًا قضائية بتهم فسادٍ ثقيلة، يبدو الحراك كالتيار الهادر بلا رأسٍ وبلا برنامجٍ واضحٍ إلَّا إسقاط العصابة وإقامة دولة العدل والقانون. ومع الموت السريري للجمعيات ومنظمات المجتمع المدني التي دجنتها السلطة السابقة، يسابق الجميع الزمنَ لمحاولة معرفة ملامح المشهد السياسي المستقبلي؟

ما هو السياق السياسي لعقد الانتخابات الرئاسية وخصوصيته؟

ينبغي التركيز أولًا على أن الانتخابات السياسية ورغم وجود أطرافٍ معارضة في الحراك السياسي للانتخابات، فإن الضرورة الدستورية لأجندة المؤسسة العسكرية هي التي ضبطت إيقاع تحولات المشهد، فقد تنقَّل قائد المؤسسة العسكرية بين النواحي العسكرية المختلفة ملقيًا خطاباتٍ شبه أسبوعية تحدِّد آفاق التحوُّل وملامح الانتخابات، وتتوعَّد كلَّ من يعرقل العملية الانتخابية بعقوباتٍ صارمة.

 فمن رحِم المؤسسة العسكرية تمت الدعوة إلى ضرورة استدعاء الهيئة الناخبة في أَجَلٍ أقصاه 15 سبتمبر، وهو ما تمَّ فعلًا بخطابٍ رئاسيٍّ من طرف الرئيس المؤقت عبد القادر بن صالح، الذي استدعى الهيئة الناخبة لانتخابات 12 ديسمبر 2019. وقبل ذلك، تمت الدعوة إلى استدعاء هيئة الحوار والوساطة التي كُلِّفت بها هيئة سياسية ترأسها البرلماني السابق كريم يونس، والتي قامت بإجراء حواراتٍ حثيثة مع هيئاتٍ وجمعياتٍ وأحزاب، وأقرَّت جملةً مهمَّة من التوصيات كان على رأس مخرجاتها: إعادة النظر في النصوص القانونية، وعلى رأسها قانون الانتخابات وهيئة مراقبة الانتخابات، وهو ما تمَّ لاحقًا؛ إذ تمَّ إصدار القانون العضوي للانتخابات والقانون العضوي للسلطة الوطنية للانتخابات.

المؤسسة العسكرية الفاعل الأثقل في رسم المآلات الدستورية والاستحقاقات المقبلة

 في بياناته الأسبوعية المختلفة لقيادة الأركان في الجزائر، ومن خلال زياراته المختلفة للنواحي العسكرية المختلفة، تطور خطاب المؤسسة العسكرية باتجاه مرافقة الحراك، فباستثناء الخطاب الأول الذي فُهِمَ منه أن المؤسسة العسكرية قد تبنَّت مقاربةً أمنيةً حفاظًا على الاستقرار وعلى الوضع القائم، نلاحظ أنه وبعد أسبوعين من الحراك تبنَّت المؤسسة العسكرية خطابًا تطمينيًّا لشباب الحراك وقادته، وذلك بالتركيز على عدَّة عناصر أهمها أن الرابطة بين الجيش والشعب قويةٌ وعفويةٌ، وأن الجزائر محظوظةٌ بشعبها والجيش محظوظٌ بشعبه، واستمرت المؤسسة العسكرية بخطابٍ تصاعديٍّ وصولًا إلى إلزام الرئيس بوتفليقة بالتنحي فورًا.

واستمرَّ خطاب قيادة الأركان في الاتجاه نفسه وعلى مدار أكثر من تسعة أشهر بالوتيرة نفسها الداعمة للحراك، غير أنه التزم بالمسار الدستوري تخوفًا مما أسماه مراحل انتقالية قد تأخذ البلاد إلى المجهول، وهو المسار الذي يلقى معارضةً من أنصار الحل السياسي الصِّرف، على اعتبار أن الأزمة سياسيةٌ، وهي بالتالي تتطلَّب مخرجًا وحلولًا سياسية.

 لقد انتقل خطاب المؤسسة العسكرية بشكلٍ يجعلنا نتأكَّد تمامًا أنها صاحبةُ الكلمة النهائية باعتبارها القوةَ الثقيلة في المشهد المستقبلي، وذلك وَفْقَ المعطيات التالية:

– التدخل الأسبوعي لقيادة الأركان بخطابٍ سياسيٍّ يتمُّ بثُّه عبر مختلف القنوات التلفزية، يرتبط بالوضع الراهن، ويشدِّد على ضرورة تعجيل إجراء الانتخابات الرئاسية.

– الانتقال من خطاب العصابة إلى خطاب الشرذمة؛ إذ يُنسَب إلى قيادة الأركان إطلاق مصطلح العصابة على الرئيس المخلوع وشقيقه وعصابته من الوزراء الفاسدين، غير أن خطابات شهر سبتمبر قد انتقلت إلى خطابٍ أكثر تصعيدًا، فقد انتقلت من تسمية العصابة إلى تسمية الشرذمة في إشارةٍ إلى بقايا النظام، وإلى المتآمرين  الخارجيين، وإلى أطرافٍ معارضة لإجراء الانتخابات الرئاسية.

– إن إعلان ضرورة إجراء الانتخابات الرئاسية قبل نهاية 2019 جاء من طرف قيادة الأركان في أثناء زيارة قائد الأركان للناحية العسكرية بورقلة، وهو ما ألزم رئيس الدولة باستدعاء الهيئة الناخبة يوم 15 سبتمبر لإجراء الانتخابات الرئاسية في 12 ديسمبر، وذلك بعد عملٍ ماراثوني شاق، تمَّ بموجبه المصادقة على قانون السلطة الوطنية للانتخابات والقانون العضوي للانتخابات وتعيين أعضاء السلطة.

إن بيان مؤسسة الجيش يوم 27 مارس كان بمثابة الانقلاب العسكري الأبيض على الجناح الرئاسي وعلى الجنرال توفيق صانع وقائد الدولة العميقة في الجزائر، وهو بمثابة استرجاع مؤسسة الجيش لمقاليد الحكم وزمام المبادرة تحت غطاء المادة 102 من الدستور، التي ترتبط بحالة الشغور، وقد أضحى واضحًا أن مؤسسة الجيش قد دفعت الرئيس بوتفليقة للاستقالة لتصبح هي الآمر الناهي، حيث لم يبقَ لها سوى تفكيك بؤر المعارضة والمقاومة على مستوى أجنحة النظام الأخرى، وخاصةً الرئاسة والدولة العميقة، وبدأ هجوم المؤسسة العسكرية بتحييد الأذرع المالية للأطراف الأخرى وإضعافها، وذلك باعتقال كلٍّ من علي حداد رمز النفوذ المالي للجناح الرئاسي، ويسعد ربراب رمز النفوذ المالي للدولة العميقة بقيادة الجنرال توفيق؛ لأن تلك القوى – خلافًا للمؤسسة العسكرية – لا تملك اليد الطولى على المؤسسات الأمنية، وبالتالي تعتمد بالضرورة على النفوذ المالي وشبكة علاقات المصالح الواسعة والمعقَّدة؛ وبالتالي فإن المؤسسة العسركية توجهت بالضربة الأولى لهذه الأذرع المالية، ثم ألحقت بتلك الشخصيات المالية الإخوة كونيناف الذين يمثلون لوحدهم إمبراطوريةً مالية متجذِّرة[2].

وصفوة القول أن المؤسسة العسكرية في الجزائر هي صاحبة الكلمة الطولى في رسم المشهد المستقبلي في الجزائر، لاعتباراتٍ عديدة لعل أهمها امتلاك أجندة واضحة منذ البداية، والتفاف الشعب حولها في ظلِّ تشرذمٍ واضحٍ للمعارضة، ناهيك عن كونها لم تتورط في إسالة قطرة دمٍ واحدة منذ بداية الحراك وإلى غاية اليوم.

الأحزاب السياسية: تشرذُّم وتصحُّر سياسي والتحاق متأخِّر بالحراك

عمل النظام السياسي السابق على اختراق الأحزاب السياسية، معارضة وموالاة، وحوَّلها إلى أحزابِ حقائب  وأحزابٍ بلا مناضلين؛ إذ تشير الوقائع الحالية إلى حقيقة مؤلمة، وهي أنه يقبع في السجن حاليًا جميع رؤساء أحزاب الموالاة بتهم فسادٍ كبيرة، يتصدرهم الأمناء العامون لحزب جبهة التحرير الوطني الحالي، ورجل الأعمال محمد جميعي وزوجته القاضية، والأمين العام الأسبق جمال ولد عباس، والأمين العام للتجمُّع الوطني الديمقراطي صاحب مقولة “جوّع كلبك يتبعك” الوزير الأول أحمد أويحي، ورئيس حزب تاج المنشق عن حمس عمار غول، ورئيس حزب الحركة الشعبية عمارة بن يونس. وهي سابقة خطيرة أن يقبع جميع رؤساء أحزاب الموالاة وراء القضبان، وهو ما جعل المتتبِّع يرى في هذه الشخوص عصاباتٍ تقود أحزابًا بعضها يوصف بالعتيدة، ولا تخلو قطعًا من الشرفاء. وقد ارتفعت وتيرة النقد تجاه حزب جبهة التحرير الوطني من خلال المناداة بدسترته باعتباره ملكيَّة جماعية، وضرورة حلِّه كحزب سياسيٍّ، وهي دعوة إلى إدخاله دهاليز المتحف، وهو المطلب الذي تقدَّمت به المنظمة الوطنية للمجاهدين.

أما الأحزاب المعارضة فقد بقيت تعيش على وقعِ الانشقاقات الداخلية والتصدعات، وهي التي شارك أغلبها في مختلف المحطات الانتخابية والحكومات السابقة، وهو ما جعل الحراك يرفض في الأسابيع الأولى انخراطها في صفوفه ويطردها، سواء داخل الجزائر أو خارجها، وهو ما حصل مع كثيرين في العواصم الأوروبية.

يرى الباحث ناصر جابي أن الأحزاب السياسية المعارضة لم تقم بقراءةٍ جيدةٍ للحراك الشعبي، فلم تنجز عملًا نقديًّا داخليًّا لأساليب عملها وطرق تجنيدها وبرنامجها السياسي، وكأنَّ شيئًا لم يحدث في الجزائر منذ 22 فبراير. إذ نجد لديها الخطاب نفسه وطرق العمل نفسها، إذا استثنينا بعض الحالات التي تحوَّل فيها خروج القيادات إلى المسيرات الأسبوعية إلى نوعٍ من الحضور الإعلامي لا غير، ولم يصل إلى مرحلة الانفتاح على هذا الحراك الشعبي للانطلاق في تجربةٍ سياسيةٍ جديدةٍ تكون في مستوى التحديات المطلوبة شعبيًّا في هذه المرحلة الحساسة من تاريخ البلد. فقد اكتفت جلُّ الأحزاب بتنظيم ندواتٍ ومنتدياتٍ وإصدار بياناتٍ وإلقاء خُطب، داخل قاعاتٍ مغلقة حتى الآن. خطابات لم يصل صداها إلى الموطنين الجزائريين الذين استمروا في موقفهم المتحفِّظ من هذه الأحزاب المعارضة، الذي عبَّروا عنه في بداية انطلاق المسيرات برفض حضور قياداتها داخل الحراك نفسه.

باختصار – يضيف جابي – أن الأحزاب السياسية المعارضة تريد استغلال غياب أحزاب الموالاة المفكَّكة، للانقضاض على ما تعتقد أنها فرصتها التاريخية، والذهاب لانتخاباتٍ رئاسية – وتشريعية لاحقًا – بسرعة، متناسية مطلب تغيير النظام السياسي الذي ينادي به الحراك الشعبي. لتلتقي بذلك مع مشاريع السلطة في الذهاب بسرعةٍ إلى تغيير وجوه النظام وليس النظام في حدِّ ذاته. إنها أحزابٌ ترفض حتى الآن أن تستوعب هذه اللحظة التاريخية التي تعيشها الجزائر للخروج بورقة طريقٍ موحَّدة في مواجهة السلطة القائمة، بدل البقاء في منطق الانقسامية السائد، الذي تتُذكيه الثقافة السياسية السائدة لدى هذه النُّخب السياسية المعارضة، كمنتوجٍ لمرحلة العمل السياسي السريِّ، والأحادية والانشقاقات بكل آثارها النفسية والشخصية التي ما زالت قائمةً بين الأفراد والتنظيمات لحدِّ الساعة. وعادةً ما تكون أكثر حضورًا داخل أبناء العائلة السياسية نفسها، وطنية كانت أو إسلامية أو ديمقراطية، حسب التصنيف السائد للساحة السياسية الجزائرية[3].

 مجتمع مدني ونقابات تدور في فلك النظام السابق

تتميَّز الحياة الجمعوية في الجزائر بتعدُّد نوعيٍّ؛ إذ يتجاوز عدد الجميعات في الجزائر أكثر من 100 ألف جمعية، وأكثر من 63 نقابة معتمدة، وينشط في المجال السياسي الجزائري أكثر من 20 حزبًا، وينتظر الاعتماد حاليًا أكثر من 70 حزبًا سياسيًّا. ومع كل هذا العدد، تبقى حركات المجتمع المدني – خصوصًا النقابات السابقة – تعاني – وفق دراسة أجراها الباحث سابقًا – من كثرةٍ في العدد وعقمٍ في الحراك والفاعلية.

فقد شكَّلت النقابات – التي تُسمَّى بالجماهيرية – أداةً لإفساد الحياة السياسية وتطويعها مع تموقعها في أحزاب الموالاة، وهي التي دعمت بقوة العهدة الخامسة وخوَّنت المعارضين. وهو ما جعل فئاتٍ عريضة تنشقُّ من النقابة الأُم تحت رئاسة عبد المجيد سيدي السعيد، وترفع سقف مطالبها بإنهاء الوصاية على الحياة النقابية، وهو ما ظهر في جمعياتٍ ونقاباتٍ جديدة ذات وَهجٍ نقابيٍّ جديدٍ في مجال القضاء والمحاماة والفلاحين وقطاعات الصحَّة والتمريض والتعليم والتجارة وغيرها[4].

إن ضعف الأحزاب السياسية والنقابية داخل الحراك قد سهَّل عليه التعبير عن نفسِه بحيويةٍ وصدقٍ أكثر، وعن هذا المجتمع الجزائري الشاب، الذي لم يعش تجربة العمل السياسي السريِّ والأحادية بكل عيوبها السياسية والنفسية، التي ما زالت النُّخب الحزبية لم تتخلَّص منها حتى الآن بعد شهور من انطلاق الحراك، من دون أن يعني هذا بالضرورة أن الحراك «خام سياسي»، فقد ظهرت فيه تياراتٌ سياسية وفكرية عديدة من أقصى اليسار إلى التيارات الدينية والوطنية، مرورًا بتياراتٍ شعبوية ذات توجُّه يمينيٍّ ليس بعيدًا عمَّا هو سائد دوليًّا، في تركيزٍ واضحٍ على القراءة الإثنية والعرقية في بعض الحالات، ما زالت محصورة شعبيًّا، لكنها حاضرة لدى جزء من “النُّخب” التي أفرزتها التحولات الاجتماعية والثقافية السريعة، التي كان المجتمع الجزائري مسرحًا لها في العقود الأخيرة، كانتشار التعليم ووسائط التواصل الاجتماعي، بما ارتبطت به من هجرةٍ نحو المناطق الحضرية المتوسطة والكبيرة لأبناء المناطق الريفية، الذين يطالبون بحقِّهم في الاهتمام بالشأن السياسي الوطني والحضور الذي يفترضه[5].

هيئة الحوار والوساطة: الدور وهندسة الانتخابات

ربحًا للوقت وتجاوزًا لحالة الانسداد، قام رئيس الدولة بتعيين هيئة للحوار والوساطة بقيادة النائب البرلماني السابق كريم يونس لمباشرة نقاشاته مع التشكيلات السياسية ومختلف الجمعيات وفق أجندة محدَّدة.

  وفي التقرير الخاص الذي تحصل الباحث على نسخة منه، باشرت الهيئة أشغالها وفق رزنامة عمل مفتوحة أمام كافة الشركاء الفاعلين في الحياة السياسية الوطنية من مختلف شرائح المجتمع السياسي والمدني على السواء، إلى جانب التنظيمات المهنية والنقابية دون إقصاء، سواء على مستوى مقرها الكائن بالجزائر العاصمة أو من خلال تنقلاتها إلى مقرات الأحزاب السياسية الموافقة على الحوار.

– بلغ عدد الأحزاب السياسية التي التقت بها الهيئة 22 حزبًا و5670 من ممثلي فواعل الحراك من مختلف الولايات، وهم شرائح المجتمع المدني من أساتذة جامعيين وأكاديميين وذوي النوايا الحسنة.

– ساد جولات الحوار روحُ المسؤولية والطرح البنَّاء في كنف الاحترام المتبادل.

 ومن المظاهر السلبية التي أجمع عليها المشاركون في جولات الحوار، لا سيما من قِبل ممثلي التنظيمات المهنية والأكاديمية، والتي يمكن تلخيص مردها إلى ما يلي:

أ- الاستغلال الدستوري والقانوني المكرس لنظامٍ سياسيٍّ وإداريٍّ مركزيٍّ مطلق يقوم على تجميع كافة السلطات والصلاحيات وتركيزها بين يدي رجلٍ واحدٍ (رئيس الجمهورية)، ومنها هيمنة السلطة التنفيذية على السلطات الأخرى.

ب- الإقصاء الموصوف والاستبعاد والتهميش لدور المؤسسات الدستورية ومهامها، وكذلك للمجتمعين  الحزبي والجمعوي والنُّخب، من خلال تكريس الرداءة والمحسوبية والجهوية في مختلف مستويات مراكز اتخاذ القرار.

ت- الغياب التامُّ لمنظومة المساءلة والتدقيق والمحاسبة، الأمر الذي شجَّع على انتشار ظاهرة الفساد الذي استفحل في مختلف مفاصل المرافق والحياة العمومية داخليًّا وخارجيًّا، وهو ما تجلَّى في بروز العديد من قضايا الفساد الشهيرة ذات الصدى العالمي التي هزَّت سُمعة البلاد في الخارج.

ث- غياب المؤسسات الشرعية النابعة من الاختيار الحرِّ القائم على الانتخابات الحرة والشفافة ذات المصداقية، وهو ما عطَّل الانتقال إلى نظامٍ ديمقراطيٍّ والتنمية معًا.

 لقد ساهمت هذه العوامل الرئيسة في تصدُّع أركان النظام القائم بترساناته القانونية المتراكمة والمتناثرة التي تفتقد للتطبيق في غياب السلطة الرادعة، والتي كان لها الأثر الواضح في انتشار الظاهرة البيروقراطية وما رافقها من إرهاب إداريٍّ، وتضارب المصالح، والتسيُّب والنَّهب، والتبديد الممنهج للمال العام، والإهدار المتعمد للثروة الوطنية، وتعميم مظاهر الفساد التي عانى المواطن كثيرًا من ويلاتها، نتيجة غياب شروط الحياة الكريمة، وانعدام آليات الإصغاء، والاستجابة لمطالبه وانشغالاته المشروعة، لا سيما في المناطق النائية والمحرومة في ربوع وطننا، وهي الظاهرة التي استفحلت في مختلف أروقة الدولة وأجهزتها وامتداداتها دون وخزٍ للضمير أو احترامٍ لقوانين الجمهورية والعقد الاجتماعي الانتخابي القائم بين الشعب والسلطة.

سجَّلت الهيئة جملةً من مقترحات الخروج من الأزمة وكيفية معالجتها من مختلف جولات الوساطة والحوار التي باشرتها مع الطبقة السياسية الفاعلة في الحياة السياسية الوطنية، ومع تنظيمات المجتمع المدني والتنظيمات النقابية والأكاديميين، أو بطريقة غير مباشرة من المرجعيات السالفة الذكر، ولا سيما مختلف الأرضيات المعدَّة سابقًا من قِبل فواعلها بهذا الصدد، والتي يمكن تلخيصها في أربعة اتجاهات رئيسة تتمثَّل فيما يلي:

مقترح قوى التغيير التي تطالب بضرورة تنظيم انتخاباتٍ رئاسية في غضون ستة أشهر تحت إشراف وتنظيم ورقابة سلطة مستقلة للانتخابات، إلا أن هذا الاقتراح لم يحدِّد هذه الهيئة الرئاسية المكلَّفة بتسيير شؤون الدولة خلال المدَّة المقترحة، ليتولَّى بعدها الرئيس المنتخب مباشرة الإصلاحات الدستورية التي يطالب بها الشعب، مع اشتراط إبعاد رموز النظام والانفتاح الإعلامي واحترام كافة الحريات.

 مقترح قوى البديل الديمقراطي المتمثِّل في ضرورة إقرار فترةٍ انتقالية لمدَّة لم يتم تحديدها بغرض إجراء مراجعة دستورية (تأسيسية) قبل الذهاب إلى انتخاباتٍ رئاسية. وهو اقتراح مرهون بشروطٍ مسبقة تتمثَّل أساسًا في الالتزام باحترام القواعد الديمقراطية المتعارف عليها دوليًّا.

 مقترحات بعض الشخصيات السياسية الذين يدافعون عن تنظيم الانتخابات التشريعية في المقام الأول مع الشروع في التعديل العميق للدستور، وتيار آخر يقترح الجمع بين الانتخابات الرئاسية وانتخاب جمعية تأسيسية، بمعنى دمج أهداف الاتجاهات المختلفة.

 مقترح قوى المجتمع المدني المنخرطة في الحراك الشعبي السلمي المتمحور أساسًا حول ضرورة الانتقال إلى مرحلة جديدة قوامها السيادة الشعبية، وتُراعى فيها ممارسة الحقوق والحريات الفردية والجماعية واحترام حقوق الإنسان، مرورًا بتشكيل حكومة وطنية مستقلة من كفاءاتٍ وطنية لتصريف الأعمال، وإحداث سلطة وطنية مستقلة للإشراف والتنظيم والرقابة، والإعلان عن نتائج الانتخابات مع ضمان آليات المراقبة في أفق الانتقال الديمقراطي السلس وفق مسار انتخابيٍّ يجسِّد القطيعة مع منظومتي الاستبداد والفساد، ويكفل بناء مؤسسات شرعية ذات مصداقية.

مَنْ هم مترشحو الانتخابات؟

وافقت السلطة الوطنية للانتخابات على 5 ملفاتٍ للمترشحين الذين استوفت ملفاتهم الشروطَ القانونية، وهم على التوالي:

1- علي بن فليس (75 عامًا):

تقلَّد بن فليس عدَّة مناصب بوزارة العدل، حيث عمل قاضيًا ووكيلًا للجمهورية فنائبًا عامًّا، كما تقلَّد مناصب حكومية كوزير للعدل، ثم رئيسًا للحكومة ما بين عامي 2002 و2003، ليترشح بعدها للانتخابات الرئاسية عام 2004. وغاب بن فليس عن المشهد السياسي من عام 2004 حتى عام 2014، ليعود في ثوب المرشح الرئاسي، حيث حلَّ ثانيًا أيضا هذه المرة. وفي عام 2014، قام بن فليس بتأسيس حزب طلائع الحريات وترأسه.

2- عبد المجيد تبون (74 عامًا):

يعتبر تبون ثاني مسؤول سامٍ سابق في الدولة شغل منصب وزير، وأول من ترشح لرئاسيات ديسمبر. وشغل عبد المجيد تبون عدَّة مناصب على مستوى الجماعات المحلية، من ذلك تنصيبه واليًا لكلٍّ من ولاية أدرار الجلفة وتيزي وزو. كما شغل تبون عدَّة مناصب حكومية، فكان وزير الاتصال ووزيرًا للسكن ووزيرًا للتجارة بالنيابة. وتمَّ تعيين تبون وزيرًا أولَ يوم 25 مايو 2017، ليتم إنهاء مهامه بتاريخ 15 أغسطس من السنة نفسها، ليختفي بعدها عن الواجهة لمدَّة سنتين حتى عاد للظهور معلنًا ترشحه للانتخابات الرئاسية المقبلة.

3- عز الدين ميهوبي (60 عامًا):

شغل ميهوبي عدَّة مناصب في قطاع الإعلام، خاصةً في المؤسسات الإعلامية العمومية، مرورًا برئاسة المجلس الأعلى للغة العربية. وتمَّ تعيين ميهوبي في منصب وزير للثقافة عام 2015 حتى نهاية مارس 2019. وفي العشرين من شهر يوليو المنصرم، تمَّ تزكية عز الدين ميهوبي أمينًا عامًّا بالنيابة لحزب الأرندي خلفًا لأحمد أويحيى، ليقرِّر بدوره الترشح للانتخابات الرئاسية المقبلة.

4- عبد القادر بن قرينة (57 عامًا):

 شغل هو الآخر منصب وزير للسياحة بين عامي 1997 و1999، ليتفرغ بعدها للحياة السياسية. وتمَّ انتخاب عبد القادر بن قرينة نائبًا بالبرلمان ممثلًا عن ولايته لمدَّة تزيد عن 13 سنة متتالية، ليتم تعيينه على رأس حركة البناء الوطني في عام 2018 خلفًا لمصطفى بلمهدي الذي قاد الحركة منذ عام 2013.

5- عبد العزيز بلعيد (56 عامًا):

ناضل بلعيد في الاتحاد الوطني للطلبة الجزائريين في أثناء دراسته الجامعية، بداية من عام 1986، كما ترأسه بلعيد حتى عام 2007. كما انضمَّ إلى صفوف الاتحاد الوطني للشبيبة الجزائرية، وأصبح أمينًا وطنيًّا له لعدَّة سنوات. وانخرط بلعيد في صفوف حزب جبهة التحرير الوطنية الجزائرية، وأصبح فيما بعد أصغر عضو في اللجنة المركزية للحزب وعمره 23 سنة فقط. كما انتخب نائبًا بالمجلس الشعبي الوطني الجزائري لعهدتين متتاليتين ما بين عامي 1997 و2007. وبعد اختلاف مع توجهات جبهة التحرير، غادر الحزب ليؤسس في فبراير 2012 حزبًا جديدًا هو جبهة المستقبل.[6]

يشترك المترشحان تبون وبن قرينة في شعار “الجزائر الجديدة” المختلفة عن ممارسات جزائر ما قبل حراك (22 فبراير 2019)، وقيل عن استحقاق 12 ديسمبر 2019 إنه سيكون “ثنائي القطب” يجمع بين رئيسَيْ حكومة سابقين (تبون وبن فليس)، وبين وزيرين سابقين يترشحان لأول مرة للرئاسة (ميهوبي وبن قرينة). فرغم أن عبد العزيز بلعيد يترشح للمرة الثالثة وعبد المجيد تبون يترشح للمرة الأولى، فإن هذا الاستحقاق يتميَّز بغياب رموز الدولة العميقة التي كان يقودها الجنرال توفيق، فهذا الاستحقاق مرتكز على المنافسة الحرة دون تدخل الجهات الأمنية. ويتميز استحقاق 12 ديسمبر 2019 كذلك بإشراف “السلطة الوطنية المستقلة للانتخابات”، فقد أشاد بها تبون في المناظرة الانتخابية يوم الجمعة 06 ديسمبر 2019، وشكَّك عبد القادر بن قرينة في انحيازها لأحد المترشحين، ووعد علي بن فليس بحلِّها وإعادة تشكيلها على أرضيةٍ تُرضي جبهة المعارضة.  

السيناريوهات المستقبلية

سجَّلت السلطة الوطنية المستقلة للانتخابات ارتفاعًا في عدد الهيئة الناخبة بـ 165.804 ناخب، أي بزيادة قدرها 67.0 بالمائة[7]. ويحاول الكثير الترويج أن الرئيس المستقبلي هو عبد المجيد تبون أو ميهوبي باعتبارهما محسوبين بشكلٍ أكبر على المشهد السياسي الفارط، ويحاول البعض الترويج لبن فليس باعتباره معارضًا شرسًا لنظام بوتفليقة خلال عهدته الثالثة والرابعة، ويلقى بن قرينة هوى في نفوس الناخبين المحسوبين على الاتجاه العروبي والإسلامي وشريحة من المعارضة، في حين تشير نتائج سبر الآراء إلى تأخُّر عبد العزيز بلعيد في الترتيب الأخير. غير أن السلوك الانتخابي الجزائري صعبٌ قياسه، فقد سجَّلت المواعيد السابقة أكثر من مليون ورقة بيضاء ملغاة، مما جعل بعض المحللين يعتبرون أصحاب الأوراق البيضاء أكبر حزبٍ معارض.

تشير المعطيات الأوليَّة إلى أن نسبة الاقتراع ستكون متوسطةً في أفضل الأحوال لاعتباراتٍ كثيرة، وفي أفضل الأحوال سينجح أحد المترشحين بنسبة أغلبية نسبية لن تفوق 60 بالمائة، لكن الاحتمال الأرجح أنها ستتجه إلى إجراء دور ثانٍ في ظلِّ مقاطعة أحزابٍ معروفة بانتشارها وقاعدتها على غرار حركة حمس – إخوان الجزائر – والأحزاب العلمانية واليسارية المعروفة بمعارضتها التاريخية والمتمترسة في منطقة القبائل تحديدًا وبعض مدن الشمال.

إن الرهان الكبير في الانتخابات الرئاسية وما بعدها يمثِّل أساسًا في المحافظة على سلميَّة الحراك وديمومة مطالبه ووضوحها لتشمل الديمقراطية ودولة القانون وتعمقهما، كما أن سلطة مراقبة الانتخابات أمام امتحان صعب؛ نظرًا لطبيعة تشكيلتها الحالية وحساسية المهام الملقاة على عاتقها، ناهيك عن مهمَّة التصدي للتزوير الذي بدأ بعض المترشحين يشتكون منه – قبل حلول يوم الاقتراع.

ويبقى الرهان الأكبر هو متابعة المحاكمات الشفافة والعلنية لرؤوس الفساد التي استنزفت الاقتصاد الجزائري عَبر أكثر من عقدين من الزمن، فقد ضيَّع رجال بوتفليقة على الجزائريين فرصًا للعيش الكريم، وذلك بتبديد أكثر من 250 مليار دولار في مشاريع القرن الوهمية، بسبب غياب الرقابة، والتلاعب بالمال العام، واستغلال النفوذ، وتزاوج أوليغارشيا المال الفاسد برجال السياسة الدخلاء على العمل السياسي.

مراجع:

 د. نور الدين بكيس، الحراك الشعبي الجزائري – النسخة المنقحة لثورات الربيع العربي، دار النشر الجامعي الجديد،  2020، ص 116-117.[1]

[2]  د. نور الدين بكيس، الحراك الشعبي الجزائري – النسخة المنقحة لثورات الربيع العربي، ص99.

[3]   ناصر جابي، الجزائر: أحزاب ما قبل الحراك، 2019 https://www.alquds.co.uk/%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%B2%D8%A7%D8%A6%D8%B1-%D8%A3%D8%AD%D8%B2%D8%A7%D8%A8-%D9%85%D8%A7-%D9%82%D8%A8%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B1%D8%A7%D9%83/

[4]   هارون.ر، الحراك الشعبي يعري الأحزاب السياسية.. المنظمات والنقابات في مختلف القطاعات،  2019  https://essalamonline.com/الحراك-الشعبي-يعري-الأحزاب-السياسية-ا/

[5]  ناصر جابي، قراءة في الحراك الجزائري وهو يدخل شهره السادس، 2019  https://www.alquds.co.uk/%D9%82%D8%B1%D8%A7%D8%A1%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B1%D8%A7%D9%83-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%B2%D8%A7%D8%A6%D8%B1%D9%8A-%D9%88%D9%87%D9%88-%D9%8A%D8%AF%D8%AE%D9%84-%D8%B4%D9%87%D8%B1%D9%87/

[6] بالتفاصيل.. هؤلاء هم المترشحون الخمسة لرئاسيات ديسمبر 2019 

https://www.ennaharonline.com/%D8%A8%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%81%D8%A7%D8%B5%D9%8A%D9%84-%D9%87%D8%A4%D9%84%D8%A7%D8%A1-%D9%87%D9%85-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AA%D8%B1%D8%B4%D8%AD%D9%88%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%AE%D9%85%D8%B3%D8%A9-%D9%84/

[7]  24.5  مليون مسجل في الهيئة الناخبة للرئاسيات المقبلة

 https://algerieglobalnews.com/2019/11/24-5-%D9%85%D9%84%D9%8A%D9%88%D9%86-%D9%85%D8%B3%D8%AC%D9%84-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%87%D9%8A%D8%A6%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%A7%D8%AE%D8%A8%D8%A9-%D9%84%D9%84%D8%B1%D8%A6%D8%A7%D8%B3%D9%8A/