تمهيد

تبدو إدارة السلطات التونسية للجائحة مقبولة لحد الآن، فهناك تحكم في انتشار الوباء وفي التكلفة البشرية، والتبرم الاجتماعي لم يتجاوز السائد من ردود الأفعال في هذا البلد او ذاك. وقد عبر الرأي العام عن هذا التقييم الايجابي في استطلاعات رأي أجريت أخيرا وأبرز نتائجها نسبة الثقة العالية في رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة ووزير الصحة، الرموز الأساسية في معركة السلامة العامة.

 لكن يجب التعامل مع هذا الحكم بكثير من الحذر، فهو مؤقت ومشروط ويمكن أن يتغير اتجاهه لو امتدت فترة التعامل مع الفيروس واحتمال الانتقال من سياسة المواجهة إلى خيار التعايش، وهو خيار مطروح على البشرية جمعاء، وأيا ما كان الأمر فان المعركة تتجه إلى التوضّح من حيث طبيعتها ما بين تعايش طويل الأمد أو نهاية بطريقة ما مع التحسب لأشواط أخرى يمكن أن تندلع في أي وقت، ولذلك مطلوب التفكير الاستباقي في مرحلة هذا الاستقرار الجديد لطرح الأسئلة الأكثر عمقا التي تتعلق بتونس في الوضع الجديد بين تعديل السياسات الماضية أو إحداث قطيعة؟ وما هي مبررات كل خيار؟ وما هي مكوناته؟ وما هي شروط نجاحه؟ وهل يمكن تحويل الأزمة إلى فرصة؟

 هذه الورقة تخرج من مربع الحديث عن اليوميات الذي أخذ حظه في ورقات سابقة نشرت في هذا الفضاء لتحاول تقديم عناوين إجابات لهذه الأسئلة وتوقع طريقة تفاعل النخبة التونسية معها، وستقدم بين يدي ذلك صورة إجمالية عن العالم والمنطقة العربية في هذه الأوضاع.

 أين تتجه الأوضاع في العالم وفي المنطقة العربية؟

تستمر البشرية في تحمل أعباء حالة حصار مهين منذ ثلاثة أشهر، يشتغل فيها الساسة كمطفئ حرائق لتدبير التفاصيل اليومية لمعركة يتداخل فيها الصحي مع الاقتصادي والاجتماعي، في حين يسلم المواطنون لحكامهم ويقبلون الحد من حرياتهم ما لا يتصور أنهم يقبلون عشره في الأوضاع العادية. وتؤكد استطلاعات الرأي اتجاها عاما في العالم لإعطاء الثقة للسلطة التنفيذية، وهي ثقة مغلوب أكثر مما هي ثقة مختار، وفي الخلفية تعكف مراكز الأبحاث وبيوت الخبرة الإستراتيجية وعلماء السياسة والاقتصاد والاجتماع والفلاسفة والمثقفون على تجميع المعطيات وتحليلها وإيجاد خيط ناظم بينها للغوص في المعنى ومحاولة استخلاص اتجاهات تعين على التوقع.

لم يحصل قط في تاريخ البشرية تنظيم مثل هذه الورشة الواسعة والمفتوحة حيث يعيد العلماء اكتشاف فضيلة التواضع، وتصبح المفردات الأكثر تكرارا هي التعقيد واللا يقين، وحيث يتفق الجميع على عنوان واسع وفضفاض بأن ما بعد كورونا لن يكون كما قبلها. وسيتواصل هذا الجدال طويلا للانتقال إلى تأسيس مختلف المقاربات، في كل الحالات فإن ما حصل لحد الآن كاف لدفع البشرية إلى مراجعات عميقة في العلاقات البينية بين دولها ووحداتها الحضارية، وفي علاقة هذا الكائن الإنساني مع جيرانه من الكائنات التي تعمر الكون معه ليطرح السؤال الوجودي بين أن يكون مخلوقا كونيا متميزا بالتأكيد ولكن متعايشا مع كائنات لها وظائفها وأدوارها في توازن لا يجب أن يختل وبين استمرار ثقافة السيطرة على الكون وسيادة العالم. هل المطلوب القيام بمراجعات عميقة تعود إلى أسس الحضارة الغالبة لا من أجل نسفها وإنما من أجل تجاوزها نقديا أم المطلوب مجرد تعديلات تحافظ فيها مراكز النفوذ المالية والسياسية على مواقعها؟ لقد برزت إلى السطح مجددا مفردات من مثل مسؤولية الدولة، والسيادة الوطنية، ومركزية الإنسان في العملية السياسية وفي إدارة الدول، ودور البيئة والتحكم في الاستهلاك والتضامن بين وداخل الدول، وقد تكون هذه عناوين عروض سياسية جديدة، كما لا يستبعد أن تكون آلية انحناء أمام العاصفة ومفردات تنويم واحتواء كما حصل في أزمات سابقة بعضها لم يمض عليه أكثر من عشر سنوات. وهنا سيحتد الصراع بين قوى التغيير وقوى المحافظة على المصالح. وهنا يجب أن ننتبه أن المنظومات (سيستام) كتعبير عن كتلة من القناعات و البرامج والمصالح على الصعيد الدولي وفي الدول والأحزاب والتنظيمات تدفعها غريزة المحافظة على البقاء وخبرتها في إدارة الأزمات قد تلجأ إلى المرونة والى التضحية ببعض مكوناتها وحتى إلى إدماج بعض خصومها من أجل الحد من خسائرها

 ومع كل التحفظ العلمي المطلوب فإننا نرجح أن الأزمة ستطول، فأكثر المشاهد تفاؤلا يعني التعايش مع العدو وحيله وقدرته على التنكر لأشهر قادمات، مع احتمال لجوئه إلى لعبة كر وفر في موجات ظهور واختفاء متتابعة. نرجح أننا سنكون صلب مشهد التحكم في الجائحة بين أواخر الصائفة ونهاية سنة 2020 مع إدارة تعايش وموجات من تشديد الحجر وتخفيفه.

 هذا السيناريو سيؤدي إلى نزعة انكفاء على الذات تستمر لسنوات قبل الوصول إلى حالة استقرار جديدة، وهي فرصة لإعادة النظر في منظومة التحكم السابقة على الصعيد الدولي أي مراجعة منوال توزيع السلطة ومنظومة التبعية، هذه الفجوة التاريخية قد تكون فرصة لإعادة بناءات جديدة ولاستئناف زخم الاستقلالات، وفِي المقابل يوجد مشهد الانفلات بمعنى العجز عن اكتشاف لقاح والوصول إلى حالة المناعة الجماعية، بما يؤدي إلى حالة من الفوضى تواجه فيها كل الدول مصيرها الخاص بمواردها الذاتية وسط اضطرابات اجتماعية عالية الخطورة وربما معارك بين الدول، هذا السيناريو ممكن و لكننا لا نرجحه.

وفقا للسيناريو المرجح فان الصورة الدولية القادمة لن تغير في أسبقية الولايات المتحدة وإنما ستؤدي إلى تقليص الفارق الذي يفصلها عن بقية القوى العظمى، وقد يكون عنوان معارك الكبار تخفيف التبعية السياسية والعسكرية والمالية للولايات المتحدة، وتخفيف التبعية التجارية و الصناعية للصين، أما ألمانيا فقد تخرج أحد أكبر الكاسبين من هذه الأزمة و الاتحاد الأوروبي سيكون أمام تحدي الاستمرار و النجاعة.

في المنطقة العربية قد يكون انشغال القوى الكبرى بصراعاتها البينية وبأوضاعها الداخلية فرصة لتخفيف حجم تدخلاتها في الملفات الأكثر اشتعالا في ليبيا واليمن وسوريا بما ييسر التوصل إلى ترتيبات وسط، كما قد يكون فرصة للمقاومة الفلسطينية لتوحيد صفوفها، قد تكون المنطقة العربية بتضاريسها المتنوعة أمام فرصة للتحرر من التبعية للبترول بالنسبة للبعض، ومن التبعية للشمال بالنسبة للبعض الآخر، وللتوصل إلى هدنات طويلة الأمد تفضي إلى مصالحات وطنية راسخة للبعض الثالث، وأمام فرصة تقريب وجهات النظر بين قوى مواجهة الاستبداد المدني أو العسكري للبعض الآخر . قد يفلح الفيروس فيما لم تفلح فيه أجيال من المناضلين ومن قادة الرأي وأصحاب المشاريع النهضوية.

أي تغيير في تونس اليوم؟

 في تونس، كما في غيرها، سيحتد صراع التأويل لما حدث وعمقه ثم التوجيه للأوضاع بعده، هكذا هي الجوائح والحروب والكوارث الكبرى أبدا، سيؤكد البعض أن ما حدث كان يجب أن يحدث في نوع من التسليم القدري ولا من خيارات غير التعديل والتأقلم، وحينها قد يكون المتصدرون للسياسيات الجديدة التي تفرضها الأحداث هم بالضبط من قاوموها سابقا، إذ لا يفعلون شيئا سوى تغيير معاطفهم للتكيف مع الجديد دون التسليم في الجوهري. لقد حصل ذلك بعد خروج المستعمر، وحدث أيضا بعد ثورات منطقتنا الأخيرة، وحدث كذلك بعد تفكيك المنظومة السوفياتية. وسيؤكد آخرون أن زمن التغيير قد حان، بعد كل الفرص التي أعطيت لسياسات الترقيع والهروب إلى الأمام، وسنجد صراعا بين مقولات القطيعة وإعادة البناء والتكيف والإصلاح والتعديل، وكالعادة موازين القوى السياسية هي التي ستحسم هذا التدافع وليس متانة الأفكار وانسجامها وإنسانيتها، ومن حسن حظ التونسيين أن الأسئلة الحقيقية قد طرحت بوضوح في ثورة 2011 التي كانت إعلانا أن كل محاولات الترقيع قد باءت بالفشل و أن وقت التغيير الجذري قد أزف، ومضمونه عودة الدولة لمواطنيها و إعادة صياغة منوال التنمية الذي وصل لحدوده القصوى. بالطبع أنجزت أشياء كثيرة بعد الثورة وحصلت عملية إدماج واسعة وبرزت طبقة سياسية جديدة، وهذا هو الوجه السياسي للديموقراطية، ولكن لم يتغير شيء يذكر في العمق الاجتماعي للدولة، ولم يبرز فاعلون اقتصاديون جدد بل ربما استفاد الفاعلون القدامى من مناخات الحرية والرقابة لزيادة مكاسبهم بعد أن خلصتهم الثورة من ابتزاز مافيا النظام السابق.

لقد كانت انتخابات 2019 استدراكا على الثورة من داخلها وباعتماد وسيلتها المثلى وهي الصندوق، فكانت استئنافا لعنوان التغيير الذي فتر بعد أن حل محله توافق جمد الأوضاع لصالح عنوان الاستقرار. إن التكليف الأساسي لمنظومة الحكم الجديدة بعد انتخابات 2019 هو التغيير وهو التعهد الذي أكده رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، والأوضاع الجديدة تنتقل بهذا الطلب من التزام أخلاقي، ومن خيار سياسي إلى استحقاق وجودي. ولكن السؤال: تغيير ماذا؟ إن أهم الدروس التي تعلمنا إياها تجارب الشعوب أن معالجة ما هو بنيوي يتطلب تملك التاريخ وعودة إلى مفاصل أساسية ونوع من الأصول، ليتجاوز التاريخ المادة الجامدة والأحداث المتجاورة ليصبح سردية رافعة للمستقبل. لقد حاولت النخبة الجديدة بعد ثورة سنة 2011 الاستجابة لطلب التغيير فلم تفلح كثيرا لا في مرحلة الزخم الشعبي قبل نهاية سنة 2013 ولا في مرحلة التعايش الفوقي بين الجديد الذي تعلم الواقعية والقديم الذي اندرج تحت الدستور الجديد، وذلك بسب تشتت وتناحر النخب التي كانت تطالب بالتغيير، ولغياب الرؤية والبرامج وعدم الاهتداء للمدخل السليم، ولصلابة القوى التي يمكن أن تتضرر من تغيير جذري وانتشارها في مواقع التأثير الاقتصادي والإعلامي والإداري. كل ذلك صحيح، و لكن السبب الرئيسي في تقديرنا هو عدم الانتباه أو العجز عن التصدي للعائق الرئيسي أمام أي تغيير حقيقي والمتمثل في موقع تونس في الخارطة الدولية لتقسيم العمل. فهل يمكن إحداث تغيير نوعي في بلد يحتل موقعا هشا في منظومة شديدة الضبط ولها كل وسائل الترويض. لقد طرح منظرو ثورة 1917 إشكالية مشابهة حول إمكانية بناء الاشتراكية في بلد محاصر من قوى رأسمالية، كما حصلت نقاشات مشابهة في تجارب ثورية أخرى أقرب لنا في الزمن والجغرافيا. يمكننا العودة إلى قرنين سابقين لنتتبع أحكام شبكة الترويض وترسيخ موقع التابع من خلال آليات شديدة التنوع حينما بدأ هذا الكيان الذي يسمى الآن تونس في الترسخ كحقيقة جغرافية وقانونية ومعنوية. كانت المعادلة حينها شديدة التعقيد تتمثل في رهان نخبة حاكمة تعاني فجوة مع أهل البلاد على بناء دولة في عالم متغير اعتمادا على صفقات مع أرستقراطية المدن الكبرى وترويض سكان الدواخل الذين يئنون تحت الأوبئة وتقلبات الطقس والجباية التي أصبحت خاصية الدولة، واعتمادا على مقايضات سياسية واقتصادية ومالية مع شمال يشهد نهضة صناعية ووفرة إنتاج ويبحث عن أسواق ومجالات لنفوذه وعظمته. لقد كانت الإصلاحات السياسية والدستورية، مثل عهد الأمان (1858) والدستور (1861) تصب من حيث الأصل في اتجاه تاريخي سليم ولكن ربطه بسياقه وبمضامينه يبرز ارتباطه بترويض الدولة التونسية لخدمة الخارج (حينها فرنسا وبريطانيا وإيطاليا أساسا) وفئة من المتنفذين التونسيين الذين سيطروا على مواقع القرار السياسي وموارد الثروات. لقد كان الفساد منهجا في الحكم ساهم في مزيد ربط البلاد بدائرة السيطرة الفرنسية. وما كان الحدث الاستعماري إلا تتويجا لعقود من الترويض ومن الإدماج في سياق رأسمالي تابع عبر آليات التجارة والفلاحة البدائية الوظيفية والإغراق في الديون التي تذهب في مصارف الترف. وكان التدخل العسكري الفرنسي كان تتويجا لحلقة الإلحاق ودفعا لها بطريقة عنيفة من خلال انتزاع ملكيات القبائل (العروش)، وتوجيه الزراعات لخدمة دولة المركز، واستنزاف الموارد المنجمية. وكانت شبكة النقل – وخاصة الحديدي – تخدم هذا الخيار الاقتصادي المتجه للخارج.

كان من المفترض أن تكسر لحظة الاستقلال هذه الحلقة، وأن تصنع للدولة هوية جديدة خارج دور المناولة والاحتكار الفرنسي وردم الفجوة بين المراكز التقليدية للثروة والسلطة وبين الدواخل. يمكن اعتبار فلسفة خيار الخطة العشرية للتنمية (1962-1971 في اتجاه استكمال الاستقلال السياسي وكسر حلقة التبعية ببناء اقتصاد إنتاجي متجه للداخل يرتكز على البنية الأساسية التربوية والصحية، والتحكم في حلقة الإنتاج والتوزيع الفلاحي، ويدمج الجميع من خلال نواتات أقطاب صناعية في الأقاليم الكبرى. لقد فشلت التجربة بسبب مركزية وعنف التسيير وتلاعب الوسطاء، كما أفشلت بسبب صراع المصالح والنفوذ في الدوائر العليا للحكم. وكان يفترض في وقفة التأمل التي تلت ذلك عام 1969 أن تعدل الوجهة مع المحافظة على فلسفة الاعتماد على الذات وتشجيع الاقتصاد المنتج، غير أن التغيير كان جوهريا وركز خيارات استجابت لاحتياجات اللحظة وأوجدت مواطن شغل ورفعت نسب النمو ولكنها رسخت الموقع الهش والتابع للاقتصاد، كما رسخت التفاوت الجهوي وساهمت في تهميش الفلاحة والريف. فالسياحة البحرية، والصناعة المتجهة للأسواق الخارجية (قانون 1972) رسخت تفاوتا جهويا مجحفا (في السنوات الأولى لهذه الألفية كانت حوالي 95% من المؤسسات السياحية و 90% من المنشآت الصناعية متمركزة في الجهات الساحلية و في تونس الكبرى.

إن تحرير التجارة العالمية وسط تسعينات القرن الماضي كان من شأنه توفير آفاق جديدة لتنويع العلاقات الاقتصادية للبلاد غير أن طريقة إدارة المفاوضات حول اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي سنة 1995 رسخت التبعية لأوروبا وخاصة فرنسا، كما رسخت الطبيعة الهشة للاقتصاد التونسي (رأسمالية هجينة وظيفية قائمة على المناولة).

إن التغيير ينطلق من كسر هذه الحلقة باتجاه تحرير تدريجي للبلاد من الدور الوظيفي الذي تقوم به منذ قرابة القرنين. الآن دول كبرى تنادي بتدعيم استقلالها وتقليص تبعيتها في المجالات السياسية والدفاعية والصحية والعلمية والتكنولوجية والصناعية. وستعود للتداول السياسي والفكري عناوين من نوع التعويل على الذات، والتضامن، والاقتصاد المنتج، والدور الاجتماعي للدولة ولرأس المال، وقيمة العمل، وإعادة صياغة الوحدة الوطنية، ومراجعة طريقة عمل منظومات الأحزاب ومنظومات الحكم من أجل تقارب أكثر وتشاركية أكثر، فقد أظهرت التجربة نجاعة الأنظمة اللامركزية على حساب الأنظمة المركزية. كما ستعود النزعة العالم-ثالثية لكسر الحلقة المدمرة للتداين وقد يكون ذلك عبر عمل متكامل مع دول الأطراف، فمراجعة تموقع تونس هي القاعدة المركزية التي يمكن البناء عليها. كما أن اتجاه المراجعات يجب أن يركز بعد ذلك على مجموعة اتجاهات كبرى منها إعادة بناء الفلاحة الوطنية بحل مشكلة الأملاك العمومية و استصلاح الأراضي واستثمار أكثر ما يمكن منها وإعادة النظر في المنظومات الإنتاجية ودفع منظومة الصناعات التحويلية، ومنها دفع الاستثمار في التكنولوجيات الحديثة التي ستوفر سوقا واسعة على مستوى البلاد والعالم ذلك إن الرقمنة لن تكون بعد اليوم خيارا بل ستكون في كل الحالات ضرورة، ومنها مراجعة خيارات القطاع السياحي، ومنها سياسة صناعية منتجة توفر حاجيات القطاع الصحي كما توفر حاجيات القطاع الفلاحي وغيرها .

الفضاء المغاربي خيارا وجوديا

خيار المراجعة والتعويل على الذات والتقليص من ربقة التبعية لا يمكن أن ينجح تونسيا فقط. ذلك أن تونس قد تملك الإرادة والأفكار ولكنها لا تملك كل الموارد وخاصة السوق الكافية. لذلك فإن التكامل المغاربي ليس ترفا فكريا إنها ضرورة وجودية، ولا مناص من أن تتحول الوحدة الثقافية التاريخية إلى مشروع سياسي على قاعدة المصالح المشتركة وخلق الثروات. حلم المؤسسين في مؤتمر طنجة 1958 يجب أن يتحول إلى برنامج سياسي عملي، إذ لا يتوفر أي من البلدان الخمسة على مقومات الاستقلال، كما لا يمكن تحقيق نهضة بالارتهان للبترول أو لعلاقات غير متكافئة مع شمال سيعاني هو نفسه من أزمات متتالية.

لكل دولة من الدول الخمس نقطة تميزها، وفِي تعميق التكامل ما يضمن حصانة الجميع، وليس من المناسب استباق الصورة النهائية لهذا الفضاء في عالم يتجه في نفس الوقت إلى التوسع السياسي في الأقاليم المتشابهة مع المحافظة على كيان الدولة الوطنية بل توزيع السلطة داخلها للاقتراب مما يشبه الديموقراطية المباشرة. ربما كان خطأ النخب في المنطقة العربية إنها بخست المعطى القُطْري على حساب حلم ما فوق قطري، فلا هي في المحصلة ارتقت بالأقطار، ولا هي حصلت أي من صيغ الوحدة أو التكامل والتنسيق. المطلوب الانطلاق من المعطى القطري كمنطلق واعتبار التنسيق أو التكامل سياسات عليا تدعمه ولا تكون بديلا عنه. لقد انتهى الفرز على أساس إيديولوجي ومحور الالتقاء اليوم هو مشروع تحرر إقليمي ذو بعد اجتماعي .ويمكن أن تكون المناطق الحدودية مجالات لاختبار التشبيك و التكامل بطريقة واعية ومخطط لها وليس بالطريقة العفوية التي تحصل بها الأمور حاليا وكذلك تدعيم شبكة النقل البيني، الدور على القوى الحية في المجتمعات المغاربية وخاصة الشباب والمجتمع المدني والأحزاب السياسية لإدماج المكون ما فوق الوطني في برامجها لبلورة مبادرات مشتركة تشجع السلطات العمومية أو تضغط عليها.

 لماذا النجاح بعد التعثر السابق؟

في السبعينات كانت المنظومة الدولية للتحكم بصدد التنافس وإعادة الانتشار بعد الاستقلالات وفي مناخات الحرب الباردة، ولم تكن القوى الكبرى مستعدة للتفريط فيما تعتبره مناطق نفوذها التقليدية وبالمقابل كانت مستعدة لترك بعض الهوامش للتحرك التي يمكن أن تقبل بها دوائر النفوذ الداخلية. أما ثورات الربيع العربي فقد فاجأت وضعا جامدا في المنطقة وهددت توازنات مستقرة منذ الحرب العالمية الثانية فتم التعامل معها بمنهج امتصاص الصدمة أولا ثم الانتقال إلى الاحتواء ورد الفعل، وهو المنعرج الذي حصل صائفة 2013 بتحييد مفاعيل التغيير في الدول المركزية وتحديد هامش للتحرك غير مربك للأوضاع في الساحات التي لا تهدد جوهريا موازين القوى.

عكس كل تجارب الانتقال الديموقراطي في العالم منذ منتصف سبعينات القرن العشرين لم تكن شروط نجاح سريع لثورات الربيع العربي متوفرة بقطع النظر عن إرادة الفاعلين الداخليين، وإن كان من تغيير محتمل فإنما يحصل بعد مدة طويلة (وقد دللنا على هذه الأطروحة في أكثر من مقال). وتبعا لذلك، فإن الهامش المتاح للتجربة التونسية كان يسمح بتحقيق مكاسب حتى في الاقتصادي الاجتماعي دون أن يهدد القضية الجوهرية، أي موقع تونس في منظومة تقسيم العمل الدولية. اليوم تبدو منظومة التبعية منهكة وستظل منشغلة بإعادة ترتيب أوضاعها لأمد بما يوفر فجوة بقدر ما تسلط من ضغوط ومصاعب بقدر ما توفر من مساحات للتحرك في الداخل وإعادة ترتيب العلاقات مع الخارج في اتجاهات التخفيف والتدعيم والتنويع. كما نرجح تنامي مشاعر الانتماء الوطني وتحرير التنافس في العالم لإعادة بناء الأوطان بما يعني قابلية الرأي العام للتفاعل مع خطاب التعبئة وخاصة في جمهور متعلم ومسيّس بخلاف ما كان عليه الأمر أواخر الستينات حينما كان الصراع محصورا في دوائر نخبوية، كما نرجح امتلاء الفضاء المغاربي بنفس القابلية والاستعدادات.

روافع التغيير القادم

لئن كانت حصيلة إدارة الأزمة مقبولة لحد الآن إلا أن النجاح في إدارة المستقبل يتطلب شروطا وقواعد مغايرة، منها تغيير العقلية، إذ لا يمكن إدارة المراجل الاستثنائية بنفس عقلية المراحل العادية، وهذا هو المطعن الرئيسي الذي يفسر تواضع الأداء الاقتصادي والتنموي والاجتماعي لمرحلة ما بعد الثورة، ومنها ضرورة إدراج الإجراءات الإنقاذية للمرحلة الحالية ضمن رؤية عامة بحيث تكون تمهيدا لها، ومنها الاشتغال بسرعة على روح الفريق في طاقم الحكومة وهو ما غاب في الأسابيع الماضية. ورغم كل ذلك فالمسؤولية الكبرى في إنجاح إدارة الراهن ثم إستراتيجية التعويل على الذات وتعديل العلاقة مع منظومة توزيع العمل على الصعيد الدولي تقع على عاتق الرئاسات الثلاث أي رئاسة الجمهورية والبرلمان والحكومة، كما تقع على عاتق شباب الأحزاب السياسية، وعلى عاتق رأس المال الوطني، والسلطة المحلية، والذكاء التونسي في مجال البحث العلمي.

 لقد رفع الجميع في العالم عنوان الحرب، لكن لن تنتهي هذه الحرب بمجرد التحكم في الفيروس، بل ربما ستبدأ الحرب بعدها، ولا وصفة لكسب الحروب إلا التضامن والتعبئة. لقد أظهرت إدارة الأزمة إبداعات شبابية وكفاءات علمية كثيرة لا يجب أن تتردد في افتكاك مواقعها، أما رأس المال الوطني فهو أمام فرصة للخروج من صورة المناولة، إذ ستكون البلاد أمام صعوبات كبيرة وهي تتطلب من أصحاب الأموال والأفكار المجازَفة والمغامَرة والتشبع بثقافة جديدة، إذ أن الدور الاجتماعي لرأس المال يندرج ضمن استراتيجيات ذكية لربح طويل المدى.

 إن الأحزاب السياسية مدعوة إلى الخروج من حروب التموقعات إلى البرامج والمشاريع الكبرى، وإعادة المعنى إلى البرنامج الانتخابي، وإعادة الاعتبار السياسي والأخلاقي للتعاقد الانتخابي. لقد فرطت الأحزاب السياسية في الفرصة التي أعطيت لها بعد انتخابات 2014، وكان سلوكها في إدارة ملف التشكيل الحكومي يوحي أنها لم تفهم شيئا من رسائل الانتخابات الأخيرة. لعلها أن تستوعب درس الكورونا، إذ أن الأمم إنما تبنى بالأفكار والمشاريع والجرأة في الدفاع عن المصالح الوطنية. مواجهة العالم الجديد يتطلب أفكارا وأخلاقا وعلاقات سياسية جديدة. بهذا تتحول المِحنة منحة. أماإن عادت حليمة إلى معيركاتها القديمة حين تكون السلطة مجرد حرب مواقع فالأرجح أنها لن تعمر طويلا. تروي كتب التاريخ القريب أن مصطفى خزندار مكث قرابة أربعين سنة في المواقع الرئيسية للسلطة ما بين 1837 و1877، وكان الرأس المدبر لثلاثة من البايات. غير أن هذه الكتب لا تروي أن عاقلا وضع  اسم مصطفى خزندار في قائمة الشخصيات التي يتمنى أن يكون مثلها .