حكومة المشيشي: الرواق الضيق للتفاؤل

في مثل هذه الأيام من السنة الماضية كانت الحملة الانتخابية في تونس على أشدها، فقد باحت الجولة الأولى من الرئاسيات بأسرارها بنتيجة مثلت زلزالا، إذ حملت للدور الثاني مرشحين من خارج المنتظم المشتغل عادة بالسياسة، وكان الرأي العام بصدد استعادة ثقته في قدرة العملية الانتخابية على تحسين أوضاعه.

نتائج الدور الأول أثرت على الاستراتيجيات الانتخابية لأهم الفاعلين، والشبهات القديمة المثارة حول المرشح نبيل القروي وملف تعامله مع شركة علاقات عامة إسرائيلية كانت عاملا حاسما في دفع أغلب الفاعلين إلى الركوب على موجة شعبية المرشح الثاني الأستاذ قيس سعيد، فاستفاد هو من موجة النفور من خصمه، كما استفادت القائمات والأحزاب التي دعمته، وانزاح الخطاب، قناعة أو تكتيكا، إلى شعارات ومحاور فرز تذكر بالسنوات الأولى للثورة.

هذه الاستراتيجيات استفادت انتخابيا من المزاج الشعبي وفي نفس الوقت غذته، وصنعت عالما ثنائيا حيث الثورة من جانب والثورة المضادة من جانب آخر، وحيث معسكر محاربة الفساد من جهة والفساد المجسد من جهة أخرى.

وكان واضحا منذ الإعلان عن نتائج الانتخابات أن البرلمان الجديد دون عمود فقري يضمن استقراره وقيادته، ولن يتحقق ذلك إلا بجهد نفسي وخيال سياسي وروح متجردة.

وكان واضحا أيضا الصورة المزدوجة التي يقدمها رئيس الجمهورية من حيث إمكانية أن يكون قاطرة تفكير غير نسقي في إدارة الشأن الوطني والسياسي، أو أن يكون عنصرا يصعد حالة الانسداد.

في المسارين البرلماني ومنه الحكومي ثم الرئاسي، وفي العلاقة بينهما كانت القضية قضية مقادير ونسب. فالسياسة وحدها، بما هي بحث عن المشتركات، هي التي تصنع من التشتت منظومة مستقرة والسياسة وحدها هي التي تعقلن التمرد على السائد.

خلال الأحد عشر شهرا التي مرت منذ الانتخابات، لم تحظ الحكومة الأولى بثقة البرلمان، وأسقطت الصراعات والفضائح رئيس الحكومة الثانية، وأخيرا تمت المصادقة على حكومة ثالثة دون أفق واضح.

ما هي عناوين حصيلة خمس العهدة؟

وما هي حظوظ نجاح حكومة السيد المشيشي؟ وهل هي متوفرة؟ وهل يمكن أن تتوفر؟ وكيف يبدو مستقبل الأوضاع في تونس؟

تحاول هذه الورقة الاجابة عن هذه الاسئلة.

الخيبات الأربع

يمكن تكثيف الرهان الأكبر لانتخابات 2019 في ترسيخ المسار الديموقراطي واستكمال البناء المؤسساتي من جهة وتقليص الفجوة بين هذا المسار وتواضع المنجز التنموي بما يفتح الأفاق أمام الشباب ويعالج الاختلال في معادلة الدستور والخبز.

الحصيلة لحد الآن مخيبة للآمال، فعِوَض أن تتقلص الفجوة بين السياسي والتنموي تجمد التنموي، وبدأت الشكوك تتزايد بشأن صلابة المنجز السياسي نفسه، ولم يكن ذلك بسبب جائحة الكورونا فقط، بل بسبب عدم الاستقرار المؤسساتي والسياسي الذي يعيد التذكير أن الاشكال الرئيسي منذ 2014 إنما هو الإشكال القيادي الذي لا يمكن التقدم دون حله حتى لو توفرت الرؤية والبرامج.

ولكن إضافة لهذه الحصيلة المكثفة يمكن أن نرصد أربع خيبات متعلقة بفاعلين فتحوا نوافذ للأمل أو متعلقة بسلوكيات وطرق تصرف كان يراهن على تغيرها.

رئيس الجمهورية:

قيس سعيد شخصية قادمة من غير عالم السياسة الذي ضجر منه الناس. كان رجلا قادما من أقصى المدينة ومنتجا من غير السيستام العميق أو الذي بدأ يلتحق به بعد الثورة. فالسيستام حقيقة متحركة لا تقتصر على كتلة مصالح ما قبل الثورة بل تعني أيضا ما انضم إليها بعدها وأصبح موضوعيا عامل تثبيت وجمود في مواجهة رغبة التغيير، وفِي الأثناء يلبس في الخطاب والممارسة بين الجمود والاستقرار على ما بينهما من فرق جوهري، إذ الجمود نهاية بينما الاستقرار معبر ورافعة وظيفية لتحقيق الهدف من السياسة أي التنمية والرفاه.

بين قيس سعيد المترشح صاحب المشروع وقيس سعيد الفائز في الانتخابات كانت هناك مساحة واسعة لإبداع طريقة غير تقليدية في ممارسة دور الرئاسة دون الخروج عن مقتضيات الدستور.

ولكن أداء الرئيس السياسي والدبلوماسي والاتصالي وحضوره وخاصة غيابه يثير، بعد قرابة السنة، الكثير من الجدل.

لا تعنينا هنا الجهات التي وجدت في أداء الرئيس تأكيداً لتوقعاتها ومخاوفها، وإنما تعنينا الفئات الشعبية التي راهنت عليه حقيقة، والجهات السياسية التي راهنت عليه تكتيكيا في الأغلب.

المزاج الشعبي لا يزال يراهن على الرئيس قيس سعيد وهو ما تؤكده كل استطلاعات الرأي، ولكن صورة الرئيس تتراجع عند النخبة السياسية والثقافية والإدارية بما فيها تلك التي راهنت عليه بسبب غيابه في الأوقات الحرجة، وبسبب قتله للدبلوماسية التونسية، وبسبب عجزه أو عدم رغبته في القيام بدور التحكيم والدافع للحياة السياسية، بما يجعل البعض يتساءل إن كان الرئيس سعيد لايزال يتهجى كتاب الدولة وفصل رئاسة الجمهورية منه أم أنه يسعى إلى تأزيم الأوضاع لقلب الطاولة على مجمل المشهد المؤسساتي.

أيا ما كان الأمر، فإن الرئيس قيس خيب الآمال في توحيد التونسيين، وفي دفع الدبلوماسية، وفي الصدع بمواقف صريحة بخصوص القضية الفلسطينية، وفي انتهاج مسلك رصين في اختيار الشخصيات لمواقع حساسة في مؤسسات الدولة وفي دائرة مستشاريه بما إدى إلى تسميات مرتجلة تليها بسرعة إعفاءات لا تقل ارتجالا.

البرلمان:

كان المأمول أن يمسح البرلمان الجديد الآثار السلبية الغالبة على أداء سابقه، ولكن العكس هو الذي حصل، إذ حجبت المناكفات والمناخات المتشنجة بعض المكاسب ومنها المصادقة على مجموعة من القوانين مثل قانون الاقتصاد الاجتماعي التضامني. وقد بلغ العبث أوجه في الشهرين الأخيرين من السنة البرلمانية السابقة بتقديم جملة من المبادرات واللوائح التي تقسم البرلمان تقسيما حديا، وتضرب مصالح تونس مع شركائها.

خيبة الأمل في البرلمان مرتبطة بخيبة الأمل في أداء الأحزاب الكبرى وقدرتها على استخلاص دروس ورسائل الانتخابات وتجاوز أخطاء المرحلة السابقة للولوج في مرحلة التنافس داخل الفضاء السياسي وبأساليب وأدوات وأخلاق وثقافة العمل السياسي، وتجاوز ثقافة التنافي والصراع الصفري.

ما حدث لم يكن سوى استمرار معارك الأيديولوجيا واستدعاء نزالات التاريخ والتعامل مع السلطة كمجال لصراع النفوذ والتحكم وليس لتطبيق البرامج.

التيار الديموقراطي

لقد مثل هذا الحزب رسالة رمزية للانتخابات وأملا في ملء فراغ الوسط اليساري والاجتماعي في إطار هندسة ممكنة للمشهد السياسي تتضمن التوازن والتنوع ومن ثم النجاعة.

التيار وضع كل بيضه في محور واحد هو مكافحة الفساد وتعامل معه بمنطق احتكاري وبمنهج تبسيطي يكاد يحصره في الملفات مع شبهة التوظيف السياسي مثلما حصل مع يوسف الشاهد، دون النفاذ إلى المنحى الإيجابي البنائي المتمثل في التخطيط لإعادة بناء المنظومات وفق مقاربة جماعية.

كما استغرقه المنهج الشكلاني في مقاربة الموضوع بما أدى به إلى مساندة رئيس الحكومة إلياس الفخفاخ إلى آخر لحظة رغم تعنته.

غير أن استقالة الأمين العام للحزب محمد عبو يمكن أن تكون فرصة للمراجعة والتطوير في توسيع عناوين البرنامج وفِي تحسين مناهج التسيير واتخاذ القرار، كما يمكن أن يمثل منزلقا للتآكل بما يؤدي إلى خيبة أخرى ليست في صالح قوى التغيير.

إلياس الفخفاخ

هو سياسي شاب محظوظ شارك في الرئاسيات، وكانت نتيجته ضعيفة، وشارك حزبه في التشريعيات ولم يحصل ولو على كرسي وحيد، ورغم ذلك جاءته رئاسة الحكومة هدية بعد أن تعاضدت الأخطاء التي أدت الى إسقاط الحكومة التي قدمها الحزب الأول مع الطريقة التي اعتمدها رئيس الجمهورية في التفاعل مع الأحزاب لما عادت المبادرة إليه.

ورغم كل التحفظات التي حفت بالتعيين إلا أن جيلا كاملا من السياسيين رأى فيه فرصة لفريق منحاز للتغيير وفقا لمجموعة من القيم تستند إلى زخم الثورة. لقد حققت الحكومة جملة من المكاسب منها نجاحها في التعامل مع الشوط الأول من الجائحة إلا أن الفخفاخ خذل هذه الآمال بسبب تعاليه وعجزه عن تحقيق الانسجام داخل فريقه وفشله في التعامل مع البرلمان مصدر شرعيته، كما خذلها بسبب نقص الشفافية في ملف ممتلكاته وخاصة سوء إدارة ملف تضارب المصالح الذي أثير بشأنه، ثم بسبب دخوله لاحقا في سياسة رد فعل لم تترك له صديقا، وأدت بالنتيجة إلى التفويت في فرصة للتغيير والاقتراب من مطالب الناخبين، كما أدت الى إدخال البلاد في حلقة جديدة من أزمتها المركبة.

فسحة الأمل تضيق ولكنها متوفرة

تزكية حكومة السيد المشيشي فجر الثاني من سبتمبر كانت خطأ إضافيا وفرصة أخرى مهدورة لهندسة عقلانية للمشهد. فلا يمكن تمرير حكومة فقط لتجنب الفراغ أو نكاية في هذا الطرف أو ذاك.

إذ أن تزكية الحكومات تعني توفرها على مقومات ذاتية للنجاح في تركيبتها وبرنامجها، كما تعني توفر سياق مساعد وتوفر إسناد حقيقي.

لا شيء من هذه الشروط كان متوفرا، بل لقد انطلقت الحكومة في مناخ أزمة، وأججت صراعا مكشوفا قبل نيلها الثقة مع رئيس الجمهورية، الذي تراجع عن مساندة من كلفه بل شجع على سحب الثقة منه.

إن التحديات التي تواجه البلاد كثيرة ومعقدة، وخاصة الضغوط الاقتصادية والمالية والاجتماعية والصحية بما ينذر بأشهر ساخنة، وهذا يتطلب فريقا يمتلك اقتدارا على إدارة الأزمات ويحسن التواصل أي يحسن القيادة، وكل هذا لا يتوفر بالقدر الكافي في التشكيلة المقدمة التي تفتقد أيضا إلى الانسجام، إذ أن ولاء بعض أعضائها لرئيس الجمهورية بسبب تعيينهم من بعض دوائره لنجد سلطة برأسين وهذه معضلة دستورية، ونجد حكومة بقلبين بسبب سياقات الولادة. والخشية أن توظف بعض الوزارات في معركة تصفية حسابات ترفع شعارات مغرية مثلما حدث مع حكومة الشاهد منذ مايو 2017. ويكفي للتدليل على غياب الثقة أن المعارك الأكبر بين الفاعلين منذ عشر سنوات هي حول وزارات العدل والداخلية وليست حول وزارات الخدمات مثل الصحة أو الفلاحة أو التجهيز.

لقد انطلقت معركة الصلاحيات بين رأسي السلطة التنفيذية مباشرة أمام الرأي العام الذي يخير رئيس الجمهورية إشهاده بطريقة مهينة لضيوفه، ومتجاوزة لكل الأعراف ولياقات البروتوكول من خلال طريقة الحديث ومن خلال المقاطع التي يبثها، بانتقائية، موقع الرئاسة.

سيستثمر رئيس الجمهوريات كل الممكنات الدستورية، مع توسع وتعسف في التأويل، لإرجاع الحكومة الى ما يعتبره بيت الطاعة. الملفت للانتباه أن الحكومة لم تعقد بعد أي مجلس وزاري بعد ثلاثة أسابيع من نيلها الثقة خشية أن يقفز الرئيس على الفرصة ليترأس المجلس ويحول ما جعله الدستور إمكاناً قاعدة ثابتة. وفي الأثناء، تتعطل مصالح الناس، وتدار الحكومة كإقطاعيات منفصلة، ويتخذ رئيس الحكومة إجراءات هي من صلاحيات المجلس المنعقد.

ولذلك يتوقع أن تتكرر تجربة حكومة الشاهد حينما كان رئيسها يقفز بين الألغام لمجرد المحافظة على وجودها، وذلك باللعب على التوازنات، فمرة تميل باتجاه المركزية النقابية مقابل ترضيات تفاقم أزمة البلاد وأزمة القطاع العمومي، و هو ما يحصل هذه الايام بما أغرى منظمة الأعراف إلى النسج على نفس المنوال بالتفصي من تعاقدات سابقة كان تفرض على المؤسسات تقديم بعض التضحيات، ومرة أخرى تحاول ترميم العلاقة مع رئاسة الجمهورية، ومرة ثالثة تخضع لطلبات الأحزاب التي منحتها  الثقة في البرلمان، ومرة رابعة، تنحاز إلى معارضتها  للهروب من المحاصرة من بقية الأطراف، وخامسة إلى مراكز نفوذ مالية و إدارية تؤشر لها بعض التسميات.

ولا يتوقع أن تحسن عودة البرلمان الأوضاع، إذ لم يتم استثمار العطلة لترتيب العلاقة بين الأحزاب المتخاصمة، ولا حتى داخل الأحزاب. والخشية أن تكون البداية عودة لجلسة سحب الثقة من رئيس البرلمان في الثلاثين من يوليو من خلال صراع محموم بين تحالف مساندة الحكومة (120 نائبا) وتحالف آخر يجد صعوبة في التشكل كي يصل إلى 97 نائبا، غايته معارضة الحكومة ومعاودة سحب الثقة من رئيس البرلمان.

وليس واضحا بعد البرنامج التي التقت عليه الأطراف التي ساندت الحكومة، إن وجد برنامج أصلا، أم هي محاولة لضمان استقرار الحكومة لتجنب الفراغ أو الانفلات أو تغول رئيس الجمهورية، ولضمان استقرار رئاسة البرلمان.

المزاج البرلماني ستثقل عليه المشكلات الداخلية لحزب التيار الديموقراطي بعد استقالة محمد عبو أمينه العام، وكذلك التجاذبات الداخلية لحركة النهضة بسبب المخاوف من انتهاك النظام الداخلي للحزب وخاصة الفصول المتعلقة بالانتقال القيادي.

مفارقة المشيشي

لا تحتاج البلاد إلى شيء حاجتها إلى حوار واسع للوصول إلى تهدئة سياسية واجتماعية، والإنفاق على برنامج وطني للإنقاذ، وإجراء الاصلاحات في المنظومة القانونية وخاصة قوانين الجمعيات والأحزاب والإعلام والمجلة الانتخابية، والاشتغال على مسار المصالحة الوطنية الشاملة بعد تقييم محصلات مسار العدالة الانتقالية وأداء هيئة الحقيقة والكرامة.

جدير برئيس الجمهورية أن يشرف على هذا الحوار، لكن يبدو أن رؤيته للسياسة ولدور رئيس الجمهورية بعيدان عن هذه الأساليب في العمل، ولذلك لم يبق إلا التعويل على رئيس الحكومة.

والسيد المشيشي أمام مسارين يؤديان إلى نتيجتين متناقضين.

فهو إن غرق في دور تقني ورهن نفسه لتكتيكات البقاء باللعب على التناقضات لن يفعل شيئا يستحق الذكر للبلاد والمواطنين، وعندها ليس مضمونا أن يستمر صبر المواطنين على عبث السياسيين وخفتهم ليكون مآل الحكومة السقوط بغضب الشارع أو بمناورات البرلمان، ومن ثم العودة إلى طرح سؤال ماذا بعد المشيشي.

وأما إن اشتغل قائدا عبر تجميع الأحزاب المعارضة والمساندة والقوى الاجتماعية، واعتمد خطاب المصارحة مع المواطنين، وأدرك أنه يملك ورقة يمكن أن يهدد بها الجميع، وهي التلويح بالاستقالة إن تعذر عليه النجاح في مهمته، عندها يمكن أن يضطر الجميع إلى قدر من العقلانية وتقدير المصلحة العليا، طوعا أو كرها.

المشيشي سجين كرسي القصبة سيكون أضعف شخصية في البلاد وسيخضع لابتزاز الجميع.

أما المشيشي المسؤول الذي لا يتوانى عن الاستقالة من أجل المصلحة الوطنية، فسيكون أقوى شخصية في مشهد متواطئ على اللعب على حافة الهاوية دون السقوط فيها.

لم تبرز شخصية المشيشي لحد الآن، رغم أن الخطوات التي اتخذها في علاقة بالتسميات والعلاقة بالمنظمات هي في الاتجاه الخاطيء. غير أن الأسابيع القليلة القادمة ستكشف لنا أمام أي من الشخصيتين سنكون وستكشف لنا إن كنا في مسار إيقاف التدحرج أم في استمرار السقوط.