مقدمة:

صدر حديثا كتاب “التجربة العسكرية الفلسطينية: ملاحظات في النظرية والأداء“، لمؤلفه الفلسطيني نافذ أبو حسنة، عن مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت. يتحدث الكتاب عن الجانب العسكري الفلسطيني: بداياته، ومحاولاته، ومساراته، ومنعطفاته، ومآزقه، ومكامن الخلل والخطأ والضعف والتقصير، ومواضع القوة والإجادة والإبداع والتميّز، في عَرْضٍ موضوعي يحتوي على جانبٍ من التأريخ، من خلال شهاداتٍ لشخصيات عسكرية “جنرالات” عاصرت تلك الأحداث والوقائع ميدانياً، مع العلم أن المؤلف صرّح بكونه لم يُعنَ بتأريخ التجربة أو الحكم عليها والصراع ما زال على أَشُدِّه على حد تعبيره، وفي الوقت نفسه، يسجّل الكتاب استدراكاتٍ ويدوّن ملاحظات، في غاية الأهمية، يستنتجها ويستشِفها من التجربة العملية التي شهدتها الميادين سواء في الساحة الفلسطينية أو الساحات العربية والدولية التي تصدّرت فيها أعمال المقاومة الفلسطينية.

احتوى الكتاب على جداول إحصائية توضح بالأرقام مجريات وقائع الكفاح الفلسطيني المسلح كعدد القوات والثوار والفدائيين، وعدد العمليات، وأدوات القتال، وأعداد الشهداء، والخسائر الصهيونية، واستند إلى “الموسوعة الفلسطينية” ومجلة “شؤون فلسطينية” في توثيق الإحصائيات والمعلومات التاريخية، ومذكرات قادة الثورة في توثيق مجريات الوقائع وتحليل الأحداث، ومن أبرزها: مدونات كمال عدوان “فتح الميلاد والمسيرة”، و”فلسطيني بلا هوية” لصلاح خلف، و”مذكرات إميل الغوري”، إضافة إلى كتاب يزيد صايغ “التجربة العسكرية الفلسطينية المعاصرة” الذي يعد المرجع الأول لمادة الكتاب وتفاصيله.

يذكر الكاتب أن هدفه الأول من الكتاب، يتجلَّى في وضع التجربة العسكرية في سياقها العام، والخروج من مزاليق محاكمتها وفقاً لقراءات التجارب الأخرى كالتجربة الجزائرية والتجربة الفيتنامية، والثاني يتمثَّل في تعيين القواسم المشتركة العامة في المراحل المختلفة التي مرت بها التجربة الفلسطينية للاستفادة منها.  

محتوى الكتاب وموضوعاته:

احتوى الكتاب على تمهيد، وأربعة فصول، وانتهى بتقييم ختامي، ثم قوائم المراجع والفهارس. جاء الكتاب في قرابة (293) صفحة. بدأ التمهيد بالحديث عن موقع فلسطين الاستراتيجي وأهميته التاريخية والجغرافية، مشيراً إلى أن فلسطين حظيت بكونها “قلب العالم” وجسر الوصل بين قارتي آسيا وإفريقيا لتتجلّى فيها “عبقرية المكان”، وحوى التقديم عرضاً مختصراً عن بدايات الأطماع الغربية الاستعمارية في فلسطين خصوصاً، وكيفية توظيفها لحل مشكلة “المسألة اليهودية” في أوروبا عبر ما سمَّوه “الوطن القومي والدولة اليهودية”، وبيّنَ فيه أن الصراع العربي اليهودي الذي بدأ وما زال مفتوحاً ومستمراً هو منذ بدايته صراع نفي أو وجود.

يبدأ الكتاب فصله الأول بالحديث عن “الإرث الجهادي الفلسطيني”، الذي افتتحه الفلاحون الفلسطينيون في مواجهتهم الأولى لجماعات المستوطنين اليهود في قرية الملبس عام 1877م، إذ تكشف هذه الواقعة عن أولى بدايات تشكّل العمل الثوري المسلح، التي تمثلت حينها في عمل كثير من الجمعيّات والمنظمات، كانت أَنْشَطها جمعية “الفدائية”، على إثارة حماسة المواطنين لإدراك الخطر اليهودي الاستيطاني وأخذهم نحو التنظيم والتجنيد.

 رغم تباين وجهات نظر المؤرخين وندرة الوثائق والتفاصيل المتوفِّرة عن طبيعة تلك المواجهة إلا أنها حملت في مضامينها أولى بدايات تشكيل خلايا ثورية تعمل على التوعية والمقاومة، ويصف حاييم وايزمن أول لرئيس لدولة إسرائيل نشاط هذه الجمعيات، فيقول: “كانوا يَفِدون إلى القرى لإثارة الفلاحين ضدنا… وكانت هذه الجمعيات تحاول تنظيم الإرهابيين لكي تقوم فيما بعد بحرب عصابات ضد اليهود… وانخرط الكثيرون من الشبان في صفوف رجال البوليس حتى يسهل عليهم تنفيذ مهامهم، كما أن كثيرا منهم شبان متعلمون جداً يعرفون القصة اليهودية معرفة كاملة” (ص24).

يتتبّع الفصل الأول الخط التاريخي للمواجهات والأحداث التي حصلت إبان الانتداب البريطاني، ويكشف عن دعم الإنجليز غير المحدود للمشروع الصهيوني، فمن الحقائق التي ذكرها الكتاب، على سبيل المثال، أنه في أحداث ثورة البراق عام 1929م عندما اندلعت اشتباكات بين اليهود المسلّحين والفلسطينيين العُزَّل، قام بعض الموظفين الإنجليز بالقتال إلى جانب اليهود. وخاض الفلسطينيون في العشرينيات والثلاثينيات مواجهات معقدة وكثيرة ومتلاحقة، لعل أبرزها: أحداث موسم النبي موسى المعروفة بثورة عام 1920م، وثورة البراق عام 1929م، وانتفاضة عام 1933م، والثورة الكبرى عام 1936م.

أمّا عن العمل المسلّح في تلك الفترة، فقد ظهرت للعلن مجموعات جهادية سرّية منظمة من ثوار وأفراد وأعضاء من جمعيّات مختلفة، منها: “حركة الشيخ عز الدين القسّام” التي عُرف عنها الطابع اللوجستي الدقيق في التنظيم والتخطيط والإعداد والسرية، و”منظمة المقاومة والجهاد” التي عُرفت بعد دمجها مع غيرها باسم “منظمة الجهاد المقدس“ وترأسها الحاج أمين الحسيني، ويعدُّ هذان التنظيمان عصب أساس الثورة الكبرى.

يقدّم الفصل الثاني بعنوانه “نحو جولة أخرى“ مسار الخط الزمني والأدائي لمرحلة عسكرية جديدة سمّاها الانطلاقة الثانية، فقد نشطت التحركات الفدائية الفردية بعد هزيمة 1948م، وأدى الواقع الجديد بعد انتصار الثورة الجزائرية وما بَثَّتْه في الروح الفلسطينية من دافع محفز نحو إمكانية إحراز النصر عبر الكفاح المسلح إلى عودة تشكيل التنظيمات من جديد، ففي عام 1963م كان هناك نحو 30 فصيلاً فدائياً، أهمّها “حركة التحرير الوطني الفلسطيني- فتح عام 1965م”، أما التطور السياسي الأبرز فتمثّل في المحاولات العربية لإنهاض كيان فلسطيني فتشكّلت منظمة التحرير الفلسطينية 1964م وشكّلت لها جناحا عسكريا عُرف بـ “جيش التحرير الفلسطيني”.

ويرى الكاتب أن الأعوام (1965م-1970م) مثلت سنوات العصر الذهبي للكفاح المسلّح، اعتمد فيها الفدائيون بالدرجة الأولى على الجبهات الخارجية من الأردن وسوريا ولبنان كقواعد ارتكاز، وحاولوا تأسيس قواعد متحركة لهم في الداخل الفلسطيني لكنها لم تكن بحجم القوة والأثر مثل القواعد الأولى، يقسّم الكتاب هذه الفترة إلى ثلاث مراحل، يلقبها بالأسماء التي اشتهرت بها فالأولى عُرفت بـ “المرحلة الجنينية”، والثانية بـ “مرحلة الدوريات المطاردة”، والثالثة بـ “مرحلة القاعدة الآمنة”.

يستكمل الفصل الثالث عند “ما بين الأيلوليْن”، أيلول الأردن في السابع عشر عام 1970م وأحداثه القاسية التي أسفرت عن اندلاع المعارك مع الجيش الاردني مدة عام كامل، وأيلول لبنان عام 1982م الذي انتهى بخروج قوات المقاومة الفلسطينية من العاصمة بيروت بعد صمود ثلاثة أشهر. وقد حملت فترة السبعينيات أياماً صعبة للمقاومة الفلسطينية في الخارج، فقد خسرت جبهات الجوار كمحطات وقواعد عسكرية وسياسية، واضطرت إلى نقل قواتها وعدّتها وعتادها إلى جبهتي لبنان وسوريا. لتتبع المقاومة معادلة الاشتباك المستمر، والعودة من جديد إلى إعادة بناء التنظيم السري في الداخل (الضفة وغزة)، ونقل المعركة إلى الميدان الدولي تحت شعار “وراء العدو في كل مكان“. أما جبهة لبنان فلم تكن في حال أفضل وعوامل الصراع تشتعل فيها حيناً وتخمد حيناً تبعاً للأوضاع الداخلية غير المستقرة.

يأتي الفصل الرابع “الجهاد الفلسطيني.. مستأنفاً” يتحدث عن الانتفاضتين، مبتدئاً بانتفاضة الحجارة وأدواتها وشكل الكفاح فيها والآثار التي خلّفتها عند الاحتلال، ففي الانتفاضة الأولى اتخذ العمل المقاوم أداءً تكتيكياً يحرص على الاستفادة من خصائص جميع الأسلحة المتوفرة والتوزع الديمغرافي وخصائص المدن والمخيمات في الضفة وغزة، واعتمد مبدأي المبادأة والمناورة، وتجنب الالتحام المباشر والاحتشاد، وتوسيع رقعة المواجهة بحيث تشمل جميع الساحات، والسعي قدر الإمكان إلى تحقيق الاكتفاء الغذائي الذاتي. في حين كانت الانتفاضة الثانية أقرب إلى المواجهة العسكرية التي شكلت فيها “أجساد الاستشهاديين” أداة الفلسطينيين للردع الاستراتيجي، ووسائل القتال التي برزت في انتفاضة الأقصى خلفت عند الاحتلال قتلى يفوق عددهم (700) ما عدا الجرحى، أدركت إسرائيل في الأثناء أن تلك المواجهة أشبه بحرب وجود، ويمكن أن تكون بمثابة “استئنافٍ لحرب الاستقلال”. 

وفي النهاية، جاء التقييم الختامي للكاتب لمسار التجربة العسكرية الفلسطينية، فرأى أن المقاومة انتهجت، في بعض الأحيان، سياسة “الدور التبادلي بين الداخل والخارج”، فمتى كان الخارج يعاني من مأزق حاصل أو متوقع ينطلق العمل مباشرة من الداخل، والعكس صحيح، غير أنّ إفرازات حوادث الأيلولين لم تسمح لهذا الدور بالاستمرار أكثر، خصوصا مع حالة التشظي والتفرق التي أعقبت الخروج من جبهتي الأردن ولبنان، فأضحى لتباعد التمركز الجغرافي دور وأثر كبيران، وعندما جاء إلى جانبه المسار السياسي الذي دخلته منظمة التحرير وقبول المفاوضات ومشاريع التسوية مع الاحتلال حدثت حالة من التراخي والفتور في العمل العسكري، إلا أنه لم يشهد في كل مراحل العمل العسكري فترات انقطاع بالمعنى الكلي.

ويرى الكاتب أن تجربة النضال الفلسطيني التي ما تزال مستمرة على أشدها حتى اليوم تستحق التقدير والاحتفاء رغم ما تخللها من منعطفات ومصاعب ومآزق لم تتوقف، وهي تجربة غنية بالدروس التي تستلزم إعادة مراجعة أدائها كي يُستخلص منها عِبراً يمكن استثمارها والاستفادة منها، فالموضوعية تقتضي الوقوف عند الأخطاء وتجنب تكرارها.

ويرى الكاتب أنه رغم النماذج البطولية والفدائية التي قدمها الشعب الفلسطيني على مسار تاريخه النضالي، فإن هناك سياسات أثرت في التجربة العسكرية ونتائجها، أبرزها الذرائعية وغلبة المنطق الاعتذاري، فقد شكّل منطق “البحث عن الشمّاعة” والتذرع بالظروف الاستثنائية والتعقيدات الدولية علامة فارقة في تطور الكفاح المسلح نحو الوصول إلى أهدافه، ففي أحداث الثورة الكبرى عندما كانت تقترب من بلوغ ذروتها صدر نداء الملوك والحكّام العرب ليحاول بشكل تدريجي إيقافها وإقناع قيادة الثورة أن خيار مواصلتها لن يجلب الخير أو يحقق فائدة رغم أنها لو أكملت مسيرتها كانت ربما ستنجح في إفشال مخططات بريطانيا، على الأقل جزء منها إن لم يكن جميعها، والأمر ذاته يقال في تفسيرات وتبريرات قادة الثورة المسلحة وقيادة منظمة التحرير الفلسطينية عندما نهجت مسار التسوية واستسلمت له قبل أن تعقد ولو مراجعة واحدة بشأن ما إذا كان هذا المسار سيؤدي إلى الغنيمة بهدف حقيقي يسدّد جزءا من حق الوفاء للتضحيات.

من السياسات الأخرى التي أثرت سلبا في التجربة العسكرية، الاندفاعية المفرطة ومنطق رد الفعل، فرغم ما يتحلى به الشباب الفلسطيني من شهامة وحميّة ورفض الخضوع للضيم، لكن ذلك لم يكن بمعدل معقول متوازن، وانقلب سلباً وبشكل كارثي في أحايين كثيرة، وهذا يفسّر إخفاق كثير من العمليات التي قاد التهوّر فيها إلى خسارة في الأرواح دون تحقيق نتائج مقابلها. والسياسة الثالثة، سيطرة النَّفس الاستعراضي ومنطق “الطوشة”، هذه التصرفات خدمت الاحتلال من دون قصد ووفّرت له معلومات استخباراتية من دون تعب، وتسببت في الكشف عن شخصيات المقاومة المطارَدة طوال التاريخ النضالي الفلسطيني. أما السياسة الرابعة فهي المَرض الفلسطيني في مسألتي الإعداد والتنظيم، فكثير من المواجهات الملحمية التي انطلقت من الجبهات الخارجية من الأردن ولبنان وسوريا كانت تتم دون دراسة ولا إعداد. بالإضافة إلى ما سبق، يرى الكاتب أن غياب الخطة المنظمة والقيادة الواحدة والبرنامج الواضح، جعل القضية تتجه إلى “التقزّم” والتموضع بحيث يكون الصراع صراعاً فلسطينيا – إسرائيليا بحتا، وترك الشعب الفلسطيني يواجه التغول الصهيوني وحده.