في السابع من شهر آب/أغسطس للعام ٢٠٢٠، وبعد مرور ثلاثة أيام على انفجار مرفأ بيروت الذي صُنِّف رابع أقوى انفجار في العالم1، زار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لبنان وجال في المرفأ والعاصمة المنكوبة، ودعا الأقطاب اللبنانيين إلى طاولة حوار في قصر الصنوبر، مقر إقامة السفير الفرنسي في بيروت. وفي الواحد والعشرين من الشهر نفسه، انطلقت مبادرة فرنسية تقضي بتأليف “حكومة بمهمة محدّدة”2 من الاختصاصيين واتّباع خارطة إصلاحية محدّدة لمدّة ستّة أشهر أنتجت تفاهماً على تكليف سفير لبنان في ألمانيا، مصطفى أديب، بتأليف الحكومة بعد استقالة حكومة الرئيس حسان دياب على خلفية انفجار المرفأ3. وأدّت إلى زيارة ثانية لماكرون في الأوّل من شهر أيلول/سبتمبر لإطلاق مسار تأليف الحكومة. طرح السفير أديب مبدأ المداورة في وزارة المال بشكل أساسي غير أنّ فرض عقوبات أميركية على الوزيريْن علي حسن خليل (حركة أمل) ويوسف فنيانوس (تيار المردة) دفعت بالثنائي الشيعي إلى رفض المداورة والتمسك بوزارة المال. وبعد أقل من شهر، اعتذر أديب وكُلّف الرئيس سعد الحريري الذي لم ينجح بدوره بتأليف الحكومة. 

لم تتبنَ المملكة العربية السعودية المبادرة الفرنسية، فلم توافق ولم تعترض لا على تسمية أديب ولا على اعتذاره ولا على تكليف الحريري ولا على اعتذاره. صمت سعودي مطبق لم تكسره سوى عبارة واحدة تردّدت كثيراً: “المملكة تريد تسمية نواف سلام رئيساً للحكومة”4.

بعد عام فشلت فيه محاولتان لتأليف مجلس وزراء يتولّى مهمة إخراج البلاد من دوامة انهياره المالي والاقتصادي المتسارع، ظلّت الأمور تراوح مكانها إلى 26 تموز/يوليو 2021، حين كلّف الرئيس اللبناني ميشال عون رئيس حكومة الأسبق نجيب ميقاتي لتشكيل حكومة. وفور تكليفه، تظاهر المئات أمام منزل ميقاتي في بيروت احتجاجاً على عودته لرئاسة الحكومة، خصوصاً بعدما ارتبط اسمه بملف “إثراء غير مشروع”5، في بلد شهد أضخم الاحتجاجات العام 2019 ضد الطبقة السياسية التي يُعد ميقاتي أحد أركانها. ويوم العاشر من أيلول/سبتمبر ٢٠٢١، أبصرت الحكومة النور، وساهم الفرنسيون في استيلادها واستقبال رئيسها في قصر الإليزيه من دون وعود بمساعدات جديدة6، ما لم تنفّذ الحكومة إصلاحات طال انتظارها. 

انتهت ولاية الرئيس ميشال عون في منتصف ليل 31 تشرين الأوّل/أكتوبر 2022، وظلّت حكومة ميقاتي تصرّف الأعمال. حكومة مضت من دون أن تقدّم أيّ حلّ لأيّ مشكلة سواء أكان خلال مهمّتها العادية أم خلال تصريفها للأعمال. وفي عهدها، شهدت العملة الوطنية انهياراً جديداً تمثّل ببلوغها حاجز الـ 100 ألف ليرة مقابل الدولار7. باختصار، عجزت حكومة ميقاتي عن حلّ أزمات اللبنانيين، وعلى رأسها الأزمة الاقتصادية، على الرغم من توقيع اتفاق بأحرف أولى مع صندوق النقد الدولي8

 

إطلاق اللجنة الخماسية

في ظل الفراغ في سدّة الرئاسة والانهيار المؤسسات الحاصل، عُقد في السادس من شهر شباط/فبراير للعام 2023، اجتماع في باريس للممثلين عن دول خمسة، هي إلى فرنسا، الولايات المتحدة الأميركية، والمملكة العربية السعودية، وجمهورية مصر العربية، ودولة قطر لبحث الملف اللبناني بشكل عام والشغور الرئاسي المستمرّ منذ 31 أكتوبر/ تشرين الأول 2022 بشكل خاص، ومخاطر الفراغ وتأثيره حكومياً وتشريعياً، والأوضاع الاقتصادية المتفاقمة، والإصلاحات المنتظرة التي تعدّ شرطاً أساسياً لدعم لبنان مالياً ونقدياً. لم يصدر عن الاجتماع أيّ بيان رسمي غير أنّ ما سُرّب عنه أنّ اسميْن قد تم التداول بهما لرئاسة الجمهورية، الوزير السابق ورئيس تيار “المردة” سليمان فرنجية وقائد الجيش آنذاك، جوزيف عون. ووُضعت معايير واضحة لمن يجب أن يتولّى هذا المنصب، بحيث يكون قادراً على جمع اللبنانيين والحفاظ على علاقات لبنان مع الخارج، وتشكيل حكومة تنفّذ أحكام قرارات مجلس الأمن الصادرة حول لبنان وتلتزم باتفاق الطائف، والأهم أن تكون مكوّنات الحكم الجديد غير مرتبطة أو متورّطة بقضايا فساد. وبعد شهر من انطلاق الخماسية، طرحت فرنسا معادلة سليمان فرنجية ورئيس محكمة العدل الدولية القاضي نواف سلام للرئاستيْن الأولى والثانية من دون أن تصل إلى خواتم ايجابية. وفي 17 تموز/يوليو للعام نفسه، عقدت الخماسية اجتماعها الثاني الذي مهّد لزيارة الموفد الفرنسي، جان إيف لودريان، إلى بيروت في الرابع والعشرين من الشهر نفسه حيث أكّد لكلّ من التقاهم أنّ صفحة ترشيح الوزير السابق سليمان فرنجية للرئاسة وتسمية القاضي نواف سلام لتشكيل الحكومة قد طُويت إلى غير رجعة. وبعد هذا التحوّل، عُقدت اجتماعات خماسية على مستوى السفراء في بيروت لم تصل إلى حلول عملية بل لتأكيد التنسيق والمتابعة. غير أنّ كلّ ما قيل آنذاك هو أنّ خيار قائد الجيش جوزيف عون رئيساً يتقدّم وكلّ الخيارات الأخرى تأتي بحال فشل ذلك.

طوفان الأقصى وحرب الإسناد 

انطلقت حرب الإسناد في الثامن من تشرين الأوّل/أكتوبر للعام 2023 عبر إطلاق “حزب الله” صواريخ ومسيرات على أهداف عسكرية إسرائيلية. هُجِّرَ سكّان المستوطنات الإسرائيلية الشمالية وأهالي جنوب لبنان، واتضح بعد أشهر ثمانية من حرب الإشغال الطويلة أنّ “حزب الله” قد أساء تقدير الاستعدادات والقدرات الإسرائيلية التي تطوّرت بشكل كبير على مرّ السنوات وتترجمت بخروقات مرعبة في قلب التنظيم. 

انضم “حزب الله” إلى المعركة تضامناً مع “حماس” متوقّعاً حرباً قصيرة قد تمنحه دفعة سياسية، لكنّه أخطأ في قراءة مزاج إسرائيل التي قرّرت الرد بقوة على الجبهتيْن الشمالية والجنوبية. وكما بدا، كان استعدادها العسكري والاستخباري لجبهتها مع الحزب أكثر جهوزية بما لا يقاس مع غزة. وهذا ما نتج عنه إضعاف “حزب الله” بشكل كبير عبر استهداف قيادات الصف الأوّل والثاني والثالث9، وشن هجمات مكثّفة على بنيته التحتية منذ واقعة تفخيخ الـpagers10(أجهزة النداء التي يستخدمها عناصر الحزب للتواصل) والاغتيالات المتواصلة، وضرب مواقع الأسلحة والأنفاق، وتدمير آلاف المنازل وصولاً إلى تهجير مئات الآلاف من اللبنانيين. لكنّ الحرب أثرت أيضاً في صورة الحزب وكشفت ضعف بروتوكولات الأمن الداخلي فيه، وأدّت إلى انكشافه الاستخباري أمام عدو عمل خلال أكثر من خمسة عشر عاماً على الاستعداد لتلك اللحظة. ومع اغتيال السيد حسن نصرالله في السابع والعشرين من شهر أيلول/سبتمبر ثم رئيس مجلس الحزب التنفيذي، السيد هاشم صفي الدين، شهد الحزب فراغاً قيادياً صعباً. فالسيد حسن نصرالله كان ذا تأثير استثنائي ومن الصعب أن يتمكّن خلفاؤه من ضخ الزخم الذي فقدته روح الحزب مع غيابه، كما لا يمكن إغفال التحديات الكبيرة التي ستواجهها قيادة الحزب الجديدة لجهة إعادة إحياء روح المقاومة وإعادة بناء رأي عام عريض داعم داخلياً في الوقت الذي تعمد فيه قيادات وقوى متعددة معارضة للحزب إلى شنّ هجوم سياسي مركّز بسبب تكاليف الحرب وتداعياتها.

اتفاق وقف إطلاق النار 

في 27 نوفمبر/ تشرين الثاني 2024، أُعلن عن وقف لإطلاق النار بين اسرائيل وحزب الله بعد سنة ونيّف من العمليات العسكرية. وقد تم التوصّل للاتفاق بوساطة أميركية عبر آموس هوكشتاين، موفد الرئيس الأميركي الخاص بلبنان، بهدف وقف العمليات القتالية بشكل دائم، كما أعلن الرئيس الاميركي آنذاك، جو بايدن. اتفاق من ثلاثة عشر قسماً11 تُختصر بوقف كلّ الأعمال الهجومية ضد إسرائيل ووقف عمليات إسرائيل بدورها بحراً وجواً وبراً ضد لبنان وسحب قواتها في مهلة ستين يوماً، وهي مهلة لم تحترمها إسرائيل، بل مدّدتها حتى الثامن عشر من شباطـ/فبراير 122025. كما تتضمّن هذه النقاط انتشار لعناصر الجيش اللبناني، ونشر لقوّات “يونيفيل” (القوة المؤقتة للأمم المتحدة في لبنان) وتفكيك المنشآت والبنى والمواقع العسكرية لحزب الله ووقف توريد الأسلحة للحزب.

تحديات لبنانية ولبنانية-سورية 

في الثامن من كانون الأوّل/ديسمبر 2024، سقط نظام الرئيس السوري، بشار الأسد، ما فتح الباب واسعاً أمام متغيّرات إقليمية كبرى طالت لبنان. ففي التاسع من كانون الثاني/يناير للعام 2025، تم انتخاب العماد جوزيف عون رئيساً للجمهورية، وبعد أيّام، في الثالث عشر من الشهر نفسه، سُمّي القاضي نواف سلام لتشكيل الحكومة. وهذه هي المرة الأولى في تاريخ لبنان المستقل، ربما، التي يتم فيها انتخاب رئيس للجمهورية، وتكليف رئيس للحكومة من دون منّة من كتلة بذاتها أو طائفة بذاتها أو ائتلاف سياسي بعينه. فالديناميكية التي نتجت عن أحداث كبرى تلامس الزلازل في المنطقة، من أحداث السابع من تشرين الأولّ/أكتوبر إلى حرب الإسناد إلى استهداف قادة “حزب الله” في الصف الأوّل والثاني والثالث حتى، وعلى رأسهم الأمين العام، السيد حسن نصرالله، فسقوط النظام السوري في أيّام معدودات ونأي العراق بنفسه عن التدخل، سواء في حرب الإسناد أو في محاولة تأخير سقوط النظام أو بالحدّ الأدنى في عدم تمكين النظام الجديد بقيادة أحمد الشرع من الاستقرار على جبهة العراق، كلّ هذه الاحداث غيّرت في مجرى التوجهات السياسية. وقبيل دخول الرئيس الأميركي دونالد ترامب المكتب البيضاوي، أيقنت أغلب القوى السياسية في لبنان حاجتها إلى انتخاب رئيس وتسمية رئيس حكومة بدفع دولي وإقليمي غير مسبوق. من هنا، من الساذج القول إنّ الحراك الداخلي هو من دفع لإنتخاب جوزيف عون وتسمية نواف سلام رئيساً للحكومة، بل إنّ الحراك الداخلي واكب المتغيرات وتلقّى الإشارات وتناغم مع ما قرأه. الصورة التي نتجت عن الانتخاب والتسمية هي صورة بعثت الأمل في قلوب الأغلب الأعم من اللبنانيين، وجعلت معظمهم في موقع التفاؤل بالمستقبل. أمّا ما ينتظره الناس، كلّ الناس، هو الالتزام بخطاب القسم وخطاب ما بعد التكليف، لأنّهما متكاملان. ويمكن اختصار مطالب اللبنانيين بما يلي:

١-وقف النار الدائم وتطبيق القرار ١٧٠١ تمهيداً لتطبيق القرارات الدولية والداخلية كافة وانسحاب إسرائيلي من كل شبر من الأراضي اللبنانية.

٢- الشروع في تثبيت الحدود مع إسرائيل وترسيمها مع سوريا، بما يحفظ الحق اللبناني بالأرض والثروات المائية والنفطية.

٣- الشروع في إعادة إعمار ما تهدّم من دون إبطاء.

٤-حلّ مشكلة الودائع كأولوية مطلقة توازي الأولويات التي سبقت. فالناس لها حقوق وعلى الدولة والمصارف والمصرف المركزي موجبات تجاههم، ومن دون حل هذه المعضلة لا قيامة لقطاع مصرفي ولا إقلاع لاقتصاد مقنع.

٥- العمل على تأهيل الإدارة التي تشكّل العمود الفقري للدولة برمتها والتي ترهلت وتعطلت وفسدت وأفسدت بأغلب تكويناتها دون تعميم.

٦- القضاء أساس كلّ دولة، فلا استثمار ولا سلم داخلي أو استقرار اجتماعي بلا قضاء مستقيم. ولعلّ اللبنة الأولى التي ينتظرها اللبنانيون من القضاء اليوم هو تحقيق المرفأ والذي يشكّل نقطة أساسية في استعادة هيبة القضاء وقدرته.

٧- التربية والتعليم نفط لبنان منذ تأسيسه، والاهتمام بالقطاع التربوي هو اهتمام بأجيال لبنان ومستقبل البلاد.

٨-مواجهة التحديات الاقتصادية من خلال البحث مع المختصين عن دور اقتصادي جديد للبنان يضمن تنمية مستدامة ويستفيد من ثروات لبنان البشرية المقيمة والمغتربة.

٩- إجراء الانتخابات النيابية في موعدها ووفق قانون أكثر عدالة وتمثيلًا.

١٠- فتح ورشة حقيقية للنظر في ما طُبّق من وثيقة الوفاق الوطني (أو شُوِّه خلال تطبيقه) وما لم يُطَبّق وما يحتاج لتوضيح أو شرح أو تعديل، ولو أنّ أمراً كهذا يحتاج إلى وقت ليس بقصير، وهو أولوية سياسية وليس أولوية شعبية حالياً.

١١- موضوع السلاح ليس موضوعاً هامشياً، فمسؤولية الدولة بثّ الطمأنينة في قلوب أهل الجنوب الذين عانوا من الاحتلال والعربدة الإسرائيلية وما زالوا يعانون حتى يومنا هذا. من هنا، موضوع بحث الاستراتيجية الدفاعية ليس موضوعاً محلياً فقط، إذ يحتاج لبنان إلى ضمانات عربية وإقليمية ودولية كي يصبح السلاح غير ذي جدوى. وعندها حصرية السلاح واحتكاره بيد الدولة يصبح تحصيلاً حاصلاً ولزوم ما يلزم.

١٢- لبنان بلد استثنائي من حيث مقدرات أهله واستقطابه وجمال طبيعته وفضاء الحرية فيه، وهو يستطيع بشكل جدي أن يكون مساحة تلاقٍ عربية إقليمية ودولية، ويستطيع قيادة وساطات وتأمين مساحات تلاقٍ بين فئات شتى في مجتمعات وبلدان شتى. ولبنان يحتاج إلى استعادة علاقاته العربية أوّلاً والدولية ثانياً، وذلك ليس بالأمر الصعب، بل يكون بمنتهى السلاسة إذا ما توفّرت الإرادة لدى الدولة والمجتمع المدني.

أمّا التحديات اللبنانية-السورية المشتركة، فهي كبيرة وخطيرة في آن وتتلخّص بأولويات ثمانية: 

١- أزمة اللجوء السوري: يشكّل النازحون السوريون اليوم ثلث سكان لبنان، إذ تشير تقديرات حكومية إلى أنّ عددهم يصل إلى مليون ونصف13. واليوم، تمثّل عودتهم أولوية قصوى، وهي مسألة تحتاج إلى إعدادات سياسية واقتصادية في سوريا تضمن لهم حياة كريمة. 

٢- التحديات الأمنية وخطر الفوضى: في السادس من شباط/فبراير 2025، اندلعت مواجهات دموية بين هيئة تحرير الشام وعشائر الهرمل في بلدة حاويك سورية الملكية ولبنانية السكن. وقد أدّت المواجهات إلى سقوط ضحايا واعتقالات من الطرفيْن، وهي ليست المرة الأولى ولا يبدو أنّها ستكون الأخيرة، فقد شهدت مناطق البقاع وعكار خلال مراحل التحوّل السوري الأولى احتكاكات وصدامات متعدّدة. ونظراً إلى وجود طائفي بين العلويين والدروز والمسيحيين والسُنّة في لبنان وسوريا، يمكن لأي تصعيد أمني أن يؤدي إلى زعزعة الاستقرار في البلديْن، لا سيّما مع انتشار السلاح بين المجموعات مختلفة الولاءات في كلا البلديْن. 

٣- صناعة وتجارة المخدرات: شكّلت تجارة المخدرات بين لبنان وسوريا مصدراً رئيسياً لتمويل النظام السوري والاقتصاد السوري. وخلال السنوات العشرة الماضية، حقّقت هذه التجارة ازدهاراً كبيراً. في ظل هذا الواقع، يُشكّل وضع حد لهذه التجارة غير المشروعة تحدياً أساسياً أمام حكومتيْ البلديْن، خاصة مع تصاعد الضغوط الإقليمية والدولية لمكافحتها. ويرتبط هذا التحدي بتحدي الصدامات الأمنية، لأنّ تجار المخدرات يقيمون في البلديْن وبينهما عصابات مسلحة وعشائر متماسكة. 

٤-التهريب بين البلديْن وخاصة للسلاح: يتوافق تعهّد الرئيس السوري أحمد الشرع بسدّ طرق إمداد “حزب الله” العسكرية، ومنع إيران من استعادة نفوذها في سوريا، مع المطالب الأميركية المفروضة ضمن ملحق وقف إطلاق النار بين لبنان وإسرائيل. ومن شأن الإجراءات الهادفة إلى وضع حدّ لتهريب السلاح أن يؤدي إلى وقوع تداعيات سياسية وأمنية كبيرة داخل لبنان، إذ يمثّل “حزب الله” قوة سياسية وعسكرية رئيسية.

٥-آفاق التعاون الاقتصادي ومسألة الودائع: في كلّ مرة يتحدث فيها الرئيس السوري الجديد عن لبنان يطالب بإعادة الودائع السورية التي علقت كسائر الودائع في لبنان. وبحسب تصريح، حاكم مصرف لبنان بالإنابة، وسيم منصوري، فأنّه لا زال في لبنان ١٢٦٠ مليون ومئتي وستين ألف حساب تبلغ قيمة أموالها ٨٠ مليار دولار14، بينها أموال متعددة الجنسيات. وترتبط مسألة إعادة الودائع السورية إلى أصحابها بآلية استنباط حل لمجمل الوضع المصرفي في لبنان وهو تحد لبناني ذكرناه أعلاه. من ناحية أخرى، تتمتّع سوريا بإمكانات زراعية وصناعية كبيرة، بينما يمتلك لبنان خبرات مصرفية وتسويقية واسعة. ويمكن للتكامل بينهما أن يساهم في خلق فرص اقتصادية جديدة لأبناء البلديْن، لا سيّما من خلال تطوير مناطق اقتصادية حرة، مثل المنطقة القريبة من مرفأ طرابلس، الذي يعد شرياناً حيوياً لسوريا. غير أنّ نجاح هذه المبادرات يعتمد على طبيعة التوجه الاقتصادي السوري الجديد، ومدى استعداد البلديْن للتعاون في ظل العقوبات الدولية المفروضة على دمشق.

٦- العقوبات وقانون قيصر: تشكّل العقوبات الأميركية بشكل خاص والمفروضة على سوريا عائقاً أمام الاستثمار في إعادة الإعمار. ولا تشي المؤشرات الحالية بإمكانية حصول تغيير جذري على هذا المستوى، على المدى القريب أقلّه. أمام هذا الواقع، ستواجه المشاريع المشتركة بين سوريا ولبنان عقبات قانونية وسياسية، ولتفاديها لا بدّ من اجتراح حلول مبتكرة والقيام بحراك دبلوماسي محترف يمهّد للخروج من دائرة العقوبات الغربية والأميركية. 

٧- ترسيم الحدود وتسوية ملف مزارع شبعا: تعود جذور قضية ترسيم الحدود بين لبنان وسوريا إلى استقلال البلديْن ووجود تداخل كبير بالحدود البرية، كما أنّها ترتبط بالترسيم البحري الذي أُنجز بين لبنان وإسرائيل15 ولا زال يحتاج إلى تعديل مع قبرص وترسيم مع سوريا. كما أنّ تحديد ملكية مزارع شبعا يُعدّ عقبة رئيسية أمام أيّ تسوية سياسية طويلة الأمد بين البلديْن.

٨-التحدي التوسعي الإسرائيلي: نقلت صحيفة “الأخبار” عن الرئيس السوري أحمد الشرع سؤاله رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي في اللقاء الذي جمعهما في دمشق، عمّا إذا كان يعتبر الرئيس المصري الراحل أنور السادات “خائناً”. وبحسب ما نقلت الصحيفة عن الشرع، فقد قال لميقاتي: “أفكّر الآن لو أنني كنت مكان السادات في حينه، لفعلت الأمر نفسه!”16. هذا التسريب، الذي لم ينفه أحد، يعكس مقاربة مختلفة لسوريا تجاه الصراع مع إسرائيل، وهو ما قد تكون له تداعيات على السياسة الإقليمية وعلى لبنان. وقد تبدو العلاقة بين سوريا ولبنان من جهة وإسرائيل من جهة أخرى عند مفترق دقيق وخطير في آنٍ، إذ هناك تساؤل عمّا إذا كان البلدان في حالة حرب، أو هدنة أو بصدد الدخول في مفاوضات سلام مع إسرائيل. وفي ظل الاندفاعة الإسرائيلية في ضرب قيادات ومنشآت وصواريخ حزب الله الدقيقة وغير الدقيقة، وضرب أكثر من ٤٠٠ هدف داخل سوريا لتدمير كلّ منظومات الجو والبحر والبر للجيش السوري، تصبح المخاوف مشروعة وواجب التنسيق بين سوريا ولبنان مطلوباً أكثر من أي وقت مضى. 

مرحلة جديدة بانتظار اللبنانيين 

أمّا وقد تشكلت حكومة لبنانية جديدة والتي تبدو كأفضل نموذج لحكومة اختصاصيين مستقلّين، يحقّ للبنانيين أن يتفاءلوا، ومن حقّهم أن يؤمنوا أنّ بلدهم قد دخل مرحلة جديدة فيها تحوّلات إيجابية نحو فساد أقل، وزبائنية أقل وسلم أهلي يجنح إلى الاستدامة، ولكن من واجب اللبنانيين الإدراك أن التحديات في بلدهم متعدّدة، محلية وإقليمية. ولعلّه من المبكر جداً القول إنّ لبنان مقبل على اصلاح جذري، ولو أنّ الحكومة قادرة على رسم مسار إصلاحي لكنّها ليست إلاّ حكومة انتقالية بكل المعاني: فقد انتقل لبنان من ضفة إلى ضفة في السياسة بحيث لن يكون لـ”حزب الله” اليد العليا في اتخاذ القرارات. كما أنّه انتقل من ضفة الحكومات التحاصصية إلى ضفة الحكومة المتخصصة، وقد انتقل أيضاً من العزل العربي والدولي إلى التفاهم مع العرب والغرب، ولا سيّما الولايات المتحدة الأميركية التي كانت لها اليد الطولى في إحداث هذا الانقلاب والتحوّل. المحطة المقبلة والمفصلية قد تكون الانتخابات النيابية للعام 2026 التي قد تكرّس انتقال لبنان من ضفة إلى ضفة سياسياً وإصلاحياً وتمثيلياً، أو يمكن في المقابل أن تعيد تكريس موازين القوى الذي كان قائماً قبل العدوان الإسرائيلي الأخير. توظيف انطلاق العهد الجديد لمصلحة لبنان الوطن، يتطلّب مرونة وحكمة ومحاولة تحقيق أقصى درجات الإجماع على خطوات إصلاحية متدرّجة، خاصة وأنّ الظروف الدولية والخليجية مؤاتية لمواكبة لبنان في ذلك، لكن يبقى الشق الداخلي والمصالح المتداخلة ذات تأثير أكبر من أيّ ضغط خارجي. فالدولة العميقة المتشكّلة من ساسة وأصحاب مصارف وأصحاب وكالات وبعض المؤسسات الدينية والمذهبية لا زالت بكامل قوّتها وحضورها، ولو أنّها تترقب الآتي من العهد الجديد. 

من ناحية ثانية يبدو أنّ البعض يرى أنّ “حزب الله” ببعديْه الإقليمي والداخلي قد انتهى وليس هذا بصائب. فإذا كان “حزب الله” الإقليمي حضوراً وعسكراً وقراراً قد انتهى، إلاّ أنّ حضوره السياسي المحلي، ولو أنّه أصيب بضربة شديدة، يبقى الأوسع تمثيلاً وحضوراً للطائفة الشيعية إلى جانب حركة “أمل”. وهذا التمثيل قائم حتى تأتي الانتخابات المقبلة بنتائج مغايرة. 

وأخيراً، يعتقد البعض أنّ الأوان قد آن للبنان كي يلج باب الحياد عن صراعات المنطقة، وبشكل أخص أن يكون حيادياً حول قضيّة محقة، هي قضية فلسطين، وفي ذلك تعجل غير مسبوق فلبنان خرج من حرب أصيب فيها بأضرار غير مسبوقة. وما لم يدمّره الإسرائيلي خلال الحرب دمّره بعدها ولا يزال يمعن في ارتكاباته، إذا يواصل تفجير البيوت وإحراق الحقول والوديان، حيث بلغ الدمار في قرى الحافة مع فلسطين 90 في المئة17

منذ تولّي الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، إدارة النظام الكوني وهو يقذف أفكاره كالرصاص وفي كلّ اتجاه، ويحاول عدم السماح للآخر، من خصم وحليف، بالتقاط أنفاسه فيبادره بلكمة جديدة من ملف أميركا اللاتينية إلى روسيا وأوروبا والدانمارك والصين وغزة التي يريد تهجير أهلها والضفة التي لا يجب أن تكون خارج الكيان إلى الأردن ومصر الواجب عليهما استيعاب المدفوعين من بيوتهم دفعاً. يفوت ترامب وإدارته وبعض الإقليم وبعض اللبنانيين أنّ الأمور لا يمكن أن تسير وفق قاعدة ترامب قادر على كلّ شيء.  من الجلي أنّ البدايات هي لمصلحة ترامب، ومن الضروري أن نعرف أنّ فترات السماح ليست طويلة. وعليه، اللبنانيون مدعوون إلى اللحمة أكثر وإدارة شؤونهم بما ينهض ببلدهم ويصلح بعض أحوالهم ويؤهلهم من لعب دور وساطة وتجارة وأدوار اقتصادية ومالية تلامس قدراتهم بشفافية وصدق، ومطلوب منهم عدم الانخراط في مواجهات داخلية تطيح بما تبقى من آمال لأجيال تنتظر العودة إلى البلاد والعمل على ضخ روح عمل شبابية في اقتصاد يحتاج لكلّ شاب وكلّ مبدع وكلّ قادر. 

المراجع

  1.   انفجار مرفأ بيروت في ميزان أقوى الانفجارات عبر العصور“. الحرة، 15 آب/أغسطس 2020، https://shorturl.at/PIw5b (تم الاطلاع عليه في 6 شباط/فبراير 2025)
  2.   الورقة الفرنسية ترسم خارطة طريق أي حكومة لبنانية جديدة“. الجزيرة، 21 آب/أغسطس 2020، https://shorturl.at/2h9pg  (تم الاطلاع عليه في 6 شباط/فبراير 2025)
  3.   دياب يعلن استقالة حكومته على خلفية انفجار مرفأ بيروت“. العربية. 10 آب/أغسطس 2020، https://shorturl.at/O59TR (تم الاطلاع عليه في 6 شباط/فبراير 2025
  4.   الشريف، خلدون. “واشنطن وباريس “تشقان” أبواب الرياض.. لبنانياً“. 180 بوست، 7 تموز/يوليو 2021، https://180post.com/archives/20155 (تم الاطلاع عليه في 6 شباط/فبراير 2025)
  5.   بتهم “الإثراء غير المشروع”… دعوى ضد رئيس حكومة لبنان الأسبق“. الحرة، 23 تشرين الأوّل/أكتوبر 2019، https://shorturl.at/dGqYx (تم الاطلاع عليه في 6 شباط/فبراير 2025)
  6.   ماكرون بعد غداء عمل في الإليزيه مع ميقاتي: لن أترك لبنان وفرنسا لن تخذله“. القدس العربي، 24 أيلول/سبتمبر 2021، https://shorturl.at/xPkUZ (تم الاطلاع عليه في 6 شباط/فبراير 2025)
  7.   تراجع تاريخي.. الليرة اللبنانية تتخطى 100 ألف مقابل الدولار“. سكاي نيوز عربية، 14 آذار/مارس 2024، https://shorturl.at/UjppD (تم الاطلاع عليه في 6 شباط/فبراير 2025)
  8.   الصندوق يتوصل إلى اتفاق على مستوى الخبراء بشأن السياسات الاقتصادية مع لبنان للاستفادة من “تسهيل الصندوق الممدد” لمدة أربع سنوات“. صندوق النقد الدولي، 11 نيسان/أبريل 2022، https://shorturl.at/euxR7 (تم الاطلاع عليه في 6 شباط/فبراير 2025)
  9.   أبرز قيادات حزب الله التي اغتالتها إسرائيل بعد طوفان الأقصى“. الجزيرة، 13 تشرين الأوّل/أكتوبر 2024، https://shorturl.at/8XU4K (تم الاطلاع عليه في 6 شباط/فبراير 2025)
  10. 9 قتلى و2750 مصابا في انفجار أجهزة اتصال بلبنان وحزب الله يتوعد إسرائيل“. الجزيرة، 17 أيلول/سبتمبر 2024، https://shorturl.at/TJJm8 (تم الاطلاع عليه في 6 شباط/فبراير 2025)
  11. «الشرق الأوسط» تنشر النص الكامل لاتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل ولبنان“. الشرق الأوسط، 26 تشرين الثاني/نوفمبر 2024، https://shorturl.at/VZOD5 (تم الاطلاع عليه في 6 شباط/فبراير 2025)
  12. الولايات المتحدة تعلن تمديد وقف إطلاق النار بين لبنان وإسرائيل حتى 18 فبراير“. فرانس 24، 27 كانون الثاني/يناير 2024، https://tinyurl.com/yc2jhjaa (تم الاطلاع عليه في 6 شباط/فبراير 2025)
  13. خريطة طريق لبنانية لتنفيذ خطة التعامل مع النزوح السوري“. الشرق الأوسط، 2 نيسان/أبريل 2024،  https://shorturl.at/VW89O (تم الاطلاع عليه في 7 شباط/فبراير 2025)
  14. زين الدين، علي. “منصوري لـ«الشرق الأوسط»: سعر صرف الليرة اللبنانية مستقر… ولا اقتصاد بلا مصارف“. الشرق الأوسط، 24 كانون الثاني/يناير 2025، https://shorturl.at/HD2pK (تم الاطلاع عليه في 6 شباط/فبراير 2025)
  15. حسين، حمزة رفعت. “اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل“. 31 تشرين  الأوّل/أكتوبر 2022، https://carnegieendowment.org/sada/2022/10/lebanons-maritime-deal-with-israel?lang=ar، (تم الاطلاع عليه في 7 شباط/فبراير 2025)
  16. الأمين، إبراهيم. “أميركا تفتح رحلة لبنان نحو التطبيع: ترامب يستعدّ لافتتاح السفارة وينتظر إضعاف حزب الله أولاً“. الأخبار، 1 شباط/فبراير 2025، https://tinyurl.com/5n98f749 (تم الاطلاع عليه في 6 شباط/فبراير 2025)
  17. “إسرائيل تمضي في تدمير القرى اللبنانية”.  الشرق الأوسط، 2 شباط/فبراير 2025، https://shorturl.at/hw4lx (تم الاطلاع عليه في 7 شباط/فبراير 2025)