لقراءة المقال كاملًا، يُرجى تحميل ملف الـ PDF
أظهرت وثائق ويكيليكس الشهيرة أن الولايات المتحدة أبدت ترحيبًا بتصريحات الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي عقب توليه الحكم، والتي أعلن فيها انتهاء زمن “إفريقيا الفرنسية”. ويعود هذا الترحيب، بحسب البرقيات الدبلوماسية السرية التي نشرتها ويكيليكس وأعادت صحيفة لوموند في 4 ديسمبر 2010، لا بل ذهبت إحدى البرقيات إلى القول إن واشنطن كانت فرحة لهذا التحول الفرنسي حيال مستعمراتها السابقة في إفريقيا، “لأنه يعطي واشنطن فرصًا جيدة لتوسيع نفوذها في القارة من دون أي مقاومة أو تدخل فرنسي”.
كان هذا في زمن غير بعيد، لكنه يتجدد اليوم مع الاستشعار الأمريكي بخطر الانسحاب الفرنسي من دون ملء فراغه، فالانقلابات الثمانية التي هزت القارة الإفريقية منذ عام 2020 كانت على ما يبدو تحذيرًا لواشنطن من أن الجهود الغربية لتحقيق الاستقرار في المنطقة قد باءت بالفشل. والمقصود هنا، كل ما بذلته أمريكا وأوروبا في مواجهة ما أسمته “الإرهاب الجهادي” على اعتبار أنه مصدر أزمات منطقة الساحل، خصوصًا المساعدات العسكرية والأمنية للحكومات على أمل تعزيز الكفاءة القتالية لتلك البلدان. لكن هذه المساعدات لحكومات منطقة الساحل ساهمت في تصاعد أعمال العنف في المنطقة، بما في ذلك الانقلابات. فقد “سمحت برامج المساعدات هذه في كثير من الأحيان للأنظمة الفاسدة بإثراء نفسها وإعطاء الأولوية لأمنها على حساب مجتمعاتها”، على حد قول السفير جون بيتر فام J. Peter Pham ، المبعوث الأمريكي الخاص إلى منطقة الساحل في أعوام 2020- 2021 وقبلها في منطقة البحيرات الكبرى (2018- 2020). وبحسب السفير فام ، فإن “ما يظهر اليوم هو صورة معقدة للاعبين. ففي حين تواجه الحكومات الإفريقية تحديات ناجمة عن أزمة شرعية الدولة، فإن الفرنسيين لا يتمتعون بالشعبية ويفتقرون إلى الفعالية، والصين الآن أكثر حذرًا من ذي قبل، والروس انتهازيون، ولم تتحقق الآمال في التوصل إلى “حلول إفريقية للمشاكل الإفريقية”. وبالتالي فإن هناك فرصة وحاجة للولايات المتحدة لقيادة شركائها الإقليميين والدوليين لإشراك إفريقيا في مبادرات جديدة”.
يلقي المحللون الاستراتيجيون الأمريكيون باللوم على الفرنسيين إذ جعلوا الأمور أسوأ عندما فشلوا في إنقاذ حلفائهم القدامى مثل بازوم في النيجر أو علي بونغو أونديمبا في الغابون، وكلاهما أطيح به بينما وقفت القوات الفرنسية المتمركزة في بلديهما متفرجة. وفي هذا كتب مايكل شوركين، المحلل السابق في وكالة الاستخبارات المركزية والذي تابع وضع فرنسا في إفريقيا لفترة طويلة وبتعاطف كبير: “سواء كانت المشاعر المعادية لفرنسا عادلة أم لا، فهذا أمر خارج عن الموضوع تمامًا. لقد أصبحت العلاقات مع فرنسا الآن قبلة الموت بالنسبة إلى الحكومات الإفريقية، كيف وصلنا إلى هنا؟ هذه قصة طويلة تعود إلى زمن الاستعمار، ومن ثم إلى العقود التي تلت إنهاء الاستعمار في عام 1960 – وهناك الكثير من اللوم الذي يمكن توجيهه هنا. ويتعين علينا أن ندرج الأخطاء الاستراتيجية التي ارتكبها القادة الفرنسيون أيضًا، منذ عام 1960 وحتى الوقت الحاضر، فضلًا عن العلاقات الاقتصادية والسياسية التي أعاقت التنمية الاقتصادية والسياسية في البلدان الإفريقية. وكثيرًا ما جعل تجاهل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الأمور أسوأ. ومع ذلك، فإن الواقع هو أن التدخل الفرنسي، سواء بحسن نية أو بغير قصد، أصبح يؤدي إلى نتائج عكسية”.
المنافسة مع الصين وروسيا في إفريقيا
وما يقلق أمريكا أكثر أنه على مدى العقود الثلاثة الماضية، أصبحت بكين لاعبًا مهمًا في إفريقيا، وازدهرت روابطها التجارية عبر إفريقيا، لتصل إلى 251 مليار دولار في التجارة الثنائية في عام 2021. وفي الوقت نفسه، توسعت المصالح السياسية والأمنية المشتركة، إذ تشكل الدول الإفريقية أكبر كتلة إقليمية في العديد من المنظمات الدولية، وأصبحت جزءًا لا يتجزأ من استراتيجية بكين الكبرى طويلة المدى لتعزيز نسختها من “الديمقراطية في العلاقات الدولية” – أي نظام عالمي متعدد الأقطاب سياسيًا واقتصاديًا.
كما يقلق أمريكا أن روسيا تتمتع هي الأخرى ببعض النفوذ في إفريقيا، إلى حد كبير من خلال خدمات المرتزقة المستمرة التي كانت تقدمها مجموعة فاغنر التابعة لها، ومن ثم من خلال السياسات الجديدة لبوتين حيال الدول الخارجة مؤخرًا على النير الفرنسي.
لكل هذه الأسباب يُطرح من جديد في دوائر التفكير والقرار الأمريكية أنه بالنظر إلى الإمكانات الاقتصادية الهائلة التي تحملها إفريقيا، وأزمتها الراهنة مع الحوكمة البائسة وانعدام الأمن وعدم استقرار الأنظمة، ثمة مدخل كبير لتقوم أمريكا بدور قيادي رائد. وهذا يتطلب الاتفاق مع حلفاء وشركاء أمريكا الدوليين والمحليين المستعدين للاستثمار في مستقبل القارة عبر التسليم بسياسة أمريكية براغماتية جديدة.
ويرى هؤلاء أن العديد من البلدان الإفريقية شهدت مكاسب ديمقراطية واسعة النطاق بدءًا من التسعينيات، إلا أن العقد الماضي شهد تراجعًا في الحكم الفعال والأمن في جميع أنحاء القارة. ووفقًا لمؤسسة بيت الحرية Freedom House ، شهدت 11 دولة إفريقية تحسينات في الحقوق السياسية في عام 2022 مقارنة بتسع دول شهدت تراجعًا في الأمن وسيادة القانون، ناهيك عن الفساد والاستبداد والفقر المدقع، والمظالم السياسية المتفاقمة، واليأس المنتشر على نطاق واسع، إلى الحد الذي يجعل ما يقدر بنصف الأفارقة يعيشون في بلدان تعتبرها منظمة بيت الحرية “غير حرة”. هذا في حين يتوقع المراقبون أن تصل نسبة الشباب في القارة، بحلول عام 2030 42% من شباب العالم، ولكن الاستبداد الفاسد ، ونهب الموارد الوطنية، وخنق الفرص الاقتصادية، يعوق سبل التغيير السلمي ويزيد من يأس الشباب ويمكن أن يتحول إلى انفجار اجتماعي، و إلى تطرف، وحركات انفصالية، وعصابات إجرامية، وحتى انقلابات عسكرية.
فشل الشراكات الأمنية الأمريكية وتصاعد الانقلابات
لقد أنفقت أمريكا ما يقدر بنحو 3.3 مليار دولار على الأسلحة والتدريب وغير ذلك من المساعدات العسكرية لمنع أو احتواء الانتفاضات على مدى السنوات العشرين الماضية. وبدلًا من ذلك، مكنت هذه المساعدات الأمريكية الأنظمة الاستبدادية من استخدام القوة المميتة ضد المدنيين، ما أدى إلى تفاقم العنف، كما أدت هذه المساعدات إلى ميل ميزان القوى لصالح الجيوش وزيادة فرصة الانقلابات. وفي جميع أنحاء منطقة الساحل الغربي، قاد ما لا يقل عن سبعة انقلابات منذ عام 2012 ضباط عسكريون أو وحدات تلقت تدريبًا أمريكيًا – ثلاثة في مالي، وثلاثة في بوركينا فاسو، وواحد في غينيا. في حين أن المساعدات المخصصة لمساعدة هذه الدول على بناء حكم ديمقراطي فعال وضروري لا تشكل سوى خمسة بالمائة فقط من إنفاق الولايات المتحدة الرئيسي على المساعدات التنموية لإفريقيا، وفقًا لجهاز خدمة الأبحاث في الكونغرس.
عملية برخان الفرنسية في مالي، التي استمرت تسع سنوات وانتهت بانسحاب فرنسا في 2022، لم تحقق نجاحًا. وبالمثل، فشلت مبادرة الشراكة الإفريقية لمكافحة الإرهاب (TSCTP) في أن تكون شراكة حقيقية يساهم الأفارقة في صياغتها وتوجيهها.
بل إنها تبعت نمط كل المساعدات الغربية تقريبًا، حيث تعاملت مع الأفارقة الذين تدعي مساعدتهم كمتلقين سلبيين للبرامج المصممة من الخارج. وقد ركزت هذه الشراكة على الاستجابات العسكرية للاضطرابات وأعمال العنف في القارة السوداء. وساعدت القوات العسكرية التي أمطرها الغرب بالتدريب والمعدات على تسريع الانهيار الأمني، من خلال انتهاكات العسكر لحياة وحقوق المدنيين، حيث يقول تقرير لمنظمة أمنستي إن هذه الانتهاكات قد ترقى إلى مستوى جرائم حرب، خصوصًا منذ عام 2020، مع الانقلابات الأخيرة.
استحدثت الولايات المتحدة الأمريكية في عام 2002 مبادرة الساحل Pan Sahel initiative ، وهي عبارة عن شراكة بين الولايات المتحدة الأمريكية ومالي، والنيجر، وتشاد، وموريتانيا، بدأت المبادرة في العمل بوصول فريق أمريكي لمكافحة الإرهاب إلى نواكشوط العاصمة الموريتانية حيث ضمّ الفريق 500 جندي أمريكي نشر حوالي 400 منهم في المنطقة الحدودية بين النيجر وتشاد. وقدرت ميزانية المبادرة لمدة عامين بحوالي7.75 مليون دولار أمريكي قدمتها وزارة الخارجية الأمريكية.
بيد أنّ الولايات المتحدة الأمريكية اتبعت نهجًا شاملًا لا يعتمد فقط على التدريب وتقديم معدات لمكافحة الإرهاب في منطقة الساحل، وإنما يعتمد على المساعدات الإنمائية وغيرها من عناصر الاستراتيجية الشاملة لمكافحة الإرهاب. وهو بالفعل ما تجسد فيما عرف بـ” مبادرة مكافحة الإرهاب عبر الصحراء” التي أنشئت في عام 2005. وهذه المبادرة هي امتداد للمبادرة المشار إليها سابقًا، وتم فيها توسيع نطاق المشاركة لتشمل بالإضافة إلى الدول الأربعة السابقة ، كل من الجزائر والسنغال، واعتماد تونس والمغرب ونيجيريا كمراقبين. وتقدّر ميزانية المبادرة بحوالي500 مليون دولار أمريكي، بمعدل 100 مليون دولار للسنة الواحدة. وتذهب نسبة 40 % من هذه الميزانية إلى الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية من أجل التعليم والصحة ومؤسسات المجتمع المدني وغيرها من مجالات التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
لقراءة المقال كاملًا، يُرجى تحميل ملف الـ PDF