(تُرجمت هذه القطعة عن نسختها الأصلية باللغة الإنجليزية من قبل المتدربة في مركز الشرق للأبحاث الاستراتيجية: تيسير محمدعلي)

 

أطلقت فصائل المعارضة السورية العاملة تحت مظلة “غرفة العمليات العسكرية” (المعروفة سابقًا باسم غرفة عمليات الفتح المبين) هجومها الكبير الذي طال الحديث عنه تحت عنوان “عملية ردع العدوان” ضد قوات النظام السوري وحلفائه. جاء هذا الهجوم في أعقاب التصعيد الأخير لهجمات النظام السوري وحلفائه على جنوب إدلب وغرب حلب، والذي أسفر عن العديد من الضحايا المدنيين، بما في ذلك الأطفال.

 

قادت العملية “قيادة العمليات العسكرية” التي تقودها هيئة تحرير الشام، وهي النسخة المطورة من فرع القاعدة في سوريا “جبهة النصرة”، بمشاركة مجموعات من الجيش الوطني السوري المدعومة من تركيا. تمكنت قوات المعارضة السورية  في تقدم صادم، من السيطرة على كامل محافظة حلب، القلب الاقتصادي لسوريا وثاني أكبر مدنها. وقد وقعت المحافظة في قبضة المعارضة خلال أيام قليلة، بعد أن كانت تحت سيطرة النظام السوري وحلفائه منذ نهاية عام 2016 بعد معارك شرسة استمرت لسنوات. 

 

أثبتت عودة قوات المعارضة السورية إلى المحافظة بعد ثماني سنوات أنها كانت قد استعدت جيدًا لهذا الهجوم الكبير على مدار السنوات الماضية في مناطق سيطرتها، رغم استمرار الغارات الجوية للنظام السوري وروسيا والقصف المدفعي من قبل القوات المدعومة من إيران. تقدمت المعارضة نحو جنوب إدلب وسيطرت على كامل المحافظة بعد سقوط محافظة حلب، كما سيطرت على محافظة حماة ووصلت حمص بهدف الوصول و السيطرة الكاملة على العاصمة دمشق. وقد أعقب سقوط حلب عملية “فجر الحرية” التي نفذها الجيش الوطني السوري، مما أجبر قوات وحدات حماية الشعب على الانسحاب من المنطقة دون مقاومة كبيرة بعد فشلها في إنشاء ممر يربط بين تل رفعت ومنبج. حتى الآن، الوضع على الأرض متقلب في وقت يشعر فيه النظام بالفزع من تقاعس روسيا، وبالتالي يركز على دول المنطقة للحصول على الدعم.

 

توقيت العملية
ورغم أن هجوم فصائل المعارضة السورية كان متوقعاً منذ أشهر، إلا أنه تم تأجيله بسبب اعتراضات أنقرة، التي يبدو أنها أعطت في النهاية الضوء الأخضر للعملية بعد القصف الجوي المتواصل والوحشي الذي شنه نظام الأسد وروسيا على محافظة إدلب والذي أدى إلى سقوط عشرات الضحايا المدنيين، الى جانب تعنت نظام الأسد للجلوس الى طاولة المفاوضات مع أنقرة لإجراء محادثات تطبيع العلاقات. كانت أنقرة تخشى انهيار الوضع الراهن في إدلب لفترة طويلة من الزمن، وما قد يتبعه من احتمالات حدوث فوضى لاحقة، وتدفق اللاجئين نحو الحدود الجنوبية لتركيا، لذلك حاولت إقناع النظام السوري دبلوماسيًا. 

 

وفي هذا السياق، دعت تركيا نظام الأسد على مدى عامين تقريبًا للجلوس إلى طاولة المفاوضات. ومع ذلك، لم تجد هذه الدعوات استجابة من دمشق، نتيجة لاعتقاد النظام أنه قد انتصر عسكريًا على المعارضة السورية. ونتيجة لـ “النصر الباهظ” الذي يعتقد النظام أنه حققه، وضع بشار الأسد، رئيس النظام السوري، العديد من الشروط المسبقة للتطبيع المحتمل مع أنقرة، بما في ذلك انسحاب القوات التركية من شمال سوريا ووقف أنقرة دعمها للمعارضة السورية، التي وصفتها لغة النظام بـ “الإرهابية”. وعلى الرغم من أن القيادة التركية العليا، وعلى رأسها الرئيس أردوغان، أعربت مرارًا عن استعدادها للتطبيع، اعتبرت أنقرة شروط النظام غير مقبولة.

 

نتيجة لذلك، وبحسب مصادر تركية، وافقت أنقرة على عملية محدودة لاستعادة الحدود السابقة لمنطقة خفض التصعيد في إدلب التي تم الاتفاق عليها خلال محادثات أستانا. ومع بدء الهجوم، أصدر المتحدث باسم وزارة الخارجية التركية أونجو كيجيلي بيانًا ألمح فيه إلى موافقة أنقرة، حيث قال: “لقد حذرنا في منصات دولية مختلفة من أن الهجمات الأخيرة على إدلب قد وصلت إلى مستوى يقوض روح وتنفيذ اتفاقات أستانا، وأن هناك خسائر كبيرة بين المدنيين. لقد أكدنا أن هذه الهجمات يجب أن تتوقف. في الواقع، أدت الاشتباكات الأخيرة إلى تصعيد غير مرغوب به في المنطقة.”

 

ما بدأ كعملية محدودة تحول بسرعة إلى هجوم بري كبير مدعوم بطائرات مسيرة مرتجلة من قوات المعارضة. استولت قوات المعارضة على مناطق واسعة من حلب دون مقاومة حقيقية من قوات نظام الأسد والميليشيات المدعومة من إيران. وفي مناطق مختلفة من المحافظة، فرت قوات النظام من المدينة دون أن تخوض قتالاً ضد المعارضة. في أقل من ثلاثة أيام، وصلت قوات المعارضة السورية إلى مركز مدينة حلب وشاركت صورًا من قلعة حلب. والجدير بالذكر أنه وبينما كانت هذه الأحداث تجري في المحافظة بقيت روسيا صامتة إلى حد كبير. وألمح دميتري بيسكوف المتحدث باسم الكرملين  إلى أن النظام يجب أن يعتني بنفسه هذه المرة بقوله: “ندعو الحكومة السورية إلى استعادة النظام على الجبهة في حلب.” على الرغم من أن روسيا نفذت في وقت لاحق بعض الضربات الجوية في حلب وإدلب، إلا أنها حتى الآن امتنعت إلى حد كبير عن الانخراط بشكل كبير في التطورات الجارية.

 

توقيت العملية له دلالة كبيرة، حيث تزامن الهجوم مع انشغال روسيا الكبير في الجبهة الأوكرانية، ومع تعرض حزب الله، الوكيل الرئيسي لإيران، لضربات كبيرة من إسرائيل عقب الحرب التي استمرت حوالي 14 شهرًا قبل أن يُعلن عن وقف دائم لإطلاق النار بين إسرائيل والمنظمة في أواخر نوفمبر 2024.

 

نهاية الوضع الراهن في سوريا وأهمية الهجوم
يشير الهجوم البري الكبير الذي تم ذكره سابقًا إلى حقبة جديدة في الأزمة السورية، وينهي الوضع الراهن الذي أُقيم في سوريا بعد عملية “درع الربيع” التي نفذتها أنقرة ضد النظام والميليشيات المدعومة من إيران في مارس 2024. حتى إذا خسرت المعارضة في الفترة المقبلة بعض المناطق التي تسيطر عليها في محافظة حلب وما بعدها، فهذا يعني أن الأمور قد خرجت عن السيطرة.

 

تكمن الأهمية الكبيرة للأحداث في تغيُّر خارطة السيطرة في سوريا للمرة الأولى منذ أكثر من أربع سنوات. حيث لم تتمكن أي من الدول الرئيسية المشاركة في الأزمة السورية من تحقيق التفوق العسكري على الآخرين أو تدمير مناطق السيطرة الخاصة بمنافسيها. وبالتالي، أدى وقف إطلاق النار الذي أُعلن في مارس 2020 إلى ترسيخ حدود مناطق النزاع، واستمرت هذه الحالة لسنوات ومع ذلك، يمكن الجزم بأن ميزان القوى قد تحول لصالح تركيا خلال السنوات الماضية، مما خلق بيئة مواتية لهجوم المعارضة السورية.

 

أظهر الهجوم الحالي ضعف نظام الأسد والميليشيات المدعومة من إيران وروسيا، وربما خلق بيئة جديدة يتم فيها تصفية حسابات بين الفاعلين المختلفين وإجراء حسابات جديدة في الفترة المقبلة. كما يمكن أن يصبح هذا الوضع أكثر وضوحًا في حال قرر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب سحب القوات الأمريكية من سوريا، على الرغم من أن بعض الشخصيات في إدارته قد تعترض على مثل هذا القرار.

 

بعد القضاء على القيادات العليا لحزب الله، اعتقد كثيرون أن حزب الله قد أصبح أضعف في سوريا. ومع ذلك، لم يكن أحد يتخيل انهيار خطوط الدفاع التابعة للنظام السوري والميليشيات المدعومة من إيران في فترة قصيرة جدًا. ينطبق الأمر ذاته على روسيا؛ فقد أشار العديد إلى أن روسيا كانت تنقل قواتها الأساسية إلى أوكرانيا، مما جعل موسكو أضعف بطبيعة الحال في الساحة السورية. ومع ذلك، مرة أخرى، أثبتت روسيا ضعفها في الأزمة السورية حتى الآن بسبب انشغالها بأوكرانيا. بينما كانت المعارضة السورية تتقدم بسرعة نحو مركز حلب، أصدرت وزارة الخارجية الإيرانية بيانًا زعمت فيه طهران أن الهجوم يشكل انتهاكًا صارخًا لاتفاقية أستانا.


ويبدو أن طهران قد تناست أن نظام الأسد وموسكو وطهران كانوا أول من انتهك اتفاقية أستانا عبر السيطرة العسكرية على ثلاث من مناطق خفض التصعيد الأربع المحددة في الاتفاقية قبل عام 2020. أثبتت ردود الفعل الضعيفة من خلال البيانات، إلى جانب غياب مقاومة حقيقية من نظام الأسد وروسيا وإيران، أن نفوذهم في سوريا قد تقلص أكثر مما كان يُعتقد عقب الغزو الروسي لأوكرانيا وتداعيات ما بعد السابع من أكتوبر على الوكلاء الإيرانيين.

 

التداعيات المحتملة
بعد خسارة حلب، والسيطرة على كامل إدلب، ومحافظة حماة، والاستيلاء على تل رفعت، من المحتمل أن يُجبر النظام السوري على الجلوس إلى طاولة المفاوضات مع تركيا وبشكل غير مباشر مع قوات المعارضة السورية المدعومة من أنقرة. علاوة على ذلك، يعزز هذا الهجوم من رغبة أنقرة في إنهاء وجود وحدات حماية الشعب/ قوات سوريا الديمقراطية غرب نهر الفرات بشكل كامل. وتظل منبج آخر منطقة تابعة لقوات سوريا الديمقراطية غرب الفرات، وقد تصبح هذه الجبهة أيضًا منطقة ساخنة في الفترة المقبلة، حسب المحادثات بين تركيا والولايات المتحدة.

 

حتى الآن، يبدو أن وحدات حماية الشعب/ قوات سوريا الديمقراطية غير مستعدة لخسارة كوادرها في معركة من غير المرجح أن تنتصر فيها. لذلك، وبدون مقاومة شديدة، وافقت على مغادرة تل رفعت. بالإضافة إلى ذلك، ترك النظام السوري مطار حلب الدولي لقوات سوريا الديمقراطية بعد انسحابه، فقط لتسلمه الأخيرة إلى هيئة تحرير الشام دون قتال. هل يمكن أن يتكرر سيناريو مشابه في منبج؟ الإجابة على هذا السؤال ما زالت غير واضحة حتى اللحظة.

 

بشكل عام، يمكن القول إنه إذا نجحت المعارضة السورية في الحفاظ على مواقعها في مواجهة التدخل الروسي المتوقع، فإن هذا الوضع سيعزز من موقف تركيا في سوريا ويزيد من قوتها التفاوضية تجاه الولايات المتحدة وروسيا.

 

علاوة على ذلك، وبالنظر إلى أن جزءًا كبيرًا من اللاجئين السوريين في تركيا هم من حلب، فإن هذا الهجوم قد يمهد الطريق لعودة جزء من هؤلاء اللاجئين إلى ديارهم. ومن المرجح أن يرحب النازحون داخليًا من حلب، والمقيمون حاليًا في مخيمات اللاجئين في إدلب، بهذا الوضع كفرصة للعودة إلى مسقط رأسهم.

 

بالإضافة إلى ذلك، يمكن القول إن محاولات الدول الأوروبية لتطبيع العلاقات مع نظام الأسد قد تتوقف. فقد زعمت دول أوروبية مختلفة لفترة طويلة أن الأسد يسيطر على غالبية البلاد، وأنه تحت ذريعة “سوريا آمنة”، يجب على الدول الأوروبية التعامل مع نظام الأسد بشأن قضية اللاجئين. بيد أنه من المرجح أن يؤدي هجوم المعارضة إلى إعادة تقييم هذه الدول لحكمها على المسألة.

 

في تطور ملحوظ، من المحتمل أن تجذب القوة الدافعة الرئيسية للهجوم، وهي هيئة تحرير الشام وزعيمها أبو محمد الجولاني، المزيد من الشعبية بين مجموعات المعارضة السورية في أعقاب هذا الهجوم. ودعوات الجولاني المعتدلة للمقاتلين الذين دخلوا حلب بشأن قواعد السلوك تجاه السكان والأقليات، وبيان حكومة الإنقاذ السورية المدعومة من هيئة تحرير الشام الذي يدعو روسيا للتخلي عن النظام السوري، إلى جانب الرسائل السياسية الموجهة الى العراق، تظهر أنهم يسعون لتغيير قواعد اللعبة بشكل كبير. في الفترة المقبلة، قد يبرز الجولاني ويصبح القائد الرئيسي لقوات المعارضة في سوريا. وبالتالي، قد تنشق بعض المجموعات أو المقاتلين من الجيش الوطني السوري المدعوم من تركيا للانضمام إلى هيئة تحرير الشام.

 

باختصار، أعطى سقوط حلب بصيص أمل متجدد لفصائل المعارضة السورية. وشجع الهجوم المذكور السوريين في أجزاء أخرى من سوريا، مثل محافظة السويداء ذات الأغلبية الدرزية، جنبًا إلى جنب مع درعا، مهد الثورة السورية، لإظهار استيائهم من النظام. الأجواء الحالية بين شخصيات وجماعات المعارضة السورية تذكرنا بأيام الثورة السورية الأولى. حتى أن البعض يذهب إلى حد وصف الوضع الحالي بأنه “الثورة السورية الثانية”، سيثبت الوقت مدى صحة هذا الحكم.

 

على مدار السنوات القليلة الماضية، تراجعت سوريا بشكل كبير عن الاهتمام الدولي. إلا أن الصراعات المجمدة لها عادة في تذكير الأطراف المعنية بها في أوقات غير متوقعة. ويعتبر الهجوم غير المسبوق للمعارضة السورية منذ سنوات تذكيرًا صارخًا بهذه الحقيقة.