مقدمة

مع إنتصار “إدارة العمليات العسكرية” وفي القلب منها هيئة تحرير الشام على النظام السوري وإسقاط بشار الأسد في أحد عشر يوماً، خرجت العديد من الأسئلة عن طبيعة هذه القوة وتنظيمها العالي على المستويين العسكري والحوكمي بالتوازي مع ظهور خطاب سياسي متوازن لا يشبه خطاب هذه الجماعة عند انطلاقتها قبل أكثر من عشر سنوات تحت مسمى جبهة النصرة.

لم يكن هذا التغيير وكذلك هذه الاندفاعة الاستراتيجية وليدة اللحظة التي ولد فيها ردع العدوان، بل كانت الثمرة النهائية لعمليات تطوير ومراجعة واختبار ومجازفة ونجاح في امتحانات قاسية استمرت لسنوات.

ولعل أبرز مراحل التطور التي مرت بها هيئة تحرير الشام هي التي بدأت عام 2020 إذ سقطت أبرز معاقل الثورة وخزانها البشري أرياف إدلب وحماة وحلب.

نستعرض في هذه الورقة المراحل التي بنت فيها هيئة تحرير الشام الأداتان الرئيسيتان الصلبتين العسكرية والحوكميّة اللتان استندت عليهما في هذا السباق لإسقاط الأسد.

من العسكرة الجهادية إلى الجيش المنظم الصغير

انطلقت الأداة العسكرية لجبهة النصرة  امتدادًا طبيعيًا على مستوى الاستراتيجية والعمليات والتكتيك لتنظيم دولة العراق الإسلامية (داعش) التي انبثقت عنها نهاية عام 2011، حيث كانت تعتمد بشكل رئيسي على العمليات النوعية ذات الطابع الهجومي والعنيف الذي يهدف لإسقاط الخصم الرئيسي والاستئثار بقرار السلم والحرب للشركاء المحليين.

يستند هذا النموذج من حيث الأداء على ما طُبِّقَ في العراق في العراق على يد أبو مصعب الزرقاوي وخلفاؤه ضد الاحتلال الأمريكي ولاحقاً ضد الميليشيات الشيعية العراقية، وهو نموذج يقوم على عناصر ذات ولاء مطلق للتنظيم يتقنون العمليات الهجومية ذات الزخم العالي المؤقت، هذا النوع من الهجمات ساعد جبهة النصرة على تحقيق مكاسب عسكرية تكتيكية وليس استراتيجية، إضافةً لمكاسب على مستوى الحاضنة الشعبية حيث أصبح السوريون ينتظرون مقاتلي النصرة الأشداء في المعارك الحاسمة، وكذلك على المستوى السياسي بدأت النصرة بحيازة مكانة مهمة في صناعة المشهد السياسي السوري بناء على منجزها العسكري وتجلى ذلك في مظاهرات السوريين الرافضين لتصنيفها على قوائم الإرهاب عام 2012 [1] وقرار عدد من الشخصيات والهيئات السياسية بما في ذلك الائتلاف الوطني، والجيش الحر، برفض التصنيف، مؤكدين على سوريتها[2].

 بدأت جبهة النصرة مطلع عام 2015 بالتمايز عن الفواعل العسكرية السورية الأخرى من خلال إنشاءها قوة هجومية خاصة تحت مسمى “جيش النصرة”[3] تتميز بالتدريب العالي والعقيدة القتالية الهجومية، استطاعت من خلال هذا التشكيل السيطرة على مطار أبو ضهور العسكري في أيلول (سبتمبر) 2015 مع عدد من التشكيلات العسكرية  السورية مثل حركة أحرار الشام.

استمرت النصرة بهذه الوتيرة إلى أن أعاد النظام السوري السيطرة على مدينة حلب عام 2016 بعد محاولتان شهيرتان لجبهة فتح الشام “النصرة سابقاً” لاستعادتها (معركة فك الحصار ومعركة أبو عمر سراقب)[4]. تلى ذلك انتكاسات عسكرية لجبهة فتح الشام وباقي المكونات العسكرية السورية المعارضة لنظام الأسد خسرت فيها كافة المناطق المحررة في وسط البلاد وجنوبها وانحسرت قواتها في شريط ضيق شمال غرب سوريا مطلع عام 2020.

لم تتطور خلال هذه السنوات الخمسة أي حالة عسكرية لتحرير الشام لا على المستوى الهجومي ولا الدفاعي وكذلك على مستوى الأداء القتالي في الميدان حيث استمرت حالة استنساخ المدرسة الجهادية العراقية مع بعض التعديلات الطفيفة التي لم تؤثر على الحالة الاستراتيجية للقوة العسكرية لتحرير الشام.

مع استقرار خطوط التماس بين نظام الأسد والمعارضة شمال غرب سوريا بدأت هيئة تحرير الشام بمراجعات جدّية لجناحها العسكري على مستوى البنية وعقائد القتال والأداء الميداني، كما أنها أخضعت بالقوة فصائل الثورة السورية في مناطق انتشارها على الالتزام بحالة من التنسيق العسكري على مستوى العمليات والتكتيك تجلى ذلك بخطوتين رئيسيتين على المستويين العملياتي والتكتيكي:

على المستوى العملياتي أنشأت غرفة عمليات الفتح المبين[5] لتوحيد الأداء العسكري لفصائل المعارضة المتواجدة في شمال غرب سوريا على مستوى جبهات القتال، حيث أن ضعف التنسيق بين هذه الفصائل على مستوى مسارح العمليات أعطى حالة من التفوق لجيش الأسد وحلفائه في هذه المسارح كما أن هذه الحالة كانت عاملًا سلبياً على الأداء التكتيكي الجيد المنفرد لتحرير الشام على محاور القتال في مسارح العمليات، ولذلك سعت تحرير الشام من خلال هذه الغرفة إلى تحقيق هدفين رئيسيين:

  • الأول: قيادة التنسيق العملياتي بين الفصائل المعارضة على كامل جبهات القتال مع جيش الأسد بحيث يصبح القرار العسكري على كافة مسارح العمليات تحت قيادة واحدة.
  • الثاني: تحديد الجبهات التي تستطيع من خلالها القيام بعمليات هجومية نوعية ضد جيش الأسد دون الحاجة للتنسيق بشكل مستمر مع التشكيل العسكري المنتشر على تلك الجبهة بحيث تتمكن غرفة العمليات من تحقيق الفائدة العسكرية الكبيرة دون تبعات كبيرة على المدنيين المحاصرين في الشمال الغربي.

أما على المستوى التكتيكي فقد استحدثت هيئة تحرير الشام في مارس (آذار) عام 2021 الكلية العسكرية[6] بهدف توحيد المصدر النظري لجناحها العسكري بكل مستوياته جنودًا وقادةً من خلال فرض مجموعة من المناهج العلمية العسكرية على صعيد معسكرات الانتساب، مثلَ أنماط القتال واستخدام السلاح وتلقين العقيدة القتالية والأهم هو إنهاء حالة الولاء للمجموعة المبنية على قاعدة مناطقية كما هو حال غالب الفصائل الثورية السورية واستبدالها بالولاء للمشروع العسكري والسياسي الذي تطرحه قيادة تحرير الشام في دروس البناء السياسي التي يتم إعطائها في الكلية الحربية. وكذلك على مستوى القادة الميدانيين “صف الضباط” المسؤولين عن قيادة المجموعات القتالية التي تقوم بتنفيذ المهمات القتالية النابعة من مذاهب عسكرية ذات طبيعة غريبة تتلاءم مع تكوين الهيئة البنيوي الصغير ومع تسليحها الخفيف[7]، كذلك فإن الهدف من هذه الكلية هو تحقيق التناغم فيما بين هؤلاء القادة وفيما بينهم وبين جميع الجنود المشاركين في العملية القتالية المتخرجين من معسكرات الانتساب، وبذلك ووفق هذه المنهجية في بناء المؤسسة العسكرية وصناعة عناصرها استطاعت تحرير الشام أن توحّد آلية التفكير العسكري لها ولباقي الفصائل العاملة في مناطق سيطرتها شمال غرب سوريا دون الحاجة لنزع سلاحها أو حلّ نفسها.

مع تخريج الدفعة الأولى من الأكاديمية العسكرية في أيلول عام 2022 بدأت قيادة تحرير الشام بتأهيل جناحها العسكري على مستوى الجنود وعلى مستوى السلاح ليكون قادرًا على استيعاب هذا التغيير على مستوى العقلية العسكرية ومن ثم لتطبيقها بأفضل شكل على ميادين القتال مع جيش الأسد. ولعل أبرز ما كانت تحويه هذه الرؤية الاستراتيجية على المستوى العسكري هو إدراك أن الدفاع غير مجدي على المستوى الاستراتيجي لأن الاستثمار الاستراتيجي بالدفاع سيحول شمال غرب سوريا إلى “غزة جديدة” وسيزرع في قلوب الجنود فكرة خطيرة وهي أن الدفاع هو الحل الأمثل للمعارضة وأن فكرة الهجوم وإسقاط الأسد عسكريًا لم تعد ممكنة، ولذلك فإن الأفضل هو عدم الاستثمار بقوة في الدفاع وإنما الدفاع لمستوى محدد مع انتظار لحظة مفصلية لشن الهجوم التكتيكي وتعظيم نتائجه لينتقل من الأثر التكتيكي إلى الأثر الاستراتيجي.

بعد تخريج الدفعة الأولى من الكلية العسكرية السورية بدأت هيئة تحرير الشام عمليات عسكرية ذات نمط جديد ضد جيش الأسد على طول جبهات التماس شمال غرب سوريا اتسمت أغلبها بعمليات الإغارة على الخط الأول للتماس وبعضها كان في عمق تلك الخطوط، واستمر ذلك على مدار سنتين تقريبًا أرادت منها تحقيق الأهداف التالية: 1- اختبار دفاعات جيش الأسد لمعرفة نقاط الضعف التي من الممكن استثمارها عند شن عملية هجومية. 2- إبقاء الروح القتالية لمقاتلي تحرير الشام بحالة مرتفعة وتأكيد فكرة أن الحل العسكري هو الطريق الوحيد لإسقاط الأسد وليس والمفاوضات. 3- تطبيق التحديثات العسكرية التي تم اعتمادها في الكلية الحربية على ميدان القتال لاختبارها.

مسار سياسي كمُتوّجٍ للجهد العسكري

مع انطلاق عملية ردع العدوان العسكرية والتي أثبتت صوابية الرؤية العسكرية لهيئة تحرير الشام من خلال تحقيقها تقدماً كبيرا على مستوى مسرح العمليات الذي تكلل بالسيطرة على مدينة حلب ثاني أكبر المدن السورية خلال أقل من 5 أيام، بدأت إدارة الشؤون السياسية بالصعود السريع إلى المسرح الإعلامي من جديد على الصعيدين الداخلي والخارجي للإعلان عن الرؤية السياسية الجديدة لقيادة هيئة تحرير الشام، على الصعيد الداخلي بدأت إدارة الشؤون السياسية التابعة لهيئة تحرير الشام بلقاء عدد من ممثلي الطوائف والمجتمعات في المناطق التي يتم السيطرة عليها لتطمينهم وتأمينهم والتأكيد على أن السلطة الجديدة ستحفظ لهم حقوقهم وحريتهم على المستوى الشخصي والديني والسياسي كما أكدّ ذلك عدد من وجهاء تلك الطوائف[8] وكذلك نشرت بيانات رسمية بهذا الخصوص موجهة لطوائف دينية في سوريا تنقل لهم فيها رؤية القيادة السياسية الجديدة والتي ترى في تلك المكونات شريك أساسي في بناء مستقبل البلد وجزء أصيل من نسيج المجتمع السوري المتنوع.

أما على الصعيد الخارجي فأصدرت إدارة الشؤون السياسية عدداً من البيانات لعدد من الدول التي كانت قد اتخذت موقفاً سياسياً يتّسم بالتقارب مع الأسد في السنوات الأخيرة وعلى رأسها المملكة العربية السعودية والمملكة الأردنية الهاشمية إذ أكدت في هذه البيانات على رؤية هيئة تحرير الشام لهذه الدول وفق إطار الأخوية والمصلحة المتبادلة، لكن الخطابات التي أثارت الإنتباه للمستوى الجديد في الوعي والرؤية السياسية لقيادة هيئة تحرير الشام وفصائل غرفة عمليات ردع العدوان هي الخطابات الموجهة لجمهورية العراق الاتحادية والدولة الروسية والجمهورية اللبنانية حيث أكدت الخطابات على رغبة القيادة في بناء علاقات سياسية متوازنة وصحيّة مع هذه البلاد بالرغم مما قدمته من دعم عسكري وسياسي واقتصادي كبير جدًا ساعد الأسد على قمع ثورة الشعب السوري والصمود في وجه قوات المعارضة لثلاثة عشر سنة.

هذا المستوى من الخطاب هو تتويج لقناعات سياسية جديدة تبنتها هيئة تحرير الشام ذات الأصول الجهادية، حيث يتضح من هذه الخطابات الرغبة في تحييد أكبر قدر من الخصوم عن المواجهة المباشرة ودفعهم للانفضاض عن حليفهم المعتاد خلال العقود السابقة وكذلك خلال سنين الثورة السورية بالتأكيد على أن مصالحهم تتلاقى مع مصالح الشعب السوري وليس مع بشار الأسد وأن السوريين لا يحملون العداء لهذه الدول، لكن انخراط هذه الدول بالقتال الى جانب الأسد ضد شعبه أجبرهم على الدفاع عن قضيتهم العادلة وقتال هذه الدول على الأرض السورية.

كذلك، فإن الخطاب يشير إلى القدرة الصحيحة لقيادة هيئة تحرير الشام على إجراء القياس الدقيق للمخرجات الاستراتيجية السياسية على مستوى الدولة التي يمكن تحقيقها من خلال الأداة العسكرية التي تم تطويرها خلال السنوات الممتدة من 2020 إلى 2024 والتي تتجلى بأن الجهد العسكري المنضبط والسريع يمكن أن تتضاعف نتائجه السياسية في حال تم تأطيره بخطاب وتوجّه سياسي قابل للتطبيق في لحظة سياسية مفصلية على مستوى الإقليم والعالم.

لم يكن هذا الخطاب السياسي الذي يترجم الرؤية السياسية الواقعيّة الجديدة لتحرير الشام ليرى النور لولا رافعتين رئيسيتين:

  • الأولى، المراجعات والدراسات المعمّقة لكل من أدبيات المدرسة الجهادية التي انطلقت منها تحرير الشام والتي أخذت منها القدرة على بناء قوة عسكرية صلبة متماسكة سريعة التعلم للجديد من العلوم العسكرية مدفوعة بمحرك ديني قوي، بينما نزعت منها السقف السياسي المرتفع الذي يتصف بالإقصاء والحدّية والرافض للتحالفات مع الأطياف الغير متطابقة فكرياً مع أبجديتها السياسية والدينية. لكن الأهم كان العمل بسياسة تحييد الخصوم فاستبدلت ترتيبهم بنظام النسق لمواجهتهم جميعاً دفعة واحدة إلى اعتماد سياسة ترتيب الخصوم بنظام الرتل حيث ركّزت جهودها على خصم رئيسي واحد وابتعدت عن السعي للاشتباك مع الخصوم الآخرين رغبة في تحييدهم لاحقًا بأدوات السياسة لا العسكرة البحتة.
  • الثانية، القراءة الصحيحة للواقع السياسي في المنطقة والعالم وتحليل متأني للتحالفات المبنية وحواملها وقابليتها للاستمرار وآليات الاستفادة من كل ذلك وتحويله لمصلحة المشروع الوطني، هذه القراءة كانت نتيجة طبيعية لعاملان رئيسيان هما: تتالي حالة الخسارة العسكرية للمناطق المحررة لصالح نظام الأسد، وكذلك للانفتاح الكبير على الخبرات السياسية من خارج التنظيم للسماع والتعلم منها وهو ما تم تتويجه بافتتاح كلية العلوم السياسية في إدلب في تشرين الثاني من عام 2023 بهدف تأطير الرؤية السياسية الجديدة لكوادر وقيادات هيئة تحرير الشام بإطار علمي وأكاديمي.

حكومة الإنقاذ والتدريب على الحُكم

في نوفمبر من عام 2017 أعلنت هيئة تحرير الشام عن تشكيل أول جسم حكومي مدني تابع لها بشكل مباشر تحت مسمى حكومة الإنقاذ بهدف ممارسة العمل الحكومي من خلال جسم مدني منفصل إداريًا عن الجسم العسكري وعن المظلة التنظيمية لهيئة تحرير الشام.

هدفت هيئة تحرير الشام من هذا المشروع تحقيق عدة أهداف:

  • الأول، تحقيق تحول كبير في نظرة المجتمعات الحاضنة تجاه هيئة تحرير الشام ذات الهوية الجهادية تحت عنوان “التيار الجهادي ليس بارعاً في القتال فقط وإنما في الإدارة كذلك” ويتم تحقيق هذا التحول من خلال الإدارة المدنية للمجتمع الذي ينشط ويتحرك فيه من خلال تقديم الخدمات الحكومية عبر أشخاص ومؤسسات تخصصية تابعة لإدارة مدنية وليس لإدارة عسكرية كما كان الحال في السابق حيث يدير القائد العسكري لكل منطقة جميع الملفات في منطقته.
  • الثاني، هو إدخال عدد من كوادر هيئة تحرير الشام من أصحاب التخصصات غير العسكرية إلى هذا المشروع بهدف الانخراط في هذه المؤسسات واكتساب الخبرة في العمل الحوكمي للوصول إلى حالة متقدمة في ذلك بهدف تطوير حامل جديد لهيئة تحرير الشام يساعد على ضمان النجاح في المشروع السياسي الذي تطمح تحرير الشام إلى تحقيقه.
  • الثالث، هو تكريس حالة الفصل في السلطة بين القادة العسكريين والكوادر المدنية الحكومية، إذ كان الترتيب في بداية الثورة السورية أن تتركز الصلاحيات الإدارية والشُرطية بيد القيادة العسكرية لكل منطقة، لكن مع حالة حكومة الإنقاذ أعادت تحرير الشام القادة العسكريين إلى الحقل العسكري وابعدتهم عن المشهد الحكومي الخدمي.
  • الرابع، يتمثل بتطوير حالة التجانس داخل جسم هيئة تحرير الشام، والمقصد من ذلك هو أن تحرير الشام عندما بدأت كجبهة النصرة ثم جبهة فتح الشام وأخيراً هيئة تحرير الشام كانت تنظيماً مغلقاً لا يتجانس مع من هو خارجه، وبالتالي تبعاً لذلك، فهو لا يتقبل العمل مع من لا يحمل قناعاته ومبادئه. لكن، مع إدخال حكومة الإنقاذ وكوادرها الغير منتسبين تنظيمياً ولا مؤطرين فكرياً تحت عباءة هيئة تحرير الشام بدأت حالة التقوقع بالتلاشي على حساب التوسع في الحالة الوطنية والتأكيد المتزايد على الهوية السورية الجامعة كبديل عن الهوية التنظيمية الضيقة.

مع مرور السنوات، بدأت تتوسع تجربة حكومة الإنقاذ وتزداد تبلوراً من تقديم الخدمات الأساسية والضرورية للمواطن إلى ممارسة عملية ضبط الأمن الداخلي من خلال الأجهزة الشُرطية وجباية الضرائب وشق الطرق وافتتاح الجامعات والمدن الصناعية[9]، كل ذلك ساعد في تطوير تجربة نموذج مصغر لحكم مدني تكنوقراطي يخدم رؤية سياسية وطنية تقودها هيئة تحرير الشام مغايرة تماماً عن تلك التي كانت تتبناها في انطلاقتها تحت مسمى جبهة النصرة.

الخلاصة

خلال السنوات الثلاثة عشر للثورة السورية، كانت هيئة تحرير الشام تسير بخطوات متسارعة نحو امتلاك الشرعية في اعتلاء رأس الهرم في سوريا مستخدمة لأجل ذلك روافع متنوعة تناسبت مع الزمان والمكان الذي تواجدت فيه هذه الجماعة منذ تشكيلها أواخر عام 2011 ابتداءً برافعة الخطاب الجهادي وأداته العسكرية وصولاً إلى رافعة النموذج الحكومي المنضبط تحت السقف الوطني السوري.

استفادت تحرير الشام من تجاربها في المجالات العسكرية والأمنية والحوكمية والسياسية والإعلامية في تكوين نواة مصغّرة لدولة في شمال غرب سوريا، مارست فيها بشكل عملي مهام السلطة التي تتفرد بقرار السلم والحرب وتوازن فيها بين تقديم الخدمات للمواطنين وإدارة مواردها من الضرائب والاستثمارات الحكومية، كل ذلك انعكس على سرعة صعودها للأضواء في دمشق بعد الإطاحة بنظام بشار الأسد.

هذه التحولات في السياق العسكري والسياسي والحكومي لتحرير الشام أدت في مخرجاتها إلى نموذج مغاير تماماً عن النموذج الذي كان مُتصوراً في أذهان الكثير من السوريين وكذلك عند العديد من الدول، فلم تسارع تلك الدول إلى معاداة الإدارة الجديدة أو تشديد الخناق عليها بعد وصولها إلى دمشق، بل العكس رأينا خطوات متعددة إقليميًا ودوليًا في الانفتاح على هذه الحكومة والسعي لمحاولة التفاهم معها وتقديم المساعدة لها بحكم أن خطاب الحكومة الجديدة وتلك الدول يلتقي في نقاط عديدة أبرزها: فرض الاستقرار في سوريا ومنع تحول سوريا إلى مصدر لعدم الاستقرار في الإقليم.

مراجع:

[1] المعارضة السورية تطالب أمريكا بمراجعة تصنيف جبهة النصرة، فرانس 24، 13 ديسمبر 2012، https://www.france24.com/ar/20121213-المعارضةالسوريةأمريكامراجعةتصنيفجبهةالنصرةالإسلاميةالمعارضةالمسلحة.

[2] لقاء مع قائد عسكري في هيئة تحرير الشام.

[3] المعارضة تعلن بدء معركة فك حصار حلب، الجزيرة نت، 31 يوليو 2016، https://www.aljazeera.net/news/2016/7/31/المعارضةتعلنبدءمعركةفكحصارحلب.

[4] غرفة عمليات الفتح المبين: اتحاد عسكري، الجزيرة نت، 30 نوفمبر 2024، https://www.aljazeera.net/encyclopedia/2024/11/30/غرفةعملياتالفتحالمبيناتحادعسكري.

[5] عنب بلدي، “الحكم المحلي في إدلب: محاولة لفهم النموذج الإداري”، 21 أكتوبر 2021، https://web.archive.org/web/20211021085051/https://www.enabbaladi.net/archives/521081.

[6] نيويورك تايمز، “نموذج الحكم في إدلب: كيف يدير المتمردون شمال سوريا”، 15 ديسمبر 2024، https://www.nytimes.com/2024/12/15/world/middleeast/rebels-syria-governing-style-idlib.html.

[7] لقاء مع النائب الرسولي لطائفة اللاتين في سوريا المطران حنا جلوف، يوتيوب، https://www.youtube.com/watch?v=T3L7AFqszLc.

[8] إعلان حكومة الإنقاذ عن المدينة الصناعية في باب الهوى شمال سوريا، يوتيوب، https://www.youtube.com/watch?v=hvt0ylayKis.